الجمعة، 6 مارس 2015
الجُرح المُعتَّق ، أو غالب ليلو البزّاز كما عرفته-أحمد الحلي
الجُرح المُعتَّق ، أو غالب ليلو البزّاز كما عرفته
أحمد الحلي
مقتربات أولى
منذ وقت ليس بالقصير أتيح لمثقفي الحلة وأدبائها أن يتعرّفوا على عدد من مثقفي المحافظات الأخرى الوافدين إلى مدينتهم من مدنٍ أخرى ، لدوافع شتى لغرض الإقامة والاستقرار فيها واتخاذها مدينة بديلة عن مدنهم الأصلية ...
أتيح لنا أن نتعرّف على أدباء وفدوا من مدينة الناصرية بصفة خاصة ، ومن بين هؤلاء صديقنا الشاعر ناهض الخياط الذي أخذ حظاً وافراً من الذيوع والشهرة بوصفه شاعراً متمكناً ، وكذلك أخوه القاص والشاعر عادل الخياط ، وكذلك الشاعر محمد علي كاظم حيدر ، وأتيح لنا أيضاً أن نتعرّف على أديب كفيف البصر هو الشاعر غالب ليلو البزاز الذي يبدو أنه عانى كثيراً ، وعاش في أخريات سنواته حياة الشظف والبؤس والحرمان والتشرّد ، على الرغم من أن بعض أصدقائه على قلّتهم ظلوا أوفياء له حتى اللحظات الأخيرة ...
استطاع شاعرنا ، غالب ليلو البزاز ، أن ينال قسطاً وافراً من التعليم من مصادر متنوعة ، وتمكن من أن ينهل ثقافته شفاهياً أو من خلال ما يقرأه له بعض أفراد العائلة أو الأصدقاء من روائع القصائد والمأثورات ، وفيما بعد قضى شطراً من حياته يدرس في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف إلا أنه ولأسباب متنوعة توقف عن مواصلة الدراسة ، وربما عزونا ذلك إلى ضيق ذات اليد أو ربما هو عامل التمرد وعدم الاستعداد للإنصياع أياً كان نوعه التي جبل عليها الشعراء دوماً هي التي حدت به إلى التوقف عن إكمال دراسته الحوزوية ومحاولته اصطناع فسحة أكبر للحرية تتحرك ضمن مساحتها ذاته اللائبة ...
كنتُ أراه ، إبان فترة الحصار الاقتصادي القاسي وهو يتمشى وئيداً على الرصيف قاطعاً المسافة بين (فندق أبو ذر) وهو الفندق الذي اعتاد أن ينزل فيه عدد وافر من المحرومين والمدقعين في المدينة ، كنت أراه وهو بأناقته المعهودة متأبطاً ديوانه الوحيد لغرض االوصول إلى مكتبتي في شارع الإمام علي ، أو على الأرجح لغرض تناول وجبة الغداء الشحيحة في مطعم أبو جورج المجاور لمكتبتي في الطابق الأرضي من عمارة العزاوي ، وغالباً كنت أسمعه يتمتم مع نفسه ببعض الهمهمات والكلمات ، إلا أنه مع كل ذلك كان قنوعاً ويستقبل كل ما كان يحوط حياته من بؤس وشظف وحرمان برحابة صدر بل وكثيراً ما كنت أراه وهو يصطنع النكتة والظرافة ويضحك ملء فمه ...
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يصل إليها بعض الناس ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وقد كنت بحكم عملي وقربي منه ملماً ومطلعاً على الكثير حيثيات حياته وكذلك أتيح لي أن أطّلع على قصائده التي أودعها ديوانه المخطوط ( شفاه ظمآى أو شفاه عطشى) ... والذي استقرَّ أخيراً على " شفاه عطشى" ووجدت أن عدداً من الأصدقاء على قلتهم كما أسلفنا كانوا عوناً وعضداً للشاعر في أشد الظروف قسوة ... ومن بين هؤلاء وأبرزهم السيد علي حمزة ، وآخرون اضطلعوا بكتابة قصائد الديوان بخط أنيق وجميل ، فلهم الشكر والعرفان على هذا الدور المشرّف
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين وهو الشاعر محمد علي حيدر حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يتصف بها بعض الأشخاص ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وكان وروى لي أيضاً حكايةً معطّرة عن أحد أخوة الشاعر وهو السيد طالب الذي عمل معلّماً وكان شخصية وطنية مرموقة في سوق الشيوخ بل وفي الناصرية برمتها ، وأن السلطات آنذاك كثيراً ما كانت تعمد إلى اعتقاله بسبب نشاطه ومشاركاته في التظاهرات ضد النظام خلال فترة الخمسينيات حيث يقضي في مراكز التوقيف عدة أيام ثم يُطلقون سراحه ، "وما إن كنا نعلم بإطلاق سراحه حتى نُهرَع إليه ، بوصفنا شبّاناً طامحين نحب وطننا ومتطلّعين إلى الإستزادة من الثقافة والمعرفة ، فنلتفّ حوله ليروي لنا ما الذي فعله رجال الأمن معه وكيف أنه خرج وهو أكثر صلابة واقتناعاً بأفكاره من ذي قبل ، فكنا نرى فيه مثلنا الأعلى ...." ، يُذكر أن طالب قد تم اغتياله في العام 1966 وهو في أوج شبابه ونضوجه ...، وقد رثاه شاعرنا بقصيدتين بحسب المعلومات المتوافرة لدينا ، وقد جاء في قصيدته الثانية التي قالها في العام 1992 بمناسبة مرور ربع قرن على وفاته ؛
أنساكَ ؟ مَنْ قالَ وهمٌ في تصوُّرِهِ إني عشِقتُكَ عِشْقَ الأرضِ للدِيَمِ
يا ابن الثلاثين يا جُرْحاً يُعَذِّبني ما للزمانِ أمانٌ قِيلَ من قِدَمِ
ناجيتُ قبرَكَ والآلامُ تعصِرني يا منبعَ الحبِّ يا لحنَ الهوى بفمي
ما زلت أتذكر ، كيف أننا اخترنا بيتين شعريين له من إحدى قصائده والتي هي بعنوان ( ليل) التي نظمها الشاعر في العام 1984 وهو في طريقه إلى سوق الشيوخ بالناصرية والتي مطلعها ؛
قلبي تلازم فيه الهمُّ والضَجَرُ إنْ أشتكي جَزَعاً قالوا هو القَدَرُ
والبيتان هما ؛
لا الصبحُ ياربَّة الأحلامِ مبتسِماً
عندي ، ولا الليلُ في آفاقِه قَمَرُ
يا ليتَ ما كانَ لي حِسٌّ يُعذّبني
كم كانَ يُبهِجُني لو أنني حَجَرُ
وقد نبّهني الفنّان المطرب الذي كان يحضر معنا في جلساتنا سمرنا الليلية الخاصة إلى ضرورة أن يقوم الشاعر نفسه بإجراء بعض التعديل على البيت الأول من أجل أن يُصبح متوائماً مع ضرورة التلحين والغناء ، وبالفعل أخبرت أبا سلام بذلك ، فقال لي ؛ " نعم هو محق ، امهلني بعض الوقت " ، وفي اليوم التالي حضر إلى مكتبتي جذِلاً ، ووافاني بالصيغة الجديدة وهي ؛
لا الصبحُ عندي كصبحِ الناسِ
مبتسِماً ، ولا الليلُ في آفاقهِ قَمَرُ
فاستقام البيت لحنياً . وقد فرح المطرب لذلك أيما فرح .
وبعد وفاة الشاعر المؤسية ، أصبح الديوان المخطوط بعهدة صديقه الوفي السيد علي حمزة الويسي ( أبو زهراء) ، الذي كان يأمل أن يجد من يتطوع بطباعته ، ولكن جميع من كان يُرتجى منهم خيراً كانوا يتعهدون بذلك ويبدون استعدادهم ، ولكنهم كانوا على الدوام يتهربون من التنفيذ ... وهكذا ظلَّ الديوان يتنقل من يد إلى يد ، ثم ليضيع في نهاية المطاف ، وكنت أرى السيد علي فزِعاً ومفجوعاً بهذا الفقدان الفادح أيما فجيعة ، وكيف لا وهو الذي اصطفاه الشاعر وعهد إليه برعاية أعز وأثمن ما يملك ...
وتمر السنوات تتلوها سنوات ، ثم وبمحض الصدفة ، أو ربما هو الحظ وحده يتم اكتشاف الديوان من قبل صاحب المقهى الذي اعتاد الشاعر أن يجلس فيه ، ذلك أن أحد الأشخاص كان يحمله معه حين اتخذ مقعده وجلس لاحتساء الشاي ، وبعد أن جلس وقتاً قصيراً قام وذهب ونسي المخطوط ، فأسرع إحسان وهو صاحب المقهى حيث كان يعرف الديوان جيداً وكذلك قصة اختفائه وفقدانه ، وأخفى الديوان ، وبعد وقت قصير يعود ذلك الشخص ليسأل عن الدفتر الذي فقده ، فينفي إحسان أنه وجد شيئاً ، فيذهب هذا إلى حال سبيله وكله حيرة ومرارة ....
وعلى أية حال ، شاعت في الوسط الأدبي ، وكذلك جميع المقرّبين من الشاعر قصة العثور على الديوان مجدداً واستبشر الجميع خيراً ، ولا سيما وأن إحسان وجد أن خير من يأتمه على الديوان هو صديقنا الشاعر ولاء الصوّاف خاصّة وأنه يمتلك أكبر دار لنشر الكتب في المدينة ...،واستقر رأي ولاء أن يطبع الديوان ، على أن يتم ذلك عن طريق جمع التبرعات من الأصدقاء ومحبي الشاعر الفقيد ...
قرأت بدقّة وتحرٍ شديدين نسخة منضّدة من الديوان ، فوجدت أخطاءً كارثية هائلة ، خاصة وأنه عُهد إليَّ بتصحيحه قبل إرساله إلى الشام لطباعته ، والقصائد تندرج تحت أبواب وأغراض محددة ، وهي أبواب اعتاد شعراء العمود الكتابة ضمن أُطرها ... وأستطيع إجمالها بما يلي ؛
باب الغزل والوجدانيات
أجاد الشاعر وأبدع أيما إبداع في هذا الباب ، ونرى أن ذلك يمكن أن يعكس فداحة المصيبة التي حلّت به من ناحية فقدان البصر وكذلك تخلي عائلته وكذلك الكثير من المقربين عنه ، فوجد في المرأة عزاءه وسلواه ، وكان يجد في القرب منها ما يُبهج فؤاده المكلوم والمحروم ... ، وقد ترك لنا في هذا الإطار قصائد غاية في الجمال والبراعة والعذوبة وتطالعنا في هذا المنحى امرأتان ، الأولى اسمها بلقيس ويبدو أنها كانت المرأة الأولى في حياة الشاعر حيث قال فيها قصائده الأولى ابتداءاً من العام 1957 وما بعده ، ومما جاء في إحداها ؛
ألفُ وجْهٍ يمرُّ في ذاكرتي مثلُ بلقيسَ عليها لن يمُرّا
إي وعينيكِ وأيّامِ الهوى أنتِ يا بلقيسُ بالعُشّاق أدرى
يا ابنةَ الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها أيضاً ؛
يا ابنة الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها ؛
ذكراكِ فوق شفاه الفجرِ أغنيةٌ حمراءُ ما برحتْ تجري على وتري
على أنه سرعان ما يتبدى لنا فيما بعد اسم امرأة أخرى أكثر رسوخاً وفاعلية ، ، وإن كنا لا نعرف نوع الحب نشأ بينهما ؛ أهو من طرف واحد أم أنه كان هناك تواصل حسّي أو معنوي بين الطرفين أو أن الشاعرَ كان يتعكز الشاعر فيه على خياله الجامح كما اعتاد أن يفعل ذلك عددٌ من الشعراء ، اسم هذه المرأة هو سهيلة ، حيث نراه يقول فيها مصرّحاً باسمها ؛
حسبي أُحسُّكِ يا سهيلةُ في الكرى وجهاً به تتلألأ الأنوارُ
ويقول ؛ مُحبُّكِ يا سهيلةُ لا يُلامُ وفي جَنبيه يحتدِمُ الغرامُ
ويقول فيها
شفتاكِ بالخمرِ الشهيِّ مليئةٌ يا عذبةَ الشفتينِ ما أحلاكِ
ويقول ؛ عيناكِ يا سِحرَ الوجودِ قصيدةٌ غنّتْ بها منذ الصِبا شفتانا
ويقول ؛ ما أطيبَ القُبلةَ لو عنوةً تؤخذ من خدّيكِ يا ناسيهْ
ما مرَّ في جَفنيَّ طيبُ الكرى مُذْ هِمتُ في عينيكِ يا غاليهْ
ويقول ؛ ما لي على بُعدِ الأحبّةِ مُهجةٌ أبداً ، ولستُ على نواكِ بصابرِ
قصائد في حب ورثاء أهل البيت
احتلت هذه الثيمة حوالي ربع مساحة الديوان ، والشاعر هنا ينسج قصائد تطفح بالألم والشجن الرفيع تجاه مصائب العترة النبوية ، التي تعرّضت إلى الكثير من الويلات والظلم على يد السلطات الجائرة على مر العصور ، والشاعر يؤكد هنا على المعاني النبيلة التي درج الشعراء الآخرون على التغني بها وإبرازها ...، إلا أننا نستطيع أن نلحظ أنه استطاع من خلالها أن يمرر ما كانت تمور بها نفسه التواقه أبداً إلى الحرية والانعتاق من تبرّم وسخط على السلطات الحاكمة التي سلبت البلاد وحرمت المواطن من أبسط حقوقه الأساسية ، وهو يقول ؛
ومن البليّة أن تُداسَ كرامةٌ في أرضنا وتُهانَ حُرمةُ مسجدِ
حين تنعمُ في البلادِ عصابةٌ من كل أجيرٍ مًفسِدِ
إنا نُكيلُ قصائداً لعدوِّنا ولنا يكيلُ قذائفاً لم تخمُدِ
ويقول في أخرى ؛
أمنَ العدالةِ في الحياةِ مُنَعَّمٌ فرْدٌ ، والآلافُ تكِدُّ وتُحرَمُ ؟
ثيمة الشكوى ومعاناته من الغربة الذاتية
تحتل هذه الثيمة المساحة الكبرى من الديوان ، ويبدو أن هذا الوتر الأثير إلى نفس الشاعر يمتد ويتفرع في جميع الاتجاهات ويتخلل غالبية القصائد ، ونرصد هنا أبياتاً غاية في الجمال والعذوبة وعمق المعنى ، فالشاعر يبوح بالمضمر من آلامه وأوجاعه التي تفرّد بها أو كُتِب عليه أن يتفرّد بها ، فنراه يقول ؛
ويلي على قلبي توطّنه الأسى ولقد تصاعَد كالجريحِ تنَهُّدي
ويقول ؛
ما مرَّ في دنيايَ يومٌ مشرِقٌ أبداً ، وما مرَّ الربيعُ ببابي
ويقول ؛
أرأيتَ في الدنيا أديباً ضائعاً مثلي ، يبيتُ على قناً وقَتادِ
ويقول ؛ من الدنيا رضيتُ ببيتِ شعرٍ وإن عليه تحسدني اللئامُ
ويقول في أخرى ؛
أحيا غريباً في الحياةِ مضيَّعاً ما بين أبقارٍ ونِعاجِ
ويقول ؛
جارتْ عليَّ أحِبَّةٌ وأعادي وقستْ عليَّ محافلٌ ونوادي
وعصتني حتى القافياتُ فلم تعدْ كالأمسِ طوعَ مشيئتي وقيادي
أبداً وما ضمّتْ على أملٍ يدي وتعثَّرتْ منذ الشبابِ جيادي
ويقول في قصيدة ( يا صبرَ أيوب) ؛
ستون ما حملتْ بداخلها ما يُبهِجُ النفسَ من أُنسٍ ومن سَمَرِ
عانيتُ منها ومن أوجاعِ محنتها ما لا يُطاقُ من الأرزاء والغِيَرِ
جُرحي تعتّق في قلبي وفي بدني مَنْ ذا يُضمِّده في ساعةِ الخطرِ
الحنين إلى سوق الشيوخ
بوسع قارئ الديوان أن يلاحظ قوة الشوق الذي يعتصر قلب الشاعر والحنين إلى منطقة سوق الشيوخ بالناصرية ، حيث ولد وعاش مراحل حياته الأولى ، فيرتسم هذا السوق في مخيّلة الشاعر وكأنه الفردوس المفقود أو الحلم الذي لم يتسنَّ له الاستمرار فيه ، ونجتزئ هنا بعضاً مما كان يختلجُ في نفسه ؛
سوقُ الشيوخِ وما أُعيرُ لعاذلٍ سمْعاً ، وما أخشى من اللوّامِ
سوقُ الشيوخِ ، على ثراكَ نما الهوى وسما على قممٍ من الآدابِ
أيا سوقَ الشيوخِ ، وكلُّ شمسٍ تغيبُ ، وإن شمسَكَ لا تغيبُ
إلى سوق الشيوخ حملتُ شوقي وما بينَ الضلوع له لهيبُ
بورِكتَ يا سوقَ الشيوخِ مكرَّماً وسلمتَ في دنياكَ للأحبابِ
سوق الشيوخِ جميلٌ في تدلــله عندي ، وفي حبِّه يُستَعذَبُ السهَرُ
سوقُ الشيوخِ بماضيه وحاضرِه غنّتْ بأمجاده هاتيكمُ السِيَرُ
ويبلغ حنين الشاعر إلى سوق الشيوخ ذروته فتتضاءل مدن الله الأخرى بإزائه
خلّفتُ في سوق الشيوخِ مهجتي وأتيتُ في بدني إلى الفيحاءِ
ما شِمتُ خيراً مذْ وطأتُ أديمَها ولقد شقيتُ بها وأيَّ شقاءِ
أودُّ في نهاية المطاف أن أتحدث عن الدوافع التي حدت بي لمتابعة الشاعر والكتابة عن ديوانه هذا ، مع أن ذلك لا يقع ضمن دائرة اهتماماتي الأساسية ، وأعني بذلك أنني وعلى الرغم من كوني استوعبت قصائد الشعر العربي التقليدية قديمها وحديثها ، إلا أنني خرجت من هذه الشرنقة منذ أمد بعيد ، وأتجهت برؤاي وتفكيري نحو القصيدة الحديثة أي قصيدة النثر التي أصبحت هي السائدة والمعوّل عليها في وقتنا الحالي وربما المستقبلي أيضاً ، وفي هذا الإطار أستطيع تحديد عدد من الأسباب ، من بينها وربما أهمها أنني وجدت في الكثير من نصوص الشاعر نزوعاً متأصّلاً نحو مقتضيات الحداثة ، وأن شعره برمتّه جاء ممتلئاً طلاوةً وعذوبةً وسلاسة ، بالإضافة إلى ذلك فأنا اعتبرت نفسي قريباً ومتعاطفاً بما يكفي من قضية الشاعر ، وهي قضية انسانية ومعرفية بالدرجة الأساس ، وينسحب ذلك على البيتين الغزليين الجميلين آنفي الذكر اللذين دأبتُ على نشرِهما على نطاقٍ واسع ....
