الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

العرب بلا عنوان:المأساة بإختصار-بقلم د. لبيب قمحاوي


 Dec 9 at 1:37 PM
العرب بلا عنوان:المأساة بإختصار
بقلم          
د. لبيب قمحاوي

من الخطأ الأفتراض أن الوضع المأساوي الذي يعيشه العالم العربي الآن قد جاء بشكل مفاجىء أو نتيجة لأسباب تعود الى الوضع الذي مرت به المنطقة مؤخر،بل هو محصلة مسلسل طويل وتراكمي من الأنتهاكات للثوابت العربية وعلى مدى اكثر من ستة عقود أدت بنا الى ما نحن فيه الآن من مآسي و كوارث.

الأحداث المتلاحقه والتطورات السلبيه مؤخراً فرضت على المواطن العربي مسارات ليست من صنعه أو إختياره ووضعته بالتالي أمام مجموعة من الخيارات التي لا تعكس بالضروره مصالحه سواء جزئيا أو كلياٴ. واختلاط الأمور هذا أدى الى أن تفقد البوصلة السياسيه قدرتها على تحديد الأتجاه الصحيح، وهكذا تختفي الخسائر الحقيقية  والكبيرة للعرب بين أكوام من التفاصيل الصغيره التي لا تعكس أي قيمة وطنية أوقوميه أو استراتيجيه.

انهيارمنظومة الثوابت العربيه الرئيسيه تم على أيدي حكام و قيادات فاقده للأحساس بالمسوؤلية الوطنيه والوازع الأخلاقي ولا يهمها سوى مصالحها الأنانية وديمومة تلك المصالح . وانتهاك هذه الثوابت هو بمثابة تدمير للأسس التي تحمي الأمه و مستقبلها   ومصالحها. ومن المؤسف أن معظم هذه الثوابت قد تم انتهاكها بالحد الادنى من الاعتراض الشعبي. وقد يعود ذلك الى جهل أو عدم درايه بما يجري ، أو لكون تلك الأنتهاكات قد جاءت مغلفة بعناوين أو شعارات لا توحي بحقيقة المضمون وماهيته.
ولابد من الأعتراف هنا أن غياب الديمقراطية وتمادي الانظمه العربيه الحاكمه في استبدادها واستعبادها لشعوبها قد جعل من انتهاك ثوابت الأمه أمرا ممكنا اذا ما توفرت النية لدى تلك الأنظمة لفعل ذلك.

أول وأهم الثوابت التي تم انتهاكها هي مركزية قضية فلسطين وحقوق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه ووطنه. وقد تم هذا الأنتهاك ابتداءً بأيدٍ عربية من خلال معاهدة السلام في كامب ديفيد التي أدت الى خروج مصر من معادلة الصراع. وقد أعقب ذلك توقيع اتفاقية أوسلو بين نظام الحكم الفلسطيني بقيادة ياسر عرفات و اسرائيل. وقد أدت هذه الأتفاقية الى بدء مسلسل التنازلات الفلسطينيه الأستراتيجية و العلنية مقابل تنازلات اسرائيلية شكلية. وفتحت هذه التنازلات المجال أمام  دول عربية أخرى مثل الأردن لتوقيع معاهدةْ سلام منفرده مع اسرائيل،  وأمام دول عربيه أخرى مثل بعض دول الخليج العربي والمغرب العربي لأقامة علاقات شبه دبلوماسيه صامتة مع اسرائيل، وكذلك تبادل الزيارات بين المسؤولين في تلك الدول، والتعاون في مجالات استخباريه وأمنيه مع اسرائيل، وكل ذلك مجاناً ودون أي تنازل من اسرائيل .

الثابت الثاني الذي تم انتهاكه هو وحدانية الهوية العربيه كتعبير سياسي جامع لشعوب الأمه العربية. وخلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين لم يتجرأ أي حاكم أو مسؤول عربي على التنصل علناً من عروبتة و إنتماءه القومي سواء كنظام حكم أوكشعب أو كدوله ، الى أن تمت الدعوة الفاشلة لانشاء الحلف الأسلامي في منتصف ستينات القرن الماضي وما تبعها من الأعلان عن إنشاء مجلس التعاوني الخليجي في 25 ايار1981 الذي شكل الخطوة الأولى في اتجاه التغاضي عن الهويه العربيه و تقديم هوية سياسية جديده للدول المنتمية الى ذلك المجلس وشعوبها وهي بالتحديد الهويه الخليجية. من جهته حاول أنور السادات طرح الهوية الفرعونية لمصر عقب اتفاقات كامب ديفيد الا أن تلك المحاولة فشلت لعدم وجود أرضية واقعية لها أو قبول شعبي بها. ولكن تبقى المحاوله الخليجيه هي الأخطر حيث وفرت نوعاً من الشرعيه وقدمت السابقة لمحاولات مماثله للأنقضاض لاحقاً على الهويه العربيه أو السماح بتفكيكها الى هويات فرعيه أو مذهبية. وما نشاهده الآن من هجمه شرسه على الهويه العربيه ومحاولة استبدالها بهويات مذهبيه وطائفيه انما هي نتيجة حتميه للمحاولات المستمره لأضعاف الهويه العربيه. إن استبدال الهويه العربيه بالهويه المذهبيه كأساس للأنتماء السياسي سيؤدي بالنتيجه الى تقسيم الدول العربيه وإعادة تشكيلها الى كيانات هزيلة طائفية أو مذهبية تتبع قيادات دينية في دول أخرى قد لاتكون عربية .

الثابت الثالث الذي تم انتهاكه هو الألتزام بحل المشاكل والخلافات العربيه بالوسائل السلمية وبأيدي عربيه وضمن مؤسسات النظام العربي و أهمها الجامعة العربيه ومؤسسات العمل العربي المشترك .  وقد نجح هذا المبدأ بشكل واضح في البداية عندما تم استعمال المظله العربيه لوقف الحرب المحتمله بين العراق و الكويت في عهد الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم عام 1961. وفي المقابل فإن هذا المبدأ قد سقط        في عدة اختبارات كان من أهمها الصراع المصري- السعودي في اليمن والنزاع        المغربي- الجزائري حول الصحراء.

