قصة قصيرة
أحلام يوم غائم
عادل كامل
لم يفلح الفأر، رغم تحرشاته، ولكزاته، وقذفه بالحصى، ووخزه بمخالبه، في إيقاظ الأسد، حتى بدا له شبيها ً بالتمثال الذي طالما أثار إعجابه، بهيأته، ورشاقته، وتناسق نظراته مع جسده.
عاد الفأر، مرة ثانية، يتحرش، ويوخز، من غير جدوى. حتى فكر ان يسرق إحدى العربات التي كانت تفخخ، في الحديقة، ويقودها بنفسه، ليفجر القفص؛ والأسد في عرينه.
ـ عرينه...، لا.
متابعا ً بصوت ساخر:
ـ عن أي عرين أتحدث...، وأنا لا أشاهد إلا أرضا ً مبللة رائحتها تذهب ابعد من أسوار الحديقة، حتى أصبح المسكين ينام فوق برازه!
واستغرب الفأر إنهم كانوا شيدوا له تمثالا ً، أقاموه، عند المدخل، منذ سنوات بعيدة، وها هو لم يعد يكترث لماضيه، ولا للزائرين، وهم ـ مثله ـ فشلوا في إثارته، وإيقاظه من سباته العميق.
ـ أسد...؟!
لأنه شاهد الدب يرقص، كما شاهد الذئاب لا تكف عن الحركة، ومراقبه الزوار، ورأى الزرافة تلوح برأسها كأنها مازالت في البرية، والتمساح يداعب أصابع الأطفال بمرح، والكركدن يحدق في السماء، وشاهد سواها، عدا الأسد، ومعه ليوث آخرين أيضا ً، يغطون في سبات عميق.
كانت ظهيرة باردة، غائمة، والسماء تنذر بسقوط المطر، عندما خرج الفأر خصيصا ً لزيارته، إثر حلم رأى فيه الأسد، منتفضا ً، غاضبا ً، يلقي خطابا ً في الساحة الكبرى، وسط الحديقة، ويدعوا لإنزال الهزيمة بالثعالب، وبنات أوى، والنمور، والدعالج، والأفاعي، والخنازير، وبالمخلوقات المماثلة، في مكرها، ووضاعتها.
ثم ها هو يجد الأسد جثة هامدة. فلكزه بقوة، ووخزه بشوكة، وما ان لمح الدم يخرج من الجرح، حتى أدرك انه على قيد الحياة، مما أثار فضوله، وحيرته. فابتعد عنه، مرتجف الأوصال:
ـ لا معنى للحديث معك عن الماضي السحيق.
لكن الفأر سمع لغط الزائرين، المتجمهرين، فشاهدهم ضجرين، يتأففون، وحائرين أيضا ً، فقال يخاطبه:
ـ بل أنا أحدثك عن العصر الذي لم يجرأ أحدا ً إلا ان يقدم لك الولاء والطاعة ...، مع إننا لم ننس ان ما فعله أسلافي، وأجدادي، وآبائي من احترام لكم، فكنا نأتيك بالهدايا، للاعتراف لك بالسيادة، والفخامة، والعظمة.
صمت برهة وقال لنفسه:
ـ لا معنى للاسترسال..، فأنت تعرف ان زمنك ولى...، وأصبحت عتيقا ً، باليا ً، لا تصلح حتى للسيرك! مع انك طالما أثرت إعجابنا بوثباتك، ورقصاتك، ومهارتك في القفزات البهلوانية...، ولكن ما الذي كان يدور في رأسي، بعد ان رأيتك في الحلم؟
ارتج جسد الفأر، وهو يشاهد الزائرين يتجمهرون خلف القضبان، فسأل نفسه: ما الذي يثير فضولهم، ودهشتهم ..؟
فسمع احدهم يقول:
ـ ربما هرم، وأصبح عاجزا ً..
وأضاف آخر:
ـ وتعب من الزعامة، ارتوى منها، شبع، فتخلى عنها.
ـ ربما يعاني من الجوع، أو من الخنوع، أو الإذلال!
ـ أو أصيب بأحد أمراض العصر..
ـ أو في الغالب فقد مرحه، وهيبته، ورهبته ...؟
اقترب الفأر منه كثيرا ً، من غير حذر، وحدق في رأسه الكبير، وراح يتتبع ملتقطا ً الذبذبات الصادرة عن دماغه:
ـ أيها الفأر...، ماذا تريد مني...؟ منذ ساعة وأنت تدور، وتهذي، وكأنك الموت نفسه جاء يبشرني بالخلاص...، فعد ـ أرجوك ـ إلى جحرك، لعل أسد التراب يبتلعك، في الطريق..، أو يجهز عليك كلب من كلابنا السائبة!
