عدنان المبارك
بين الكتابة والرسم
[ من السرد إلى الصمت: العلامة وباثاتها]
عادل
كامل
[1] أقدم من الرسم
لن يصبح الأعمى رساما ً، مع ان
كبار الرسامين عميان! وهذه ليست مفارقة، أو نية بالتهكم. فبيكاسو قال في ذات مرة:
إذا كنت تريد ان تكون رساما ً فما عليك إلا ان تفقأ عينيك! الإشارة الأخيرة ـ
وبعيدا ً عن التأويل والاحتمالات ـ ترجعنا إلى الزمن الذي نشأت فيه تقسيمات عمل
وظائف الأعضاء، فبعد ان كانت لكل حاسة وظيفتها العملية (المحددة)، في ذلك التحول،
ابتكرت ـ لأسباب تستدعي حفريات إضافية ـ الحواس واجبات ارقي، وفي مقدمتها: استحداث
الإشارات، وصولا ً إلى العلامات والرموز. فأصابع الصياد ستستبدل عملها ـ بالقنص أو بالدفاع عن النفس ـ
نحو الرسم فوق جدران المغارات، فضلا ً عن صناعة أقدم المجسمات والتماثيل، والنقش
فوق الأواني الفخارية. وكان دور العين قد تجاوز المراقبة، ليغدو أكثر فاعلية في
بناء الروابط الاجتماعية البدائية، فضلا ً عن دور الأصوات ـ ككمات أو موجات ـ وقد
تداخل بعمل باقي الحواس، في نشأة الدماغ، وفي انساق العمليات السحرية وتحولها إلى
ضرب من ضروب التفكير.
وبطبيعة الحال نضجت حاسة البصر
بعد التطورات الحاصلة في باقي الحواس: الشم، اللمس، والتذوق، بعد ان كان السمع قائما ً عند المسافات مع
المحيط، بوصفة المجس، والمنبه.
على ان تفكيك عمل الحواس الخمس،
بين عليا وأرضية، وكجسور بين الكائن والخارج، نجد البصر، بعد السمع، أكثر ابتعادا
ً عن عمل: الشم، التذوق، واللمس، الأكثر صلة بالأرض، لكن هذا التقسيم سينبني داخل آليات
عمل الدماغ...، هذا إذا كانت هذه الحواس
قد وجدت كأدوات لحفظ الكائن، وهي تتوسع في القراءة، والتعرف على واجبات
مستحدثة تماما ً. بمعنى إنها ـ الحواس ـ تشترك في الغاية ذاتها: حفظ الكائن من الغياب.
وقد تكون أقدم صدمة رافقت
الإنسان (العاقل) غير معزولة عن الخطر الخارجي: المداهمات، والإبادة، فالإنسان
سيكتشف انه وجد في عالم غير آمن، قائم على الخطر، فالموت سيشكل أقدم حافز لابتكار
انساق (تعبيرية) للموازنة بين (الغياب ـ والحضور)، ولم يأت تقسيم عمل الحواس إلا بوصفه نتيجة
تراكم، وتعديلات، وخبرات استغرقت أزمنة طويلة.
النصوص المتوفرة ـ الشبيهة
بالفن والتي مهدت لظهوره والتي توفر مقاربة مع بعض ابتكارات الحداثة ـ لم تذهب مع
الريح، كالأصوات، فهل يمكن عزلها عن مخفياتها التي توارت فيها، واندثرت داخلها، حد
المحو...؟ فمن كان باستطاعته البرهنة على
وجود (الأصوات) قبل تكّون حاسة السمع. لا حاجة للاستعانة بنظرية ...، فالموجودات
وجدت قبل ضرورة وجود أي برهان على وجودها...، لكن (الهواء وباقي الإشعاعات اللا
مرئية) لا يمكن عزلها عن باقي العناصر ...، فهو جزء من مكونات المخيال، ومحرك
للاتساع في المساحات، والتصادم، والامتداد ...الخ، الهواء الذي انتظم ليصبح صوتا
ً...، إشارات، رموزا ً، وعلامات تميز كل ناطق عن الآخر، إن كان ذكرا ً أو أنثى،
كبيرا ً أو صغيرا ً، معاديا ً أو صديقا ً، مثلما تمنح هذه الأصوات وظيفتها في الأبجدية.
بمعنى ان الدمى، والرسومات، والأواني
.....، امتلكت خاصية (المدفن) ـ المتحف/ الدماغ/ الكهف/ الرحم ...الخ ـ فالصمت فضّاح. والعين التي لا تمتلك قدرات
الإصغاء، تفقد خاصية البصر، والاستبصار بعد ذلك، فهي مركبات، ككل عنصر مهما بدا
خالصا ، فهو نتيجة صهر، وتحولات، فهي إذا ً تحكي الحكاية بفعل القاريء، وبتنوع
القراءات، وأزمنتها، فان ما توارى في الأثر يغدو ممرا ً نحو الأصل.
واحد أهم الاستنتاجات تبرهن ان
الرسم هو ذروة عمل باقي اشتغالات الحواس، من الشم إلى حاسة اللمس، لأنها جميعا ً
مهدت للرسام صياغة أبجديته المرئية بالعناصر ذاتها التي راحت (الحداثات) تجدها،
هناك، في البدائيات، وفي الأصول.
على ان (الكتابة)، وإن جاءت
متأخرة، إلا إنها ليست حاصل جمع، بل إنها إعادة تفكيك تلك البناءات، وفي مقدمتها
الانتقال من المكان إلى الزمن: من المحدود إلى ما هو ابعد منه، ومن الداخل إلى
الفضاءات. فالبصر ولد نفيا ً ـ مكملا ًـ لردود الأفعال المبكرة، في المساحات
الضيقة، المحدودة، ليتمثل المشهد تعليميا ً، نفعيا ً، من ثم انتقاله إلى مجالات:
الرهافة/ الحساسية، مقدمة للفن، ومتطلبات انجازه.
فالأشكال اختزلت إلى: إشارات،
وقد اقترنت الأصوات بعدد منها، تمهيدا ً لظهور الحروف. فالكتابة ليست صامتة، بل
مصمتة. إنها شبيهة بسطح البحر في يوم ساكن، إنما العواصف كامنة في القاع.
فالإشارات التعليمية اكتسبت مجالها السحري، برصد المرئيات، بما تضمنته من تنفيذ
مزدوج للوعي ـ المكتسب ـ بالأنظمة الجبرية، التي راحت تشتغل بتأسيس مجالها اللغوي.
والكتابة التصويرية مثال مبكر
للتراكم، كأنه ثمة برمجة ستتشكل من غير مبرمج! وكان هذا بحد ذاته صدمة غير قابلة
للتفسير ـ كصدمة الغياب مكملة بلغز الولادة ـ مما سمح للمخيال ان يذهب خارج حدود
الوقائع. كانت رسوم الكهوف إشارة لحقبة بدء ما يسمى بالتاريخ، ليس لأنها مهدت
لظهور (العقل) والتفكير، بل لأن ردود الأفعال، والأفعال، وسعت الحيز المكاني ليشمل
موضوعات لم يغادرها العقل، كالحركة، والمحو، والتجدد، وما هو كامن في الزمن،
والضوء.
عدنان المبارك، كتب، وترجم، الكثير
من الموضوعات التي عالجت هذه المعضلات، بعد ان وجد مصيره مقترنا ً بالمعرفة،
الثقافة، في وأرشو ـ بمعنى في أوربا ـ بعد ان استمد مقدماتها من جيلي الأربعينات
والخمسينيات، في القرن الماضي، في بغداد.
فالكاتب الذي سيجد أصابعه
تعمل عمل البصر، مثال نادر لنموذج لم يغب عنه تاريخ الحضارات، أي إعادة تمثله، وفي
الوقت ذاته، لم يغب عنه انه كائن انشغل بمصيره ـ مع موجات الحداثة وضدها ـ ليشكل
التراكم، المعرفي، المفهوم ذاته الذي كان السومري قد بناه بالجمع بين العناصر
المتضادة، المتغايرة، واستقصاء الفجوات، والروابط، والفجوات، بينهما، داخل النص
المركب بفعل عناصر التجربة، وبفعل الرؤية التأملية.
إلا ان حضوره كرسام، في وقت
متأخر ـ بعد ان أمضى سنوات طويلة في الكتابة ـ جدير بالقراءة، في زمن آخر مقيد
بحقبة ما بعد موت: الكتابة، والفن، والإنسان. فبعد ان بذل جهود استثنائية في
الترجمة، لموضوعات العصر، والكتابة في معضلاتها، وانحيازه لأكثرها علاقة بالذائقة
الجمالية، والحريات، وجد انه لا يرسم بمعزل عن وعيه المعرفي حسب، بل كي تتشكل تجربته
تحديدا ً في زمن العولمة، وإشكالاتها، بما يمنحها موقعها المؤثر في بناء رؤيته،
وعناصرها، وبكل ما يمثل فعلا ً يتجاوز التعبير، ولكن من غير إلغاءه، نحو الهوية .