----------------------------------------------------
ملاحظة ضرورية ؛ هذه المقالة سوف يتم تثبيتها في مقدمة الديوان الذي سيصدر قريباً عن المركز الثقافي للطباعة والنشر الذي يديره صديقنا الشاعر ولاء الصواف ....
أحمد الحلي
مقتربات أولى
منذ وقت ليس بالقصير أتيح لمثقفي الحلة وأدبائها أن يتعرّفوا على عدد من مثقفي المحافظات الأخرى الوافدين إلى مدينتهم من مدنٍ أخرى ، لدوافع شتى لغرض الإقامة والاستقرار فيها واتخاذها مدينة بديلة عن مدنهم الأصلية ...
أتيح لنا أن نتعرّف على أدباء وفدوا من مدينة الناصرية بصفة خاصة ، ومن بين هؤلاء صديقنا الشاعر ناهض الخياط الذي أخذ حظاً وافراً من الذيوع والشهرة بوصفه شاعراً متمكناً ، وكذلك أخوه القاص والشاعر عادل الخياط ، وكذلك الشاعر محمد علي كاظم حيدر ، وأتيح لنا أيضاً أن نتعرّف على أديب كفيف البصر هو الشاعر غالب ليلو البزاز الذي يبدو أنه عانى كثيراً ، وعاش في أخريات سنواته حياة الشظف والبؤس والحرمان والتشرّد ، على الرغم من أن بعض أصدقائه على قلّتهم ظلوا أوفياء له حتى اللحظات الأخيرة ...
استطاع شاعرنا ، غالب ليلو البزاز ، أن ينال قسطاً وافراً من التعليم من مصادر متنوعة ، وتمكن من أن ينهل ثقافته شفاهياً أو من خلال ما يقرأه له بعض أفراد العائلة أو الأصدقاء من روائع القصائد والمأثورات ، وفيما بعد قضى شطراً من حياته يدرس في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف إلا أنه ولأسباب متنوعة توقف عن مواصلة الدراسة ، وربما عزونا ذلك إلى ضيق ذات اليد أو ربما هو عامل التمرد وعدم الاستعداد للإنصياع أياً كان نوعه التي جبل عليها الشعراء دوماً هي التي حدت به إلى التوقف عن إكمال دراسته الحوزوية ومحاولته اصطناع فسحة أكبر للحرية تتحرك ضمن مساحتها ذاته اللائبة ...
كنتُ أراه ، إبان فترة الحصار الاقتصادي القاسي وهو يتمشى وئيداً على الرصيف قاطعاً المسافة بين (فندق أبو ذر) وهو الفندق الذي اعتاد أن ينزل فيه عدد وافر من المحرومين والمدقعين في المدينة ، كنت أراه وهو بأناقته المعهودة متأبطاً ديوانه الوحيد لغرض االوصول إلى مكتبتي في شارع الإمام علي ، أو على الأرجح لغرض تناول وجبة الغداء الشحيحة في مطعم أبو جورج المجاور لمكتبتي في الطابق الأرضي من عمارة العزاوي ، وغالباً كنت أسمعه يتمتم مع نفسه ببعض الهمهمات والكلمات ، إلا أنه مع كل ذلك كان قنوعاً ويستقبل كل ما كان يحوط حياته من بؤس وشظف وحرمان برحابة صدر بل وكثيراً ما كنت أراه وهو يصطنع النكتة والظرافة ويضحك ملء فمه ...
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يصل إليها بعض الناس ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وقد كنت بحكم عملي وقربي منه ملماً ومطلعاً على الكثير حيثيات حياته وكذلك أتيح لي أن أطّلع على قصائده التي أودعها ديوانه المخطوط ( شفاه ظمآى أو شفاه عطشى) ... والذي استقرَّ أخيراً على " شفاه عطشى" ووجدت أن عدداً من الأصدقاء على قلتهم كما أسلفنا كانوا عوناً وعضداً للشاعر في أشد الظروف قسوة ... ومن بين هؤلاء وأبرزهم السيد علي حمزة ، وآخرون اضطلعوا بكتابة قصائد الديوان بخط أنيق وجميل ، فلهم الشكر والعرفان على هذا الدور المشرّف
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين وهو الشاعر محمد علي حيدر حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يتصف بها بعض الأشخاص ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وكان وروى لي أيضاً حكايةً معطّرة عن أحد أخوة الشاعر وهو السيد طالب الذي عمل معلّماً وكان شخصية وطنية مرموقة في سوق الشيوخ بل وفي الناصرية برمتها ، وأن السلطات آنذاك كثيراً ما كانت تعمد إلى اعتقاله بسبب نشاطه ومشاركاته في التظاهرات ضد النظام خلال فترة الخمسينيات حيث يقضي في مراكز التوقيف عدة أيام ثم يُطلقون سراحه ، "وما إن كنا نعلم بإطلاق سراحه حتى نُهرَع إليه ، بوصفنا شبّاناً طامحين نحب وطننا ومتطلّعين إلى الإستزادة من الثقافة والمعرفة ، فنلتفّ حوله ليروي لنا ما الذي فعله رجال الأمن معه وكيف أنه خرج وهو أكثر صلابة واقتناعاً بأفكاره من ذي قبل ، فكنا نرى فيه مثلنا الأعلى ...." ، يُذكر أن طالب قد تم اغتياله في العام 1966 وهو في أوج شبابه ونضوجه ...، وقد رثاه شاعرنا بقصيدتين بحسب المعلومات المتوافرة لدينا ، وقد جاء في قصيدته الثانية التي قالها في العام 1992 بمناسبة مرور ربع قرن على وفاته ؛
أنساكَ ؟ مَنْ قالَ وهمٌ في تصوُّرِهِ إني عشِقتُكَ عِشْقَ الأرضِ للدِيَمِ
يا ابن الثلاثين يا جُرْحاً يُعَذِّبني ما للزمانِ أمانٌ قِيلَ من قِدَمِ
ناجيتُ قبرَكَ والآلامُ تعصِرني يا منبعَ الحبِّ يا لحنَ الهوى بفمي
ما زلت أتذكر ، كيف أننا اخترنا بيتين شعريين له من إحدى قصائده والتي هي بعنوان ( ليل) التي نظمها الشاعر في العام 1984 وهو في طريقه إلى سوق الشيوخ بالناصرية والتي مطلعها ؛
قلبي تلازم فيه الهمُّ والضَجَرُ إنْ أشتكي جَزَعاً قالوا هو القَدَرُ
والبيتان هما ؛
لا الصبحُ ياربَّة الأحلامِ مبتسِماً
عندي ، ولا الليلُ في آفاقِه قَمَرُ
يا ليتَ ما كانَ لي حِسٌّ يُعذّبني
كم كانَ يُبهِجُني لو أنني حَجَرُ
وقد نبّهني الفنّان المطرب الذي كان يحضر معنا في جلساتنا سمرنا الليلية الخاصة إلى ضرورة أن يقوم الشاعر نفسه بإجراء بعض التعديل على البيت الأول من أجل أن يُصبح متوائماً مع ضرورة التلحين والغناء ، وبالفعل أخبرت أبا سلام بذلك ، فقال لي ؛ " نعم هو محق ، امهلني بعض الوقت " ، وفي اليوم التالي حضر إلى مكتبتي جذِلاً ، ووافاني بالصيغة الجديدة وهي ؛
لا الصبحُ عندي كصبحِ الناسِ
مبتسِماً ، ولا الليلُ في آفاقهِ قَمَرُ
فاستقام البيت لحنياً . وقد فرح المطرب لذلك أيما فرح .
وبعد وفاة الشاعر المؤسية ، أصبح الديوان المخطوط بعهدة صديقه الوفي السيد علي حمزة الويسي ( أبو زهراء) ، الذي كان يأمل أن يجد من يتطوع بطباعته ، ولكن جميع من كان يُرتجى منهم خيراً كانوا يتعهدون بذلك ويبدون استعدادهم ، ولكنهم كانوا على الدوام يتهربون من التنفيذ ... وهكذا ظلَّ الديوان يتنقل من يد إلى يد ، ثم ليضيع في نهاية المطاف ، وكنت أرى السيد علي فزِعاً ومفجوعاً بهذا الفقدان الفادح أيما فجيعة ، وكيف لا وهو الذي اصطفاه الشاعر وعهد إليه برعاية أعز وأثمن ما يملك ...
وتمر السنوات تتلوها سنوات ، ثم وبمحض الصدفة ، أو ربما هو الحظ وحده يتم اكتشاف الديوان من قبل صاحب المقهى الذي اعتاد الشاعر أن يجلس فيه ، ذلك أن أحد الأشخاص كان يحمله معه حين اتخذ مقعده وجلس لاحتساء الشاي ، وبعد أن جلس وقتاً قصيراً قام وذهب ونسي المخطوط ، فأسرع إحسان وهو صاحب المقهى حيث كان يعرف الديوان جيداً وكذلك قصة اختفائه وفقدانه ، وأخفى الديوان ، وبعد وقت قصير يعود ذلك الشخص ليسأل عن الدفتر الذي فقده ، فينفي إحسان أنه وجد شيئاً ، فيذهب هذا إلى حال سبيله وكله حيرة ومرارة ....
وعلى أية حال ، شاعت في الوسط الأدبي ، وكذلك جميع المقرّبين من الشاعر قصة العثور على الديوان مجدداً واستبشر الجميع خيراً ، ولا سيما وأن إحسان وجد أن خير من يأتمه على الديوان هو صديقنا الشاعر ولاء الصوّاف خاصّة وأنه يمتلك أكبر دار لنشر الكتب في المدينة ...،واستقر رأي ولاء أن يطبع الديوان ، على أن يتم ذلك عن طريق جمع التبرعات من الأصدقاء ومحبي الشاعر الفقيد ...
قرأت بدقّة وتحرٍ شديدين نسخة منضّدة من الديوان ، فوجدت أخطاءً كارثية هائلة ، خاصة وأنه عُهد إليَّ بتصحيحه قبل إرساله إلى الشام لطباعته ، والقصائد تندرج تحت أبواب وأغراض محددة ، وهي أبواب اعتاد شعراء العمود الكتابة ضمن أُطرها ... وأستطيع إجمالها بما يلي ؛
باب الغزل والوجدانيات
أجاد الشاعر وأبدع أيما إبداع في هذا الباب ، ونرى أن ذلك يمكن أن يعكس فداحة المصيبة التي حلّت به من ناحية فقدان البصر وكذلك تخلي عائلته وكذلك الكثير من المقربين عنه ، فوجد في المرأة عزاءه وسلواه ، وكان يجد في القرب منها ما يُبهج فؤاده المكلوم والمحروم ... ، وقد ترك لنا في هذا الإطار قصائد غاية في الجمال والبراعة والعذوبة وتطالعنا في هذا المنحى امرأتان ، الأولى اسمها بلقيس ويبدو أنها كانت المرأة الأولى في حياة الشاعر حيث قال فيها قصائده الأولى ابتداءاً من العام 1957 وما بعده ، ومما جاء في إحداها ؛
ألفُ وجْهٍ يمرُّ في ذاكرتي مثلُ بلقيسَ عليها لن يمُرّا
إي وعينيكِ وأيّامِ الهوى أنتِ يا بلقيسُ بالعُشّاق أدرى
يا ابنةَ الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها أيضاً ؛
يا ابنة الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها ؛
ذكراكِ فوق شفاه الفجرِ أغنيةٌ حمراءُ ما برحتْ تجري على وتري
على أنه سرعان ما يتبدى لنا فيما بعد اسم امرأة أخرى أكثر رسوخاً وفاعلية ، ، وإن كنا لا نعرف نوع الحب نشأ بينهما ؛ أهو من طرف واحد أم أنه كان هناك تواصل حسّي أو معنوي بين الطرفين أو أن الشاعرَ كان يتعكز الشاعر فيه على خياله الجامح كما اعتاد أن يفعل ذلك عددٌ من الشعراء ، اسم هذه المرأة هو سهيلة ، حيث نراه يقول فيها مصرّحاً باسمها ؛
حسبي أُحسُّكِ يا سهيلةُ في الكرى وجهاً به تتلألأ الأنوارُ
ويقول ؛ مُحبُّكِ يا سهيلةُ لا يُلامُ وفي جَنبيه يحتدِمُ الغرامُ
ويقول فيها
شفتاكِ بالخمرِ الشهيِّ مليئةٌ يا عذبةَ الشفتينِ ما أحلاكِ
ويقول ؛ عيناكِ يا سِحرَ الوجودِ قصيدةٌ غنّتْ بها منذ الصِبا شفتانا
ويقول ؛ ما أطيبَ القُبلةَ لو عنوةً تؤخذ من خدّيكِ يا ناسيهْ
ما مرَّ في جَفنيَّ طيبُ الكرى مُذْ هِمتُ في عينيكِ يا غاليهْ
ويقول ؛ ما لي على بُعدِ الأحبّةِ مُهجةٌ أبداً ، ولستُ على نواكِ بصابرِ
قصائد في حب ورثاء أهل البيت
احتلت هذه الثيمة حوالي ربع مساحة الديوان ، والشاعر هنا ينسج قصائد تطفح بالألم والشجن الرفيع تجاه مصائب العترة النبوية ، التي تعرّضت إلى الكثير من الويلات والظلم على يد السلطات الجائرة على مر العصور ، والشاعر يؤكد هنا على المعاني النبيلة التي درج الشعراء الآخرون على التغني بها وإبرازها ...، إلا أننا نستطيع أن نلحظ أنه استطاع من خلالها أن يمرر ما كانت تمور بها نفسه التواقه أبداً إلى الحرية والانعتاق من تبرّم وسخط على السلطات الحاكمة التي سلبت البلاد وحرمت المواطن من أبسط حقوقه الأساسية ، وهو يقول ؛
ومن البليّة أن تُداسَ كرامةٌ في أرضنا وتُهانَ حُرمةُ مسجدِ
حين تنعمُ في البلادِ عصابةٌ من كل أجيرٍ مًفسِدِ
إنا نُكيلُ قصائداً لعدوِّنا ولنا يكيلُ قذائفاً لم تخمُدِ
ويقول في أخرى ؛
أمنَ العدالةِ في الحياةِ مُنَعَّمٌ فرْدٌ ، والآلافُ تكِدُّ وتُحرَمُ ؟
ثيمة الشكوى ومعاناته من الغربة الذاتية
تحتل هذه الثيمة المساحة الكبرى من الديوان ، ويبدو أن هذا الوتر الأثير إلى نفس الشاعر يمتد ويتفرع في جميع الاتجاهات ويتخلل غالبية القصائد ، ونرصد هنا أبياتاً غاية في الجمال والعذوبة وعمق المعنى ، فالشاعر يبوح بالمضمر من آلامه وأوجاعه التي تفرّد بها أو كُتِب عليه أن يتفرّد بها ، فنراه يقول ؛
ويلي على قلبي توطّنه الأسى ولقد تصاعَد كالجريحِ تنَهُّدي
ويقول ؛
ما مرَّ في دنيايَ يومٌ مشرِقٌ أبداً ، وما مرَّ الربيعُ ببابي
ويقول ؛
أرأيتَ في الدنيا أديباً ضائعاً مثلي ، يبيتُ على قناً وقَتادِ
ويقول ؛ من الدنيا رضيتُ ببيتِ شعرٍ وإن عليه تحسدني اللئامُ
ويقول في أخرى ؛
أحيا غريباً في الحياةِ مضيَّعاً ما بين أبقارٍ ونِعاجِ
ويقول ؛
جارتْ عليَّ أحِبَّةٌ وأعادي وقستْ عليَّ محافلٌ ونوادي
وعصتني حتى القافياتُ فلم تعدْ كالأمسِ طوعَ مشيئتي وقيادي
أبداً وما ضمّتْ على أملٍ يدي وتعثَّرتْ منذ الشبابِ جيادي
ويقول في قصيدة ( يا صبرَ أيوب) ؛
ستون ما حملتْ بداخلها ما يُبهِجُ النفسَ من أُنسٍ ومن سَمَرِ
عانيتُ منها ومن أوجاعِ محنتها ما لا يُطاقُ من الأرزاء والغِيَرِ
جُرحي تعتّق في قلبي وفي بدني مَنْ ذا يُضمِّده في ساعةِ الخطرِ
الحنين إلى سوق الشيوخ
بوسع قارئ الديوان أن يلاحظ قوة الشوق الذي يعتصر قلب الشاعر والحنين إلى منطقة سوق الشيوخ بالناصرية ، حيث ولد وعاش مراحل حياته الأولى ، فيرتسم هذا السوق في مخيّلة الشاعر وكأنه الفردوس المفقود أو الحلم الذي لم يتسنَّ له الاستمرار فيه ، ونجتزئ هنا بعضاً مما كان يختلجُ في نفسه ؛
سوقُ الشيوخِ وما أُعيرُ لعاذلٍ سمْعاً ، وما أخشى من اللوّامِ
سوقُ الشيوخِ ، على ثراكَ نما الهوى وسما على قممٍ من الآدابِ
أيا سوقَ الشيوخِ ، وكلُّ شمسٍ تغيبُ ، وإن شمسَكَ لا تغيبُ
إلى سوق الشيوخ حملتُ شوقي وما بينَ الضلوع له لهيبُ
بورِكتَ يا سوقَ الشيوخِ مكرَّماً وسلمتَ في دنياكَ للأحبابِ
سوق الشيوخِ جميلٌ في تدلــله عندي ، وفي حبِّه يُستَعذَبُ السهَرُ
سوقُ الشيوخِ بماضيه وحاضرِه غنّتْ بأمجاده هاتيكمُ السِيَرُ
ويبلغ حنين الشاعر إلى سوق الشيوخ ذروته فتتضاءل مدن الله الأخرى بإزائه
خلّفتُ في سوق الشيوخِ مهجتي وأتيتُ في بدني إلى الفيحاءِ
ما شِمتُ خيراً مذْ وطأتُ أديمَها ولقد شقيتُ بها وأيَّ شقاءِ
أودُّ في نهاية المطاف أن أتحدث عن الدوافع التي حدت بي لمتابعة الشاعر والكتابة عن ديوانه هذا ، مع أن ذلك لا يقع ضمن دائرة اهتماماتي الأساسية ، وأعني بذلك أنني وعلى الرغم من كوني استوعبت قصائد الشعر العربي التقليدية قديمها وحديثها ، إلا أنني خرجت من هذه الشرنقة منذ أمد بعيد ، وأتجهت برؤاي وتفكيري نحو القصيدة الحديثة أي قصيدة النثر التي أصبحت هي السائدة والمعوّل عليها في وقتنا الحالي وربما المستقبلي أيضاً ، وفي هذا الإطار أستطيع تحديد عدد من الأسباب ، من بينها وربما أهمها أنني وجدت في الكثير من نصوص الشاعر نزوعاً متأصّلاً نحو مقتضيات الحداثة ، وأن شعره برمتّه جاء ممتلئاً طلاوةً وعذوبةً وسلاسة ، بالإضافة إلى ذلك فأنا اعتبرت نفسي قريباً ومتعاطفاً بما يكفي من قضية الشاعر ، وهي قضية انسانية ومعرفية بالدرجة الأساس ، وينسحب ذلك على البيتين الغزليين الجميلين آنفي الذكر اللذين دأبتُ على نشرِهما على نطاقٍ واسع ....