فدار بخلد الفأر: حتى في نومه، وفي لاوعيه مازال شرسا ً، وعدوانيا ً!
ـ أيها الغبي...، لو كنت شريرا ً، كما قلت، لمسحت الأرض بك، فما أنت سوى لقمة ضئيلة ...، وإلا فأنني سأنتفض...، مع إنني اعرف انك ستلوذ بالفرار...، كما يفعل أمثالك، الأنذال، وكما فعل أسلافك، وهربوا من الغابات، وغزوا قرى البشر ومدنهم.
ـ لن اهرب...، فلوا افترستني سأقول هذا أفضل من ان أموت بين أنياب قط، أو كلب متوحش...، فهذه حسنة نادرة آمل ان تفعلها، فانا طالما حلمت ان يفترسني أسد بدل الموت في حفرة مظلمة.
ـ لن ادعك تستفزني، فانا عمليا ً لا أريد ان اعرف ما يدور برؤوس الحمقى وهم أكثر سخفا ً وبذاءة منك...، فعليك ان لا تتجاوز حدودك.
ـ وأنت...، هل عرفتها؟
ـ إنها بحدود المساحة التي أشعلها!
ـ مسكين، لم يتركوا لك من الأرض الشاسعة، ومن غاباتها، ومن براريها، إلا مسحة بحدود جسدك!
ـ وماذا افعل بها حتى لو وهبوني أرضا ً بسعة السماء؟
ـ حسنا ًلم يفعلوا ذلك!
ـ نذل..، فأر مطابخ، مجاري، ومزابل...، وبوزك ملوث بالسخام، ومصيرك أما ينتهي داخل المصيدة، أو تمزقك الأنياب..
ـ وأنت، يا سيدي، هل يشفع لك تمثالك...، وهذا الجمهور الغفير من المعجبين الساخرين، المستهزئين، والمتندرين بك...؟
ـ يا أحمق، أنا هو من لم يعد مكترثا ً للدنيا وما فيها، لا ماضيها ولا مستقبلها، بعد ان بانت عن حقيقة أوهامها، أو قل: أوهام حقيقتها !
فقال الفأر ساخرا ً:
ـ حتى أنا آبى ان أبول عليك!
ـ نذل، قلت انك نذل، ككل حيوان مأبون، ابسط أفعاله النذالة!
ـ أنا لست مأفونا، ولا مثليا ً، أنا ـ يا سيدي ـ ضحيتكم!
ـ وهل أنا هو المدير...؟
سمع احد الزوار يخاطبه:
ـ عضه!
فأجابه:
ـ أنا لست كلبا ً سائبا ً، ألا ترى الأسد يحلم!
صفق الجمهور، وارتفعت هتافاتهم، فسمع الفأر احدهم يسأله:
ـ وبماذا يحلم؟
ـ يحلم ان تغادروا الحديقة، كي يستيقظ، وينتظر حلول الليل، لتأمل النجوم، والمجرات، والكوزرات...!
ـ اهو من الحرس الخاص؟
ـ لا ..، هو من أنهى دورهم، وجعل حديقتنا منزوعة السلاح، فهو اتخذ من المنقرضات قدوة له...!
صفقوا للفأر:
ـ عجيب..، ان نجد فأرا ً يفكر في هذه الحديقة؟
ـ أسس..، قد يسمعنا المدير...، وقد يسمعنا الأسد...، فماذا افعل، أم ان موتي سيبهجكم...، لأن دوري، هو الآخر، أصبح فائضا ً...؟
دار بخلد الأسد، وقد أدار ظهره نحو الجدار، تاركا ً الزوار في حيرة اكبر، ان المصائب لا تأتي إلا بحلول عمياء! مع ان نهاياتها لا تذهب ابعد من مقدماتها إلا بوصفهما بالغة التوازن، متابعا ً مع نفسه: فطالما ذكر جدي: سيأتي الزمن الذي تتندر فيه عليكم أرذل البهائم، واقلها حنكة، ولكن أشدها قدرة على المواجهة، البقاء، والعبور.
اقترب الفأر من آذنه، هامسا ً:
ـ لا تكترث ...، سأروي لك الحلم الذي رأيته، للجميع.
ساد الصمت، لبرهة، ثم سمع امرأة تطلب ان يسرد لها تفاصيل الحلم، من غير تفسير، أو تأويل:
ـ لم يكن حلما ً بمعنى إشباع الرغبة، أو الاستمتاع، أو التحذير، بل كان كابوسا ً. عادت وأكدت إنها ليست بحاجة إلى التفسير، والإفراط في المبالغة:
ـ لا تتفلسف...، طلبنا منك ان تروي ما شاهدت، ومن الأفضل ان تسلينا، مادمنا في عصر التسليات.