فالكاتب لا يصمم، وغير مشغول بالحلول التقنية، ولا بالجمالية، بل باللغز ذاته الذي
راح يراه يكّون مداه الأبعد: ليس غيابه، بل حضوره العنيد.
[2] أصول ـ انشغال بالمخفيات
لم يكن اختراع الكتابة المسمارية، إلا حلقة
متأخرة سبقتها: الدمى، وصناعة الأواني، ورسومات الكهوف، فمند 100 ألف عام، كان
تطور (الصورة) يوازي حضور التساؤلات،
ويمهد، عبر الإجابات، لأسئلة مستحدثة.
ولو لم تكن ثمة جدلية بالغة
الإحكام، والتعقيد، ونسبية قياسا ً
بالمعرفة المتداولة، خاصة بسؤال أيهما اسبق الفعل أم رد الفعل، بين الضرورة
ونفيها، وبكل ما سينسب إلى الإرادة الواعية، فان التركيب سيغدو عملية ميكانيكية
قابلة للدحض، أو الرد، حد الإقناع، لكن الانشغال بما هو ابعد من التراكم ـ الذي أنتج
العدد والحساب / والكتابة ـ سمح للفلسفة ان لا تغيب في أعظم حضارة صنعتها
تنويعاتها الجدلية، وليس أحاديتها.
متى أدرك عدنان المبارك انه ـ بجدله مع ذاته ـ يمتلك خزينا ً إن لم
يستخرجه، فانه سيسهم بدفنه، إنما ليس إلى الأبد..؟
كان ولعه بالثقافة شبيه بنماذج
ظهرت في عصر المأمون: كسر الأحادية، والعثور على مقاربات عملية لمفهوم ( التعارف ـ
المعرفة ـ الجدل) بمنح المكان خاصية الامتداد، بمعنى دخول الزمن كمحرك تضمن
أبجديات متنوعة سيمهد تركيبها، وصهرها،
للعقل ان لا يتقاطع مع الإيمان، ومع
المقدسات، أو الثوابت الشرعية. فثمة مخفيات بحكم المندرسات، تعمل، عند التجربة
(وعند التجريب تحديدا ً) بنزعة: الاستحداث، وليس التوكيد، أو التكرار.
فهل كان باستطاعة عدنان
المبارك ان يمسك بهذا الممر، لو كان مكث يشهد ما ستتعرض له الثقافة، بعد عام 1958،
من متغيرات، أم كان قراره بالمغادرة، أو
السفر، أو الرضوخ للانخلاع، ممهدا ً لمسار آخر ...؟
لست بصدد التلميح إلى جيل
(الأربعينيات/ الخمسينيات) الذي تلقى معارفه في بلدان أوربا، وأسس ما يجدر قراءته
كجيل رائد، ليس زمنيا ً، بل إبداعيا ً عن حق، بل الإشارة للبرنامج للإفصاح عن
مخفيات حضارية مازالت قيد التدشين، وقيد الاكتشاف.
بالطبع كان لتقسيم العمل أثره في تنوع الاختيارات، فلم يجد المبارك في الآثار
أو الهندسة المعمارية، أو الطب، أو الحقوق، أو السياسة اختياره، بل وجد هذا
الاختيار في: الكلمة. فهو ـ ضمنا ً ـ لخص مفهوم جيل الرواد، ومشروعه: إن حضارات
وادي الرافدين، هي حضارات صورة، وليست حضارات صوت!
وكي لا تختلط التصوّرات، فان
الحضارات التي نشأت ـ منذ العبيد وسامراء إلى سومر، ومن أكد إلى بابل، ومن
الأشوريين إلى الحضر، هي حضارات أولت الكتابة حضورا ً أنتج الأدوات: من الحساب إلى
الفلك، ومن الري إلى صهر المعادن، ومن المدرسة إلى نقابات العمال، ومن الأدب إلى
الفلسفة ...الخ، ذلك لأن كل فرع من تلك الفروع العلمية، ما كانت لتكتسب موقعها في
البناء الحضاري، من غير الكتابة القائمة على أسس: العلامات. فالكتابة لم تعد أداة للاستهلاك ـ وبالإمكان
الرجوع إلى النظام الإنتاجي ودور الوفرة والاستقرار في تقدم المعرفة ـ بل أداة لم
تلغ التأمل، والجدل، ولكنها لم تدعه أحاديا ً.
كانت (العلامة) هي الذاكرة
بوصفها بذرة شكلتها قوى لا تحصى كان الإنسان مركزها. فهي لا ترتد، مع إنها حافظت
على عاداتها، وأعرافها، وأنساقها، لكنها ـ بدراسة العلامات من الصليب المعقوف إلى
المثلث، ومن المربع والنجمة السداسية إلى الشكل الثماني ـ كانشغال سمح للمكان
بالاتساع. فالزمن ـ بازدواجيته بين المفتاح والقفل ـ مكث يعمل عمل الحداد (في
ورشته: المختبر) على تفكيك المعادن، وصهرها، وعمل الفيزيائي بضبط حرمة النجوم
والكواكب، ومواقعهما في تقسيم الوقت ـ السنة والأشهر والأسابيع والأيام درجة
الدقائق والثواني ـ مما شكل بندا ًفي مواجهة الارتدادات، والخمول، والاتكال.
عدنان المبارك، كوريث محمّل بالأزمنة،
بلغ لحظة وجد انه لن يجتازها، من غير تكريس حياته برمتها إلى: الكلمة. فالمكان ـ
الوطن ـ في ستينيات القرن الماضي، لم تكن مهمته إتمام مشروعات ما قبل عام 1958، بل
سيعمل على فتح أبواب مازالت غير قابلة للغلق.
على انه سيحافظ على جسوره
الثقافية العراقية، مع وطنه، مراسلا ً، ومتابعا ً، ومنتجا ً. فتنوع تجاربه مثال
لجيل لم يعد يجد رضاه بفلسفة ما، أو ببرامج عمل وكأنها أنزلت من السماء! بل لم يعد
لديه ما يشغله من الثوابت إلا العمل على دحضها، والانتقال إلى دراسة مشكلات عصره،
وإشكالاته.
[3] جسور
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، اقترح نجيب
المانع، علي ّ، وكان برفقتي الشاعر فاروق يوسف، تأسيس جماعة لسماع الموسيقا، مبديا
ً استعداده لتنفيذ المشروع وليس علينا إلا ان نصغي، كي نفكر موسيقيا بالعالم!
والأستاذ نجيب المانع، بثقافته الموسوعية، وخبرته الأدبية، وتعددية اهتماماته، أيد
مشروعا ً آخر كنت ـ مع عدد من الفنانين والشعراء والكتاب ـ حمل عنوان (الحركة)،
نحلم بتحقيقه، مفاده: ان كوننا، في وجوده،
اشترط الحركة وتأسس وفقها، لكن (عقولنا) ـ في المساحة العربية ـ راحت تعمل على
ترسيخ الثوابت. وعلى صعيد الخطاب
(المعرفي، الأدبي) فإننا نتوجه ليس إلى دمج الفنون، أو قراءة أنظمتها البنائية، أو
العمل على استحداث علامات تهمل التحولات الكبرى للقرن العشرين، القائم على سلاسل
من الحداثات ترجع إلى مكوناتها إلى عصر النهضة، منذ (كرفاجو)، وليس ابتداء ً
بدافنشي وروفائيل وانجيلو وتتيان ...الخ، فحسب، بل إلى صياغة (الهوية) كإبداع
يقوّض عزلة (الثقافة) و (جمودها) وتبنيها عالم ما بعد الماركسية، والوجودية.
الكاتب مع نجيب المانع
وهنا أتذكر اقتراح نجيب المانع
الدكتاتوري (الشفاف) ان تصدر الجماعة عقوبات ضد كل من ينتج، ويروّج، ويستهلك:
الرداءة! فبدل السجن أو الأشغال الشاقة،
ان يرغم صانع الرداءة على قراءة الأدب الرديء....، أو يستمع إلى الموسيقا الرديئة
...! حد التخمة، كي يرتد، ويعتذر، للإسهام ببناء عالم معقول، وجميل...!
كان عدنان المبارك، يعمل بصمت،
في حقل الكلمة، وكان يراقب المشهد عن بعد، وربما ـ مع عدد آخر من الأصوات
الاستثنائية ـ أدرك ان جيل الرواد وقد بلغ ذروته، وان الجيل الستيني، المتمرد،
والمتأثر بأحدث الحركات عالميا ً: الثورة الثقافية الصينية، ثورات أمريكا
ألاتينية، والثورة الطلابية في فرنسا ...، إزاء مواجهات قاسية، وكأن هذه المتغيرات
جاءت تشير إلى نهاية حقبة، والشروع بعهد غير مسبوق، خاصة ان هزيمة حزيران 1967، أصبحت
اعترافا ً بالبحث عن مسار مغاير، ومختلف.