----------------------------------------------------
ملاحظة ضرورية ؛ هذه المقالة سوف يتم تثبيتها في مقدمة الديوان الذي سيصدر قريباً عن المركز الثقافي للطباعة والنشر الذي يديره صديقنا الشاعر ولاء الصواف ....
الخميس، 5 مارس 2015
في ذكراه/ فصول من كتاب نصب الحرية لجواد سليم ملحمة شعب وذاكرة حضارة*-عادل كامل
في ذكراه/ فصول من كتاب
نصب الحرية لجواد سليم
ملحمة شعب وذاكرة حضارة*
عادل كامل
القسم الأخير
[9]المرأة: دينامية التواصل
إذا كان ديلاكروا قد رمز للحرية بالمرأة حاملة الراية، فان جواد سليم، وللمرة الأولى ـ حتى بعد أعظم المسلات والجداريات والرليفات البابلية، والأشورية ـ لم يغفل ان دينامية الحياة هي وليدة مفهوم التناقض/ التصادم/ والصراع، بمعزل عن الصيرورة في مجالها الدينامي، وان تمثل قوانين (الطبيعة، المجتمع)، في الفن، تتطلب مهارة استثنائية تتجانس فيها القوى، الحدود المشاركة، والمشتركة، ليس لهدمها ـ بحسب البرمجة ـ بل لإعادة بنائها برؤى لا تعزل الأنظمة الشكلية، الصورية، عن محركاتها، ولا تفصل العناوين، العلامات، عن ماهيتها.
وإذا كان الفنان قد كرس عددا ً كبيرا ً من نصوصه الفنية لموضوعات الطفولة ـ والمرأة، تارة، كموضوعات مستقلة، كما في (أطفال يلعبون)، أو مشتركة، كما في لوحة (الشجرة القتيل)، فان لا وعيه ـ فطرته، تلقائيته، ورهافته، لم تنفصل عن المجال الصوري في التكوين الذي تطلب أكثر من معادل، بين الجوهر والظاهر، بين الواقعي والرمزي، وبين المباشر والإيحائي ..الخ، كي ينبني العمل الفني برؤية (واقعية) في سياقها المرئي، من ناحية، وكي يمنحها، في الوقت نفسه، خطابها الحديث، في عصر بلغت فيه الحداثات الأوربية، ذروتها، وهي في طريقها إلى ما بعد (الحداثة)، من ناحية ثانية.
فالحلول لدى الفنان تكاد تكون شبيهة بالمخترعات، ليست مستحيلة، فحسب، بل تتطلب إعجازا ً. (1) فكيف سيتسنى للفنان ان يجد ممرات حقيقية كي يبلور خطابه بهذا التوازن؛ بين موروث يصعب إعادة إنتاجه من غير نظرية ـ رؤية ـ من ناحية، وبين حداثات مواكبة لمآزق كبرى كالاغتراب، والحروب، والانخلاع، وهي جميعا ً بلورت خطابات متداخلة يصعب تفكيكها من لدن فنان هو ذاته اعترف بما تمتلكه الحداثات من معضلات، لا تخص الأزمات الاجتماعية، والأخلاقية، بل أشكالها البصرية، الجمالية، والرمزية أيضا ً، من ناحية ثانية.
لعل الحلول التي تبناها جواد سليم، إزاء هذه التعقيدات، سمحت له بالحفاظ على تلقائيته/ فطرته، ببناء أسلوبه، مستعينا ً بالواقعية كبرنامج عمل يلخص مفهومه للتجريب، وليس العكس. فالفنان لم يكن يتخبط، أو يجرب، بل ترك ما كان يضمره، يغادر مناطقه المخبأة باستلهام موضوعات (الحياة) وفي مقدمتها: كل ما سيشكل نقيضا ً للتيارات الأقل اهتماما ً بموضوعات الحياة، في الفن الأوربي، والاستعانة بتراث تبلور عبر شخصيته الشرقية، والتجريبية في ذات الوقت. فكان موضوع المرأة ـ الطفولة،(2) الاختيار الأكثر اختزالا ً/ حذفا ً، لخزينه المعرفي، كي يأتي أسلوبه مرآة لعالمه الداخلي، ومتصلا ً بالبيئة التي وجد انه إزاء خطابها.
فلم يستعن بالرليف الأشوري ـ أو حتى بالجداريات البابلية ـ بالقدر ذاته إزاء الختم السومري، الاكدي، بما يمثله من تداخل بين الفكر المعرفي، والجمالي، في إنتاج واقعيته كخطاب دال على ما أنتجته مرحلة نشوء الكتابة ـ والفكر العلمي، في سومر، وأكد. (3)
ذلك الانحياز إلى مفهوم (التدفق)، أسهم بالحد من التأثر بالتيارات الأوربية، وأساليبها، إلا التي ـ هي ذاتها ـ استعانت بالحضارات القديمة، كما في تجارب جايكوماتي، بيكاسو، خوان ميرو، على سبيل المثال، كرد فعل إزاء مفهوم موت الفلسفة، الفن، والإنسان ذاته، حيث عبرت قصيدة (الأرض اليباب) عن خراب الحضارة، وذروتها في مجالات المصائر. فموت الفن قد لا يكون معنى متداولا ً ـ لأن بول فاليري ذاته لم يطلع على ما دوّنه هيغل بهذا الصدد ـ ولكن رهافة الفنان ـ بين الإيمان وعدمه ـ سمحت له للتعرف على مفاهيم متعددة لم تخف التعبير عن مآزقها، مما دفعه إلى اقل الاختيارات تعقيدا ً ـ وأكثرها قربا ً لشخصيته، ألا وهي موضوعات: الخصب. فكيف سيجد الحلول المناسبة، وهو ينفذ نصب الحرية، وقد وضع (المقاتل/الجندي) بؤرة ـ ومفتاحا ًـ له، ومن غير تسييس العمل، أو كي لا يصبح إعلانا ً ـ ودعاية..؟
لم تغب الحلول ـ المنطقية ـ بواقعيتها، عن اختيارات الفنان، بمنح المرأة مكانها في النصب. كما لم يغفل أي فنان سابق بهذا الاستلهام لنظام: البذرة. فالمرأة، في النصب، لا تمثل دورا ً سلبيا ً، نتيجة واقعها الاجتماعي، والإنساني، بل تحولت إلى علامة دالة على مشاركتها الواقعية للحياة مع الآخر، في الأذى، وفي التحدي. فهي الطرف المكمل للمعادلة، كي تغدو وحدة بنائية، كجسد، وكرمز، في المفهوم الملحمي لموضوع: الانعتاق.
فالجندي، وهو يحطم قيود العبودية ـ وقد بدا الموضوع سياسيا ً للوهلة الأولى ـ يجد، على اليمين، امرأة ترفع رأسها، مع يديها، إلى الأعلى، مبتهجة ومشاركة في الفعل، مؤيدة ومحتفلة، والمرأة ، على يسار الجندي، تحمل مشعلا ً للإنارة، ورمزا ً للحرية. وهي ليست مصادفة ان يمنح المرأة هذا التوازن، مع الرجل، وهو يعلن مغادرة الظلمات.
لكن الفنان، في المنحى هذا، سيختار المرأة الثائرة، إلى جانب الجواد الجامح، فاتحة النصب، ومقدمته ـ من اليمين، وهو نظام الكتابة باللغة العربية ـ وبجوارها، امرأة تنهض، يشاركها، بجوارها، حامل الراية، تشاركه امرأة تؤدي العمل ذاته، وفي الوسط، اختار جواد سليم طفلة، بحركة عفوية، شبيهة بالنماذج السومرية، وهو النموذج المدور الوحيد في النصب، كجسد محاصر بين امرأتين، لأن النائحة، الثكلى، وكمشهد مستمد من الواقع، ستستغيث، مع حركة احتجاج صريحة. وبجوارها ثلاث نساء، عند جسد رجل يتجه نحو الأرض، ضحية، وقد ربضن كما تفعل النساء عادة قبيل الدفن. فالمعالجة ليست طوطمية حسب، كعلاقة عضوية وغير قابلة للتفكيك، بل معاصرة، كنسغ يمتد بين الأسفل مع خط الأفق ـ نحو الأعلى. وبمثل هذه المعالجة، ثمة امرأة تحتضن وليدها، وقد تكورت، كما البذرة تحافظ على سر بذرة الخلق، الوليد، وقد اندمج بجسدها كمشهد طالما كان معالجا ً في الفنون السابقة على أزمنة الكتابة. هذا الجانب ـ الأيسر ـ عالج فيه الفنان مفهوم السكون ـ الحركة، بالمفهوم ذاته لدينامية الخلق. فليس الموت ـ الكمون ـ الدفن، إلا بما يؤدي إلى ضده: المغادرة ـ الولادة.
وفي هذا الجانب، بعد ان تكون القيود قد تحطمت، يسهم بها رجل مع امرأتين، أو امرأتان مع رجل ـ يختار الفنان جسدا ً أنثويا ً معتدلا ً، خلف القضبان، من الأسفل، وقد تحولت إلى أغصان. فالقيود توحي بمسار الصعود من الأسفل إلى الأعلى، والمرأة تواجه المشاهد مباشرة، بكبرياء. فهي تمثل نشوة التحرر ـ والاستقرار، والشروع بالعمل، حيث اليدين تؤديان هذا الدور، وليس الدور الذي مثلته (الأيدي) في الجانب الأيمن، من ضمور واستسلام وتمرد واستغاثة، كي تأتي الكتل الأخرى، مكملة للمرأة، حيث الاحتفال بالوفرة: امرأتان تتوسطهما صبية، الأولى تحولت إلى نخلة، يتحول السعف فيها إلى رايات ـ كعلاقة بين الرايات في يمين النصب ويساره ـ والمرأة الثانية تحمل ما أنتجته الأرض، فيما الصبية ترفع بذراعيها الواثقتين ثمرات العمل ـ وعلامته الصناعية.
ويحلل الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بالنسق ذاته، فيقول ـ حول هذا الجزء ـ: " مثل الفنان الرافدين العظيمين وفروعهما بنساء عراقيات. إحداهن فارعة كالنخيل الذي انتشر سعفه حول رأسها، وهي تمثل دجلة ـ وهي كلمة عراقية معناها (النخيل) ـ والأخرى امرأة حبلى بوفر العصور القديمة، فهي خصب كالسنابل التي تحملها، وتمثل الفرات ـ وهي كلمة عراقية معناها (الخصب) ـ والثالثة صبية تحمل على رأسها خيرات الأرض، ولعلها روافد دجلة والفرات" (4)
فالجنسانية تغيب عن النصب تماما ً، (5) فإذا كان الرليف ـ في النحت العراقي القديم ـ يستوحي مشاهد الحروب، والمعارك، والصيد، وهي ذات طابع ذكوري عادة، فان جواد سليم، في هذا النصب، سيمنح المرأة مفهوم (الخصب) وديناميته، حيث المرأة تغدو طرفا ً أساسيا ً في المعنى المشفر لأسطورة إنانا ـ ديموزي، في النزول إلى العالم السفلي، وفي التحرر منه، بالمفهوم الرافديني الذي وجد امتداده، هنا، بالدور الذي قامت به المرأة: الأم، الثكلى، وحاملة المشعل، والراية، والثائرة، وبالمرأة رفيقة الرجل، عبر الملحمة، رمزا ً للعمل، والعطاء، والسلام.
وقد تبدو بعض الإشارات حول علاقة جواد بوالدته مفتاحا ً لهذا المنحى برمته، ولكنه، في الحالات كلها، ليس الوحيد. (6) فالموضوعات التي ظهرت المرأة فيها/ والطفولة، لم تغب عن تجاربه طوال حياته، وهذا ـ في الجوهر ـ لم يتقاطع مع فهمه للحياة، كمشاركة بناءة، يكمل احدهما الآخر، وغير قائمة على التصادم. فالمرأة والرجل، كلاهما، يكملان بعضهما البعض، عبر تنوع حالات (الأسى) وحالات (الابتهاج). فالجندي ـ في هذا السياق ـ ليس علامة (ذكورة) بمعزل عن مفهوم الخصب، الذي عالج قضية (الثورة) بمعنى الانعتاق ـ الولادة، كي تكتمل الدورة ذاتها، للبذرة، عبر كمونها ـ دفنها ـ وتمثلها لحتمية التحرر ـ والمستقبل.
1 ـ لهذا ذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا: " لقد اكتسب اسم جواد سليم في أذهان الناس هالة تكاد تكون أسطورية، وهو أهل لها، ولا ريب". جواد سليم ونصب الحرية ـ مصدر سابق ص7
2 ـ يلفت الأستاذ شاكر حسن النظر إلى: " ان فكرة الأمومة هذه التي لم يكتف جواد سليم بطرحها كموضوع بل عبر عنها على هيئة (بنية ذات شكل) تضمنت عنده (صورة) الهلال والدائرة أيضا ً) جواد سليم ـ الفنان والآخرون. مصدر مذكور ص176
3 ـ د. صبحي أنور رشيد/ حياة عبد علي ألحوري [الأختام الأكدية في المتحف العراقي] وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1982 ، إذ يؤكد ان صناعة الأختام المنبسطة والاصطوانية، من السمات الحضارية البارزة لبلاد وادي الرافدين إذ تمثلت في هذه الصناعة دقة الفن وأصالته، حيث استطاع الفنان ان يجمع بين موضوع الختم وإجادة صناعته في آن واحد. ص 9
4 ـ جواد سليم ونصب الحرية، مصدر سابق ص156
5 ـ الجنسانية بمعنى الانحياز إلى احد الجنسين، والغلو فيه. فيرى د. قاسم حسين صالح، ان حياة جواد سليم كانت خالية من العقد. فيقول: " لم يتعرض جواد خلال مرحلة طفولته إلى مشاكل عائلية. ولم يفقد خلالها والده أو والدته وكان يكن حبا ً لأفراد عائلته كافة ... إلا ان حبه لامه كان متميزا ً. وقد انعكس ذلك في أعماله الفنية المتعلقة بالأم والأمومة " قاسم حسين صالح [في سايكولوجية الفن التشكيلي ـ قراءات تحليلية في أعمال بعض الفنانين التشكيليين] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1990 ص161
6 ـ تذكر إنعام كجه جي، في كتابها [ لورنا ـ سنواتها مع جواد سليم] إشارات حول والدة الفنان، منها: " أما أم جواد، فكانت فنانة أيضا ً ومطرزة ماهرة، امرأة ذات مهابة وصاحبة الشخصية الأقوى في العائلة...." " ص39
[10] قراءة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا
إذا رأى الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، وهو يتحدث عن نصب الحرية، ان يعزل ما هو ظاهر في النصب، حد ان التأثير البصري الصرف هذا، قد يحجب ما فيه من مغزى يهم المتلقي أو لا يهمه، فهو يأتي بالدرجة الثانية، إلا انه سيتوقف عند نقطتين في النصب: " لا تستطيع تجاهلهما. الأولى هي ان وحداته كثيرة، والمسافة بين البداية منه والنهاية طويلة بالنسبة للعين، مما خلق مصاعب جمة للفنان، كما تعلم. والثانية، هي ان الفنان أراد ان يجعل لكل وحدة معناها الخاص، بل انه أراد المعنى واضحا ً، ومسلسلا ً، حتى كادت رؤياه النحتية المجسدة تروح ضحية لمعناه الرمزي المجرد. هاتان النقطتان خلقتا للفنان مشاكل لم يكن حسمها سهلا ً عليه، ومصاعب كان عليه ان يتغلب عليها بعبقرية، ولم تكن حلوله كلها من نوع واحد.."