ـ آ ....
تأوه، ثم بدأ يروي بصوت متقطع:
ـ كنت أقف قدام سيادته، في الباب. فسألني: ماذا تفعل...؟ فقلت: جئت أؤدي ولاء الطاعة، والشكر، والامتنان. لكن الأسد انتفض، ونزل من المنصة، واخذ يلاطفني ومسح علي ّ بلسانه الكريم...، لم يبصق في فمي!، بل مسح جسدي كله، وباركني. وقال لي: مبارك دربك يا غلام. آنذاك فقدت الوعي، لزمن وجيز، وما ان أفقت، حتى رحت أشاهد الأسد يثب، ويرتفع عاليا ً، فقد أصبح يحوّم بأجنحة نسر، فوق سماء الحديقة. ثم فجأة اكفهرت الدنيا، فأرعدت السماء، أبرقت، اغبرت، اسودت، وامتلأت بسلاسل دوي حتى حسبت إنها نهاية الدنيا. فهمس الأسد في إذني: إنها الحرب...، إنها الحرب، إنها الحرب. كررها ثلاث مرات. فسألته والفزع كاد يقتلعني قلعا ً: ماذا افعل...؟ غاب الأسد لحظات، توارى، ثم ظهر أمامي عاريا ً، من غير جلد، ومن غير شعر، وقد انتزعت أنيابه منه وقطع ذيله...، حتى بدا لي مثل ديناصور صغير غاطس في بركة..، فسألته: ماذا حدث؟ أجاب بتردد: اسكت، أخشى عليك ان تعاقب بجريرة انك من أتباعي، أو لأنك رأيتني، ورأيت هذا الذي أنا نفسي لم أره منذ زمن بعيد. فضحكت، وأنا اخبره: ماذا أبقيت لي كي يأخذوه مني، فأنت سلخت جلدي وجلود أسلافي سلخا ً لم يسمح لي إلا ان أكون من أتباعك، حتى قيام الساعة.
صاحت السيدة بصوت مرتفع:
ـ ليس هذا هو الحلم الذي رأيته...!
فسألها الفأر باستغراب:
ـ أكنت في رأسي؟
أجابت بصوت جازم:
ـ لا تموه...، أرجوك، وإلا سأضطر لإخبار السيد المدير؟
ـ ومن أنت ...؟
ـ إن لم ترو ...، الحلم كما رايته، فستعرف من أنا؟
سمع الأسد يأمره بسرد تفاصيل الحلم كاملة، من غير تلاعب، محذرا ً من التمادي في المبالغة، والتهويل، والخداع:
ـ الأسد هو الأسد..، مثل قولنا: ليس لدينا إلا ما هو موجد!
ـ أوجز، ولا تتحايل، فطبائعكم هي التي أفضت بنا إلى هذا الحضيض!
ـ ولكن سعادته لم يكترث للعواصف، والأمطار، ولا للريح ذات الأنياب اللولبية، الشبيهة بمجسات العناكب، وبعض الدابات الليلة، لأن مخلوقات حديقتنا بدأت بالفرار، والهرب، فقد سرت شائعة تقول ان الطوفان على الأسوار ...، وانه سيكنسنا من خارطة البسيطة، ويجتث ماضينا، آنذاك نكون كأننا سقطنا في قاع العدم. لكن فخامته لم يحرك ساكنا ً، فعطت عليه من شدة الهول: يا سيدي، هذه هي نهاية العالم! فدعنا نهرب. كاد يكشر عن أنيابه، ويغضب، ولكنه أبى وتكبر. فقلت بسليقة الواجب: سأموت معك إذا !. فأقصى ما يحلم به العبد ابن العبد ابن ابن العبيد هو ان يموت من اجل سيده..! آنذاك مرت سفينة كبيرة، بلا أشرعة، أو بيارق، أو دخان، لأنها لم تكن سفينة نوح، ولا سفينة تجارية، أو تقل السائحين، بل كانت سفينة حربية. فانتشلونا عنوة، رغم امتناع سيدي من ذلك. فسيادته أبدى امتعاضه...، في بادئ الأمر، ثم لان، هادن، واسترخى، ورضخ للأمر الواقع..، وأنا عملت مثله.