هذه المتغيرات، بما تضمنته من
صدمات، دفعت بالتجربة (الشخصية) إلى التمرد، رمزيا ً أو عبر الاختلاف مع منظومات
عمرها أكثر من ألف عام. فخلال هذه القرون لم يقدر للعقل العربي ان ينتج اختراعا ً
واحدا ً، مقابل ألف اختراع لادسون، أو أي عالم آخر قلب المعادلات، وأتاح للحداثات
ان تستحدث أسئلتها، وتدشنها، مقابل الثابت الأبدي.
فظهرت استغاثات، وتجارب ذاتية،
انوية، مغلقة، عصابية، وأخرى صاخبة، وذات دوافع تعبيرية، باحثة عن عالم مختلف، إزاء
عالم يتحول إلى مجموعة أسواق، تحكمه الشركات العملاقة. وتميز هذا التدفق بالتنوع،
والمغامرة، في مسعى لمغادرة عصر الظلمات.
فلم تعد لأي جنس من الأجناس
الأدبية، أو الفنية، أحاديته، وحديثي بالتأكيد لا يعمم، بل هو جزء من الاستثناءات،
فلم تكن الدعوة إلى التركيب، أو التوليف، والخروج على التقليدي، المألوف، والسائد،
معزولة عن ازدهار تنوع القوى المتصارعة، واتساع مساحة المجتمع المعرفي. فإذا كان
عهد الرواد قد اقترن بتجدد معالم المدينة الحديثة، بغداد: المواصلات والاتصالات،
الجامعة، البعثات إلى الخارج، الذي أدى إلى ازدهار حقول: الطب، القانون، الفنون،
المسرح، الآثار، حقوق المرأة والطفل، الشعر، المعمار ...الخ، فان جيل الستينيات
عمل على خلق روح حية، كما وصفه الشاعر والروائي فاضل العزاوي: جيل سيجد مصيره، بعد
سنوات قليلة، في الصفر.
على ان استعادة الأسماء التي
مارست أكثر من فن، لم تغب عن الذاكرة، وهي تجارب لا يمكن فصلها عن دور الجماعات
الفنية، التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، بعد ان ضمنت هذه الجماعات حماية
نادرة للإبداع الشخصي، حتى عندما كانت الموضوعات تتوغل في نقد المجتمع العراقي، كالفيضان،
والفقر، والسجون، والبغاء ..الخ، من ناحية، وبتخطي المألوف والتقليدي الذي سمح
للتجربة (الإبداعية) ان تجد انعكاسها في عدد من التجارب، بالتركيب، والتوليف،
والنسج على منوال التيارات الحديثة، وممارسة أكثر من نوع من الأنواع، في التجربة،
كالرسم والنحت والكتابة والموسيقا. فأساتذة المعمار كان لهم حضورهم في هذه
الجماعات الفنية، وفي المجتمع المعرفي النخبوي البغدادي الحديث، كتجارب محمد مكية،
وقحطان عوني، وقحطان المدفعي، فالأخير باحث، وشاعر، ورسام، ومعماري، وكان جواد
سليم نفسه لم يتخل لا عن النحت ولا عن الرسم، واهتم محمود صبري بالتنظير والنقد
إلى جانب نزعته التعبيرية، والعلمية في الرسم، بينما مارس شاكر حسن الكتابة الأدبية،
والفلسفية، إلى جانب الرسم، والتنظير الفني، أما جبرا إبراهيم جبرا، فقد كانت
بداياته مزدوجة بين التشكيل والكتابة والترجمة معا ً، فلم يتخل عن الرسم إلا بعد
ان وجد ضالته في الكتابة الروائية، والقصصية، وفي الترجمة، كما نشط مزار سليم في
حقول القصة، والرسم، والكتابة الفنية، إلى جانب فن الكاريكاتير. وهناك عدد من
الأطباء مارسوا الرسم، كخالد القصاب، ونوري مصطفى بهجت، وقتيبة الشيخ نوري، وعلاء
بشير، من ناحية ثانية. وكان مظفر النواب شاعرا ً ورساما ً ـ عضو جماعة الانطباعيين
العراقيين ـ ويساريا ً متأثرا ً بموجة الانشقاقات عن الأحزاب الماركسية الكلاسية،
التي عمت مختلف البلدان، ومنها العراق، وكان يوسف الصائغ، مع الشاعر شفيق الكمالي،
قد أقاما معرضا ً مشتركا ً للرسم. في الوقت نفسه ظهرت تجارب أخرى كتجربة إبراهيم
زاير، المتداخلة والمركبة بين الرسم والصحافة والشعر، فضلا ً عن نزعته المتمردة،
كما كان عبد الرحمن مجيد الربيعي الذي درس الفن، يكتب القصة والرواية والنقد
الفني، فيما مارست سالمة صالح الرسم والقصة وعملت في مجال الصحافة والترجمة. وكان
مؤيد الراوي شاعرا ً وصحفيا ً وناقدا ً فنيا ً، وفاضل العزاوي نفسه مارس الكتابة،
وعمل في الصحافة، إلى جانب الشعر والقليل من التجارب في مجال الرسم، وسيكرس الفنان
علي النجار، الكثير من وقته للكتابة النقدية، مع ممارسة الفنان يحيى الشيخ للتنظير
الفني، بينما نجد شوكت الربيعي، هو الآخر،
عرف بممارسة الكتابة الفنية، إلى جانب الرسم. كما مارس ضياء العزاوي الكتابة في
الفن، والملصق الفني، والرسم، إلى جانب تجارب رافع العزاوي في الكرافيك، والكتابة
الفنية.
لم تكن هذه الظاهرة محض
عدوى...، بفعل الاطلاع على التيارات الفنية الأوربية، أو بفعل الإعلام واتساع
مساحته، وتهدم الفواصل بين الدول، والشعوب، واثر التقدم التقني، أو ما دعاه توفلر،
بالموجة الثالثة، وكان هربرت ماركوز قد لفت النظر له، على الأيديولوجيات،
وفلسفاتها، وتقسيماتها، وأهدافها، فحسب، بل ان تحول العالم إلى قرية صغيرة، وتداخل
الأزمنة، وتقارب مصائر البشر إزاء تهديدات التلوث، وزيادة السكان، والصراعات
القاسية على الموارد، والأسواق، مهد لوجود ضرب جديد من التحديات سمحت للحريات
(الشخصية)، إلى جانب حقوق الإنسان، والبيئة، والديمقراطيات، ان تدخل حيز التطبيق،
بشكل ما من الأشكال، وان لا تسلب، لصالح أنظمة تستبدل (الفن) بالدعاية، والحرية
بالدم، والوعود بالمزيد من القيود.
على ان ممارسة أكثر من فن لم
تقتصر على الرواد، ولا على الجيل الستيني، بل مارس عدد من الكتاب الرسم، أو
الفنانين الكتابة، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كفاروق يوسف، وكريم النجار،
وسعد هادي، وشكري الطيار، وهناء مال الله، وفراس عبد الحميد.
لم يمارس عدنان المبارك الرسم
في مراحله الأولى *، فقد كانت اللغة وسيلته في الرصد، والتأمل. كالعمل في الصحافة،
ثم الانشغال بمد الجسور مع الوسط الثقافي في بغداد، بعد ان غادرها، وهو في عمر
الرابعة والعشرين، نهائيا ً، والاستقرار في وارشو، ثم الانتقال 1991 إلى الدنمارك،
وفيما بعد، وفي فترة متأخرة، سيمارس الرسم عبر الكومبيوتر.
ثمة مصادر متنوعة أسهمت بالعبور
من صنف إلى صنف آخر، حتى عند كتابة الرواية، أو عبر مشروعه (ضد اليوميات)،
فالثقافة راحت تتوغل حتى اكتشف إنها، مهما اتسعت رقعتها، مقيدة بالنخب.
وعمليا ً بدأ دور الجماعات ـ
والتجمعات ـ بالانحسار بعد عام 1980، واضمحلال دور المؤسسات الثقافية، وأي نشاط
يمكن ان يقارن بما صاغته جماعة بغداد للفن الحديث، أو حتى جماعة الرواد، بوجود نخب
معمارية، وأدبية، وآثارية، إلى جانب فني الرسم والنحت.