فإذا كان الأستاذ جبرا قد رأى ان جواد لم يكتف بالثورة في وثبة الجندي الشجاع، فكان عليه ان يفكر بالدلالة الرمزية للنحت أيضا ً ـ أو معا. فكان عليه ان يجد الصيغة التي تلتئم فيها روعة الكتلة والتشكيل مع روعة المعنى الذي يهمه، فكان عليه ان يجعل كل جزء واقعيا ً ظاهرا ً، ورمزيا ً باطنا ً. ولجأ إلى مخزون تجاربه الكثيرة، وما تعلمه من فن وادي الرافدين والفن الايطالي في عصر النهضة: إذ ْ ان في كليهما هذا الجمع بين النص البصري والصريح، والإيحاء الرمزي المضمن.
فرواد الثورات، والجندي، والفلاحين (الزراعة) والعامل، ذات منحى واقعي، فان: الحصان، والباكية، والحرية، والسلام، والثور، والفلاح، جاءت رمزية. وبعضها كان مزيجا ً من كلتا الطريقتين ـ: كالأم الثكلى، والأم وطفلها، والسجين، وانهار العراق. وقد انحاز الأستاذ جبرا للمجموعة الأخيرة كـ: " أروع ما في النصب" ففيها: نشعر ان الفنان استطاع ان يوفق بين القوى المتصارعة في ذهنه، بين الحقيقة الداخلية والحقيقة الخارجية، بين تجسيد النحت وتجريد المعنى، بحيث تبقى الكتلة النحتية روعتها ويأتي المعنى في المرتبة اللاحقة مؤكدا ً عليها. فالمعنى إنما هو رافد من روافد جمالها، اكبر منه غاية تبرر الشكل المنحوت، كما في بعض الأجزاء الأخرى.
وأخيرا ً: ليست هذه صرخات الحرية وأغانيها البرونزية فحسب، بل هي حلم يقظة رآه فنان بغدادي، وجراح امة عرفها مع شعبه، وأمل رحب لازمه طيلة عمره.
[11] قراءة الأستاذ شاكر حسن
يلخص الأستاذ شاكر حسن، في كتابه[ جواد سليم ـ الفنان والآخرون] مدخلا ً لفك بعض مشفرات نصب الحرية، فيرى انه إزاء: " عمل معماري و (نحتي ـ انصابي) في آن واحد. وهو من حيث الخامة توالف ما بين المرمر الأبيض كخلفية سحيقة تذكره بورق (الترمة)، وما بين الكتل النحاسية التي تجمع ما بين النحت المدور، والنحت البارز. مستنتجا ً ان الرليف هو حل وسط ما بين النحت المدور والرسم.
لهذا سيختار القراءة (التعاقبية) من حيث تسلسلها الأفقي من اليمين إلى اليسار، في مجموعات أربع، موزعا ً الكتل من الحصان إلى كف المتظاهر الذي يبدو بهيئة راقصة. بينما تمتد المجموعة الثانية لتبلغ حدود المرأة الحانية على الطفل. وتبدأ الثالثة من مشهد خروج السجناء السياسيين من سجنهم، وحتى تمثال المرأة الممثلة للخصوبة، ويختتم المجموعات بموضوع الفلاحة والعمل، فهي تجمع ما بين شكل العامل حامل المطرقة وحتى شكل الفلاحة حاملة الحصيد أو الواقفة إزاء النخلة.
لتكون قراءته قائمة على رؤيته ـ هو ـ بالحدود التي لا تتجاوز تأويله للسرد، مع هذه الرؤية. فالعلاقة بين الكتل، وكل منها يرمز إلى وظيفة محددة، تكمل بعضها البعض الآخر، تعاقبيا ً. وهكذا تكون المجموعة الأخيرة من النصب مقابلة للمجموعة الأولى: فالثور يقابل الحصان/ والعامل يقابل حامل اللافتة/ والأشخاص الثلاثة من الفلاحين فهم يقابلون الممسك بالعدة والممسك باللجام، بالميت الساقط على الأرض.
فالاتجاهات، في النصب، تتكامل مع البناء العام للعمل الفني معتمدة على التناظر كقيمة أسياسية له. معترفا ً ان (التأويل) قد يتقاطع مع أي تأويل آخر، بل وحتى مع (وعي) الفنان لصالح ما هو ابعد من ذلك. فيقول بان ذاكرة الأشياء تظل تتدخل في عمل الفنان من غير (وعيه) تاركا ً الاحتمالات حرة بحسب تأويل المتلقي.
وسياق القراءة ـ هنا ـ يوضح مقاربة مع الآراء الأخرى، بما يمثله النصب من تراكم خبرات من حيث تعدد الرؤيات، ومن حيث تعدد التقنيات والأساليب، محددا ً بموضوع النصب: الثورة. لكن هذا محض وصف بالظاهر، في سياق قلب مفهوم ان العمل الفني هو الفنان كي يغدو الفنان ـ أخيرا ً ـ جزءا ًمن عمله. ثم يتساءل: أيكون موته المفاجئ جزءا ً من عمله وهو في صيرورته المستقبلية ..؟ مختتما ً قراءته بان نصب الحرية هو: خلاصة لحياة جواد سليم وموته معا ً، بهذا المعنى الأخير ـ ومع ذلك ـ فباستطاعتنا أيضا ً ان نقرا فيه أي سفر آخر.
ولا ضرورة لتذكير القاريء بعلاقة الأستاذ شاكر حسن بجواد سليم، بعمقها، من ناحية، وبرؤية جماعة بغداد للفن الحديث، ونسقها كصيرورة كونتها روافدها لتمثل الحاضر، وكمنجز قائم على صهر هذه الروافد، بالحفر في المناطق الأكثر قدرة على مواكبة حركة الزمن، من ناحية ثانية.
فالنصب، لدى شاكر حسن، يبدأ من: التاريخي، والعياني، المباشر، نحو (الشيئي ـ الجنيني) كموقف يكمل قراءة الأستاذ جبرا إبراهيم، التي حافظ فيها على موضوعية (النصب)، كي يمنح المتلقي حرية كالتي عمل بها جواد سليم، حرية كأنها هبطت من كوكب آخر، لكنها بالضرورة هي، في نهاية المطاف: حصيلة تحديات.(2)
1 ـ شاكر حسن آل سعيد [ جواد سليم ـ الفنان والآخرون] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1991
2ـ يذكر الأستاذ رفعة الجادرجي، بهذا الخصوص: " ثم، ان المثقفين عموما ً في تلك الفترة كانوا تقدميين، ضد السلطة الحاكمة والطبقة القريبة منها. حتى ان جواد قبل سفره بيومين مر من أمام ستوديو احد المصورين الفوتوغرافيين في شارع الرشيد، وكان يعرض صورة كبيرة لـ "عبد الإله"، وبالختم الذي في إصبعه شطب على الصورة. رآه شرطي فامسك به.. ولا ادري حتى الآن كيف انتهى ذلك الحادث في تلك الليلة. المهم ان جواد سافر" جريدة الجمهورية، بغداد، بتاريخ: 25/1/1978 حوار مع الأستاذ رفعة الجادرجي.
[12] قراءة ثالثة
عندما يستعيد المتلقي مشهد النصب كاملا ً، فانه سيعيده إلى الأرض. فجواد سليم ـ الذي عمل على صهر المؤثرات، بتنوعها، لا كمصالحة، بل كوحدة تضمنت اختلافاتها أيضا ً ـ درس عميقا ً مفهوم الدورات، إن كانت كبرى، خارج مدى الإدراك البشري، أو تاريخية، تخص حياة الأمم، والجماعات، والأفراد. أي انه ـ في سنوات الريادة؛ سنوات التدشين والتأسيس والمغامرة الخلاقة ـ أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته ـ أدرك ان مهمات الفنان متشعبة، ولا يمكن تأطيرها أو وضعها في مفهوم أخير. لكنها، إن كانت بلا فكر، فإنها ستبقى في حدودها الصورية، والشكلية. والفكر، ليس (النظريات) و (المعرفة) و (الخبرة) فحسب، بل كل ما سيشكل جوهر الرسالة ـ الخصوصية، والإرسال.
والفت النظر هنا إلى الكتابات النقدية، التي نشرها الفنان محمود صبري، بواقعيتها الجدلية النقدية، وأثرها في توجهات الفنان،(1) بالعودة إلى (الواقع)، بدل الانسياق بمحاكاة الأنماط السائدة، حد استنساخها، بل إعادة الحفر في صيرورة (الوجود)، ومدى مسؤوليات الفنان كصانع: علامات لها (دورتها)في فهم ديالكتيك المجتمعات ـ والحضارات، والإنسان في الأخير.
ولم يكن جواد سليم ـ مؤسس جماعة بغداد للفن الحديث بعد انفصاله عن جماعة الرواد ـ يحلم بأكثر من ردم المسافة التي تعزله عن الحقب المزدهرة في حضارة وادي الرافدين، لأن النقد الذي قدمه الفنان محمود صبري، ساعده على ذلك ـ في المنجز ـ بدل الاكتفاء بتجارب جمالية أحادية، أو باذخة، أو تزيينية من ناحية، أو متأثرة، حد التطابق، بنماذج سائدة، عالميا ً، من ناحية ثانية.
قلت: عندما يستعاد النصب كاملا ً، فان دراسة الاتجاهات، لكل كتل، ستتوازن بين (الأعلى) وبين (الأرض)، كي يمتلك خط الأفق، علاقة: البذرة ـ في صيرورتها ـ بين الدفن ـ وبين الإنبات/الانبثاق. وهو ـ عمليا ًـ وجد هوى عميقا ً لدى الفنان، مع (الثورة)، بالمعنى الأبعد من الحدث ـ السياسي، نحو: الانعتاق.
فإذا كان المشاهد لا يستطيع إلا ان يرفع رأسه، رمزيا ً، وعمليا ً، لمشاهدة الإفريز، فانه سيؤدي دور البذرة ذاتها كاملة. فالفنان المشبع بالحضارات القديمة، ومنها حضارة وادي الرافدين، أعاد قراءة أسطورة تموز ، جلجامش، وتركها تجد حياتها في ملحمته: الانبثاق، علامة فاصلة بين قرون لا اثر فيها لأية علامة، أو اثر، ومستقبل يتأسس توا ً يتطلب وجود علامات خاصة تمثله.
ولعل إحساس الفنان بصدمة (الغياب)، لم تتبلور، كما تبلورت، وهو يشرع بتنفيذ نصب الحرية. فالموت ليس حدثا ً عارضا ً، ولكن معادله، سيشكل حدا ً مقابلا ً ـ وتحديا ً ـ ومكملا ً له. وقراءته لحضارات وادي الرافدين، قبل الطوفان، مرورا ً بسومر وأكد وبابل وآشور والحضر والعصر العباسي، لم يغب عنه، حيث لا يوجد (سبات) إلى الأبد، من ناحية، وان مسؤولية كل (حقبة) لا بد ان تنبني بمشروعيه النهضة ـ الثورة ـ الولادة، من ناحية ثانية.
فالنصب، بحدود هذه القراءة، وجد زمنه كحد فاصل بين الدفن ـ والانعتاق.
ومن منظور لا شعوري ـ وبنيوي ـ فان مفهوم الختم ـ الدائري ـ يؤدي ـ في هذا النصب ـ دوره، حيث مرور الملايين، من أمامه، سيحمل بصمات النصب، وما يعمل على إيصاله، أو بثه. أي ديناميته للعبور من الحاضر، بالإضافات، نحو تشكل ملغزات الدورة، ودحض السكون، أو الارتداد.
ومع هذه العلاقة ـ للمكان والزمان ـ فان ايكولوجيا النصب، تبدأ من (الأرض) ـ الزراعة/ المرأة/ العمل/ النبات/ الحيوان/ ومعها الأدوات ـ نحو المعنى الرمزي لموضوع (الانعتاق) ـ بالجندي ـ رمزا ً للمحارب ـ حتى يومنا هذا قبل ان تمتلك الحكمة دعوتها أو نسقها أو برنامجها لنبذ العنف.
لكن عنف (الجندي) ضرورة، أي ضرورة بتحطيم القيود، بتضافر دور ـ المرأة/ المناضل/ الشعلة/ الشمس/ الطفل ـ لمغادرة حالات: القنوط ـ والسبات، والارتقاء بالفجيعة نحو التغيير ـ الثورة.
فالجندي لا يشطر النصب إلى شطرين، بل يؤدي دور (البؤرة) التي تتجمع عندها باقي أجزاء النصب، لأنه الشرارة، أو المفتاح، للبوابة كمشهد تاريخي تضمن رصد علاماته المتنوعة. فهو الممر ـ الجسر ـ والحلقة بين تاريخ مدوّن عبر مسيرة استمدها الفنان من واقعية المعاناة الحقيقية للشعب، ولكنها تحديدا ً ستمثل واقعية الأداء ـ وتحويراته، وهي واقعية جواد سليم، وخلاصة خبرة نصص فيها ـ دفن ـ أساليب وتيارات وتجارب ـ كي يغدو استحداثها شرعيا ً ـ جماليا ً، في الأخير.
فإذا كانت إحدى أهم وظائف النصب هي (التعبير)، فانه لم يتأطر بالذاتي ـ ولا بالحفاظ على ما تدل عليه تفاصيل النصب، كالانتفاضة، أو الجواد الجامح، أو الثكلى، أو الأمومة، فحسب، بل على الرؤية التي لم تفرط بالهوية ـ الكيان الكلي لمجالي المعنى ومعالجته التقنية، والتكنيكية، والرمزية أخيرا ً.
إنها احدى أكثر الخلاصات التي كوّنت شخصية الفنان: الحفر في المناطق السحيقة، وفي الوقت نفسه دراسة كل ما تنتجه الصيرورة، في المتغيرات، وأثرها في صياغة علاماتها. ولهذا قال جواد لنزيهة سليم، قبل سفرها للدراسة في فرنسا: " لكي لا يتأثر الفنان بمؤثرات أخرى عليه ان يظل باقيا ً على وعيه الفطري" (2) وقد دوّنت في كتابي [الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد] (3)، إلى جانب اثر الفكر التقدمي، في التيارات الفنية الحديثة، ان (جذرا ً) بدائيا ً لم يتم التخلي عنه، لا عند جواد سليم، أو خالد الرحال، أو فائق حسن، بل الذي نراه يؤكد احد خصائص هوية هذا الجيل. والبدائية ـ أو الفطرية، لا تعني (التخلف) او التخلي عن التقنيات المبتكرة، والمستحدثة، بل أنها ستمثل النسغ، أو الرابط، او الموصل بين كل ما بدا مندثرا ً، أو ميتا ً، وبين الذي سنراه يتكون. ذلك لأن (البدائية) تعني تحديدا ً بالمعنى هذا (المصداقية) كما تعني (أصالة) التجربة، وليس لأنها مستعارة، أو تعمل عمل الأقنعة.
وعودة إلى (المفتاح) فان الفنان كان أمينا ً ـ كجزء من واقعيته ـ لاختيار (المحارب/ المقاتل/ الجندي)، لحضارة ـ كمعظم الحضارات الشرقية ـ كانت تمجد البطولات، وتاريخها، في الغالب، دوّن بحسب نتائجها. فهو ليس علامة (ثورة) على حساب العلامات الأخرى، بل محرك لها، رمزا ً للتحرر ـ وللتغيير.
وعندما نعيد قراءة الجانب الأيمن، فسنجد ان الفنان عالج حركة الكتل، باتجاه (الجندي) ـ من اليمين إلى الوسط، مثلما ستكون الحركة، في الجانب الآخر، من اليسار صوب الجندي، فهي بمثابة (الجسر) أو (الرابط) البصري، والتكويني للنصب. وبمعنى آخر، فان رمزية (الجندي) ـ كولادة ـ عميقة الارتباط بالحالات المختلفة التي عالجها الفنان. وليست هي محض مصادفة ان يختار موضوعات ـ: المفكر السياسي/ الثكلى/ الشهيد/ الباكية/ الطفل/ رواد الثورات/ الرايات/ والجواد الجامح، على الجانب الأيمن، كي يأتي الجانب الآخر، مكملا ً ـ في المسار المنطقي لدينامية الملحمة ـ كموضوعات: السلام/ دجلة والفرات/ الزراعة/ الثور، والصناعة.