الثابت الرابع الذي انتُهِكَ بوحشية كان مبدأ عدم جواز احتلال أي أرض عربية بالقوة من قبل أي دولة عربية أخرى. و اكبر مثالين على ذلك كانا احتلال سوريا لدولة لبنان، والذي ابتدأ كقوات حفظ سلام عربيه بغطاء عربي لينتهي كإحتلال سوري فعلي ومباشر للدولة اللبنانيه . والمثال الثاني بالطبع هو احتلال العراق لدولة الكويت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين. وفي كلتا الحالتين أدى ذلك الأحتلال الى تولد حالة واضحه من الأستقطاب في العالم العربي، وأدى الى تحول الأهتمام الشعبي العربي في إتجاه معالجة ذيول تلك الأحتلالات عوضاً عن التركيز على الأخطار القادمه من الخارج مما أفسح المجال لقوى غيرعربيه للتسلل الى داخل العالم العربي وبدء مرحلة إعادة تشكيله .

أما الثابت الخامس والقاضي بعدم المشاركة أو التعاون مع اي قوة غير عربية تقوم بالأعتداء العسكري على دولة عربية، فقد تم انتهاكه أكثر من مرة. والانتهاك تم مباشرة و بشكل علني من خلال المساهمه العربية في الاعتداء الاول على العراق عام 1990 انطلاقاً من "حفر الباطن" في السعوديه وبمشاركة عربية واضحه . وقد تبع ذلك الحرب الثانية على العراق بمشاركة عربية عام 2003 حيث تم احتلال هذا البلد العربي وتدميره وتفكيك مؤسساته وتقسيمه على أسس مذهبيه وعرقيه . ولم تقف الأمورعند حدود التدخل العسكري المباشرمن قبل دول عربيه ضد أخرى، بل امتدت للمساهمه بشكل غير مباشر  وغير معلن من قبل بعض الدول العربيه  في تسهيل عمليات تجسس دول غير عربية على دول عربية أخرى ،أو تسهيل العدوان على منشآت عربية استراتيجية مثل التسهيلات التي أعطيت من قبل بعض الدول العربيه للطائرات الأسرائيليه للقيام بعملية قصف المفاعل النووي العراقي . هذه الأنتهاكات المتكرره أدت إلى إسقاط قدسية وأولوية الأنتماء العربي وفتحت الباب على مصراعيه أمام التدخل الأجنبي العسكري المباشر في العالم العربي مما رفع هالة القبح عن الأحتلال الأسرائيلي وجعله واقعاً منسجماً مع تطور الأمور في العالم العربي .

كما أدت هذه الأنتهاكات بالنتيجة الى خلخلة النظام العربي وتفكيكه تدريجياً خصوصاً وأنها ترافقت مع تسلم انظمه دكتاتوريه فاسده لمقاليد الحكم في معظم الدول العربيه مما أدخلها في حلقه مستعصية من التخلف والأنحطاط وعزز عوامل التجزئة والتخلف فيها، الأمر الذي سهل على قوى إقليميه ودوليه الأنقضاض على أشلاء العالم العربي والتلاعب بثوابته والأمعان في تمزيقه ونهب ثرواته.

هذا عن الواقع  الذي نعيش بدون مواربه. فكيف يمكن أن ننطلق من الواقع الحالي الى مستقبل أفضل ؟

إن المضمون الرومانسي للقوميه العربيه الذي ميز حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والمد الناصري الذي رافقها شَكلا خطر على العديد من الأنظمة العربية الحاكمه في ذلك الحين الى الحد الذي أدى بها الى اعتبار العروبه و المد القومي و الوحده العربية المنشودة أخطاراً يتوجب عليها مقاومتها بإعتبارها تهديداً لوجودها. وقد لجأ العديد من تلك الدول مثل السعوديه والأردن الى الأستعانه بالأسلاميين وحركة الأخوان المسلمين لمقاومه التيار القومي باعتبارالأيديولوجيه الأسلامية النقيض للفكر القومي العربي .وقد قامت تلك الحركات الأسلامية بالتصدي فعلاً للتحركات الجماهيرية المطالبه بدولة الوحده .

ان إعادة تعريف الثوابت والمصالح المشتركه بين العرب  والأنتقال بها من المضمون الرومانسي الذي ساد في منتصف القرن الماضي الى المضمون العملي والمصلحي هو نقطة البدايه الصحيحه لأعادة بناء النظام العربي. وهذا المطلب لا يهدف الى المساس بالرابطه القوميه أو إلى اضعافها بقدر ما يهدف الى تقويتها من خلال تبيان أهمية هذا الرابطة كونها تعبرعن المصالح المشتركه بالنسبه للجميع وأنها بالتالي لا تشكل خطراً على أي نظام لأنها انطلاقاً من هذا المفهوم  تصبح تكامليه وليس إحلاليه . وما كان مطروحاً في حقبة الخمسينات يجب أن يُعاد النظر به بحيث لا يعني تأكيد الرابطه القوميه رفضاً للدوله القطريه ولا يعني تحقيق الأمل الوحدوي إلغاء الواقع القطري ومكاسبه. واقع الأمور والتطورات الدوليه أكدت للعرب والدول العربيه أن التعامل مع المنطقه لا يتم من خلال الدوله العربيه القطريه بمعزل عن عمقها العربي بل أن الأستهداف والخطر هو على المنظومه العربيه بشكل عام . فدول الخليج مثلاً تعلم الأن جيداً أن الأحتماء خلف أسوار مجلس التعاون الخليجي والهوية الخليجيه لن ينفع لأن الأخطار المحدقة ببعضها خصوصاً السعوديه والكويت والبحرين تأتي من خارج المنطقه العربيه ، وأن عمقها الأستراتيجي الحقيقي الحامي لها هو في المنظومه العربيه. كما أن خطر الانشقاق المذهبي بين سنة وشيعه هو في طريقه لأستبدال الهويه العربيه أو حتى الخليجيه لتلك الأقطار بهويه مذهبيه. وهذا من شأنه- إن حصل- أن يشق السعوديه ويشتت بعض دول الخليج مثل الكويت والبحرين٬ ويضعها جميعاً تحت خطر التقسيم أوالهيمنة الأيرانية.

الصراع على العالم العربي حالياً يأخذ أشكالأ مختلفه ويعبر عن نفسه بطرق متعدده ، ولكن المحصلة النهائيه ليست في صالح العالم العربي خصوصاً أن السياسات العربيه ليست أفعالاً بل هي ردود فعل لأفعال الأخرين .