هل كان للتلفاز مقدمات مهدت
للمواقع الثقافية الالكترونية فرض اتصالات قائمة على ضرب من ضروب العزلة، أم كان
لموجات الهجرة، والانخلاع ـ التهجير غير المحسوس، بل وغير المراقب ـ بعد أعوام:
1958/ 1963/ 1968/1980/ 1991/ 2003....، أثره
في ذلك...؟
عمليا ً، لم يعد ثمة مجتمعا ً
(ثقافيا ً) كالذي ظهر في خمسينيات القرن الماضي، ولا في ستينياته، في العراق، وفي
بغداد تحديدا ً...، فهجرة مئات الأسماء ـ ومنها الأساسية ـ لم يدفع بالتجربة (الثقافية
ـ الفنية) إلا للتعبير عما ستعانيه من نقص، وأحادية، وضمور. فالعزلة هي بمثابة خلق
عالم مازال جنينيا ً، فهل للتجارب المتفرقة ـ على اتساع خارطة العالم حيث تشتت
الأسماء وتوزعت ـ الأثر ذاته عندما كانت تمارس حضورها وهي مجتمعة، أم ان تفكيك
(الجماعات) و (الكتل) اضعف دورها، إن لم يكن أقصاه...، حتى ان موضوعات (المنفى) و
(الغربة) غدت عامة، شبيهة بالبكاء على الأطلال، في الموروث الشعري العربي ...؟
لم يتخل عدنان المبارك عن زخم
عمله اليومي، عبر الإشراف على المواقع أو الإسهام فيها، في الترجمة، وفي الكتابة
القصصية، والروائية، والنقدية، ليس بفعل انتمائه للمجتمع الذي نشأ فيه، وليس بدافع
الاحتراف، ونبذ أي خمول ميز أقرانه الذين مكثوا في الوطن ـ عند المقارنة بالمنجز
المعرفي ـ أو لنبذ أي تأثيرات ميتافيزيقية أو مثالية أو خرافية عن رؤيته المقرنة
بعالم الحداثات، وبما بعدها، فحسب، بل لأن المشكلات الواقعية ذاتها تحولت إلى
إشكاليات، لم تعد (اللغة) توازي استحداثها مقارنة بعالم يتأسس على انتهاك الحقوق،
وغياب منطق الإجابات المقرنة بالمعرفة، وبالحياة ذاتها. فالديمقراطية برهنت إنها
امتداد لسلاسل الأنظمة التراتبية، وهو مثال يفند أي تمويه في هذا المجال، كما ان
الحريات (الليبرالية) للأشخاص، لا يعوض ازدواجية المعايير، فأنت حر في بلد أسهم،
مباشرة أو بالتضامن، في تدمير بلدان أخرى، بل والعمل على اقتلاع وجودها الحضاري،
وحقوقها المشروعة.
إنها لحظة تراكمت فيها أزمنة
ستعيد للصورة ـ الإشارات/ الرموز/ العلامات ـ الإجابة على أسئلة استبعدت الأسئلة ـ
في الأصل ـ وسمحت للاستهلاك ان يبني عالما ً قائما ً على حرية السوق. فالانجاز لم
يتح لفنون الكتابة ـ كما قبل عصر البث المباشر والوسائل المتنوعة للتواصل
الاجتماعي ـ إلا قدرا ً محدودا ً للنخب المتفرقة، والمتباعدة، وشبه المنعزلة،
للتواصل، والاتصال. على خلاف المرئيات، بحركتها، وسرعتها، وتوفرها المباشر ـ حد
سيهم بخلق نظام عقلي متجدد لاستيعابها بعد صدمات واجهت حدود الاستيعاب وثوابته ـ
ببناء قرية لم يعد أعلى الهرم فيها مرئيا ً. فالسلطة ـ تحت شعارات الشفافية والليبراليات
المستحدثة، الجديدة، وحقبة العولمة وما
بعدها ـ ستسمح للصورة لغة من الصعب ان تؤديها اللغات التقليدية. فإذا كان همنغواي
قد صاغ أسلوبه بالبرقيات، والاختزال، والصور، فان حقبة ما بعده، لم تصمد إزاء عالم
يكتظ بالمتغيرات التي لا تقدر الكلمة ان تواكبها كما تواكبها العدسات، وتؤدي الدور
الأعظم فيها، أكثر بكثير من أساليب التحليل، والمراجعة، لكن هذا ليس دفنا ً رمزيا
ً لجبروت (دكتاتورية) اللغة، لصالح فنون الصورة، والرسومات، والمؤثرات الصوتية...،
فها أناـ هنا ـ بالكلمة، ارتد للامساك بأداة قائمة على البصر، مثلما لا يمكن
استبعاد الأصوات وتحولها إلى إشارات مصمتّة، ومشفرة، حد ان الصورة لا تكتفي
بالمرئي منها، بل تقودنا إلى محركاتها، التي بدورها، لا تتوقف إلا عند عجزنا في
الذهاب ابعد من ذلك! فهل كان هذا احد انعطافات الكاتب عدنان المبارك، من المجال
اللغوي، إلى المرئيات، أم ثمة انشغال آخر بعالم تكونه: المرايا...؟ أرى مثلما أنا
بحكم المرئي، كل ما يستدعي قراءة مستحدثة
للرائي ـ والمرئي، للمخفي والظاهر، للمكان وتحوله إلى أثير، للغياب ولأطياف الحضور، وهو يرسم موقعة في مسارات
الدورات، وتحولاتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حوار
أجراه د. زهير شليبه يذكر: " البدايات كانت مع
الكتابة عن الفلم. في ثانوية البصرة كنا من رواد دور السينما المدمنين. كان زمنا
آخر لم يعرف شيوع التلفزيون ولا كل هذا الانفجار لـ (الميديات ). أذكر حلقتنا
الصغيرة التي تعاملت مع السينما كظاهرة أبعد من أن تكون تسلية صرفة. كان معنا
صديقنا الراحل مصطفى عبود الذي فاقنا جميعا بذكائه ومتابعاته الجادة وأحكامه
الناضجة في ظاهرة الفلم خاصة. كان يعيد علينا ما قرأه بالإنكليزية وخاصة مجلة (
فلم أند فلمنغ ) المعروفة. كنا نشاهد الأفلام سوية ثم نتبادل الانطباعات والملاحظات.
وكانت ذاكرة مصطفى مدهشة. لا أنسى أبدا أنه كان يتذكر أسماء المخرجين والممثلين ،
وليس الرئيسيين فقط بل الثانويين أيضا ، والمصورين والمنتجين. في الحقيقة كان هو
المرشد الروحي لحلقتنا. كان شقيقي الكبير يكتب القصة وينشرها في مجلة الخليلي (
الهاتف ) .وكان معلمي الأول في ا لكتابة لكن بدون علمه ! كنت أقرأ قصصه لكننا لم
نكن نتكلم كثيرا عن نتاجه وحتى عن الأدب عامة. كل هذا حصل في النصف الأول من
الخمسينات. حينها كنت أنشر كتابات بسيطة عن السينما في الصحف المحلية وأحيانا في
صحف العاصمة. كانت تجذبنا الكتب الممنوعة ومعظمها عن الماركسية والأدب السوفييتي
الذي لا أظن أن هناك من لم يسحره آنذاك وخاصة إذا كان مراهقا ، فالعالم كان هناك
شفافا على حد تعبير فيسوافا شيمبورسكا.. وبعدها جاءت فترة ( الوعي الثاني ) واكتشاف
لا شفافية العالم والإنسان : قراءة تراجم سهيل أدريس وبعلبكي وعيتاني وغيرها. كانت
اكتشافات مدهشة بل مصدمة بعد الدخول إلى عوالم فوكنر وكافكا وتينيسي وليامز وإليوت
وباوند وكامي وسارتر و دستويفسكي وهيسه والباقين من الذين نظروا إلى البشر
والطبيعة وحتى الحيوان من ( مرصد آخر ).. عليّ القول أن طه حسين والعقاد مثلا لم يؤثرا
كثيرا فيّ، ربما بسبب تنوع الخيارات. كنت قد وقعت تحت تأثير سلامة موسى بشكل خاص.
جذبتني علمانيته وعقلانيته. لكن الإنسحار لم يستمر طويلا ، وجاء زواله بعد دخولي
الى تلك العوالم السحرية التي فتح بواباتها كبار كتاب العالم. بالطبع كان هناك
عالم التشكيل إلى جانب الأدب والفلم. في تلك السنوات تعرفت على صديق العمر أرداش
كاكافيان الذي جاء الى البصرة مع مظفر النواب بمناسبة معرض للإنطباعيين. وهكذا
وجدت نفسي كما لو أني هبطت على كوكب آخر واكتشفت فيه حيوات أخرى ! كان أرداش يحب
الشعر وصارت عادتنا أن نقرأه سوية. بعدها كتب هذا الصديق الراحل الكثير من الأشعار
التي ضاع بعضها وآخر قمت بنشره. كنت سعيدا حقا عندما اكتشفت أن للفن ، أي الكتابة
أيضا ، مهاما أخرى غير التسجيل والتحريض الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي أو
الصيرورة وسيلة إعلامية – معرفية من طراز خاص. عرفت أن ليس أمراً ملزما أن تكون
علاقة الفنان بالطبيعة والمجتمع ( العالم الخارجي ) مباشرة. كانت ملاحظات وخواطر
وأفكار أرداش تدفعني الى التفكير المتواصل بقضايا أخرى غير التي كانت ( رائجة ).