فموضوعات الجانب الأيمن، مكونة، وممهدة، للحدث ـ الثورة، وموضوعات الجانب الأيسر، نتيجة يفضي إليها أو يتوخاها الحدث، وقد سحبنا جواد سليم ـ دون ان يدفننا ـ إلى ما ورد في خاتمة ملحمة جلجامش؛ وهي خاتمة معادلة لأساطير ديموزي، أكدت ان الإجابات الفلسفية لمعضلات الوجود ـ والموجودات ـ لا تجد توازنها إلا بالعمل. ومرة أخرى منح الفنان (لاوعيه) حرية موضوعات الحرية. فالأسى والقنوط والقيود والتضحيات التي اختارها في الجانب الأيمن، لم تدم، كي تجد معادلها، في بناء حياة بعيدا ً عن الاستبداد، كتوازن، في تكوين النصب.
وكأن حياة الفنان، التي توقدت، وتوقفت عندما بلغت ذروتها، في نصب الحرية، شبيهة بالنذور، التي تقدم استجابة لديمومة الحياة، فطالما شعر جواد سليم بهذا الهاجس، هاجس الموت. ولعل ما صدم الفنان ـ وأنا شخصيا ً سمعته ـ قد آذاه. فتقول نزيهة سليم، في حوار أجراه شاكر حسن معها: " علق احدهم على أشخاص النصب فقال إنها كالضفادع. وسمعت آخر (.....) يقول ان جواد سوف لا يكمل النصب. فكان جواد يقول "أنا اعرف ان منيتي قد قربت لكني سوف أكمل النصب، وهذا هو عزائي الوحيد" (4) وفي حوار لي مع الفنان د. خالد القصاب، حول دقائق جواد الاخيرة، قال لي ان جواد سليم ـ وهو يحتضر ـ سأله: هل سيكملون بناء النصب، اجابه القصاب: نعم. فانشرح جواد سليم، كأنه لخص، لا شعوريا ً، دورة (البذرة)، وهي تنبثق من كمونها، نحو الشمس.
فهل ثمة ضرورة للشروح، أو للتفسيرات، بل وحتى للتأويل، لأجزاء النصب ومكوناته، أم إنها ستقلل من حرية المتلقي، وهو يؤدي دوره، كما في النصب، الذي ارتقى بالواقعي نحو الملحمي، وبالذاكرة نحو التدشينات، وبالتعبير نحو الرموز، وبالأسى نحو الابتهال، وبالحزن نحو السلام، وبالقيود نحو الحرية، بما توفرت لديه من قراءات، وحفريات، واستذكار ..؟
أرى ـ في قراءتي ـ ان واقعية النصب، لخصت احد أكثر قوانينها عمقا ً: ان الظلمات لن تدوم، كما في الحكمة السومرية، إلى الأبد، ما دام هناك ـ كما في نصب جواد سليم ـ (5) ألتوق لحياة ستشكل إرادة الإنسان، جوهرا ً لها. فالنصب، في الأخير، ليس معالجة لعلامات دوّنت مسارها عميقا ًفي ذاكرة الأجيال، بدءا ً بجيل 14 تموز 1958، فحسب، بل ذاكرة تدوّن مصيرها، طالما ان إرادة الشعب كانت تمتلك قدرتها على قهر عوامل: القهر. فنحن إذا ً إزاء ملحمة وجدت من يعيد صياغتها ـ لعوامل تكاملت أسبابها ـ مثل قربان لم يُقدم إلى المجهول، بل للمستقبل، حيث تستيقظ بغداد، في كل يوم، أمام أطياف جواد سليم، ترفرف، كعلامات للحرية، وصانعها، في الوقت نفسه، تأخذنا إلى مداها الأبعد.
* الكتاب صدر عن مؤسسة الأديب/ عمان ـ 2014
1 ـ كان محمود صبري يرى ـ يقول رفعة الجادرجي ـ: " بان الفن ينبغي ان يكون سياسيا ً، وقال: بشكل مباشر أو غير مباشر أنت سياسي، سواء كنت تعلم أم لا تعلم. وكان محمود صبري ينطلق في هذا من موقفه التنظيمي. بينما كنت أنا قد طرحت الموضوع على النحو التالي: يجب ان نتجه إلى الفن الواقعي، وهو حصيلة تناقض ديالكتيكي بين الفكر والتكنيك وما الشكل إلا حصيلة لهذا التناقض. كان رد فعل جواد على هذا النقاش هو: ان الفن اذا أصبح سياسيا ً فان المضمون سيتغلب على التكنيك" ملحق خاص بجواد سليم، جريدة الجمهورية الأربعاء: 25/1/1978
2 ـ [جواد سليم/ الفنان والآخرون] شاكر حسن، مصدر سابق ص216
3 ـ عادل كامل [الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد] جواد سليم : ضمير جيل. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 ص24 وما بعدها
4 ـ جواد سليم/ الفنان والآخرون، مصدر سابق ص 11
5 ـ " وربما لم يزدد عشق جواد سليم لبغداد، إلا بعد أن رأى وتأمل وعاش في المدن الكبرى: باريس وروما ولندن، عبر فترات، وهو المشغول بمدن العراق الكبرى، ذات التراث الحضاري المميز، إلا أن راح يصّورها بمخيال استثمر محفزات الفن، بالدرجة الأولى، إلى جانب اكتشافه لنفسه، وليس لمعرفتها حسب. وبغداديات جواد سليم، بما فيها من لمسات باذخة، ومترفة، وتزويقية، وتميز على صعيد الأسلوب، إلا أنها لم تخف أنها كانت تخفي، وتضمر شيئا ً آخر، غير: الأشكال، والإمتاع، وكسب رضا المتلقي. كانت هذه الرسومات تدريبات استثمر فيها، برهافته، وتأملاته، وحدسه في تحديد لغته الفنية: استبعاد التكرار، والنسج وفق درب أخير، مما سمح له بالحفر في الموروث العام، من عصر الكهوف إلى ما بعد الحداثة، مرورا ً بتجارب الشعوب ذات الحضارات المختلفة. على أن هذا الانشغال له مركزه: لغز الانبعاث، بعد لغز الموت، في بناء تجارب تمتلك ديمومتها، إزاء ويلات الحروب، وكوارث الطبيعة، وطغيان بعض الشخصيات البشرية. ولا احد يستطيع أن يحدد رهافة جواد سليم، ورقته، إلا عبر صلابة استثنائية قادته لبناء مدينة، داخل بغداد، مدينة تضمنت مشفراتها، عبر رموزها، وإشاراتها، وعلاماتها، في نصب سكنته أزمنة، وعصور، وقبل ذلك كل ما سيمكث داخل النصب: تدشين كل ما لم يدشن." عادل كامل، كتاب معد للنشر، بعنوان [بغداد: أناشيد مدينة اشتغلت بالمشفرات]
المصادر
1 ـ جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد 1974
2 ـ شاكر حسن آل سعيد [ جواد سليم ـ الفنان والآخرون] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1991
3 ـ عباس الصراف [جواد سليم] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972
4 ـ نزار سليم [الفن العراقي المعاصر ـ الكتاب الأول/فن التصوير] وزارة الإعلام ـ 1978
5 ـ شاكر حسن آل سعيد [مقالات في التنظير والنقد الفني] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1994
6 ـ المثقف العربي ـ العدد الرابع ـ السنة الثالثة ـ وزارة الإعلام ـ بغداد 1971
7 ـ شاكر حسن [فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الأول. دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد ـ 1983
8 ـ جواد سليم. دليل المعرض السنوي السابع للرسم، المعهد الثقافي البريطاني ـ 1958
9 ـ مجلة الرواق، وزارة الثقافة والفنون ـ بغداد 1978
10 ـ س. ن، كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الاصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. الموسوعة الصغيرة ـ العدد(77) وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980
11 ـ أندري بارو [ سومر ـ فنونها وحَضارتها ] ترجمة:د. عيسى سلمان وسليم طه التكريتي. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1979
12 ـ عادل كامل [الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد] وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980
13 ـ عادل كامل [التشكيل العراقي ـ التأسيس والتنوع] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 2000
14 ـ مجلة [ديوان] إصدار ديوان شرق غرب ـ برلين ـ عدد خاص بالفن العراقي ـ برلين 2004
15 ـ د. شمس الدين فارس [المنابع التاريخية للفن ألجداري في العراق المعاصر] وزارة الإعلام ـ مديرية الثقافة العامة ـ بغداد 1974
16 ـ نوري الراوي [تأملات في الفن العراقي] وزارة الإرشاد ـ مديرية الفنون والثقافة الشعبية ـ بغداد 1962
17 ـ مجلة ألف باء ـ بغداد: ملف أعدته الشاعرة آمال الزهاوي ـ العدد 159 ـ آب 1971
17 ـ معرض جواد سليم ـ قاعة المتحف الوطني للفن الحديث 23 ـ 31 كانون الثاني 1968
18 ـ جواد سليم: الفن/ الموقف/ الإنسان. ملف حول الفنان بتاريخ: 25/1/1978
19 ـ قاسم حسين صالح [في سايكولوجية الفن التشكيلي ـ قراءات تحليلية في أعمال بعض الفنانين التشكيليين] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1990
20ـ د. صبحي أنور رشيد/ حياة عبد علي ألحوري [الأختام الأكدية في المتحف العراقي] وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1982
21 ـ في ذكرى رحيل الفنان جواد سليم. إعداد: عادل كامل. جريدة القادسية: 23/1/1985
22 ـ د. عاصم عبد الأمير [ الرسم العراقي ـ حداثة تكييفي دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 2004
23 ـ إنعام كجه جي[لورنا ـ سنواتها مع جواد سليم] دار الجديد
النحّات يتحدّث هنري مور- بـقـلـم : هنري مور ترجمة : أسامة أسبر
النحّات يتحدّث
هنري مور
بـقـلـم : هنري مور
ترجمة : أسامة أسبر
إن تحميلَ الرسم أكثرَ مما يستطيع ، لكي يُصبح بديلاً للمنحوتة ، يُضعِف الرغبة بإنجاز المنحوتة أو من المحتمل أنه يجعل المنحوتة مجرد إنجازٍ ميت للوحة . من الخطأ أن يتحدث النحاتُ و الرسامُ عن عملهما وأن يكتبا دائماً عنه ، لأن هذا يحرر التوتر الذي يحتاجان إليه . فحين يحاول النحاتُ أن يعبر عن أهدافه بدقة منطقية ، يصبح ـ بسهولة ـ منظّراً لا يكون عملُه الفعلي إلا شرحاً محدوداً للمفهومات التي تتطور في أحضان المنطق و الكلمات . و على الرغم من أن الجزءَ غيرَ المنطقي و الغريزي و اللاواعي للذهن يجب أن يلعب دورَه في عمل النحات ، إلا أنه يمتلك أيضاً ذهناً واعياً و نشيطاً .
يعمل الفنان من خلال تركيز شخصيته كلها ، و الجزءُ الواعي منها يُنهي الصراعات و ينظّم الذكريات و يمنعه من محاولة السير في جهتين في الوقت نفسه . من هذا المنطلق ، يستطيع النحاتُ أن يقدّم ـ من خلال تجربته الواعية الخاصة ـ مفاتيحَ تساعد الآخرين في مقاربتهم للنحت ، و في هذه المقالة لا أقدّم مسحاً عاماً لفن النحت أو لتطوره و إنما بعضَ الملاحظاتِ حول المشكلات التي واجهتـُها بين فترة و أخرى .
أبعادٌ ثلاثة
يعتمد تذوّقُ فنِ النحت على القدرة على النظر إلى الشكل في أبعاد ثلاثة . ربما ، لهذا السبب وُصِفَ فنُ النحت بأنه أصعب الفنون ، و بالتأكيد هو أكثر صعوبة ً من الفنون التي تتضمن تذوقاً للأشكال المسطّحة التي لا يمتلك حجمُها إلاّ بُعدين . إن كثيراً من البشر مصابون بعمى الأشكال أكثر مما هم مصابون بعمى الألوان . فالطفل الذي يتعلم الرؤية ، يميز أولاً شكلا ببُعدين ، و لا يستطيع أن يحسب المسافات و الأعماق . فيما بعد ، و من أجل سلامته الشخصية و حاجاته العملية ، يتوجّب عليه أن يطوّر جزئيا ـ من خلال اللمس ـ القُدرة على أن يعي ، بصعوبة ، مسافاتٍ بثلاثة أبعاد . ولكن بعد إرضاء متطلبات الضرورة العملية ، فإن معظم البشر لا يتحركون الى أبعد من ذلك ، و على الرغم من أنهم يمكن أن يُدركوا ـ بدقة ـ الشكلَ المسطّح ، إلا أنهم لا يبذلون المزيد من الجهد الفكري و العاطفي الضروري لفهم الشكل في وجوده المكاني الكامل .
هذا ما ينبغي أن يفعله النحات . يجب أن يبذل جهوداً مستمرة كي يفكر بالشكل و يستخدمه في كماله المكاني التام . يحصل على الشكل الصلب ، كما كان داخل رأسه ، يفكر به ، مهما كان حجمُه ، و كأنه يحمله مسجوناً ـ بشكل كامل ـ في فراغ يده ـ و يتصوّر ذهنياً كل ما حوله كشكل معقد ، و يعرف حين ينظر الى جانبٍ واحد شكلَ الجانب الآخر ، و يحدد موقعَه من مركز جاذبيته و كتلته و وزنه ، و يُدرك حجمه ، كالحيّز الذي يحتله الشكلُ في الفراغ .
و ينبغي على المتابع الواعي لفن النحت أن يتعلم كيف يشعر بالشكل كشكل ، و ليس كوَصف أو تذكّر . يجب ، مثلاً ، أن يُدرك البيضة كشكل مفرد صلب ، بعيداً عن دلالاتها كطعام ، أو عن الفكرة الأدبية بأنها ستصبح طائراً ، و هذا ينطبق على الأشياء الصلبة كالمحار و الجوزة و الخوخة و الأجاصة و الشرغوف و الفطر و قمة الجبل, و الجزر و جذع الشجرة و الطير و البرعم و القنبرة و الدعسوقة و العظام ، إنطلاقا من هذه الأشياء يستطيع أن يتابع ليتذوق أشكالاً أكثر تعقيداً أو تمازجاتِ أشكالٍ عديدة .
برانكوسي
غُطي فن النحت الأوروبي ـ منذ القوطيين ـ بالطحالب و الأعشاب ، و بجميع الأنواع السطحية الزائدة التي تحجب الشكل . وكانت مهمة " برانكوسي " الرئيسية هي التخلص من هذه الأعشاب الزائدة ليجعلنا ، مرة أخرى ، نعي الشكل . و لكي يفعل هذا ، كان عليه أن يركّز على أشكال مباشرة بسيطة جداً و أن يجعل منحوتاته مؤلَّفة ً من أسطوانة واحدة ، و أن يصقل شكلاً واحداً الى درجة ثمينة جداً من النضج . حظي عمل " برانكوسي " بغض النظر عن قيمته الخاصة ، بأهمية تاريخية في تطوّر فن النحت المعاصر . ولكن ربما لم يعد ضرورياً الآن الانغلاقُ و حصرُ فن النحت في وحدة الشكل الثابتة و حسب . صار بوسعنا البدءُ بالانفتاح ، أن نقاربَ عدّة أشكال ذات أحجام متنوعة ، و أقسام و جهات و نمزجها في شكل عضوي واحد .
المَحار والحصى .. شرط الاستجابة للأشكال
على الرغم من أن الشكلَ البشري هو الذي يهمُّني أكثرَ من غيره ، إلا أنني غالباً ما منحت انتباهاً كبيراً إلى الأشكال الطبيعية كالعظام و المَحار و الحَصى . و في بعض الأحيان كنت أرتاد ـ و لعدة أعوام ـ الجزءَ نفسَه من الشاطيء ، ولكن في كل عام كانت تلفت نظري حصاة ٌ لها شكلٌ جديد لم ألمحه مطلقاً في العام الفائت . من بين ملايين الحصى التي أعبرها في سيري على الشاطئ الطويل ، أختار أن اشاهد ـ بإثارة ـ فقط تلك التي تتلاءم مع اهتمامي بالشكل الموجود في ذلك الوقت . يحدث شيءٌ مختلفٌ إذا جلستُ و فحصت حفنة من الحصى واحدة ً بعد أخرى . يمكنني عندئذ أن أطوّر تجربتي مع الشكل مانحاً ذهني الوقت ليُصبح مهيئاً لشكل جديد . ثمة أشكالٌ كونية يكون الجميعُ مهيّأين لها بشكل لاواعٍ و يستطيعون أن يستجيبوا لها إذا لم تمنعهم سيطرتهم الواعية .
الثقوب في النحت
تـُظهر الحصى طريقةَ الطبيعة في تصنيع الحجر ، بعضُ الحصى التي ألتقطها تحتوي ثقوباً ، حين أعمل مباشرةً على مادةٍ صلبةٍ و هشّةٍ كالحجر ، فإن غياب التجربة و الاحترام الكبير للمادة ، و الخوف من معالجتها بشكل سيّء غالباً ما يؤدي الى نحتٍ سطحيٍ مريح ، دون قوة نحتية . ولكن بمزيدٍ من التجربة فإن العملَ الحجريَ المكتمِل يمكن أن يُحفَظ داخل حدود مادته ، أي لا يتم إضعافـُه الى ما وراء بُنيته التركيبية ، و فضلاً عن ذلك يتحوّل من كتلةٍ جامدة إلى مركـّب يمتلك وجوداً شكليا كاملاً ، بكتلٍ من أحجام متنوعة و أقسام تعمل سويةً عبر علاقة مكانية . يمكن أن يكون في الحجر ثقبٌ ، و لا يضعفه ذلك ، و إذا كان حجمُ الثقب و شكلُه و اتجاهُه مدروساً يمكن أن يبقى قوياً . إن الثقبَ الأول في الحجر هو وَحي . يوصل الثقب جانباً بآخر ، جاعلاً من الحجر ثلاثيَ الأبعاد . إن الثقب بحد ذاته يمتلك معنىً شكلياً ككتلة صلبة .