لقد فشل العرب حتى الآن في ارغام الآخرين على تبني سياسات تنسجم مع المصالح القطريه للدول العربيه ناهيك عن المصلحه القوميه . والسبب الأساس في ذلك يعود الى العرب أنفسهم ، والى أنانية حكامهم التي ضحت بالمصالح الوطنيه والقوميه من أجل مصلحة هذا النظام أو ذاك . وعلى أي حال ، فإن انتهاك الثوابت التي شكلَتْ أساس النظام العربي وحَمَتْه لعقود قد أدى بالنتيجة الى خلخلة ذلك النظام واضعافه الى حد الأنهيار . نحن نشهد الآن تواصل انهيار النظام العربي دولة اثر دولة ، الى الحد الذي قد يصبح فيه العرب بلا عنوان ، ومجرد كمٍ بَشَرِي يعيش على أراضٍ مُبَعْثَره حُكْمُها لمن غَلَبْ.


السبت، 7 ديسمبر 2013

بالروح بالدم نفديك يا شلال

بالروح بالدم نفديك يا شلال
 
 
كاظم فنجان الحمامي
 
هكذا تضحك الأقدار من الإمبراطوريات المتجبرة, وهكذا يسخر الدهر من الملوك والحكومات والساسة, فيخرج رجل عربي من الشام (من شهبا) ليحكم روما وهي في أوج عظمتها البيزنطية (242 – 249م), حتى قالوا أنه بسط سلطته على نصف الكرة الأرضية على مدى خمس سنوات, ثم تدور الأهلة دورتها عام 2013م, فيخرج رجل من بغداد ليحكم واشنطن, في الوقت الذي تتحكم فيه قلعتها البنتاغونية بزمام النظام العالمي الجديد.
وليعلم الساسة في العراق: أن العراقي الذي سيفوز بالانتخابات الأمريكية (Preview, ليصبح عمدة لعاصمتها, هو أنس بن أحمد بن شاكر بن شلال, لقد فاز هذا الرجل بحب الناس هناك من دون أن يضطر لتوزيع البطانيات والجليكانات والبطاريات في حملته الانتخابية, ومن دون أن يتظاهر بالورع والتقوى, ومن دون أن يعلق صوره البراقة على أعمدة الكهرباء وفوق الجسور والقناطر والأرصفة وعلى واجهات المدارس, ومن دون أن يغلق الطرق المؤدية إلى بيته.
ولد (شلال) ببغداد في الأسبوع الثالث من الشهر الثالث من عام 1955, وكان والده أستاذاً في قسم اللغة العربية لجامعة بغداد, وله عدة مؤلفات, أشهرها (الخيام عصره ورباعياته), ثم ترشح في الستينيات ليعمل بدرجة سفير, ويمثل العراق في اجتماعات الجامعة العربية, لكنه قرر الهجرة مع عائلته, فغادر العراق نحو القارة الجديدة عام  1966 لأسباب سياسية, واستقر في ولاية فيرجينيا. أشترى فيها مطعماً صغيراً لتقديم البيتزا, وكان هو الذي يديره بنفسه, فتعلم (شلال) من أبيه أصول العمل الشريف والتعامل المرن مع الناس.
نشأ (شلال) وترعرع في فيرجينيا, وتخرج في الجامعة الكاثوليكية الأمريكية, التحق بعدها بجامعة هاورد الطبية, وعمل في المعهد القومي للصحة بدرجة باحث في علم المناعة.
حمل (أنس شلال) (Previewأسماً أمريكياً ثانوياً متناغماً مع المجتمع الفيرجيني, فهو عندهم (آندي), ترك مهنة الطب وعاد لإدارة مطعم والده, ثم أسس عام 1987 مطعما شعبياً لأكلات البحر الأبيض المتوسط, وأفتتح عام 2000 (مشويات لونا), ومطعم (ميمي), وتوسعت أنشطته الاستثمارية فافتتح عام 2005 مطعم (الشُعراءُ والنُدلُ), فاشتهر النُدلُ (جمع نادل) في هذا المطعم الشعبي بتقديمهم أشهى الأطباق على أنغام المعزوفات الشرقية الخفيفة المرافقة لأجمل القصائد الشعرية, وتزينت الجدران بأرقى اللوحات الفنية التي رسمها (شلال) بريشته, فحمل مطعمه نكهات القوافي والتوابل والفنون الجميلة, ثم أفتتح عام 2007 فرعاً آخراً لمطعم الشعراءً والنُدلُ في تكساس, وافتتح فرعه الثالث عام 2008 في واشنطن, والرابع في هياتسفيل.
رسم (شلال) أكبر وأجمل الجداريات الفنية من دون مقابل, توزعت جدارياته على مساحات شاسعة في المراكز العلمية والثقافية المرموقة, رسم فيها الزعيم الأسود (مارتن لوثر كنغ), ورسم عضو مجلس الشيوخ الراحل (بول ولستون), ورسم لوحة كبيرة تصور الدكتاتور التشيلي (أوغستون بينوشيت) في أسوأ أيامه.
شارك (شلال) في تأسيس الحركات الشعبية المناهضة للعنف, وشغل المناصب القيادية في العديد من منظمات المجتمع المدني, فحصل على جائزة (أبطال الديمقراطية) عام 2010, وحصل على جائزة الأمم المتحدة للسلام, ونال لقب رجل العام من مركز واشنطن للسلام, وهو الآن في طريقه نحو احتلال أكبر المراكز القيادية في قلب الإمبراطورية الامبريالية, التي احتلتنا واستباحت أرضنا المقدسة, وسيسجل التاريخ صعود هذا البابلي الأسمر إلى سدة الحكم في البيت الأبيض, ليقود العالم على النهج الإنساني العادل, فالعدل أساس المُلك, وهو أجمل الأسماء الربانية, وأروع الخصال البشرية, وسيبقى شلال قدوة عراقية حسنة في انتخاباتنا البرلمانية المقبلة.
 

الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

حِران البعير العربي وخباله-كاظم فنجان الحمامي

حِران البعير العربي وخباله
 
 
كاظم فنجان الحمامي
 
باءٌ عينٌ ياءٌ راءٌ, أربعة حروف عربية, تظهر بأكثر من عشرين لفظاً متداخلاً في التركيب والنطق والمعنى, لكنها تتوحد تماماً عندما تنتظم خلف جدران سقيفة المتآمرين, فتتشابك بمفاهيم متقاربة من حيث التشفير اللغوي السياسي.
ولتوضيح هذا التداخل اخترنا منها هذه الاشتقاقات المتقاربة: (بعير), (عربي), (ربيع), (عبري), باعتبارها من عناصر المتوالية المأساوية, التي حمل فيها (البعير العربي) خناجر (الربيع العبري), فتمزق نسيجنا, وساءت أحوالنا من المغرب إلى المشرق, ووقف البعير فوق (تل) أبيب ليسجل للصهاينة انتصاراتهم علينا وبأيدينا, فالربيع ربيعنا وحدنا من دون كل الشعوب والأمم, والبعير بعيرنا ومن قطعاننا المعتوهة, والعرب عربنا ومن مضارب قبائلنا المتأمركة المتصهينة المتفرسة المتتركة, بينما تراقص العبريون فرحاً على إيقاعات معاركنا الطائفية المتفجرة من باب العزيزية إلى باب الزبير, ومن باب المندب إلى باب زويلة, وصدق عمنا نجيب محفوظ عندما قال: أتحدى إسرائيل أن تفعل بنا مثلما فعلنا نحن بأنفسنا.
لقد تلاعب بنا الزعماء العرب شاطي باطي, وتمادوا منذ زمن بعيد بمؤامراتهم الخسيسة المتواطئة مع أعدانا, فجلبوا لنا الخراب والدمار, وجلبوا لأنفسهم الخزي والعار.
زعماء فقدوا مروءتهم, تنصلوا عن عروبتهم, تخلوا عن إنسانيتهم, تجردوا من ضمائرهم, تفننوا في تدبير الدسائس والفتن ضد بعضهم البعض, ترسخت في نفوسهم رغبات التآمر, انعدمت في قلوبهم الرحمة, انشغلوا بالغدر والخيانة, أضرموا نيران البراكين الطائفية, أججوا النزاعات العرقية المنبعثة من مزابل التاريخ, فأسسوا مليشيات الحقد والكراهية من المجرمين والمرتزقة, وفتحوا لهم ترساناتهم الحربية, وأغدقوا عليهم الأموال الطائلة, ثم أمروا فقهاء السوء ليوفروا لهم الفتاوى المضللة المنسجمة مع تطلعات الأعداء, فمنحوهم شارات الجهاد ضدنا وعلينا.
لسنا مبالغين إذا قلنا: أنهم أنفقوا كل ما ادخروه من ثروات وموارد بترولية من أجل تغطية تكاليف العمليات الإرهابية الموجهة ضدنا, فالمبالغ الهائل التي أنفقوها, وماانفكوا ينفقونها, لتدميرنا وتشريدنا وتقسيمنا وتجزئتنا, تتجاوز في أرقامها الفلكية ميزانيات الكثير من الدول الأوربية, وتزيد على أضعاف ما تحتاجه الأمة العربية كلها من أموال لتنفيذ مشاريع البناء والتعمير لقرون قادمة.
ولسنا مبالغين إذا قلنا: أنهم حققوا لأمريكا ما لم تكن تحلم به من مكاسب ومخططات استعلائية, ومنحوا إسرائيل ما لم يخطر على بال شيطانها (هرتزل), وأنهم أسرجوا بعيرهم الأجرب في هذا الليل العربي الطويل, ووضعوا على ظهره حاويات ممتلئة بسموم العقارب المعبئة بحاقنات الأقارب, ثم أرسلوه في كل الاتجاهات, فجن جنونه في خنادق المؤامرات الأخوية, التي نفذها الأخوة الأعداء بمشاريعهم البعيرية العربية الربيعية العبرية.
والله يستر من الجايات
 

الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

عن دار المأمون البغدادية، احد مؤسسات وزارة الثقافة العراقية، صدرت رواية للروائي النيجيري "شينوا أنشيبي"



      عن دار المأمون البغدادية، احد مؤسسات وزارة الثقافة العراقية، صدرت رواية للروائي النيجيري "شينوا أنشيبي" ـ الحائز على جائزة مان بوكر انترناشيونال للرواية 2007، بعنوان [رجل فقد الراحة] للمترجم الدكتور محمد درويش. وجاء في كلمة الناشر، إن الأحداث في الرواية تمر من بوابة العصمة النيجيرية لاغوس، ولعل أهمها، وهذا هو إطارها العام، ذلك الفتى النيجيري الشاب المزود بالثقافة الغربية وهو يواجه مسؤولياته الجسيمة في بلده الأم بعد ان عاد من الغرب محطم النفس، محبط الآمال، وهو يجد متطلبات مجتمعة لا تعد ولا تحصى، بل غارقة في عالمين: عالم الخرافة المستند إلى النظام الأبوي وعالم الانفتاح على ما يكمن خارج حدود بلده الإقليمية. موضوع الرواية خصب في ذاكرة الأدباء، ولكن الذي يميزها عن غيرها هو التقنيات الماهرة التي ابتكرها شينوا أشيبي لا سيما في سريان الحوار الذي يدور على السن شخصياته، وهو حوار ذكي، يتم عن سرعة بداهة وعن تهكم وسخرية قل ّ نظيرها، لا سيما إذا ما عرفنا ان المؤلف نفسه إنما يجسد في فصول روايته قدرا ً ليس باليسير من تجاربه الحياتية التي أمضاها في الغرب يتلقى العلوم والمعارف فيطمح إلى أحداث نقلة نوعية في بنية مجتمعه ومستقبل بلاده.

وكان قد صدر للمترجم د. محمد درويش سلسلة من الكتب المترجمة عن اللغة الانكليزية، منها: استنطاق النص 2012،  وكتاب: كيمياء الكلمات 2012، وكتاب: عندما تحكم الشركات العالم2007، وكتب وروايات أخرى بالغة الأهمية، والخصوصية المعرفية، والنقدية. حتى قال عادل كامل عن جهده الغزير، والخلاق،، بأنه ظاهرة ثقافية نادرة، وسط اليباب الذي خلفه الاحتلال، والخراب. رغم ان بغداد مازالت تحمل شعار عاصمة للثقافة العربية. 

ظلال تونسية-43 قصة قصيرة من الأدب العربي التونسي



ظلال تونسية
43 قصة قصيرة من الأدب العربي التونسي

     عن الدار العربية للموسوعات، ببيروت، صدر للكاتب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، كتاب" 43 قصة قصيرة من الأدب العربي التونسي" حمل عنوان "ظلال تونسية"  وجاء في تقديم الروائي الربيعي للطبعة الثانية: " آمل لهذه المختارات في طبعتها البيروتية الجديدة ان تجد الاهتمام وان تؤدي الدور الذي نشدته من ورائها  وهو التعريف بالإبداع القصصي التونسي في تشكيلة من أرقى نصوصه وأجملها" وقد شملت مقدمة الطبعة الأولى ـ 1999 تونس ـ مؤشرات تخص تاريخ القصة في تونس، نشأتها، وتطورها، وابرز روادها، خلال
 

25 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل

25   قصة قصيرة جدا ً


عادل كامل
[1] الراعي
  سمع الراعي عواء الذئاب، وهو يخاطب نفسه: خرافي جائعة أيضا ً، فماذا افعل ..؟ بعد صمت وجيز تمتم مع نفسه: ليس لدي ّ إلا ان ابعد هذه الذئاب الجائعة، فانا نفسي أكاد أموت من الجوع!