لا يعني هذا أنني كنت معزولا عن دوامات الحياة وبراكينها آنذاك. كل ما حصل كان
تحوّلا جذريا في سلم القيم والاهتمامات الكتابية والفكرية. في البصرة كنت معجبا
بقصص محمود عبد الوهاب ( أتذكر إنسحاري بقصته " القطار الصاعد إلى بغداد
") ومهدي عيسى الصقر. كنا جميعا نشعر بالزهو والفخر بأنهما من مدينتنا
وجيراننا. بالفعل كان الصقر يقطن الزقاق المجاور في محلة السيمر.. في تلك السنوات
جرّبت قوتي في الكتابة القصصية . لم أكتب كثيرا بل بضع قصص ، ربما ثلاث أو أربع.
نشرتها في الصحف المحلية وواحدة في مجلة ( فنون) البغدادية. بعد المدرسة جرفتني
الصحافة في بغداد إلا أنني بقيت مخلصا للكتابة عن الفلم." ـ موقع القصة
العراقية.
[4] المدينة: السينما والزمن
[4] المدينة: السينما والزمن
ولأن حاضرة البصرة هي المدينة
الوحيدة، من مدن العراق، التي انصهرت فيها الثقافات: ثقافة البحر، وثقافة الأنهار،
وثقافة الصحراء، عبر القرون، فإنها حافظت على هويتها كمدينة توازنت فيها هذه
الروافد، من غير تعصب، أو انغلاق. ورغم إنها تميزت بأكبر غابة للنخيل في العالم،
قبل ان تحل النكبات عليها، وعلى البلاد عامة، إلى جانب موار البترول الخيالية،
فإنها عاشت حياة الكفاف، أو بالأحرى، وجدت وسيلة ما للبقاء كمدينة تأبى ان تغادر
التاريخ. المدينة التي قاومت عواصف الرمال، وهجمات الغزاة، من جهاتها الأربع،
أفلحت ان تتستر على تاريخها المتحضر، ونزعتها المعتدلة، وشغفها بمغادرة أزمنة
الانتظار.
لكن هذا ليس امتيازا ًللرفاهية،
ولا علامة للمجد، بل للتحديات. فالمدينة مثال لمدن العراق الأخرى، كالموصل، أو الكوفة،
أو بغداد؛ مدن ما انفكت تشهد اجتياحات متوحشة من الجوار، ومن المناطق الأبعد، من
الجبال أو من المحيطات أو من البوادي...، إلا إنها لم تضمحل، بل تشبثت بنظام يماثل
من ينتظر حضور لا احد، كي لا تزول، كما زالت مدن عظيمة سابقة مثل أكد، ونفر، وأور،
وسبار...
ففي سنوات عدنان المبارك
المبكرة اكتشف السينما...، وفي الوقت نفسه وجد نفسه يحذو حذو الأخ الأكبر في كتابة
القصة ....، لكن السينما، كاختراع يمثل حضارة وافدة، لا جذور لها في الموروث
المتداول، جذبته، مثال محفز للحياة، وليس للتراخي. فإذا كان (هاوزر) قد لفت
الأنظار إلى ما تمثله (السينما) من تضافر
عناصر: السرد، والتاريخ، والمعمار، والفنون البصرية، والسمعية، والعلوم ..الخ، فان
عدنان المبارك ـ كمراقب أو بصاص ـ سمح لبصره ان يتولى مهمة مغامرات الاكتشاف:
النظر إلى الأمام، وليس الحفر في الظلمات.
كانت السينما، منذ ثلاثينيات
القرن الماضي، في المدن العراقية الكبرى، إلى جانب الهاتف، والصحافة، والعناية
للآثار، والمدرسة الحديثة، مهد لتبلور ملامح النخب الثقافية، أي حقبة ما بعد نهاية
الحرب العالمية الأولى، التي واكبها ظهور (الأفندية)، على حد كلمة للباحث د. علي
الوردي، كي تولد نخب تواكب ما يجرب في العالم الحديث. فالسينما لا تنطق بلغة
عالمية، وليست واحدة من الفنون التركيبية، وعلامة لعصر حديث فحسب، بل مرآة تبث ـ
على خلاف جهنم التي يزداد شغفها بالاستقبال كلما ألقمت بالناس والحجارة ـ وتؤدي
دورها في التأثير، والتغيير، وتدشين ما يتأسس في الحاضر. فالعالم ـ عنده ـ غدا
قابلا ً للنسف، ومغادرة ظلماته، ليعلن عن: حريات كانت قائمة على التابوات، والمقدس
الوهمي، كالعلاقات الاجتماعية، وما تتركه المخترعات العلمية من صدمات...
لم ينحز عدنان المبارك ـ
المغمور بدهشة الصور ـ إلى السينما، بدافع الفضول، أو التمرد، أو المشاكسة، أو
بدافع نية الدخول في مكونات (الحداثة) العالمية، بل لأن السينما وسعت الفجوات بين
(حاضره) وما يحدث في العالم. فالسينما مهدت لديه المجال العميق للنقد، بعد الشك،
كدشينات منحته قدرة الانفصال عن مجتمعات أو بيئات مكثت لا تذهب إلى الموت، ولا إلى
الحياة، منذ قرون بعيدة. كان هذا الوعي ـ ليس بالصورة حسب ـ بل بمحركاتها، هو
الدرس الفلسفي الذي كان جيل الرواد قد عملوا على بناءه، وهو الدرس الذي سمح له
بمغادرة البلاد، من غير رجعة، بعد ان برهنت أحداث العقود التالية، له، وهو يواظب
على دراسة الفنون، كالمسرح، والمعضلات المعاصرة، ومشكلات القرن العشرين، وما بعد
التقنية، والأيديولوجيات، في أوربا، ان دور السينما التي شاهد فيها علامات عصره،
وتلقى أولى دروسه فيها، ستغيب عن الوجود!
ففي سن لـ 24، ستشكل الحرية
لديه ليس ضرورة اكتشاف ما يحدث في العالم، بدافع الفضول، أو الخلاص الشخصي،
بل للتعرف على ما يحدث له وهو يفكر، وما
يحدث في كيانه، ككائن رائي، في بيئات ستبذل جهودا ً جبارة ليس على دفن حاضرها، بل
على محو أي اثر بمستقبلها أيضا ً!
هذا المسار كله ليس استثنائيا ً،
أو نادرا ً، كالولع بالكتابة، أو السينما، أو دراسة الفنون، وإنما مكث يحفر في
مخفيات المتحف الداخلي لذاكرته، فالصدمات التي ستتوالى عليه، لن تتوقف عن
الإجابات، بل ستوّلد أسئلتها، ضمن سلاسل مترابطة، تتطلب كدا ً بالمعنى الدقيق
للشغل. فاثر حقبة الرواد لم تذهب سدى، وتتبخر، رغم إنها تواجه نهايتها، في وطنها، إلا
إنها ستواجه ولادات، لدى مواهب اتخذت من المثابرة الدرس الأقدم لحضارات وادي
الرافدين: التفكير إلى جانب التطبيقات، والحوار
في مواجهة التعصب والأحادية، النسبية إزاء المطلق، والتجريب في مواجهة الثابت،
والجمود، والتكرار...، ليكتشف، بعد سنوات طويلة، ان الرسم ـ والمرئيات ـ لا تتمثل
كثيرا ً بالأسئلة والردود، لا بالربح ولا بالخسارات، لا بالبطولة ولا بالإخفاقات،
بل بالكائن الغير مشغول بإثبات انه موجود، فهو موجد، بما يترتب على الموجودات من
حقوق وواجبات، وانه لا معنى للمزيد من البراهين على إثبات وجوده، بل كيف يحقق هذا
ـ الكائن أو الكيان المعرفي ـ ثقافة لا يرى فيها محوه، يحدث فحسب، بل لا يقدر إلا
ان يرى هذا المحو وقد ازداد عنادا ً في سلب زمنه منه..!
إن رسوماته لا تتوقف عند
السرد، وعند رصد المتغيرات، في حقلها الزمني، ولا عند نهاياتها، وإنما أصبحت
معنية، ومشغولة، باستئناف أكثر الأسئلة غورا ً في الحضارات، وأكثرها حداثة، وحضورا
ً: صدمة المرئيات.
[5] الصدمات
لم ينشغل الكاتب عدنان المبارك
باستحداث أشكال فنية لمواكبة معضلات الحداثة ـ وما بعدها، إلا بالحدود التي مهدت
له كي يحافظ على الأسئلة الكامنة في أقدم النصوص، أسئلة: الدهشة، وما يحدثه الزمن،
وهي أسئلة تلخص موقف الكاتب من العالم.