إن النحت في الفراغ ممكن ، حيث يحتوي الحجر ، حسب ، على الثقب ، الذي هو الشكل المقصود و المُعتـَبـَر . لغز الثقب - السحر الغامض للكهوف في جوانب التلال والجروف .
الحجم والشكل .. ثمة حجم مادي لكل فكرة
انتصبت قطعُ الحجر الجيد حول الاستوديو الذي أعملُ فيه فترة طويلة ، و السبب هو رغم أنني أمتلكُ أفكاراً تلائمُ نِسبَها و موادَها بشكلٍ تام ، إلا أن حجمَها كان غيرَ صحيح .
يمكن أن تكون المنحوتة ُ أكبرَ من حجمِها الطبيعي مراتٍ عدّة ، و رغم ذلك يمكن أن تكون تافهةً و صغيرةً في توليدها للمشاعر ، و يمكن لمنحوتةٍ صغيرة ، لا يتجاوز ارتفاعُها بعضَ الإنشات ، أن تمنحَ الشعورَ بحجمٍ ضخمٍ و عظَمةٍ تذكارية ، لأن الرؤية التي تكمن خلفها كبيرة . و أضرب مثالا على ذلك : رسومُ " مايكل انجلو " أو " ماساسيو مادونا " أو تذكار " ألبيرت " .
فضلاً عن ذلك ، يمتلك الحجمُ الماديُّ الفعليُّ معنىً عاطفياً . نقارب كلَّ شيءٍ مع حجمِنا الخاص ، و تسيطر على استجابتِنا العاطفية للحجم حقيقة ُ أن طولَ الإنسان ـ بشكل عام ـ هو بين خمسة أو ستة أقدام . يتأثر فنُ النحت باعتباراتِ الأحجام الفعلية أكثرَ من اللوحة . اللوحة ُ معزولة عن محيطها بإطار ـ إلا إذا خدمت هدفاً تزيينياً ـ و هكذا تحتفظ ، بسهولة ، بوزنها التخيُّلي .
إذا سمحت لي الاعتباراتُ العملية ـ ككلفة المواد و النقل ـ أُلأفضّلُ أن أعملَ على منحوتاتٍ ضخمة . و الحجمُ العاديُّ المتوسط لا يفصل الفكرةَ بشكل كافٍ عن الحياة اليومية الواقعية. إن الصغيرَ جداً أو الكبيرَ جداً يأخذُ حجماً عاطفياً إضافياً .
عملتُ مؤخراً في الريف ، و مارستُ النحتَ في الهواء الطَلق ، و اكتشفت ـ آنذاك ـ أنَّ النحتَ هنا أكثر طبيعيةً من العمل في استوديو في لندن ، لكنه يحتاج الى أبعاد أكبر . إذا وضعتُ قطعةً كبيرةً من الحجر أو الخشب ـ عشوائياً ـ في حقلٍ أو بستانٍ أو حديقة تبدو حالا ملهِمة و مناسبة .
الرسمُ و النحت
كنتُ أقوم بالرسم كي يساعدَني على النحت ، كوسيلةٍ لتوليد أفكارٍ للنحت ، مثل النقر على باب الذات من أجل الفكرة الأولى و كطريقة لابتكار الأفكار و تطويرها .
إذا ما قورن النحتُ بالرسم فأنه يبدو وسيلةَ تعبيرٍية بطيئة ، و لقد وجدت في الرسم مَخرجاً مُفيداً للأفكار التي ليس هناك وقتٌ كافٍ لتحقيقها من خلال النحت . أستخدمُ الرسمَ كطريقةٍ لدراسةِ و رَصد الأشكال الطبيعية ـ رسومات من الحياة ـ للعظام و المحار . و أحيانا أرسمُ لمجرد المتعة .
علمتني التجربة ُ أن الاختلافَ بين الرسم و النحت يجب ألا يُنسى . إن فكرةً نحتيةً يمكن أن تكون مقنِعة للرسم تحتاج دائماً الى بعض التغيير حين تتحول الى منحوتة .
مرةً حين رسمتُ رسوماتٍ من أجل النحت حاولتُ أن أمنحَها وهمَ المنحوتات قدْر ما استطيع ، أي رسمتُ ـ من خلال طريقة الوهم ـ الضوءَ الساقطَ على جسمٍ صلب . ولكنني اكتشفتُ ، فيما بعد ، أن تحميلَ الرسم أكثر مما يستطيع ، لكي يُصبح بديلاً للمنحوتة ، يُضعف الرغبةَ بانجاز المنحوتة ، أو من المحتمل أن يجعلَ المنحوتةَ مجرّد إنجازٍ مَيْتٍ للوحة .
أتركُ الآن مدىً واسعاً في تأويل الرسوم التي أرسمُها من أجل النحت ، و أرسم غالباً متـّبعاً أساليبَ منسجمةً و مُسطّحةً دونَ وهمِ اللون و الظل ، لكنَّ هذا لا يعني أن الرؤية الكامنة خلف اللوحة ليست إلا ثنائية الأبعاد .
التجريدُ و السوريالية
أعتقدُ أن الخلافَ العنيفَ بين التجريديين و السورياليين غيرُ ضروريٍ اطلاقاً . ذلك أنَّ الفنَ الجيدَ يتضمنُ عناصرَ تجريديةً و سورياليةً كما يتضمّن عناصرَ رومانتيكية و كلاسيكية : النظام و الدهشة ، الفكر و الخيال ، و الوعي و اللاوعي . إن كلاً من جانبَي شخصيةِ الفنان يجبُ أن يلعبَ دورَه . و أعتقد أن الاستهلالَ الأول للوحةٍ أو لمنحوتة يمكن أن يبدأ من كلا الجهتين .
أحيانا أبدأ لوحةً دون أن تكون هناك مشكلة ٌ واضحة ٌ تحتاج الى حل ، و ذلك حين أرغب باستخدام قلم الرصاص على الورقة لصناعة الخطوط و الأساليب و الأشكال دون هدفٍ واعٍ ، ولكن بينما تسحرني النتيجة تومض فكرة ما و تتضح ، ثم تتدخل السيطرة ُ و التنظيم . أو أحيانا أبدأ بموضوعٍ محدد ، أو أحل ـ في قطعة حجرية لها أبعادٌ معروفة ٌ ـ مشكلةً نحتيةً طرحتـُها على نفسي ، ثم أحاول ، بوَعي ، أن أبنيَ علاقةً منظَّمةً من الأشكال تعبر عن فكرتي . ولكن اذا كان الأمرُ أكثرَ من تمرينٍ نحتي ، تخطر قفزاتٌ غيرُ قابلةٍ للشرح في سيرورة الفكر، و يلعبُ الخيالُ دورَه .
يمكن أن يبدوَ مما قلتـُه عن الهيأة و الشكل هي انني أعتبرهما غايتين بحد ذاتهما . بعيداً عن ذلك ، أنا أعي جيداً أن العاملَ السيكولوجي و التداعي يلعبان دوراً كبيراً في فن النحت . و ربما يعتمدُ معنىً و دلالة َ الشكل على التداعيات التي لا تـُحصى لتاريخ الانسان . مثلاً ، توحي الأشكالُ المستديرة بالخصب و النضج ، ربما لأن الأرض ـ صدر المرأة ـ و معظم الثمار هي مستديرة ، هذه المظاهرُ مهمة لأنها تمتلك تلك الخلفية في عادات إدراكنا . أعتقد أن العنصرَ الإنساني العضوي يمتلك دائماً ، بالنسبة إليّ ، أهميةً أساسيةً في النحت ، و يمنحه حيويته . إن كلَّ منحوتةٍ معينةٍ أصنعُها تأخذ في ذهني شخصيةً انسانيةً أو أحياناً شخصيةً حيوانية ، و هذه الشخصية ُ تسيطرُ على تصميمِها و صفاتـِها الشكلية ، و تجعلني مقتنعا أو غير مقتنع بالعمل كما يتطور .
إن هدفي و اتجاهي يبدوان متآلفين مع هذه القناعات ، رغم أنهما لا يعتمدان عليهما . إن نحتي يصبح أقلَّ تمثيلاً ، عن كونه نسخةً بصريةً خارجية ، أو ما يُدعى بالمجرَّد ، و بهذه الطريقة أستطيع أن أقدّمَ المحتوى السيكولوجي الإنسانيَ لعملي بوضوحٍ و توترٍ كبيرين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) " هنري مور " ، نحات انكَليزي ( 1898 ـ 1986 ) واحدٌ من أشهر نحّاتي القرن العشرين .
( 2 ) " أسامة أسبر " ، كاتبٌ و مترجمٌ سوري .
( 3 ) " قسطنطين برانكوسي " (1876 ـ 1975) ، نحاتٌ شهير ، من أصل روماني ، أمضى سنوات طويلة من حياته في فرنسا ، التي توفي و دُفن فيها .
المصدر:
Herschel B. Chipp
Theories of Modern Art
A Source Book by Artists and Critics
University of California Press
Berkeley, California
.
الأربعاء، 4 مارس 2015
الثلاثاء، 3 مارس 2015
الأحد، 1 مارس 2015
السبت، 28 فبراير 2015
في تجربة زينب عبد الكريم التشكيلية أطياف الذاكرة ومشفرات المكان- عادل كامل
أطياف الذاكرة ومشفرات المكان
عادل كامل
[1] إشارة
عندما لا يتضمن (الفن) لغزه؛ ومضة ما، مغامرة ما، وتدشينا للعبور من ضفة إلى ثانية، أو ابعد منها، وعندما لا تؤدي التقنية الفنية ـ بوصفها نسجا ً وتعبيرا ً واستشرافا ً ـ توازنا ً مع مثال ما للتهذيب/ التشذيب/ الإضافة، فان خللا ً ما لن يسمح للمنجز ان يكون فنا ً، أو ان يؤدي دوره. إنها ليست افتراضات لا تدحض، أو تعدل، لكن إذا كان (الفن) ـ بإشكاله كافة ـ لا يتضمن شرعية حضوره، كما لازم ، فسيكون الفن محض أداة يصعب الارتقاء بها إلى ما يتوخاه المشروع الجمالي/ الحضاري، بحسب هذا تاريخ الفن، وفلسفته.
وأنا ـ شخصيا ً ـ أضعت نصف قرن من حياتي، للتمسك بهاجس ان الفن ليس محض أقنعة وتمويهات وسلعا ً للتداول، مع ان الأقنعة والتمويهات والسلع تمتلك أهميتها، ولكن ليس لفرض المزيد من القيود، بل للتحرر منها، بالدرجة الأولى.
وإذا كانت العائلة الفنية، في الشرق أو في الغرب، في فاتحة الألفية الثالثة، تتعرض للانحسار، ليس بسبب (التخمة) حسب، بل لأن التصورات (المثالية/ الميتافيزيقية) لم تعد جذابة، إن لم تكن استثنائية، عتيقة، ونادرة.
بل نجد ان الشرق، في الكثير من أشهر عواصمه ـ من بغداد إلى القاهرة، ومن بيروت إلى دمشق والى باقي الروافد المستحدثة ـ تتعرض للهدم، والتخريب، والإزاحة، كمشروع يدفع بها للتراجع نحو أزمنتها المظلمة.
ولعل ما تعرض له الإنسان ـ وليس الفنان أو الكفاءات في باقي الحقول الإبداعية ـ للإساءة، فتح منافذ للانخلاع ـ والتهجير، والهجرة، وترك هذه البلدان منشغلة بصعوبات بلغت المستحيل في تجاوز مآزقها، ومنها البحث عن الخبز اليومي، والآمان... فمن ذا باستطاعته ان يتحدث عن (الفن) ويعيد له رسالته الروحية/ الجمالية، التي حافظت على هويته، منذ تأسست العلامات المعمارية الكبرى، وفن الكتابة، والملاحم، وباقي المكتشفات العلمية، والإنسانية...؟
ومع ان الخراب لم يبلغ ذروته، إلا ان آلاف الفنانين، بعد انخلاعهم، وتوزعهم العشوائي على مدن العالم الأقل تعرضا ً للاضطرابات، لم يتخلوا عن (الحلم) ذاته الذي راود القدماء، في مختلف بقاع الأرض، وعزز مكانتهم في المفاهيم الحضارية.
حلم ان يتمسك الفنان ـ رغم تتابع الصدمات اليومية للأحداث الحاصلة في عدد من المجتمعات ومنها غير المستقرة ـ بالبرهنة على انه يزداد تمسكا ً بشرعية لا يتم دحضها، أو تدميرها: حلم الفن، الذي يسهم ببناء خطابات اقل عدوانية، ورداءة، وكراهية، لصالح روافد الحضارة وعملها المعرفي/ الجمالي.
وحتى لو كانت هذه الافتراضات حلما ً، أو أملا ً، فان الخطوة الصحيحة، حتى لو كانت الغايات مستحيلة، أو مجهولة النتائج، قد تدفع بالأخير ان يجعل من هذه الخطوات: حقيقية جديرة بعدم الإهمال، أو ان يتم دفنها، كما تم/ ويتم انتهاك حقوق الأطفال، النساء، والطاقات البشرية المختلفة، والموروثات الحضارية، والبيئة بلا استثناء.
[2] جذور واختلافات
كم تبدو تماثيل الآلهة الأم، منذ تبلورت ملامح الفن في العصور السحيقة، متماثلة، حتى تبدو وكأنها من صنع فنان واحد، مع إنها ـ ومعها ـ رسومات عصر الكهوف، تسمح بالحديث عن اختلافات أسلوبية كالتي ستحافظ على هذا النسق في الحقب التالية: في حضارات وادي النيل، والرافدين، وفي معظم الحضارات القديمة. صحيح إنها لم تواجه صدمات ايكولوجية حادة، كالتشتت، والتكيف، والاندماج، إلا ان نظاما ً لا إراديا ً مكث يحافظ على ديناميته، في التنوع، وفق مفهوم (الفن)، كخطاب يتضمن رسالته.
على ان الألف عام الماضية، بما حفلت من انهيارات وتدشينات لمراكز الإشعاع، تركت مسارا ً ثبت هذا المسار، ومنح (الفن) صلات عابرة للحدود الوطنية/ القومية، بمختلف أشكالها، كالحروب وما تركته من تقسيمات جغرافية/ اقتصادية/ وسياسية.
وقد تكون خصائص عصر النهضة، بجذبها لاف الدارسين، المثال الذي منح القرن التاسع عشر، والعشرين، ثورات متقدمة للأساليب المستحدثة، رغم إنها مكثت أمينة لجذورها الموغلة بالقدم.
فالقطيعة ـ هنا ـ تعيد بناء (بنية) الفن بالنسق ذاته، وبالمهارات الفردية أيضا ً. فهي قطيعة (إشكال) ظاهرية، ولكنها، من جهة ثانية، تتجاوزها نحو وحدة لا مرئية لا يمتلكها إلا الفن، بعيدا ً عن المؤثرات المباشرة التي راحت تتحكم به.
فلم تحدث فطيعة ـ إن صح القول ـ في التشكيل العراقي، كما حدثت بعد عام 1958م؛ فبعد سنوات قليلة، ستبدأ هجرات أعداد غير قليلة من النخب الثقافية/ الفنية، وصولا ً إلى ما بعد المتغيرات التي حدثت في: 1963/ 1980/ 1990/ 2003، والسنوات التالية، فهل أدت القطيعة إلى إحداث فجوات مؤثرة في الأساليب، أم إنها مازالت تجد من يعمل على ردمها، بالرغم بما تمثله البيئات الأوربية من قدرات على الاحتواء ـ والدمج...؟
للأسف، وفق المصادر، فان الدراسات المتوفرة، لا تفي بتسليط الضوء على الإبداع في البلد نفسه، فمن ذا يستطيع تتبع هجرة مئات المبدعين وقد توزعوا عبر مساحات شاسعة، ونائية، ودراسة أساليبهم.
بالأحرى إننا نواجه (محوا ً) منتظما ً للأسماء/ الرموز، وما أنجزته/ وتنجزه، بفعل هشاشة المؤسسات الفنية، والاكتفاء بنشاطات فردية لفنانين، أو هواة كتابة، يصعب ان توفر مادة حقيقية لأي باحث، قادم، في قراءته للمنجز الفني.
على ان هذا القليل ـ بفعل وسائل الاتصال الحديثة ـ يعيد ذلك الذي لم تقدر الأزمنة على محوه. ذلك لأن اختلاف البيئات الثقافية/ الاجتماعية، من قارة إلى أخرى، لم تستطع على (محو) ما تضمنه الفن من تحد ٍ للغياب. فثمة تجارب ـ بعد ان تناثرت في الشتات وفي المنافي ـ راحت تكوّن وطنها (الإنساني)، بمعالجة القطيعة كأساليب تداخلت بالحداثات ـ وبما بعدها، بدينامية المواهب، وقدراتها على تجاوز الصدمات، وتمثلها بإبداع لم يتخل عن هويته، وخصائصه الأسلوبية.