عادت السيدة تصرخ:
ـ وكيف انتهى الحلم؟
ـ سيدتي، لماذا الصراخ، ما أسبابه، وأنا أكلمك باحترام العقلاء...، هل هذه هي حقوق المرأة....، هل هذه هي المساواة، وأنت سيدة لطيفة جاءت لزياراتنا في مثل هذا اليوم الغائم، المكفهر، الأسود...؟
ـ آسفة، فالعاطفة كادت تفسد علي ّ عقلي، بعد ان بلغت أقاصي الحلم ومناطقه النائية!
ـ لم ينته ...، فانتم تعرفون استحالة وضع خاتمة للذي مقدماته مسبوقة بأسبابها، مثلما تعرفون ان الأسباب ليست بحاجة إلى الأسباب كي تمتد، فالرأس يكمل الذنب، مثلما الذنب لا يمكن فصله عن الرأس، كما روى أسلافنا في غابر الدهر.
وهن للحظة ثم عاد يتكلم:
ـ عادوا وأقاموا للأسد التمثال ..، وهو القائم اليوم في الباب العظمى لحديقتنا...، ثم دار الزمن دورته، فأكرموه بهذا القفص، وبالأرض التي هي بحجم جسده المبارك! وقالوا له: لن يمسك الضر، ولا الشر، ولا الفاقة، ولا المرض، ولا البرد، ولا التسفيه، حتى نهاية حياتك مهما امتدت وعبرت حواجزها المحرمة.
خاطب الأسد الفأر عبر الذبذبات، من غير زئير، أو صوت، أو همس:
ـ لِم َحرّفت وحذفت، موّهت وكذّبت، بالغت وأخفيت...، لكن ماذا افعل عندما لا تزوّر الأسفار إلا من أمثالك...؟
ـ صه...! أنا أتحدث إلى السيدة الأولى..؟
قال الأسد للفأر، بالأسلوب نفسه:
ـ لقد خدعتك...، إنها عشيقته، لأنه طلب منها ان تتجسس علينا مباشرة، بعيدا ً عن الأنظمة الأخرى.
فخاطبها الفأر:
ـ آ ..، هل أنت سيدة موقرة أم من المخبرات؟
لم تسمعه، فقال للأسد:
ـ لم تنتبه لي، ولم تجبني.
قال الأسد له:
ـ أنا مازلت أسدا ً، وعليك ان تعرف مع من تتكلم؟
اقترب الفأر من الأسد، وهمس في آذنه:
ـ أصبح عدد الزائرين لا يحتمل، كأن يوم القيامة حل علينا، في هذا اليوم المكفهر...، فالسماء اسودت، والعاصفة اشتدت.
سمع ذبذبات الأسد:
ـ يا أحمق، الشمس مازالت في الأعالي تؤدي عملها..، وما هذه الغيوم إلا شبيهة بهذا الطوفان، مهمتها حجب الحقيقة.
ارتج جسد الفأر:
ـ أشم رائحة كريهة..
ـ وهل هناك عفنا ً اشد من رائحتك ...، لأنك كنت تحلم ان تراني ميتا ً..، وها أنا لم أمت...؟
وقال متابعا ً:
ـ والآن اخبرني كم بلغ عدد المشيعين ...؟
ـ سيدي ...، الآن فهمت! فاغفر لي ارتكابي لهذا الذنب...؟
فسأله الأسد:
ـ ماذا فهمت؟
ـ انك أنت من يشيعهم إلى الأبدية!
واسترسل الفأر:
ـ لقد اشتدت العاصفة، وراحت تقتلع الأشجار، وتهدم الأسوار، وتكنس العلامات، فهي تهب من الشمال ومن الجنوب، ومن اليسار ومن اليمين ...، أيها الميت انهض! أرجوك، باسم أسلافك وأحفادك ..، هم يستنجدون، ويستغيثون، ويطلبون العون منك!
ـ أغلق فمك، أرجوك، فانا لا امتلك سفينة...، وأنت تعرف إنها كانت بارجة حربية...، وذهبت، فلا تربك علي ّ خاتمة الحلم!
ـ آ ....، أكان هذا وهما ً...؟ أكان هذا سرابا ً...؟
ـ لا ...، لم يكن وهما ً ولا سرابا ً...، فعندما تستيقظ ستكتشف انك بانتظار قرون كي ترى انك لم تستيقظ أبدا ً، وما ان ترفع رأسك حتى تجده طار في الهواء، أو أكلته الضباع، فلا تجهد نفسك بتأويل ما تراه، فانا أصدرت تعاليمي بمراقبة أحلام هؤلاء النائمين، فانا لا أتوقف عند التأويل، ولا عند التفسير، ولا عند تعدد الاحتمالات...، لأنني ساترك الحلم يذهب ابعد من الحالم، مثلما تعلمت ان ادع الحالم يذهب ابعد من أحلامه.