لقد مكث مشحونا ً بصدمة استحالة إجراء توازن مع المكان الذي غادره، ولكن
هذا ليس لحدود أخيار معالجة المعضلات التي واجهها في وطنه حسب، بل كي لا يقطع
الجسور الأكثر رهافة التي يعاني منها الإنسان المعاصر. ثمة أزمات سمحت له ان يحفر
في مخفياتها، فالنص الأدبي لا يتكون من وحدات بناء، كعناصر أساسية، وأخرى ثانوية،
بل لأن الهيئة ـ أو الأبجدية/ المعمار/ الصور ـ تبقى بوصفها متضمنة تلك المحركات
حد استحالة تعريفها إلا بوصفها تقود إلى العلة التامة. فالميتافيزيقا لا تعيد
إنتاج الصراع الصريح والمرير مع الطبيعة، وقواها، أو مع الإنسان، بوصفه علامة
قابلة للرصد، بل لأن المعضلة بانتظار قراءة من اجل إجراء التشذيب الممكن والمحتمل
في الأقل.
هكذا سيواصل الكاتب عمله وكأنه يؤدي واجبا ً إلزاميا
ً، إن لم يكن أخلاقيا ً، وليس ممارسة عدمية. فهو أدرك بقراءة الأساطير، والفلسفات،
والتجارب المعاصرة، ان ثمة معضلات لا تقود إلا للمزيد منها، وليس لوضع علاجات لها.
فالتشخيص سيبقى يعدل مسار البحث، كي تصل اللغة إلى ذروتها: وضوحها غير القابل
للتأويل، والإضافة.
وهنا تكون أدوات اللغة إزاء
صعوبات لم تحتمها، أو تفرضها المخترعات الأخرى، كالسينما، التلفاز، ووسائل البث
اليومية المباشرة حسب، بل إنها ستوضح الإشكالية الأكبر عندما تتسع الفجوة بين
الكاتب، ونصه، من جهة، والمتلقي، من جهة ثانية.
فعندما تتسع هذه الفجوة يأخذ دور الكاتب بالتراجع، حد القبول بدائرة
النخبة. فعندما ناقش (مالارميه) إشكالية الفن للفن، فانه كان يشعر عميقا ً بمدى
التدمير الحاصل للجماليات في الأصل، ولكنه ـ عمليا ً ـ لم يشّرع لأدب يغدو وسيلة
للإعلان، والترويج، والدعاية، كواحدة من وظائف اللغات ـ والكلام.
وكان (هيغل)، في فلسفة الحق، قد
لمح ذلك بمراقبة الأداء الكنسي غير الخالص للروح، بل بوصفه عملية تخص الإنتاج ـ الاستهلاك.
فموت الفن كان احد مكونات تاريخ الثقافات، وان ما كان محصّنا ً بالميتافيزيقا، غدا
عرضة للابتذال، بعد التداول.
هذه الملاحظة ليست عابرة، أو
خالية من المعنى، بل ستؤكد مغزى وجود الآداب ـ الفنون، كأشكال راقية للتعبير. إلا
ان زخم الإنتاج أدى إلى صدمات متتالية بين المؤمل، والمنجز...، فالسوق هو وحده
يمسك بالغزل والمغزل والمنتج. فهو الإله الذي كان قد موه باختراع أقنعه له.
فالسلعة هي بمثابة الصنم، الوثن، الشيء، وهي في الأخير تكون قد أجهزت على
المثاليات ـ وفلسفات النخب.
ثم جاءت إشارات موت المؤلف ـ
بارت ومن أعقبه ـ باستقلال النص عن المؤلف، وحياديته، أو بوصفه معزولا ً، أو بنية
مستقلة، لها أنساقها والياتها الخاصة، كي تقود العملية ليس إلى موت المؤلف، بل إلى
موت النص، من غير قاريء يتمتع بمكانة المكتشف ـ والمؤلف الافتراضي، الجديد.
ولأن عدنان المبارك لم يعد هاويا
ً، ولكنه ليس محترفا ً أو صانع سلع، أعاد قراءة المعادلة باستحالة تدمير الجسور
بين الكاتب ـ النص ـ والقارئ الافتراضي. فالنص لا ينتج من غير أخر، ومن غير منظومة
متكاملة، ترجعنا إلى أسباب ظهور الرسومات، والإشارات، والحروف، ولكنه ليس سلعة إلا
عندما تمتلك السلعة (ذاتها) قدرا ً لا محدودا ً من الميتافيزيقيا ـ على حد قول
لماركس ـ ولكن هذا ليس أداء ً سحريا ً، وإن لا يمكن نفي اللاإرادي فيه، بل مسعى
لتحرير الأشياء من صنميتها، ووثنيتها.
على ان انحسار القراءة في الوطن
العربي ـ مع ان عدنان المبارك لم يكترث لها رغم ان نسبتها مروعة حيث لا تتجاوز
الست دقائق في العام بحسب احد التقارير ـ إشكالية حقيقية، فلمن يكتب الكاتب، وهل
ثمة مشروع مناسب في مواجهة ارتفاع عدم المتعلمين، وهل يكتب الكاتب للنخب المتخصصة،
من هي، أم إنها هي النخب المشتتة،
والموزعة على المنافي...، أم يكتب الكاتب إشباعا ً لرغباته الكامنة...الخ..؟
في الحالتين تكون الكتابة قد
تحولت من النشر الورقي نحو الوسائل الالكترونية، وغدت تؤدي الدور ذاته التعويضي
للمسرح وهو يتكيف مع التقاليد السينمائية في الإخراج، والتصوير، وفي العرض عبر
البث التلفزيوني.
هنا تكون العين هي المتلقي، فالقارئ
لم يمت بعد ـ كما بعد موت المؤلف وموت النص ـ فهو مراقب...، ولكنه متحرر من
الضرورة، فالاختيارات القديمة نسفت، فهو ـ بدوافع خارجة عن إرادته ـ يجد مبتغاه في
قراءة نصوص تلبي رغباته، وليست بالضرورة إلزامية، وواجبة.
وعندما تذكر بعض المواقع عدد
المتصفحين لها، فإنها ـ هي الأخرى، تموه ـ لأن التصفح ليس القراءة بمعنى الحفر.
وهنا تتسع الإشكالية، ومشكلات التواصل. فالأدب، بتنوع موضوعاته، لم يغادر الصدمات
المبكرة: الكائن وهو يتعرض للانتهاكات، والألم، والفناء. ولأن الموت لا يجد توازنه
أو معادلة بالولادة، إلا كآلية واقعية لا بدائل لها، فان موت القاريء يوازي ـ في
عمليات الإنتاج ـ مفهوم أو نسق الاستهلاك ـ والاندثار.
هذه الإشارة لم تغب عن نصوص
الكاتب، ليس صدمته من غياب (العدل) والتشريعات العادلة، أو آفة الزمن، والإنسان
بوصفه مقذوفا ً، منفيا ً، معاقبا ً، أو بوصفه عرضا ً مرضيا ًحسب، بل لأن الكتابة
تحولت إلى أزمة، وهي تتقدم في طريق مسدود. وعندما يكون القاريء قد تحول إلى عابر ـ
أو سائح، أو غير مكترث للكوارث الحاصلة يوميا ً ـ وقد استحوذت على العدد الأكبر من
المتابعين ـ فان الكتابة ستكون جزءا ً من عصر حمل عنوان: حرية السوق. ذلك لأن الأرباح
ستعيد بناء النظام التراتبي، باليات أكثر إحكاما ً، فهناك أعلى الهرم إلى جانب قاعدته اللا مرئية بوجود
مليارات لا تتمتع إلا بوصفها عاشت حياتها بالمرور.
لكن اختيار عدنان المبارك
للرسم ليس اعترافا ً بان المآزق ستبقى قائمة إلى الأبد، على صعيد الكتابة، وإلا
لكان قد أهملها، وانشغل بتسليات تتناسب مع عصر الرفاهية، وليس لأن الرسم بمثابة
وقفات استراحة، أو معادلا ً مع خصوصية أفكاره، وإنما لأن الرسم يختزل السرد ـ
الحركة/ المسافة/ الخبرة، ...الخ ـ إلى عين تمارس البث، في مسعى لبناء العلاقات
بين الذات ـ والآخرين. هذا إذا كانت أصابع (الكاتب) ستستخدم تقنيات الاتصال
الحديثة وهي تغادر تقاليد، وعادات، الأصابع في انجاز العمل الفني,
[6] من السرد إلى الصمت: العلامة
وباثاتها
ربما لم يعد الجدل الذي دار بين دافنشي ومايكل أنجلو، قبل ستة قرون، حول
أيهما أكثر تكاملا ً، الرسم أم النحت، وأيهما يمتلك ما لا يمتلكه الآخر، فضلا ً عن
الاستعدادات الفطرية، والأخرى المكتسبة، المستحدثة، في الصياغة ....، ربما لم يعد
هذا الجدل مثيرا ً إلا بحدود المشتغلين في الفلسفات الجمالية، بعد ان بدأ وجود
الفلاسفة يزداد ندرة. ولكن الثنائيات ليست قانونا ً مستحدثا ً، فالجدل سابق على
عناصر الاشتباك، مما جعل المفارقة لافتة للانتباه، حيث (المستحدث) يحدث بفعل الجدل
وشروطه، من غير إغفال ان التراكم يحدث خرقا ً في الثوابت، وقد اكتسبت عناصر
دهشتها، من غير تكرار أو ملل.