[2] قرار
 أيا ً كان القادم، دار بخلدها، في السبعين أو في العشرين من العمر، فالأمر لا يعنيها كثيرا ً، وقد شرد سمعها  لصوت الواعظ يتحدث عن نيران جهنم، ودرجات العذاب، وعن النعيم للصالحين من الناس.
لم ْ يأت ْ احد، لا رجل في العشرين، ولا آخر في السبعين. على ان السيدة الكبيرة طلبت منها ألا تفقد الأمل. وعللت ذلك بقولها:
ـ ان الطرق مزدحمة..
لكن الفتاة راحت تتخيل الأجساد تتراقص ألما ً بنيران جهنم، وفي الوقت نفسه راحت تستنشق نسيما ً باردا ً يأتيها من الحقول، آخر ذكرى لها قبل ان تنجوا من المذبحة، وقد فرت بجلدها، عبر الحقول، نحو المدينة.
نهضت، ووقفت أمام السيدة الكبيرة، وسألتها ببساطة:
ـ إلى أين يقودني هذا العمل ...؟
    لم تجد الأخرى إجابة، فقالت:
ـ لا اعرف!
فقالت الفتاة لها:
ـ أنا اعرف. وتوارت.

[3] أصوات
    حتى الأصوات لم يكد يسمعها، عدا ان جسده أصبح لصق الجدار، ليس في الأعلى، وليس في الأسفل، بل عند الجدار حسب، مثل ورقة تم لصقاها بقوة، إنما كان مازال يميز رائحة ألوان رمادية امتزجت بها بلورات جافة، خشنة، وحادة اخترقت جلده، ولكنها لم تكن شبيهة بوخز الإبر، بل بضربات أداة عمياء، و لها رائحة شواء، عندما فقد قدرته على مقاومة الجاذبية، فتخيّل انه يحوّم، لكن الأصوات عادت تستدرجه إلى الإصغاء: لم يمت.  فرفع رأسه، بهدوء، إلى الأعلى. لم ير فضاء ً أو أثرا ً لأشعة الشمس، فقط سمع دمدمات ولغط وهمهمات تؤكد انه لازال يتنفس، ولم يمت بعد.  عندما آفاق، وحدق في الوجوه، ارتج جسده وهو يمد أصابعه بحثا ً عن فجوة، للفرار، والهرب، فقد تخيّل انه لا يرى إلا جسدا ً آخر، سيتناثر، أمامه، ويتوارى، مع ذرات الدخان، والتراب: فسفوريا ً، تحت سماء كانت شديدة البياض.
[4] الشاعر
   في قريتنا النائية، ولسنوات طويلة، كان هناك فتى يمتلك جسدا ً نحيلا ً، ورأسا ً مدببا ً، صغيرا ً، عدا انه كان يمتلك مؤخرة قيل إنها تزن بثقلها كافة الدواوين الشعرية التي أصدرها. كانت هي الأكبر، بلا منازع، ومن غير ضرورة لإجراء تصويت، ما إذا كان هناك من ينافسه على ذلك. ومات الشاعر. فقرر سكان قريتنا، بالإجماع، ومن غير اعتراض حتى من اشد الناقمين عليه، ان يقام نصب تذكاري، لمؤخرته، في الأقل، يخلد ذكرى قريتنا، بين القرى النائية الأخرى.
     وبعد سنين، وفي ذات يوم، بعد ان اختفى الشعر، ولم يبق شعراء في قريتنا، سمع الناس، عند الفجر، أنينا ً، وعويلا ً، وحشرجات صادرة من النصب. آنذاك، ولأسباب غامضة، انهال سكان قريتنا، بمعاولهم، وفؤوسهم، وبالمتفجرات، والقاذفات، والعبوات، والأحزمة الناسفة،  بل وبالحزين المخبأ للأسلحة المحظورة،  تجاه النصب الحجري، فتم محوه تماما ً وزال من الوجود. وقد قيل، ان عددا ً من سكان قريتنا، شاهدوا، بوضوح، وبما لا يقبل الشك، أو الظن، ان الشاعر نفسه شاركهم العمل نفسه، وهو يتمتم بصوت حزين: اذهب من حيث أتيت!

[5] ظل
   عندما شاهدت ظلي ينفصل عني، أسرعت، فأسرع هو أيضا ً. وعندما توقفت، توارى. بدأت أتراجع، خطوة بعد خطوة، كي أرى ظلي يخاطبني:
ـ أيها الأحمق، في الأخير، ستتضرع إلي ّ كي  أخلصك من ظلك، بعد ان تكون قد فقدتني، وفقدت نفسك.
   أمسكت بالظل، وحفرت له حفرة، ودفنته عميقا ً، معي. لكنني سمعت صوته يرن في راسي:
ـ حتى في الظلمات، هناك آخر...، لن يدعك من غير ظل.
[6] تنقيب
قرأ الاثاري كلمات النص المكتشف توا ً، لمساعده:
ـ " راهن الرب علي ّ، فربح الشيطان الرهان، وخسرته أنا. وعندما كنت بين يديه، حدق الرب في ّ، وقال: لن تكسب إلا ما خسرته. فصرخت: عندما تخليت عني ربحت خسائري، وأنا الآن معك، فما الذي علي ّ ان اخسره..؟" من ثم تابع يخاطب مساعده:
ـ ليس لدى الإنسان إلا محنته، مع  الشيطان وخسرها، ومع الرب ليخسرها أيضا ً.
فقال المساعد:
ـ ليس لدينا ما ندوّنه.
ـ تقصد ليس لدينا إلا ما نخسره، حقا ً،  آه لو عرفت غير ذلك..؟
ومد الاثاري أصابعه لاستخراج الأثر الآخر،، بعد برهة، وراح يتابع قراءاته.