5/3/2015
أحلام يوم غائم
عادل كامل
لم يفلح الفأر، رغم تحرشاته، ولكزاته، وقذفه بالحصى، ووخزه بمخالبه، في إيقاظ الأسد، حتى بدا له شبيها ً بالتمثال الذي طالما أثار إعجابه، بهيأته، ورشاقته، وتناسق نظراته مع جسده.
عاد الفأر، مرة ثانية، يتحرش، ويوخز، من غير جدوى. حتى فكر ان يسرق إحدى العربات التي كانت تفخخ، في الحديقة، ويقودها بنفسه، ليفجر القفص؛ والأسد في عرينه.
ـ عرينه...، لا.
متابعا ً بصوت ساخر:
ـ عن أي عرين أتحدث...، وأنا لا أشاهد إلا أرضا ً مبللة رائحتها تذهب ابعد من أسوار الحديقة، حتى أصبح المسكين ينام فوق برازه!
واستغرب الفأر إنهم كانوا شيدوا له تمثالا ً، أقاموه، عند المدخل، منذ سنوات بعيدة، وها هو لم يعد يكترث لماضيه، ولا للزائرين، وهم ـ مثله ـ فشلوا في إثارته، وإيقاظه من سباته العميق.
ـ أسد...؟!
لأنه شاهد الدب يرقص، كما شاهد الذئاب لا تكف عن الحركة، ومراقبه الزوار، ورأى الزرافة تلوح برأسها كأنها مازالت في البرية، والتمساح يداعب أصابع الأطفال بمرح، والكركدن يحدق في السماء، وشاهد سواها، عدا الأسد، ومعه ليوث آخرين أيضا ً، يغطون في سبات عميق.
كانت ظهيرة باردة، غائمة، والسماء تنذر بسقوط المطر، عندما خرج الفأر خصيصا ً لزيارته، إثر حلم رأى فيه الأسد، منتفضا ً، غاضبا ً، يلقي خطابا ً في الساحة الكبرى، وسط الحديقة، ويدعوا لإنزال الهزيمة بالثعالب، وبنات أوى، والنمور، والدعالج، والأفاعي، والخنازير، وبالمخلوقات المماثلة، في مكرها، ووضاعتها.
ثم ها هو يجد الأسد جثة هامدة. فلكزه بقوة، ووخزه بشوكة، وما ان لمح الدم يخرج من الجرح، حتى أدرك انه على قيد الحياة، مما أثار فضوله، وحيرته. فابتعد عنه، مرتجف الأوصال:
ـ لا معنى للحديث معك عن الماضي السحيق.
لكن الفأر سمع لغط الزائرين، المتجمهرين، فشاهدهم ضجرين، يتأففون، وحائرين أيضا ً، فقال يخاطبه:
ـ بل أنا أحدثك عن العصر الذي لم يجرأ أحدا ً إلا ان يقدم لك الولاء والطاعة ...، مع إننا لم ننس ان ما فعله أسلافي، وأجدادي، وآبائي من احترام لكم، فكنا نأتيك بالهدايا، للاعتراف لك بالسيادة، والفخامة، والعظمة.
صمت برهة وقال لنفسه:
ـ لا معنى للاسترسال..، فأنت تعرف ان زمنك ولى...، وأصبحت عتيقا ً، باليا ً، لا تصلح حتى للسيرك! مع انك طالما أثرت إعجابنا بوثباتك، ورقصاتك، ومهارتك في القفزات البهلوانية...، ولكن ما الذي كان يدور في رأسي، بعد ان رأيتك في الحلم؟
ارتج جسد الفأر، وهو يشاهد الزائرين يتجمهرون خلف القضبان، فسأل نفسه: ما الذي يثير فضولهم، ودهشتهم ..؟
فسمع احدهم يقول:
ـ ربما هرم، وأصبح عاجزا ً..
وأضاف آخر:
ـ وتعب من الزعامة، ارتوى منها، شبع، فتخلى عنها.
ـ ربما يعاني من الجوع، أو من الخنوع، أو الإذلال!
ـ أو أصيب بأحد أمراض العصر..
ـ أو في الغالب فقد مرحه، وهيبته، ورهبته ...؟
اقترب الفأر منه كثيرا ً، من غير حذر، وحدق في رأسه الكبير، وراح يتتبع ملتقطا ً الذبذبات الصادرة عن دماغه:
ـ أيها الفأر...، ماذا تريد مني...؟ منذ ساعة وأنت تدور، وتهذي، وكأنك الموت نفسه جاء يبشرني بالخلاص...، فعد ـ أرجوك ـ إلى جحرك، لعل أسد التراب يبتلعك، في الطريق..، أو يجهز عليك كلب من كلابنا السائبة!