وهنا يأتي اختيار عدنان المبارك
لفن البورتريه مشروعا ً مستمدا ً ليس من تقاليد هذا الفن حسب، بل من المرآة التي
تراكمت فيها الوجوه ـ والأزمنة، كي يحافظ على شرعية الاستنطاق، والتأويل في
مساحاته غير المكتشفة. فالمرآة هي المتحف/ الذاكرة..الخ، لأنها هي الذات إزاء ما
لا يحصى من الذوات. فالكاتب لا يسرد ولا ينطق، لا يجادل ولا يعترض...، انه يصوّر أناه
تارة محمّلة بماضيها، وتارة تستحدث مشاهد مهمتها لدى المتلقي ان يعيد رسم ما رسمه
الكاتب/ الفنان. فيما الثنائيات ـ وهي
مركبة وزاخرة بمضاعفاتها ـ ستشكل فعل الدهشة، والصدمة، وتأويل العلامات.
لنتأمل الإشكالية التالية التي
ستتحول إلى معضلة، والى: ظاهرة، بوصفها كامنة في الماضي. ففي الحضارات (الجمعية)
ليس ثمة وجه يمتلك أكثر من خصوصية ممثل (الجماعة) أو رئيسها، فالمتلقي يتعرف على
وجوه هؤلاء الذين غابت الوجوه فيها، بدءا ً بالفرعون وانتهاء ً بمن مثله ـ عبر
العصور ـ وصولا ً إلى عصر الشركات، في العالم الحر، وأسواقه ذات الأبواب المشرعة.
فالذات الجمعية تفقد ملامحها
باندماجها في النموذج. ولعل أقدم ظهور للوجه الرمزي يرجع إلى وجود ذلك العدد
الهائل من الآلهة، حيث بلغ، في سومر ـ على سبيل المثال ـ خمسة آلاف اله. أي خمسة
آلاف وجه! فقد كان لكل أداة، وعنصر، وفعل...الخ، من يشرف عليها، ثم، باندماج
القرى، وأسواقها، سيتقلص العدد حتى لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كي لا تتوقف
التعددية، حتى بسيادة الأحادية ـ بعد ظهور اخناتون والديانات العظمى ـ بالإله
الواحد. لأن لكل كتلة بشرية، ولكل ذات، تصورها الخاص، مع ان أحدا ً لم يمتلك إلا
تأويلا ً للوجه الإلهي.
هذه ـ في الأصل ـ معضلة المرآة
التي رأى نرسس وجهه فيها، وهي معضلة لها تاريخ أقدم، حيث كان الرائي يرى الآخر
بوصفه جزء من كيانه، وليس جزء منفصلا ً عنه. وبتطور آليات الدمج، وتحول العالم، من
مدن، وأمم، وقارات، إلى قرية صغيرة تحكمها طرق التجارة، وتحركها رؤوس الأموال،
والتصوّرات، فان الكل بدأ يتصدع بظهور الأنا ـ وهي تتمتع بالاستقلال بعد انفصالها
عن الذات الجمعية ـ لتؤسس نزعتها في مواجهة الاندماج، والانصهار في الوجه الجمعي
الذي يمثله (القدوة)، أو من اعتلى الهرم في النظام التراتبي.
فهل حقا ً لا وجه هناك، إلا وجه
الإله الذي لم يره احد، وقد مثله خليفته فوق الأرض، الإنسان المعرض، في كل جزء من
أجزاء الحركة، للتلف، والاندثار، أم ان واقعية الظواهر ـ بعد المرآة ـ منحت
المعرفة دمجا ً لا يمتلك إلا ان يذهب ابعد من رسم ـ الوجوه، وان المعضلة ستبقى
بحدود ديمومتها، حيث كان لظهور (الأنا) ـ مقدمة للتطور بمعنى للتشذيب والتحضر ـ
ذاتا ً تكمن فيها التجربة بشموليتها، وليس بفرادتها، وتفردها...؟
فالمثال ـ هنا ـ يذكرنا بان لا وجود لأية ذرة تماثل ذرة أخرى،
فهل ـ منطقيا ً ـ هناك وجه واحد تتمثل فيه الوجوه كافة...، كما نحكم على الأنواع
النباتية أو الحيوانية من غير دراسة ذاتيتها، أم العكس، أي انشقاق الوجه الفردي عن
الوجه (الجمعي) ليتمتع بانشغالات مستحدثة، عن الحتمية، وأنساقها...؟
الوجه الذي اختاره عدنان
المبارك، لم يأت مصادفة، فهو (وجه) من بين المليارات الغائبة، والحاضرة، والتي
ستغيب. انه ليس الصورة الافتراضية، ولا الرمزية، ولا الباذخة...، بل صورة الكاتب
بما تضمنته، وبما لم تعلن عنه: فهو لم يدوّن بالكلمات ما رغب ان يقدمه إلى
المتلقي، عبر نظام اللغة، بل استخدم العناصر ذاتها ـ بالانتقال من عمل الأصابع إلى
الكومبيوتر ـ لدمج أقدم التصورات بآخرها: الوجه ـ المتمثل بالبصر ـ وليس بالسمع،
كي يقودنا إلى أكثر المعضلات استحالة على التفكيك: استحالة تماثل الوجوه، بما
تتمتع به من مخفيات، ككل عنصر باختلافه عن الآخر، وكأنه ينفي مقولة سقراط (لا جديد
تحت الشمس) بجديد يستحق المشاهدة!
فعدنان المبارك لا يحاكي، ولا
يكرر، أي انه عمل على قلب قانون (الاستنساخ) إلى آخر استمد نظامه من مشفراته كي
يستحدث (الجديد) بأسئلة لا تبحث عن تأويلات ـ ولا إجابات، بل كي تحافظ على كيانها
الظاهراتي، بديمومة ملغزاته. فالوجه لم يعد وجها ً جمعيا ً، مع انه محمّل بنظامه
كاملا ً، باساه وطرافته، بفجيعته وشروده، لصراحته وغرائبيته....، ولم يعد ممثلا ً
لتصوّرات ذات صفة محددة...، بل ثمة دينامية تسمح للمتلقي ان يثب من مشهد الرائي
إلى مشهد: الزمن ـ المرآة. ذلك لأن نرسس لم يكتشف حاضره، وكيانه، بل اكتشف قيوده
أيضا ً: ان المرآة ـ الشبيهة بالزمن ـ تستدعي قانون الجحيم: هل من مزيد...؟
ان الكاتب نفذ أعماله بغزارة ـ
وهذا تأويل يؤكد سابقه ـ وكأنه وجد استجابة لنداء المرآة! المزيد من المثابرة
للبرهنة على ان قانون الاندثار ليس أحاديا ً، لأن الانبثاق يغدو وعيا ً بكل هذا
الذي يضع المصائر فوق بركان!
ولا مناص إنها معضلة معاصرة ـ
إي لها مذاق فاتحة الألفية الثالثة ـ حيث المصائر اندمجت بالتحولات الكلية، ليس
باستخدام تمويهات الديمقراطية حسب، بل لأن مبدأها ـ كبديهة ـ يرجع إلى الثنائيات.
لكن (التفرد) يغدو تذكارا ً ليبدو من أكثر (البديهات حضورا ً، رغم دخولها
الذاكرة)، انه استذكار بداهة (التفكير) في الثنائية، بأدق مفاصلها، وتفاصيلها، مما
يعيد للجحيم حضوره، إنما عند ذات لا تغفل لغزه، بل تمنحه شرعية الامتداد ـ وحتمية
الديمومة.
ها هو الجديد ـ المستحدث، يفصح
عن مشهد الذات المعاقبة! فالصدق لا ينتظر إسنادا ً، أو عونا ً، انه موجود كي لا يأخذ
طريقه إلى الزوال، بل ليجعل من الأخير علامة قراءة. أليست الصور التي رسمها
(كرفاجو) لنفسه، لا تمثل إلا نقدا ً لاذعا
ً للتمويهات التي قامت عليها العصور المظلمة، وانتهت به كمصير بذرة كررت نسق
أساطير ديموزي في وادي الرافدين، وبورتريهات رامبرانت بما أخفته من لوعة كامنة في النور،
وليس في الظلمات، إلى جانب مشروع فان كوخ، مرورا ً بنولده، مونخ، والتعبيريين،
وليس انتهاء ً بفرانسيس بيكون، بل بكل ذات تمسكت بما كان يكويها، عبر ثنائية:
الأعلى ـ والأسفل..، الصواب والخطأ الجمعي، الحرية وهي تستحدث ذاتها بقيود ما لا
يحصى من الكوابح ...الخ، لأن الاستثناء في نهاية المطاف لا يمكن عزله عن القانون.