[7] كابوس
   عندما وجدت نفسي في كوكب يخلو من النبات، والحيوان، والبشر، والحجارة، والذهب، وباقي المعادن، قلت مع نفسي: أيعاقبني الرب، أم يباركني..؟ فجأة وجدت تلك العناصر تحاصرني من الجهات كلها، صامتة، فقلت لها: علي ّ ان أعود إلى قريتي، فلا نبات، ولا ماء، ولا ناس فيها، عدا الحجارة، وشواخص قبور لم تفلح  الريح بمحوها.فدوّنت اسمي فوق شاخص قبري وذهبت انتخب أميرا ً جديدا ً لقريتنا، وأنا مازلت اكتم الحلم الذي لم أر فيه، إلا مساحات تعقبها أخرى إلى ما لانهاية خالية من الحجارة، والبشر، والأصوات.
[8] سؤال
    وأنا اجهل ما إذا كنت نائما ً أو مستيقظا ً، أم كنت ميتا ً أو مازلت على قيد الحياة، هل أنا في الماضي السحيق، أم في عالم بلا زمن، عندما وجدت نفسي في كوكب خال ٍ من النبات، ومن الحيوان، ومن الناس، ومن الأشياء أيضا ً، وكأن الفراغ له أبعاد من الصعب ان احدد مداها، واتجاهاتها، وعملها، فرفعت راسي، أم تركته يحدق نحو الأسفل، أو إلى اليسار أو إلى اليمين، لا اعرف، فانا اجهل هل كنت أخاطب نفسي، أم أخاطب الذي لا وجود له:
ـ يا ربي، أأنت تعاقبني، أم تباركني..؟
[9] قبر
ـ هل أضعت شيئا ً ما تبحث عنه..؟ سمع جاره يسأله، وهو يشاهد من يلوّح للطائرات المغيرة بأهداف محددة، في مدينته، انه لا يبحث إلا عن قبر.
ابتسم جاره، وتساءل:
ـ هل كنا خرجنا منه ..؟
فقال لجاره وهو يتوارى تحت الأرض:
ـ لا أريد ان احتفل بموتي، بعد الآن.
[10] أين ؟
  سأله عابر سبيل:
ـ أين يذهب الإنسان بعد الموت ..؟
اقترب منه كثيرا ً، وسأله:
ـ من أنت ..؟
ـ أنا الرب!
فقال بمرح:
ـ آه ...،إذا ً فأنت لا تعرف أين يذهب الإنسان بعد الموت، مع انك تعرف من أين جاء..؟
ـ نعم، أنا نفسي لا اعرف ذلك ..!
ـ ماذا تعرف إذا ً ..؟
ـ عندما تموت ستعرف ذلك.
ابتسم وقال:
ـ يا لها من معرفة أضاعت علينا ما كنا بصدد معرفته، وأضاعت علينا لا جدوى ما سنعرفه أيضا ً!
   آنذاك رق قلب الرب وناوله حقيبة. فسأله:
ـ ماذا افعل بها..؟
ـ وضعت فيها حكمة الزمن.
ـ وماذا افعل بالزمن، وحكمته، وأنا لم اعد حيا ً..؟
فقال الرب:
ـ الم اقل لك، منذ البدء، انك لا تريد ان تعرف إلا ما لا جدوى من معرفته. الم ْ أعطك كل ما كان عليك ان تحصل عليه، لكنك انشغلت بالذي لا يعنيك، فرحت تفكر بطردي، من عملي، وها أنت لا تعرف ماذا تعمل، بعد ان أضعت حياتك بالبحث عني!
[11] درس
بعد ان نجا من الانفجار، لم يعد يشاهد سوى لونا ً رماديا ً، وهو يستنشق غبارا ً ممتزجا ً برائحة لحم مشوي، ودخان جاف، ويرى أشلاء أجساد متناثرة، فدار بباله، وهو يحرك رأسه، كي ينظر إلى الأعلى: هل هذا درس آخر، أم فاتحة عقاب جديد؟

[12]خاتمة
    عندما استيقظ مذعورا ً، فشل في تذكر إن كان شاهد الحلم حتى ذروته، أم في مرحلة من مراحله، إنما مازال يرى من يأمره بصوت حاد: أخف ما ستراه، وما ستعرفه. هز رأسه بإرادة شاردة. " فقد وجدت نفسي في غرفة موصدة ليس فيها إلا مجسما ً طلب مني ان اجلس أمامه واصغي له. لم يتكلم. فانتظرت. ولم يتكلم، فلم افتح فمي. ثم أخيرا ً نطق بصوت خفيض: أنا هو من يحكم هذا العالم، الأحياء منهم، والموتى، من سيولد ومن سيموت، أنا اشرف على الأرض والسماء وما بينهما، امسك بالزمن حتى نهايته، فانا أخيرا قررت أمنحكم العدل، فقد آن للشر ان يلغ نهايته" وأضاف، مصغيا ً له:
ـ " فلم تعد ثمة فجوات بين الفقراء والأغنياء، بين الضعفاء والأقوياء، بين الأبرياء والأشرار، بين المتخلفين والأذكياء، بين العميان والمبصرين، فالكل توحدهم مسرة الوجود .." لم يصبر، فسأله:
ـ " لكنك لم تخبرني .."
ـ " عن ماذا ..؟"
ـ "عن شقائنا "
ـ " قلت لك انتهى زمن الشقاء، مثل الأسى، ومثل المرض، بل آن لكم ألا تموتوا بعد هذا اليوم!"
ـ " والحيوان..؟"
ـ " كالإنسان، والنبات، محكوم بمسراته، فلا ظلم، ولا غبن، ولا ضوضاء، ولا إمراض، ولا خوف، ولا انتظار ..."
ـ " ولكن ما معنى هذا ..؟"
ـ " لن يخطر ببالك، مثل هذا السؤال. لأنك ستولد، وتعيش، ولن تجد لحظة واحدة يخطر ببالك مثل هذا السؤال.."
ـ " فأنت وضعت خاتمة للشقاء، والأسى، والخوف، إذا ً..؟"
ـ " بالطبع"
ـ " وأنت سعيد لأنك منحتنا السعادة أخيرا ً..؟"
صمت الآخر برهة، وقال:
ـ " لم يدر بذهني هذا السؤال، ولكن ـ قل لي ـ كيف خطر ببالك هذا الخاطر، وأنت لن تشقى بعد الآن ..؟"
ـ " الشر"!
ـ " آ ....فهمت، فأنت مازالت تعيش في الألفية الثالثة، آ ...، فهمت، في أسيا، آ ...، في الوطن العربي، آ ...، في الصحراء، آ ...، وحيدا  ..."
   وطلب منه ان ينهض، ويبحث عن خلاصه. فوجد نفسه قدام ساحة تعج بالفصائل، وبفرق الموت، وبالمجاميع الخاصة، والحرس، والجنود، والأشباح، وسمع من يأمره:
ـ " آن لشقائك ان ينتهي"!
[13] مكعبات