فدار بخلد الفأر: حتى في نومه، وفي لاوعيه مازال شرسا ً، وعدوانيا ً!
ـ أيها الغبي...، لو كنت شريرا ً، كما قلت، لمسحت الأرض بك، فما أنت سوى لقمة ضئيلة ...، وإلا فأنني سأنتفض...، مع إنني اعرف انك ستلوذ بالفرار...، كما يفعل أمثالك، الأنذال، وكما فعل أسلافك، وهربوا من الغابات، وغزوا قرى البشر ومدنهم.
ـ لن اهرب...، فلوا افترستني سأقول هذا أفضل من ان أموت بين أنياب قط، أو كلب متوحش...، فهذه حسنة نادرة آمل ان تفعلها، فانا طالما حلمت ان يفترسني أسد بدل الموت في حفرة مظلمة.
ـ لن ادعك تستفزني، فانا عمليا ً لا أريد ان اعرف ما يدور برؤوس الحمقى وهم أكثر سخفا ً وبذاءة منك...، فعليك ان لا تتجاوز حدودك.
ـ وأنت...، هل عرفتها؟
ـ إنها بحدود المساحة التي أشعلها!
ـ مسكين، لم يتركوا لك من الأرض الشاسعة، ومن غاباتها، ومن براريها، إلا مسحة بحدود جسدك!
ـ وماذا افعل بها حتى لو وهبوني أرضا ً بسعة السماء؟
ـ حسنا ًلم يفعلوا ذلك!
ـ نذل..، فأر مطابخ، مجاري، ومزابل...، وبوزك ملوث بالسخام، ومصيرك أما ينتهي داخل المصيدة، أو تمزقك الأنياب..
ـ وأنت، يا سيدي، هل يشفع لك تمثالك...، وهذا الجمهور الغفير من المعجبين الساخرين، المستهزئين، والمتندرين بك...؟
ـ يا أحمق، أنا هو من لم يعد مكترثا ً للدنيا وما فيها، لا ماضيها ولا مستقبلها، بعد ان بانت عن حقيقة أوهامها، أو قل: أوهام حقيقتها !
فقال الفأر ساخرا ً:
ـ حتى أنا آبى ان أبول عليك!
ـ نذل، قلت انك نذل، ككل حيوان مأبون، ابسط أفعاله النذالة!
ـ أنا لست مأفونا، ولا مثليا ً، أنا ـ يا سيدي ـ ضحيتكم!
ـ وهل أنا هو المدير...؟
سمع احد الزوار يخاطبه:
ـ عضه!
فأجابه:
ـ أنا لست كلبا ً سائبا ً، ألا ترى الأسد يحلم!
صفق الجمهور، وارتفعت هتافاتهم، فسمع الفأر احدهم يسأله:
ـ وبماذا يحلم؟
ـ يحلم ان تغادروا الحديقة، كي يستيقظ، وينتظر حلول الليل، لتأمل النجوم، والمجرات، والكوزرات...!
ـ اهو من الحرس الخاص؟
ـ لا ..، هو من أنهى دورهم، وجعل حديقتنا منزوعة السلاح، فهو اتخذ من المنقرضات قدوة له...!
صفقوا للفأر:
ـ عجيب..، ان نجد فأرا ً يفكر في هذه الحديقة؟
ـ أسس..، قد يسمعنا المدير...، وقد يسمعنا الأسد...، فماذا افعل، أم ان موتي سيبهجكم...، لأن دوري، هو الآخر، أصبح فائضا ً...؟
دار بخلد الأسد، وقد أدار ظهره نحو الجدار، تاركا ً الزوار في حيرة اكبر، ان المصائب لا تأتي إلا بحلول عمياء! مع ان نهاياتها لا تذهب ابعد من مقدماتها إلا بوصفهما بالغة التوازن، متابعا ً مع نفسه: فطالما ذكر جدي: سيأتي الزمن الذي تتندر فيه عليكم أرذل البهائم، واقلها حنكة، ولكن أشدها قدرة على المواجهة، البقاء، والعبور.
اقترب الفأر من آذنه، هامسا ً:
ـ لا تكترث ...، سأروي لك الحلم الذي رأيته، للجميع.
ساد الصمت، لبرهة، ثم سمع امرأة تطلب ان يسرد لها تفاصيل الحلم، من غير تفسير، أو تأويل:
ـ لم يكن حلما ً بمعنى إشباع الرغبة، أو الاستمتاع، أو التحذير، بل كان كابوسا ً. عادت وأكدت إنها ليست بحاجة إلى التفسير، والإفراط في المبالغة:
ـ لا تتفلسف...، طلبنا منك ان تروي ما شاهدت، ومن الأفضل ان تسلينا، مادمنا في عصر التسليات.