[3] تجارب عام 2014
لم تعمل زينب عبد الكريم على محو ذاكرتها، ولكنها لم تجعل منها موضوعا ً للمباهاة. إنها أدركت ان مصيرها ـ كفنانة ـ سيتصل بتجربتها للعثور على مرتكزات لا توسع من متاهتها، ولا تضيقها حد الصفر. فالخزين البصري سيسمح لها بالحفر في الذي لم تره بعد، إبان دراستها، في بغداد: ما لا يحصى من الصور اندمجت، وغذت بعضها البعض الآخر، ستمدها بمقومات البحث. فتجارب عام 2014 ستشكل مواجهة دائمة لوجودها بين ماضيها ـ ومصيرها: حلقة ضمن سلسلة لا مرئية تؤكد ان (المعتقد) الفني، لا يمكن عزله عن مكونات الحياة ذاتها. ولأنها ـ في الأصل ـ كونتها الصدمات، فإنها ستدرك ان مهمتها لن تتوقف عند (الصدمة) بل لتؤكد ان رسالة الفن، في احد معانيها، تذهب ابعد من ذلك: ابعد من التشبث بالزائل، ولكن ليس على حساب المستحدث. بهذا ستمنح انشغالها الفني المسار الأكثر صعوبة، ليس معادلا ً أو وسيطا ً، بل كإضافات تميز تجربتها بما تمتلكه من نتائج، عن باقي التجارب.
ربما لم تكن بغداد المدورة، ولا كمال الدائرة، ولا ما قصده فلاسفة سومر حول الدورات، إلا ولعا ً عمليا ً ـ بصريا ً ـ وذهنيا ً، لتكويناتها الفنية. فستأخذ الدائرة مجالها كي تصبح صورا ً، أشكالا ً، رموزا ً تحافظ على المركز. وحتى عندما تختزل الخطوط، الألوان، والعلامات إلى دوامات، وهالات، وأجنحة، فإنها ستحّوم، كما في أي نص شعري أو موسيقي، يعمل بهذا النسج، للتشبث بروح (الدورة)، ولغزها. إنها ربما لا إراديا ً تكون أكدت انه لا يوجد، ولا يمكن ان يوجد: اضطراب! بمعنى، من المستحيل تخيل عشوائية أو مصادفات تحصل وكأنها تشتغل بمعزل عن آليات (البناء) النص الفني، فهي تغزل بما لديها من غزل تجاربها ـ في الرسم وفي النحت ـ بطاقة مولدة لمجموع عمل هذه العناصر. لا معنى ان يكون هذا الهاجس تعويضيا ً، فهي لا تعيش في الفردوس، بل تواجه انخلاعها ـ بالمعنى الواقعي وبالمعنى الوجودي أيضا ً ـ إزاء مجتمعها المعرفي، باستعادته، وبإعادة صياغته كوجود يرتقي بالتجربة نحو مجالها الفني/ الرمزي، والجمالي.
أجنحة، حروف، حافات، غيوم، وكل ما يمكن التقاطه من بقايا صور، جميعها ستعاد بأثر يمتد، للخراب الذي كوى بلدها، وعاشته، فهي عاشت تحت ضربات ما شكل جوهر الصدمة، كالذي شكل بنية البذرة ليس بالحفر نحو مخفياتها، بل بانبثاقها. إنها ـ وفق هذا النسج ـ تعيد إحياء ذكرى ليلى العطار: رسمت موتها كي لا يغيب. ووجهه المقارنة الرمزي سمح لزينب عبد الكريم ان تستأنف رحلتها، وتستعيدها، والمستمدة من تجارب قرن تعرضت للتلف، والضياع. فالرماد ـ لونه ورائحته وذراته وإيحاءاته ـ وهو رماد وطنها ـ سينبني بعلامات الدائرة ـ المعبد ـ الحرف السومري، والأجساد الصاعدة إلى السماء، أو الشاخصة نحو الأرض، كوحدات صوتية ـ لونية، تسمح للمتلقي ان يكتشف إنسانيته، لا ان يتخلى عنها.
فالرسامة تتشبث باللغز ذاته الذي رسم للعناصر حدودها، وللكائنات الحية حيزها، ومنها الإنسان كمنشغل بمعالجة حتميات: التصادم ـ والتهذيب. فالفنانة تتمسك بأزمنة جغرافيتها، مثلما لا يتم قهر التاريخ بدفنه، بل كي يتدفق مكملا ً سرد (الحكاية) بمهارة الاختزال. فالفنانة تدرك إنها ليست صانعة (إعلانات)، أو سلع، بل لتحافظ على كيان يقاوم قهره ـ ومحوه. فالذاكرة حاضرة بما يمثله المستقبل من تتمة للمسار الملغز للجهد في مواجهة القطيعة، أو الدفن، حيث اذا لم يذهب (الفن) ابعد من معناه، وابعد من وظائفه المعلنة، في عصر التمويهات ـ ومصادرة حيوات الملايين، ومصائرهم ـ فانه لا يرتقي بما أنجزه أسلافها ـ منذ أزمنة المغارات، وعصور القرى الأولى، وصولا ً إلى عالمنا بوصفه مساحة للتقاطعات، وليس للسكن الآمن، فإنها انشغلت كي تمنح شغلها، بتجربتها حد البسالة، كل ما يستبعد الفن بوصفه (سلعة) و (إعلان) نحو اللغز: ان الحياة تتضمن هذا الذي يتكون عبر الحضور ـ الغياب، لكن الذي يستحق ان يكون علاماته. انه ليس الماضي، كرماد، بل المستقبل الذي نحلم ان لا نراه وقد تحول إلى أثير.
[4] الغاية لن تبرر وسائلها بل تتكامل معها
لا يتطلب ابتكار (المضامين المغايرة) للأنماط الفنية السائدة، التي اكتسبت شرعيتها وفق هذه الديمومة، إن كانت بطريريكية، أو تابعة لأنظمة مثالية تعمل وفق مثال المتعالي/ المتسامي، وغير القابلة للدحض، البحث عن أدائية مغايرة فحسب، بل التنقيب، والحفر، واستحداث خامات مهملة، أو مخبأة، أو لم تمس، لتحقيق المعادل (الموضوعي/ الديالكتيكي) بين الأشكال ـ ومضامينها، وبين المرسل وما هو ابعد من المستلم باستبعاد النفع المباشر، ومنح العملية الإبداعية، غاية لا تدحض بالنفع والاستعمال. لقد قلب (مايكفلي) المعادلة، وجعل الوسيلة (تبرر) غايتها، مع بدء بلوغ التجارة ذروتها،وتحولها إلى عصر الفتوحات (الغزوات) بتبلور مفهوم (الامتداد بالمساحات/ والهيمنة/ أو ما سيعرف بالاستعمار) لعصر الثورة الصناعية وآليات تراكماتها المصّنعة. فالوسيلة، هنا، ستعمل لصالح المضامين المنتقاة، المختارة بعناية بحسب نظام الاستحواذ، وهو النظام ألذكوري بلا آخر.
في الفن، وعند المرأة الفنانة تحديدا ً، ستأخذ المعادلة بعدا ً مغايرا ً للتبرير. بل إنها ستتقاطع معه طالما إنها تتبنى أنظمة غير قائمة على الجنسانية، أو التسلط، أو القهر. فالولادة بحد ذاتها ليست عملا ً من أعمال الطبيعة يتوجب استلابها أو الاستحواذ عليها بعملها الإنتاجي (أو البديهي/ الذي قاد التراتبية)، بل ينبغي أن يعدل، كما تعدل وظائف الأنهار، ببناء السدود، وكما يدجن الحيوان، للربح الأكبر، والنبات للغاية ذاتها في مضاعفة مفهوم: المكاسب. فالعلم سيكرس ـ بدءا ً بالبحث عن الموروثات الجينية إلى المستحدثات المشتغلة على زيادة الإنتاج، الربح، للغاية ذاتها، على خلاف هذا ستهتم (المرأة) ـ بعيدا ً عن صفتها أدنى مرتبة ـ من الذكر أو بصفتها تابعا ً وخامة أولية للإنتاج ـ للتفكير بتحويل كل ما هو ملقى، من خامات، وعناصر، وجعله أساسيا ً في العملية الابداعية. إن المراة التي لا تمتلك إجابة لماذا انها خلقت من (الرجل)، بحسب بعض الميثولوجيات، وبعض المعتقدات القديمة، فإنها لن تتخلى عن لاوعيها بأنها هي من حافظ على الحياة البشرية، لتجعله وعيا ً مستقلا ً تتوازن فيه المعايير، أو في الأقل لا تعمل فيه المثنوية لصاح ديمومة القهر. أي لصالح عصر سيادة الالهة (عشتار) لفترة غير قصيرة من الزمن، أو لصالح نظام ينقلب فيه الضحية الى جلاد ـ كما في عصر نظام الجنسانية الذكورية.
وقد اشتغلت الفنانة مديحة عمر ـ كأقدم رائدة للتشكيل النسوي في العراق 1908 ـ 2008ـ في الرسم الحديث باستخدامها خامات مختلفة، كالتلصيق، وتجنب تقاليد استخدام المواد التقليدية، إلا إنها، مع ابتكارها في إدخال الحرف إلى النص التشكيلي ـ بما يتضمنه من رمزية ومعان روحية خاصة بالحضارة الإسلامية ـ الشرقية ـ لم تذهب أبعد من ذلك، كما ستذهب الفنانة زينب عبد لكريم، في معالجات فنية للمواد الخام الطبيعية. فضلا ً عن تفكيرها الدائم بوحدة العناصر، وترابطها، لكن ليس على حساب الأشكال، وإنما بجعل الاخيرة تبتكر الطاقات الكامنة في الوعي (المستحدث) والمتوفرة في الخامات أصلاً. فعندما ستقوم بازالة السطوح الخارجية لسيقان الأشجار، او تقشير جذع النخلة، والنباتات الاخرى، فانها تتوخى من هذا (التقشير/ أو الازاحة) قراءة الاسرار او الألغاز الكامنة فيها، بعيدا ً عن مظهرها الخارجي. فستعمل الفنانة على إستبعاد المألوف ـ السطح المرئي ـ للتوغل في تزامن/ تراكم، ما تخفيه السيقان والجذوع وباقي الخامات من ازمنة، وملغزات بيئية لا تحصى كونت جوهرها. إنها في الواقع تؤدي تحليلا ً للملامح ألسلوكية إستنادا للتحري عن المحركات الداخلية، بصفتها غاطسة، وقد توارت خلف مرئياتها، وأشكالها. كضرب من التحليل النفسي، ولكن ليس للعاطفة البشرية، بل للنبات، والصخور، ومختلف الخامات القائمة على تعددية الابعاد/ والطبقات. فانشغالها بما ستكون عليه العلامات المخبأة داخل البذرة/ ـ على سبيل المثال ـ وليس عبر أشكالها الخارجية، سيقودها الى تقسيم ما بين أشكال مألوفة، ومنها النصوص الفنية للحداثة، وبين خامات ليس ثمة ما يميزها من حدود اوابعاد، ومساحات، أوملامس. فالمغامرة ستجعلها او تقودها لا الى استخراج (الكنوز) التي ينقب عنها الآثاري، ولا ما ينتجه (الرحم) فحسب، بل ستعمل على إجراء ازاحات (تقشير/ إزالة)، وصولا ًالى ما سيتم اكتشاة للمرة الأولى.
في جانب آخر، ستستخدم المخلفات، ضمن اهتمامها بوحدة فني الرسم بالنحت ـ كعلاقة الموسيقا بالشعر ـ جماليا ً، بما تتطلبه عملية البناء ـ الركيب، ودمج العاصر اللونية، مع خامات ثلاثية الابعاد، فضلا ً عن إدماج الرموز بالعملية التعبيرية برمتها، فالرسم ـ كسطح وليس كبعد واحد ـ سيستدعي منها البحث عن كثافة المواد المستخدمة، ولعناية بها، لتحقيق هويو أو خصوصية النص الفني، وقد كونته باستخدام خامات متفرقة، من ورق، وقماش، ومعادن..الخ لجعله يلامس تحولات عالم لم يعد مألوفا ً، بل لعالم أصبحت مضامينه تشكل سلسلة من الصدمات، ليس تغيير الثابت فحسب، بل توغلآ ً في تفكيك الكيانات شبه الراسخة، والانتقال من عالمها المرئي إلى أدق تفاصيلها الميكروسكوبية. إن زينب عبد الكريم، تعيد صياغة اتهام (إشكال) طالما وجه الى المرأة ـ كجنس أدنى ـ يخص مشروعها المعرفي ـ الجمالي. فطالما قيل أن المرأة تتحدث مع الطبيعة، أو انها تسمع الاصوات القادمة من تحت الأرض، وأن الريح تصفر ف اذنيها والأشجار تهمس لها، وأن الاغنية الخافتة عبر فمها وصرخات الاطفال واضحة لها. فيما يظهر برنامج (الحداثة) في أصله الاوروبي ـ منذ نشوء مفهوم الهيمنة التي رافقت التصنيع وتراكماته ـ قد أنفصل عن (هذا العالم) وانه وجد نفسه منفيا ًـ ملقى (كما لفت هيدغر الظر الى ذلك)، كغريب، وقد شكلت الحداثة علامة فصام مع الطبيعة ـ ومع المرأة ذاتها. كما أن الحداثة بالتوغل في إستخراج خامات الأرض (الأم) قد نهجت النهج البطريريكي في الهيمنة. لأن النظرة الى المرأة ـ وفق هذا النسق ـ يمتلك تاريخه الميثولوجي الطويل،فالنساء هن: بيوض الطيور/الازهار/ الفراشات/ الأرانب/ البقرات/ الخراف/ اليرقات/ اللبلاب...الخ النساء اللائي خرجن من القبر، كالغزلان، الضباء/ الحيتان/ الفيلة/ الزنابق والورد والخوخ...الخ الامر الذي عزز القطيعة مع الخامات ـ الاصل، كي تكتسب الحداثة مؤشرا ً محوره بناء عالم يتم إستحداثه، على حساب ضحايا، في مقدمتها: الطبيعة ـ المرأة. (1)
هنا تكرس زينب عبد الكريم رؤيتها المصغية والمتفردة إلى تلك الاصوات الصادرة عن الخفاء، والاتية من الناطق النائية، وجعلها مرئية مع عوائل لونية متباينة الاطوال ـ الموجات ـ كي تغدو وحدة العناصر غاية في ذاتها وليس محض وسيلة. فهي ترث تاريخا ًروحيا ً يستبعد الاشتباك، والشوائب، لغاية أن الغاية، لا تبرر وسائلها إلا لأجلها. وهي الغاية التي تكتمل بوجودها ذاته كبعد تتوازن فيه المعايير والمثل والمسافات. فكما تجعل الفنانة المرأة ـ وقد وجدت نفسها هكذا ولم تختر إلا أن تكون متوازنة ـ ان يكون فنها بحثا ً دائما ً عن اللارئيات، والألوان التي يصلها أ يدشنها الضوء توا ً. فثمة مفهوم آخر للتدسين لا يحيل الغاية إلى التداول، بل لأجل التكامل، بين الذات والعالم، وبين الفن والرؤية الروحية/ الجمالية. فالخامات لن تدمر، بجعلها تتحول من خامات (أصلية/ نقية) الى مستحدثة بمعنى لجعها متداولة (للاستهلاك)، بل لمنحها جوهرها ذاته الشبيه بالموسيقا الكامنة في الخامة إن كان في سطحها، أو في اعماقها ذات الخصائص التي لها أنظمتها المغايرة للهيئات المتعارف عليها.
[5] الايكولوجيا ـ أو الفن في ديمومته
هذه الرؤية غير المزدوجة للأرض ـ الأم، سمحت للرسامة أن لا تقيم قطيعة معها، بل أن تقلب مفهوم (الحداثة) نحو ضرب من الإحيائية، أو أفعال الشامان، ومنح النص مكانة شبيه بما كان تؤديه تماثيل الأم (الآلهة عشتار)، ورسومات المغارات من ناحية، والحفر في طبقات (الدماغ/ اللاوعي) الغائصة بما تراكم فيها من صور وأشكال من ناحية ثانية. ذلك لأن (الحداثة) الأوروبية لم تأبه لتدشينات قتل (الأم) كي تمارس، بعد ازدهارها مع مساحات من الاتساع، بقتل (الأب) نفسه. ولم تكن إشارات (فرويد) حول هذه الإشكاليات ـ الفرضيات/ التأويلات ـ إلا تنبيها ً لعصر غدا مصيره مبهما ً، كمقدماته المنسوجة بمشفرات نائية، وبالغة الدقة، والخفاء. إن الفنانة زينب عبد الكريم ستمنح لاوعيها السحيق الاشتغال بفن يؤكد أهمية دور الايكولوجيا النسوية ـ والشمولية، في الحد من البراغماتية ـ ومشروعات العقلانية الراديكالية في قلب العلاقات مع الطبيعة، وعناصرها كافة. فالفن سيتحول لديها كتدشين في سياق تراكمات الخبرة البشرية، مع حذر الانسياق في تدمير التوازنات السائدة. فهاجس الفنانة يكمن ـ هنا ـ بالحد من مشروعات تدمير الخامات وجعلها مغايرة للأصل. ففي تجارب استثمار سيقان الأشجار، ومخلفاتها، وجمع الخامات الفائضة، كالنفايات، وإعادة تركيبها، تلبي لديها نزعتها بدعم الرؤية الايكولوجية بما تتمتع به تلك العناصر/ الخامات، من حماية تلقائية. فإذا كانت (الحداثة) لم تترك كيانات (من الأرض الى الجسد) لم تعمل عملها فيه، بغية جعله أكثر نفعا ً،وإذا كانت اليد البشرية قد صهرت معادن الأرض واستثمرتها حد الاستنزاف، فإن إشارات (هيغل) حول موت الفن، لم تأت ْ إلا كمراقبة لتدمير حياة تمتد إلى أزمنة سحيقة، لأن الخامات لم تعد عذراء، ولم تعد آليات الديمومة بمنأى من التحوير، حد القلب، مما جعل المستقبل، تحت تأثير دهشة التفوق الآني، دافعا ً لمناهج تعوق الامتداد، على حساب التوازنات وأنظمتها. فالتدمير لم يعد رمزيا ً، بل غدا برنامجا ً لن يتعثر إلا استكمال دورته. والفنانة لست بعيدة عن مناقشتها لشرعية الفن ـ ولا شرعيته، وهي ستتقصى عنف الاشتباك، وما أفضى إليه، الأمر الذي سمح لها ـ كما سمح لنهى الراضي ـ في خوض تجارب قائمة على مباركة المواد الخام، كالحصى والطين، وبلمسات مرهفة ـ تتبنى الحفر في عصر لم يعد للفلاسفة أو الحكماء دورا ً يذكر، بعد ان غدا محكوما ً بعمل الشركات عابرة القارات. هنا يحدث النص الفني الأثر ذاته الذي تمثل في التدشينات البكر: الاستحداث في حدود الحماية، وليس في ترك العقلانية تحكم قطيعتها حد استبدالها، وكأن للعقل، وللعلانية، السلطة ذاتها التي انتزعت من نظام التوازن بين الحياة وعناصرها. ففي هذا السياق تستعيد تلك الأصوات النائية، والجذور الضاربة في العمق، وفي اللا مرئيات، لكن بمعالجات لم تستغن عن العناصر ذاتها التي تنتمي الى البيئة بشموليتها. فليس لأحد حق استلاب حقوق الآخر، بأي مبرر من المبررات، الأمر الذي نشّط حركات طليعية لحماية الطبيعة وعناصرها، لا لذاتها فحسب، بل ضمن الدورة برمتها.