     لا تقنط. كذلك همست القابلة في أذن الزوج، وهي تضع أمامه مكعبات وكتل مازالت تتحرك، وتتقافز، استخرجتها من رحم الزوجة. لم ينبس بكلمة، ولم يتذمر، فتابعت تخاطبه بالصوت الخفيض ذاته: انتظر، لأن شيئا ً ما قد يحدث ويغير الموقف. لكن القابلة شاهد عددا ً آخر من المجسمات ذات اللون البني والأسود والأحمر المتأكسد والأزرق المخضر تخرج وتدب من ثم راحت تبتعد عنها هاربة.  فطلبت القابلة من الزوج، بصوت مرتبك: أمسك بها. فشرد ذهنه، وهو يرى الكتل الصغيرة تتوارى، مبتعدة عنه، وتختفي تحت السرير، وانه لم يفلح حتى بالإمساك بواحدة منها. حدقت القابلة في عينيه، وكررت: لا تقنط، مادامت السيدة تتمتع بصحة جيدة. إلا انه كاد يصرخ، فكتم صوته، لأن احد المكعبات امسك بإذنه، وقال يخاطبه  بصوت مشوش: ماذا فعلت، يا أبي، بنا..؟ فقال الزوج للقابلة: المسكين يتألم. فأجابت: حذار ان تؤذيه. آنذاك رفعت الزوجة رأسها، وقالت لزوجها: اقتله، وإلا فسأقتل نفسي! فقال المكعب للأب: هل سمعت ماذا قالت شريكتك في الجريمة..؟
[14] حرب
   عندما هربت من الحرب، وجدت نفسي اشترك في حرب أخرى، وهكذا ...، كلما هربت من واحدة، أقع في ...، ومازلت، كلما هربت من حرب، لا أجد الحرب التي حلمت ان أخوض غمارها، حتى وجدت الجميع، أخيرا ً، تركوني، ولم أجد من يرغب ان اشترك معه في حربه، أو في أي حرب تذكر. آنذاك أدركت ان حربي قد بدأت، ولكنها، في هذه المرة، استدعت مني ان افقد كل ما تبقى لي من رغبات، وإرادة، فانا الآن أعلنت الحرب على نفسي، ولكن ليس باستطاعتي الاعتراف أنها الحرب التي بلغت ذروتها.
 [15] كلمات
    لم يكن ليكترث لو كان سمع الصوت من آخر، وليس من العبارة التي انتهت بكلمة طالما سمعها، وأعاد كتابتها، من غير تمحيص. ومع ذلك راح يتساءل ما اذا كان الصوت دخل من الخارج إلى رأسه، أم صدر من رأسه ورآه يتداخل بدوائر الدخان أمامه وهو يكتب عموده اليومي للجريدة التي يعمل فيها منذ سنوات غير قصيرة. وتساءل أيضا ً ما اذا كانت أصابعه هي التي توقفت عن العمل أم كان للكلمة أثرها وقد تركته شارد الذهن منشغلا ًهل حقا ً هناك: كرامة للشعوب، وأيهما له أسبقية، الشعوب أم الكرامة، وهل يحق له ان يرسل عموده إلى الجريدة من غير اعتراض.
ـ هل للشعوب إرادة، أم ان بعض الإرادات هي تصنع شعوبها..؟
اتسعت مساحة الصمت بينه وبين الورقة، فكان لا يرى، بعد لحظات، إلا الصوت وقد غدا من غير حافات: ذرات رمادية تتصادم، وهذا ما آلت إليه الكلمات، أخيرا ً، خالية من الصدى.
    ولم يعترف بالهزيمة، كي يرى أصابعه تذوب، وتجف، وتتحول إلى ذرات. ولم يقاوم ...، فانا لا اعرف لماذا قلت: إنها إرادة الشعب. ودار بخلده، قبل ان يتلقى صدمات اشد تأثيرا ً، انه طالما قال إنها إرادة أفراد، كهذه الذرات، تتصادم، في هذا الفراغ، وليست إرادة شعب. اخرس! سمع الصوت محذرا ً، فاعتدل في جلسته، ولم يجب. فالشعوب عمياء، وكان عليك ان لا توهم نفسك كي تصدق هذا الذي  تراه في المرآة  أو الذي تراه في هذه الذرات. فأنت تعرف ان هناك إرادة، لكنك لم تجد إلا ما يقال، كي لا تصمت. فأنت تمتلك شيئا ً ما تفقده.
    ضغط على نابض المحو، ليرى نظره يمتد عبر فراغ البياض بعيدا ً عنه. فأنت غير قادر حتى على اختيار كلماتك. لا شعوب ولا إرادة. آنذاك راح يستعيد صدى الكلمات، ومن غير حافات، ترك الفراغات تتكوم: لا إرادة لدي ّ حتى للعثور على فراغات. تاركا ً المشهد يبلغ ذروته، دار بخلده، إنما رآه يتبخر، وعندما بحث عن أصابعه، كي يدوّن، وجد رأسه يغيب.
[16] دورة
     وهو يهرب بحثا ً عن كوكب لا كائنات بشرية فيه، سمعته يدمدم، مع نفسه: الآن عرفت لماذا لم تتوقف أمي عن إنجاب هذا العدد من الفصائل، والأطياف، والألوان، والفاسدين، والقتلة ...
* لماذا ..؟
ـ من أنت ..؟
ـ أنا ـ هي ـ التي لم تكف عن شتمها، والإساءة لها.
ـ إذا ً سأعود أسالك السؤال نفسه: لماذا هذا ... العدد الكبير من الأمراء، والمخصيين، والزنادقة، والعلماء، والعقيمات، والوعاظ ، والمجذومين، والفقراء، و...؟
    رفع رأسه بحثا ً عن المتكلم فلم يجد أحدا ً. تسمر، فكر برهة، ثم عاد إدراجه إلى مدينته، ولم ينطق بكلمة، إلا عندما ترك جسده يغطس تحت الماء: لا هي، ولا أنا، كان باستطاعته تلافي الأمر.
    وعندما أدرك انه لم يمت، ومازال على قيد الحياة، وسط حشد من الكائنات البشرية، همس في آذني: إذا ً أنت هو أبي..؟ لم اجب. فقال: إن لم تدعني ارحل، فأنت وحدك ستكون السبب كي أقتلك!
    عندما أفقت وجدت ولدي يطلب مني: أقتلني. فعلت. ولكنني ـ منذ ذلك الوقت ـ كنت أرى طيفه يلاحق ظلي، وأنا اعرف ان الدورة لم تكتمل بعد.