ـ آ ....
تأوه، ثم بدأ يروي بصوت متقطع:
ـ كنت أقف قدام سيادته، في الباب. فسألني: ماذا تفعل...؟ فقلت: جئت أؤدي ولاء الطاعة، والشكر، والامتنان. لكن الأسد انتفض، ونزل من المنصة، واخذ يلاطفني ومسح علي ّ بلسانه الكريم...، لم يبصق في فمي!، بل مسح جسدي كله، وباركني. وقال لي: مبارك دربك يا غلام. آنذاك فقدت الوعي، لزمن وجيز، وما ان أفقت، حتى رحت أشاهد الأسد يثب، ويرتفع عاليا ً، فقد أصبح يحوّم بأجنحة نسر، فوق سماء الحديقة. ثم فجأة اكفهرت الدنيا، فأرعدت السماء، أبرقت، اغبرت، اسودت، وامتلأت بسلاسل دوي حتى حسبت إنها نهاية الدنيا. فهمس الأسد في إذني: إنها الحرب...، إنها الحرب، إنها الحرب. كررها ثلاث مرات. فسألته والفزع كاد يقتلعني قلعا ً: ماذا افعل...؟ غاب الأسد لحظات، توارى، ثم ظهر أمامي عاريا ً، من غير جلد، ومن غير شعر، وقد انتزعت أنيابه منه وقطع ذيله...، حتى بدا لي مثل ديناصور صغير غاطس في بركة..، فسألته: ماذا حدث؟ أجاب بتردد: اسكت، أخشى عليك ان تعاقب بجريرة انك من أتباعي، أو لأنك رأيتني، ورأيت هذا الذي أنا نفسي لم أره منذ زمن بعيد. فضحكت، وأنا اخبره: ماذا أبقيت لي كي يأخذوه مني، فأنت سلخت جلدي وجلود أسلافي سلخا ً لم يسمح لي إلا ان أكون من أتباعك، حتى قيام الساعة.
صاحت السيدة بصوت مرتفع:
ـ ليس هذا هو الحلم الذي رأيته...!
فسألها الفأر باستغراب:
ـ أكنت في رأسي؟
أجابت بصوت جازم:
ـ لا تموه...، أرجوك، وإلا سأضطر لإخبار السيد المدير؟
ـ ومن أنت ...؟
ـ إن لم ترو ...، الحلم كما رايته، فستعرف من أنا؟
سمع الأسد يأمره بسرد تفاصيل الحلم كاملة، من غير تلاعب، محذرا ً من التمادي في المبالغة، والتهويل، والخداع:
ـ الأسد هو الأسد..، مثل قولنا: ليس لدينا إلا ما هو موجد!
ـ أوجز، ولا تتحايل، فطبائعكم هي التي أفضت بنا إلى هذا الحضيض!
ـ ولكن سعادته لم يكترث للعواصف، والأمطار، ولا للريح ذات الأنياب اللولبية، الشبيهة بمجسات العناكب، وبعض الدابات الليلة، لأن مخلوقات حديقتنا بدأت بالفرار، والهرب، فقد سرت شائعة تقول ان الطوفان على الأسوار ...، وانه سيكنسنا من خارطة البسيطة، ويجتث ماضينا، آنذاك نكون كأننا سقطنا في قاع العدم. لكن فخامته لم يحرك ساكنا ً، فعطت عليه من شدة الهول: يا سيدي، هذه هي نهاية العالم! فدعنا نهرب. كاد يكشر عن أنيابه، ويغضب، ولكنه أبى وتكبر. فقلت بسليقة الواجب: سأموت معك إذا !. فأقصى ما يحلم به العبد ابن العبد ابن ابن العبيد هو ان يموت من اجل سيده..! آنذاك مرت سفينة كبيرة، بلا أشرعة، أو بيارق، أو دخان، لأنها لم تكن سفينة نوح، ولا سفينة تجارية، أو تقل السائحين، بل كانت سفينة حربية. فانتشلونا عنوة، رغم امتناع سيدي من ذلك. فسيادته أبدى امتعاضه...، في بادئ الأمر، ثم لان، هادن، واسترخى، ورضخ للأمر الواقع..، وأنا عملت مثله.