[6] النص الفني ـ وحكمته
ستبقى الخامات تحافظ على مكوناتها، وبمعنى ما: ألغازها. فهي ليست محض أشياء لا علاقة لها بأشياء، أو بكيانات أخرى، ضمن وجودها ـ كوجود ـ أو باستثمارها من قبل الآخر. فسيقان الأشجار البيضوية، وشبه الدائرية، والأوراق بخرائطها الهندسية، والصخور بعروقها الدقيقة، وكل خامة بكر، أو تمت معالجتها في عمل من الأعمال..الخ كلها تعيد عرض شبكة من الاتصالات لن تتوقف عند حد أخير. فكما الأصوات النائية التي أصبحت ممتزجة بأنسجة الجذور وألوانها غير المنفصلة عن باقي عناصر الطبيعة، والكون، فإنها، في هذا السياق، تتوغل في القلب ـ العقل ـ البشري للعثور على موقعها في التوازنات، وفي الحضور. وزينب عبد الكريم، في معالجاتها للخامات، هنا، لا تفتت، أو تقسم، أو تخدش، أو تؤذي، أو تفكك، بمعنى إنها: لا تنتهك بنية الخامة، بل تجعلها تتخذ موقعها المناسب في الدورة، وفي الحفاظ على عملها كـ (رابط/ جسر) بين الخامات النابضة، ذات الفتنة، وبين معالجة الفنانة لها. فالأخيرة لن تستخدم (المشرط) في تمزيق الجسد/ الكيان، واستثماره، بل معالجته كوحدة تحافظ على الرؤية الايكولوجية الشاملة. فالفنانة تحافظ على رؤيتها التوليدية، بدل المشروع النفعي المحض. وهي ستذكرنا بولعها المبكر بالطبيعة، وبحثها هذا، لم يأت ْ بسبب رؤيتها المرهفة فحسب، بل لأن الخامات ذاتها تمتلك فتنتها، وتوقداتها أيضا ً. فالفنانة هنا لن تستخدم الخامات المصنعة، الجاهزة، والتي فقدت الكثير من (عذريتها)، كمنهج لمشروع الهيمنة على الطبيعة، أو على الآخر ـ بالنظام التراتبي من السيد إلى العبد، مرورا ً بالمرأة والطفل والبيئة ـ وإنما ستسمح لخاماتها الأهمية ذاتها للفتنة الكامنة في الإنسان نفسه. فالسر سيغدو مشتركا ً بين الخامات والفنانة، كي يتشكلان، عبر فعاليات (الشامان)، وضمنا ً فعاليات الساحر، والخيميائي، داخل مساحة النص الفني. فالفنانة ستبحث عن طاقات كامنة، ولا مرئية، فيها، لجعلها تمتد، وتتشكل، كلغة مستحدثة من غير قطيعة، أو إيذاء لتلك العناصر، والخامات. فهل كانت رؤيتها للأشكال، والخامات، ومعالجتها لها، سابقة على إحساسها بمكانة الفن (الحيوية) ودوره، أم أن بحثها هذا سمح لها أن تستبعد أحادية الرؤية إلى السطوح، والى الاتجاهات الفنية السائدة، وتلتزم النظام ذاته الذي لم يفقد جاذبيته في الفن؟ أيا ً كان التأويل، فان رؤيتها دفعتها للعثور على حلول يحافظ فها النص الفني على نظام تتداخل فيه شخصية الرسامة برؤيتها عبر أكثر البدائيات دحضا ً لتيارات فرضت حضورها، كانعكاس لبيئاتها الأوروبية الغربية، إنما لتحافظ على بيئتها، في رؤيتها لتراكمات الأزمنة في ذاكرة الإنسان، وقلبه المشفر بالأطياف النائية، والأصوات الخفية، أو في دور الإنسان السلبي في إيذاء الطبيعة ـ الأم فحسب، بل لبلورة لغة تستحيل فيها العلامات/ الأشكال/ الإشارات/ الرموز إلى مناطق لا يغدو فيها الجمال إلا غاية، استحدثت وسائلها، بعيدا ً عما صاغته الحداثة من موت للفن، إلى موت الإنسان، مرورا ً بتدمير الطبيعة. فالفنانة زينب عبد الكريم، تكمل مسيرة مميزة لرائدات عراقيات جعلن من الفن مشروعا ً ديناميا ً لرؤية تكاملية، منذ مديحة عمر، ونزيهة سليم، وبهيجة الحكيم، وليلى العطار، وعبلة العزاوي، ونهى الراضي، وخلود سيف، وسعاد العطار، إذ ْ لم ْ تجد زينب عبد الكريم، بالبحث عن خفايا خاماتها المختلفة، إلا في مشروعات أنظمة فلسفية لا يتحول فيها الفن إلى (سلعة) محض، بل، على العكس، يتخذ مسارا ً مضادا ً، لاستعادة جماليات كادت آليات العصر الحديث، وصولا ً إلى حرية السوق وعشوائية نتائجه، أن يقتل الحرية، بقتل الفن، ودمج الإنسان في آيات عصر ما بعد الإنسان!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تحرير مايكل زيمرمان [ الفلسفة البيئية ـ من حقوق الحيوان إلى الايكولوجيا الجذرية] ترجمة: معين شفيق رزمية. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت. العدد333 ـ 2006 ص 18
[7] فضاءات الباث وحدود النص
في نصوص زينب عبد الكريم تتقلص المسافة بين الرسم والنحت، وبين فنون أخرى تتوحد لتشكل خطابها الرمزي – الجمالي في الأخير، وعلى الرغم من اهتمامها بالتجارب الحديثة، واشتغالها على الحذف، إلا انها لا تخفي تأملاتها لأقدم الفنون، فهي تبقى تحافظ على عوامل مساعدة، طيفية، لا تنفصل عن البناء الفني الحداثوي.
فالفنانة لا تجعل من المغامرة هدفاً مستقلاً، بدعة، وإنما تتقمص، أمام الخامات وقوى البث ونظام التعبير، مدى العلاقة مع الوجود إنما لا تبعثر أسئلتها، ولا تتوقف عندها بل تجعل الكيف يتضمن القلق العميق لظاهرة الفن.
وكلما ابتعدت زينب عبد الكريم في الماضي السحيق، والذاكرة البصرية المحفورة فوق الصخور والمخطوطات القديمة، تكتشف انها أمام مشكلات فنية جديرة بالمعالجة .. فهل تغيرت الأسئلة أم تغيرت طرق المعالجة، أم هناك، في المدى الأبعد، قضايا تولد تواً، ولكنها تبقى متصلة بدوافعها : الحساسية، أو بنية عمل الحواس، قبل أن تتشكل الدوافع النفعية، تلك البنية التوليدية، غير المنغلقة، ولكن التي لا تذهب إلى المجهول فالوعي الذي يجعل زينب في رقابة لأعمالها يدفعها لمثل هذه الموازنة، أو للمعادل الجمالي بين عمل الحواس، ووظائف الفن، ومع انها تحاول أن تحافظ على الرهافة والشفافية والعبث أو اللـعب العميق للدوافع الذاتية الداخلية. فإنها ستمنح البناء أهمية لا تنفصل عن الخبرة الفنيـة، وقواعد الفن عبر التاريخ. فزينب عبد الكريم لا ترسم بدوافع عاطفية، وإنما تجعل من العاطفة، بل ومن الموسيقى والشعر والأحلام، الجانب المُحرك – والمتحرك – داخل نصوصها ، فهي لا تغادر دوافع الصمت أو كلام الصمت، الذي ستجعله اكثر تعالياً ورمزية فلا احد يعرف ماذا أراد الإنسان الأول في اختياره الرسم؟ مع أن كافة الاحتمالات جديرة بالتحليل، ولا احد يعرف لماذا ما زال الرسم له حضوره المتواصل .. إن الفنانة تتمسك بالطيف الداخلي الذي لا يسكن أعمالها، العاطفة المرهفة، أو التأملات الشاردة وهي توسع من جغرافية مساحة النص، بل الذي سكن وغادر تاركاً أثره الذي يشبه الموجات اللامرئية ، والفنانة لا تتوقف عند هذا الافتراض ، بل ترسم بخبرة فنية لا تترك المركز مستقلاً عن المحيط ، بل ترسم بهما معاً عبرة وحدة النص ، ولكن ليس لكي لا تجتاز الأسئلة ، بل لتجعل النص اكثر صلة بحساسية المتلقي ، فالخطاب الفني يخفي معانيه ، ليحررها ويجعلها اقل تقيداً بالتأويل فالانشغال الجمالي الأكثر صلة بدحض الوظائف ، ومنها المباشرة يعيد صياغة ذاكرة النص ، فالفنانة تستذكر بلا شعورها أو بدوافع حريتها الشفافة، خلاصات وإشارات وعلامات فنية، تنتمي إلى أزمنة مختلفة، وتجارب متعددة .. فهي لا تكف عن الحفر في المتحف السومري، في الحضارات المتعاقبة، كما لا تغادر فعل السحر ألتشبيهي، ورمزية عمل اللاوعي، مع تأمل للفعل البدائي، البكر، أو الذي يولد بعيداً عن التلوث: كل هذا يتشكل عبر وعيها التصميمي للنص حيث تنصهر المرجعيات مع عملها بجعل النص منفتحاً، فثمة المتلقي الذي عليه، هو الآخر، أن يفكك وحدات النص، ولكن لإعادة صياغتها بما تحمله من أطياف غير مرئية. إن هذه الخاصية لا تنطبق على تجارب رائدة في حداثة القرن الماضي، بل ترجعنا إلى كل نص لا يعلن ما يريد … فالمعنى لم يعد ظاهراً .. وإنما لا ينفصل عن طريقة الأداء، والمشاهد من غير استجابة لهذا المخفي داخل المعنى، لن يرى إلا قشور البصلة حتى يختفي الجوهر بعد أن يتم تشتيت وتمزيق القشور . بيد أن الرسامة ترسم بتقدير عنيد لأسلافها: انها لا تحاكي ولا تستنسخ، بل تنسج؛ فهي ترسم بدل أن تدحض الرسم، ليس بفعل دراستها، وإنما لأنها تحافظ على حساسية الرسم: ذلك التواصل لتاريخ يمتد، داخل انقطاعاته، لان زينب لا تنحاز لحداثة هابطة من العدم ، بل لتاريخ متشعب ومتعدد، فهي تنصص بفعل تلمسها لروح الرسم - إن جاز التعبير – لان الطيف يبقى إشارة لمجاز يتقاطع مع الأسطورة، ولكنه لا يندمج مع الوظائف، فالرسامة ترسم حداثتها، متلمسة عالمها الداخلي، وهي تتقدم في فضاءات غير مجهولة، فلماذا الرسم – مثلاً – سؤال لا يمكن فصله عن سر وجود الرسم، ولكن زينب ستواصل أداء طقوس الرسم، بعوامل زمنها وكيانها، لتواصل حذف وإضافة كل ما سيشكل تماسك نصها، لنركز على الانسجام داخل النص. انه يعبر عن حذف متواصل لعناصر التصادم، والاختلافات. فالانسجام يصير كمينا، لكنه لصالح التعبير، فالفنانة توازن بين الأشكال العضوية والهندسية، وبين القسوة والمرونة، بين الملمس الرقيق والحاد، بين السكون والحركة .. الخ وهو الذي لا يقفز ضد الرسم، بل الذي يمتد معه، في عصر لم تعد الحداثات منسجمة أو متجانسة ، في عصرها الحالي على الأقل. فزينب تقترب كثيراً من نصوصها، لتعبر عن لغز الرسم ذاته، ولهذا لا يغادر النص مجاله البصري ، فمساحة اللوحة تبقى بؤرة للتراكم ، وثمرة تحولات ، وتعديلات بيد أن المجال البصري، يبقى يحمل محركاته وصخبه وضجاته كعلاقة موضوعية مع عناصر اللوحة، فهل قلت ماذا تريد أن تقول الرسامة، فإنها تقوم بدمج الحواس درجة الرمز في التعبير والاختزال الدائم للأشكال، دمجت الأداء بالدوافع ؟ معاً، إن كانت تكتم ما هو عصي على الإيضاح، أو إعلان اعقد التداخلات والأفكار بصورة مباشرة ورمزية صريحة، كتكرار الأبواب والنوافذ أو تحوير المناخ الأسطوري إلى علامات وإيماءات فإنها تواجه مصيرها بحلول ليست محددة أو عابرة انها تمكث في اكثر الأسئلة إثارة على اكتشاف تنوع طرق الرسم: الدمج بالنحت بل واستعارة مرجعيات وتوحيدها ببنية متنوعة الرموز وعبر فضاء لا ينغلق على ذاته، لان هذا التوحد لعناصر متجاورة ورمزية يؤدي للتوقف عند الاختزال والتفكير بما تم حذفه، أو دمجـه، درجة جعل التجريد لا يؤدي إلا ما كان متصلاً عبر تاريخ الرسم الطويل. انه ليس أسطورة الرسم أو أسطورة الإنسان نفسه، وإنما كما غدا مرئياً – وسحرياً – وجذباً بلا أسباب، فثمة حركة أو انفجارات أو مرور أطياف أو ومضات الخ .. تعلن عن بثها وكأنها تتسلل بخفة مرور اللا زمني داخل الزمن، أو اللا معنى عبر المعاني واللا محدود عبر مساحة اللوحة، لتلتقي [1] داخل خيال الرسامة وذاكرتها [2] لتصبح، عند المتلقي، مساحة بلا حدود [3] بعد أن أمسكت الفنانة بهاجس المرور، أو اجتياز الطيف من ماض بلا حافات نحو فضاءات بلا حدود، عبر هذا الاشتباك المكون للنص، في لحظة جمالية، ذهنية، حدسية، تكاد تكون قد قالت كل ما تريد بثه. انه المعنى – القديم – الذي يستدرجنا في لحظة حدوثه، أمام اندثار وتفكيك سيشكل جوهر النص. فالبصري – في هذا السياق – أخفى أصوات الذاكرة ولم يعد منحازاً لمجهول يتدحرج في خفاياه .. انه أصبح يبث، داخل النبض والحواس، أمامنا،لأنه يمتلك وهم الطيف وكثافته في الوجود. فلرسم.عند زينب عبد الكريم،مثل الموسيقى،كلاهما لا يكفان عن بلوغ المستحيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*تخرجت من Nansenskolen(أكاديمية لحقوق الإنسان) قسم الفنون الجميلة في Lillehammer. النرويج 2011-2012..
* تخرجت من جامعة بغداد كلية الفنون الجميلة. بغداد 1995
* تخرجت من معهد الفنون الجميلة. بغداد 1992
* حصلت على دبلوم في ترميم اللوحات من كلية ترميم. Ltomcl / كلية التشيك في عام 2006
* حصلت على شهادة في مشاركتها برنامج لحقوق الإنسان.استراليا 2008
* تلقيت العديد من الجوائز وكتب شكر وتقدير على منجزاتها ومشاركاتها في المعارض
* عضو نقابة الفنانين النرويجي (NBK)، وعضوة في جمعية التشكيلين في تيليمارك (BI T) النرويج.
* المشاركة في العديد من المعارض : العراق وبولندا وفنلندا وفرنسا والأردن ولبنان واليابان وايطاليا والنرويج. المعارض الشخصية:
|*المعرض الشخصي الأول ، بغداد 1990.
* المعرض الشخصي الثاني، بغداد 1992. معرض الشخصي الثالث "حاله تحول"، بغداد 1995. المعرض الشخصي الرابع، بغداد 1999 معرضان شخصيان في السفارة التشيكية في بغداد 2007. المعرض الشخصي الخامس في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد 2008 المعرض الشخصي السادس في الصليب الأحمر ، النروج 2009. المعرض الشخصي الثامن في قاعه Osebro (روئ بابلية في التلمارك) النروج 2014.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)