فهل ثمة لغز مستحدث يماثل إرادة التوغل في هذا المسار:
ديمومة الذي لا يدوم، بعلامات تضمنت محنة ولدّت إجابات لا كي تبلغ خاتمتها، بل كي
تحافظ على عوامل تدشيناتها، ومقدماتها، بهذا الانعتاق، الشبيه بوجه يحدق في
المجهول!
[7] مشفرات الأثر
أصبح عمل الأصابع ـ عند الرسام
وعند الكاتب ـ متخّيلا ً. ربما تماثل الحياة الافتراضية، أو بوصفها مستقبلا ً
مؤجلا، أو مكّونا ً من مكونات الحلم، أو عالم الأطياف. فلم تعد هناك ورقة، ولا
استخدام للقلم ـ المسمار في الكتابة السومرية ـ بوصفه أداة للحفر. فالأثر برمته لم
يعد صلبا ً، وانحيازه للزمن جرجر المكان معه باتجاه الآخر؛ الفضاء.
الا يؤكد هذا المنحى ان عدنان
المبارك قد سمح (لاختياراته) ـ ولتسلسل المنطقي للتجريبية التي ستبلغ ذرتها عند
عمل العين بالاستثمار الرمزي للأصابع ولباقي الحواس ـ بمنح مساحة التعبير اتساعها
في الفضاء. فلا ضرورة إلا لالتقاط الأثر عبر الشاشة، كي تمنح قراءة النسج بما
تضمنه من تزامنات ـ بمعنى تراكمات ـ وبمعنى ابعد التي تكونت فيه النشاطات المتعددة
للحواس في وقت واحد.
فالخبرة اللغوية لدى الكاتب
كانت قد تبلورت من: الصورة ـ السينما، كي تغدو متجاوزة للحركة، وأبعادها الثلاثة: الطول/
العرض/ العمق، بمنح الفضاء (الواقعي)
حضوره البديل. فالزمن سيغدو الباعث عن وجوده في الحيز، بعد ان كان الحيز أسير
الزمن. لكن هذا لا يعزل ـ كعلاقة قائمة على العلل ـ ان الإنسان تحول إلى علامات
افتراضية ومتخيلة، لأن (التعبير) لم يعد لغويا ً أو جسرا نحو الآخر ـ بواسطة اللغة
ـ بل جسرا ً للإقامة بمجموع مكونات الصورة. إننا لسنا إزاء فلم نكتشف فيه تراكم
التجارب والوسائل والنتائج إلا ليمنح المتلقي اللغز ذاته الذي تشكل مع أقدم
الأشكال فوق جدران الكهوف.
ولأنه لا مجال لعزل الأشكال عن
محركاتها، وعزل المكان عن زمنه، بمعنى لا أسبقية خاصة لوظائف الأعضاء، فان
(الذهني) سيعمل على مناورة المعنى نحو انعتاقه من الأسبقيات. وكي لا نستبعد مفهوم
اللعب ـ عند شيلر ـ فان بوذا كان قد لخص علّة الحضور ـ الوجود، بالرقص!
هنا يكون عدنان المبارك قد أعاد
بناء ضفتي الجسر ـ بين السينما والرسم ـ عبر الذهني الخالص، مع انه سيحافظ على ما
يمتلكه التعبير من إرسال ـ بحثا ً عن آخر، لكن الآخر، لا وجود له، عندما نكون قد
استغنينا عنه لصالح ما هو ابعد من حدود لحظة التنفيذ، ذلك لأن اللغوي تضمن الخبرة
البصرية، مثلما ستكون الأخيرة قد صهرت الوعي عبر المرئيات، فان هذا النفي للمسافة
سيمنح القوانين ذاتها توازنات لبناء النص الفني. لأننا عند قراءة الصورة سنجد
الحواس وازنت بين عناصرها وبين نظامها البنائي في الأخير: النص، حيث الوظائف كفت
عن المطالبة، والتساؤلات، مثلما كفت ان تكون إجابات تامة.
على ان خبرة الرسم من غير أصابع
وخامات تقليدية لن يقارن بالدعوة لتحرر الرسم من المعرفة ـ والتدريب ( حيث شاع ـ
كباقي مظاهر القرن العشرين وموضاته وعلاقة هذا السياق بمبدأ تجدد السلع وعلاماتها
) بل كي لا تنغلق المعرفة عند التعبير ـ والبحث عن الآخر، بدافع التضرع أو مد
العون.
وإذا كان المتلقي لا يكترث
كثيرا ً للصانع وأهدافه وفلسفته ورؤيته وخبرته إلا بحدود النص وقد غدا قيد العرض
عالميا ً بعيدا ً عن حدوده المكانية، فان هذا لا يقلل من ان المتلقي (ذاته) يواجه
(الإشكالية) ذاتها لدى المؤلف: كالزمن أو المرض أو أي لغز من الغاز الوجود، أو
الموجودات ..الخ، وإلا هل باستطاعتنا القبول بما سرد من أساطير، إلى أخرى، وصياغة أفكار
اقل عرضة للهدم، لولا إنها أدت مفهوم الجسر ـ للعبور ـ ومفهوم الجسر ـ للإقامة ـ
ومفهوم الجسر الذي مكث يمنحها قدرات لم تكبحها هذه العثرات، أو هذه الاعتراضات
...؟
ففي نصوصه ـ على سبيل المثال ـ ذاكرة
لم تغب الصور عنها بوصفها احد مظاهر البيئة (الايكولوجيا)، بحدة ألوانها، وقسوة
أشكالها، وقد استمدها من بيئته التي كونتها حافات البحر بحافات الصحراء، بالحوار
المتعدد الثقافات، داخل مدينة أسست حداثتها مع المشروع اللغوي، وبما أسسه معتزلة
البصرة، من منح (العقل) مكانة في مواجهة التأجيل، والإرجاء، والتوكل، ومنح (العمل)
احد أكثر المفاتيح صياغة للدرس الوجودي (الانطولوجي) في الفلسفة، الذي أنتج تنويعات كبيرة للحرف
والصناعات الشعبية، والمعمارية، ولشق الممرات المائية وتنظيمها، فضلا ً عن بروز
شخصيات فكرية لها مكانتها في التصوف، والكلام ..الخ، وقد وجدت حضورها عبر اختزال
السرد نحو الأشكال وقد اكتنزت فيها هذه المكونات. فالتاريخ (كتراكم خبر/ وكمتحف)
لم يصبح ثقلا ً، أو انشغالا ً بالهوية، والأسلوب، بل احتفاء ً لا مباشرا ً بمنح
الاختزال الإيماءات التي توخت لغة جامعة للغات: لغات السرد، الهمس، والصمت...،
بلغة لم تنتظر الترجمة، ليس لأنها فكت قيودها مع التاريخ، كي تمحوه، بل لكتابة
عبور يأخذ مداه في صياغة حياة لا يكون المنفى مكانا ً تعويضيا ً للتاريخ، بل
حلقة تقود إلى الفضاء، وهو مشروع مكمل ليس
لعالمية الفن، بل للعالمية التي أنشأتها خصوصية التجربة، كي تكون نقيضا ً للسلعة
المفرغة من الحضور الإنساني، فالرسومات أطياف سمحت للسفر ان يكون إقامة، وليس
غيابا ً. ثم ان التشبع بالموروث الشعبي، وتنويعاته، ورمزيته، سيقود إلى اغناء
البورتريه، كعلامة اكتنزت بمخفياتها النائية، ولتقود الكاتب لمنح العلامة دورها
عبر العين، وليس عبر الكلمات حسب، كي ينسجها بعناصر الرسم، ويمنحها ذروتها:
جمالياتها بما اخفت من أصوات، وأزمنة.
وها هي النصوص تبوح، ولا تتكلم،
تفضح ولا تكتم، ترتد وتتقدم خارج حدود مساحتها الفضائية، إنما، هي النصوص الفنية
التي صاغها فنان تولع بالسينما، واللغة، وصاغ من الرسم خاتمة لم تلغ إنها تؤدي دور
المقدمات. فهي أنجزت بحدود ستذهب ابعد من القيود، إن كانت لغوية أو تشكيلية أو
افتراضية خاصة بصياغة التجربة، بدوافع قبلية، أو بانتظار تأويلات قادمة، في
استكمال مسار لفعل (حدث)، أي غدا مستحدثا ً بأشكال (الصورة، وصولا ً إلى اللغة ،
والى عصر لا يغدو التعبير حيزا ً للعبور، والاستهلاك) لم تعد تمثل جنسا ً أحاديا ً بل انصهرت فيها
الأجناس كي تتيح لظهور مهارات تلقائية استثمرت تعددية (الجسور) وتعددية الغايات،
كي لا تكون الحرية هي مجموعة قيودها، بل كي تغدو القيود اقل تزمتا ً في صياغة
تمويهات على حساب الحضور وهو يعيد حمل الأثقال التي لم يحملها كما حملها الإنسان،
وراح يدوّنها، مثل المحو وقد ترك نهاياته قائمة في أثار الإنسان النائية.
9/9/2014