عادت السيدة تصرخ:
ـ وكيف انتهى الحلم؟
ـ سيدتي، لماذا الصراخ، ما أسبابه، وأنا أكلمك باحترام العقلاء...، هل هذه هي حقوق المرأة....، هل هذه هي المساواة، وأنت سيدة لطيفة جاءت لزياراتنا في مثل هذا اليوم الغائم، المكفهر، الأسود...؟
ـ آسفة، فالعاطفة كادت تفسد علي ّ عقلي، بعد ان بلغت أقاصي الحلم ومناطقه النائية!
ـ لم ينته ...، فانتم تعرفون استحالة وضع خاتمة للذي مقدماته مسبوقة بأسبابها، مثلما تعرفون ان الأسباب ليست بحاجة إلى الأسباب كي تمتد، فالرأس يكمل الذنب، مثلما الذنب لا يمكن فصله عن الرأس، كما روى أسلافنا في غابر الدهر.
وهن للحظة ثم عاد يتكلم:
ـ عادوا وأقاموا للأسد التمثال ..، وهو القائم اليوم في الباب العظمى لحديقتنا...، ثم دار الزمن دورته، فأكرموه بهذا القفص، وبالأرض التي هي بحجم جسده المبارك! وقالوا له: لن يمسك الضر، ولا الشر، ولا الفاقة، ولا المرض، ولا البرد، ولا التسفيه، حتى نهاية حياتك مهما امتدت وعبرت حواجزها المحرمة.
خاطب الأسد الفأر عبر الذبذبات، من غير زئير، أو صوت، أو همس:
ـ لِم َحرّفت وحذفت، موّهت وكذّبت، بالغت وأخفيت...، لكن ماذا افعل عندما لا تزوّر الأسفار إلا من أمثالك...؟
ـ صه...! أنا أتحدث إلى السيدة الأولى..؟
قال الأسد للفأر، بالأسلوب نفسه:
ـ لقد خدعتك...، إنها عشيقته، لأنه طلب منها ان تتجسس علينا مباشرة، بعيدا ً عن الأنظمة الأخرى.
فخاطبها الفأر:
ـ آ ..، هل أنت سيدة موقرة أم من المخبرات؟
لم تسمعه، فقال للأسد:
ـ لم تنتبه لي، ولم تجبني.
قال الأسد له:
ـ أنا مازلت أسدا ً، وعليك ان تعرف مع من تتكلم؟
اقترب الفأر من الأسد، وهمس في آذنه:
ـ أصبح عدد الزائرين لا يحتمل، كأن يوم القيامة حل علينا، في هذا اليوم المكفهر...، فالسماء اسودت، والعاصفة اشتدت.
سمع ذبذبات الأسد:
ـ يا أحمق، الشمس مازالت في الأعالي تؤدي عملها..، وما هذه الغيوم إلا شبيهة بهذا الطوفان، مهمتها حجب الحقيقة.
ارتج جسد الفأر:
ـ أشم رائحة كريهة..
ـ وهل هناك عفنا ً اشد من رائحتك ...، لأنك كنت تحلم ان تراني ميتا ً..، وها أنا لم أمت...؟
وقال متابعا ً:
ـ والآن اخبرني كم بلغ عدد المشيعين ...؟
ـ سيدي ...، الآن فهمت! فاغفر لي ارتكابي لهذا الذنب...؟
فسأله الأسد:
ـ ماذا فهمت؟
ـ انك أنت من يشيعهم إلى الأبدية!
واسترسل الفأر:
ـ لقد اشتدت العاصفة، وراحت تقتلع الأشجار، وتهدم الأسوار، وتكنس العلامات، فهي تهب من الشمال ومن الجنوب، ومن اليسار ومن اليمين ...، أيها الميت انهض! أرجوك، باسم أسلافك وأحفادك ..، هم يستنجدون، ويستغيثون، ويطلبون العون منك!
ـ أغلق فمك، أرجوك، فانا لا امتلك سفينة...، وأنت تعرف إنها كانت بارجة حربية...، وذهبت، فلا تربك علي ّ خاتمة الحلم!
ـ آ ....، أكان هذا وهما ً...؟ أكان هذا سرابا ً...؟
ـ لا ...، لم يكن وهما ً ولا سرابا ً...، فعندما تستيقظ ستكتشف انك بانتظار قرون كي ترى انك لم تستيقظ أبدا ً، وما ان ترفع رأسك حتى تجده طار في الهواء، أو أكلته الضباع، فلا تجهد نفسك بتأويل ما تراه، فانا أصدرت تعاليمي بمراقبة أحلام هؤلاء النائمين، فانا لا أتوقف عند التأويل، ولا عند التفسير، ولا عند تعدد الاحتمالات...، لأنني ساترك الحلم يذهب ابعد من الحالم، مثلما تعلمت ان ادع الحالم يذهب ابعد من أحلامه.
5/3/2015