[17] رحمة
   عندما مات طاغيتنا الأكبر، لم يبق احد لم يبك عليه، ونحن نشيعه إلى مثواه الأخير. احدهم همس في آذني: من أين لنا بآخر يمنحنا الرحمة، ويرسلنا إلى الموت؟ فقلت له: انظر. رفع رأسه ـ وأنا ادفن راسي في التراب ـ ليرى البلاد وقد انقسمت إلى شيع احدها لم يترك للآخر إلا ان يستعيد ذكرى طاغيتنا الأكبر، الذي كان يرسلنا إلى الموت، برحمة!

[18] وفاء
     وجدت سيدة تبكي بحرقة ـ في فجر كل يوم ـ عند قبر زوجها، فذهبت إليها، واستأذنتها الكلام، فأصغت إلي ّ، قلت: أنا لم أر امرأة، في حياتي، لديها مثل هذا الوفاء!
   رفعت رأسها، وهمست، ومازالت دموعها ـ كما في الأفلام القديمة ـ تهطل من عينيها العسليتين، وقالت: لعلي افعل هذا كي يندم، لأنه لم يرحمني طوال حياته، رحمه الله!

[19] رصاصة
ـ لماذا تخفي رأسك في الوحل..؟
ـ اخجل من الهواء!
ـ مت إذا ً.
ـ وهل كانت لدي إرادة في الحياة..؟
   وسأل مجهول آخر رآه في الطريق:
ـ لم أرك تخفض رأسك لترى ما يحدث في الأرض..؟
ـ وهل لدي ّ رأس ..
ـ وما ـ هو ـ هذا الذي تضعه فوق بدنك الضخم ..؟
ـ هذا هو رصاصة تبحث عن مستقر لها!
   عاد إلى زنزانته الصغيرة، وأغلقها، بعد ان لم يعد لديه ما يخسره. فالحياة، قال، ما هي إلا هذا الذي يغيب.
[20] شفافية
  مازالت كلمات جده ترن في آذنيه: حذار ان تفقد عقلك! وهو يشاهد عبر الفضائية الأرضية، أعرابيا ًيهرول إلى شيخ قبيلته ويقف بين يديه مذعورا ً، وحائرا ً. فسأله الشيخ: ما الذي جاء بك وأنت ترتجف؟ فقال بصوت خائف: العاصفة اقتربت منا، كثيرا ً، ولن نسلم منها.  ابتسم الشيخ وقال: اطمئن، لا تقلق أبدا ً! نهض الشيخ وذهب إلى أبناء قبيلته وخاطبهم بصوت جهوري: هل لديكم حقوق مغتصبة، أو حريات مستلبة، أو خدمات متعثرة، حسنا، لأنني سأكون معكم، ديمقراطيا ً، بل وشفافا ً، بمناقشتها، وإعادة كامل حقوقكم إليكم.
   مصغيا ً ـ وهو يرى ـ شيخ القبيلة يلقي خطابه إلى شواخص مقبرة تمتد حيث حافات المدن الأخرى تداخلت للتسع إلى ما لانهاية.
    فقال يخاطب جده: آسف يا جدي، لأن وصيتك التي سمعناها لا احد عمل بها إلا  وقادته إلى الصمت.
ولكنه شاهد الموتى ينهضون ويهتفون: عاشت الشفافية!
[21] نيرون
ـ أتعرف لماذا حرق نيرون روما، ودكها دكا ً، ولم يترك سوى الرماد ..؟
ـ بسبب جنونه.
ـ لا، انه فعل ذلك لأن نيرون كان هو ضميرها!
ـ ماذا تقول أيها الحكيم..؟
ـ  لأن النخب في العالم، واقصد التي ينتخبها الشعب، أما تكون خادمة له وأما ان يكون الشعب خادما ً لها. وهذا ليس لعبا ً بالكلمات. فالطاغية هو الضمير المخفي لكل هؤلاء وقد وجدوا مصائرهم متجسدة في الزعيم الأوحد. وأضاف:
ـ فان لم يحرق نيرون روما، فهناك ألف نيرون سيقوم بالعمل نفسه.
ـ لم افهم ..
ـ إن المدن التي لا اثر لها، هي وحدها يمكن ان تخبرك، كيف تتوارى الكثير من المدن، وهي في طريقها إلى الغياب.
ـ مثل مدينتنا ..؟
ـ غريب! وهل لدينا مدينة كي تهدم..؟ فقال الآخر مضطربا ً:
ـ أصبحت لا اعرف هل امثل نفسي، أم امثل شعبي..؟
ـ لا فارق يذكر بين ان تكون أنت السبب، وبين ان تكون أنت النتيجة، فالدورة، مثل المطحنة، عندما لا تجد ما تسحقه، تسحق نفسها، وتترك مصيرها للريح.
[22] اعتراف
   لمحه يعبر، أمامه، مسرعا ً، فتذكره، رغم مرور عقود طويلة من الزمن، فأسرع خلفه، ولكنه توارى تماما ً، من غير اثر.  تسمر يحق في وجوه المارة، ورفع رأسه قليلا ً، ثم عاد يحدق في الأرض. فسأل نفسه: ما الذي كان يحدث لو كنت أخبرته بنوايانا: محوكم من الوجود!
ـ  آه .. ها أنت هنا ..؟ فقال له من غير تفكير:
ـ ولكنكم كنتم أطلقتكم سراحي.
ـ هل كان علينا .....، محوك..؟ فقال بشرود:
ـ لأن الذي لم أخبركم به، ولم أبح به أبدا ً...، حتى هذه اللحظة، يقول نعم!
ـ لا تكترث، فها أنت ترى، كلانا، ليس لديه إلا ان يلقى حتفه، فإن كنا محوناك أو تركناك، فالأمر، في نهاية المطاف، ليس له أكثر من هذه النهاية.
عندما فتش عن كيانه، ولم يجده، آنذاك لم يعد يجد ضرورة للتفتيش عن آخر.
[23] شرود
   عندما أدركت انه غير مكترث لحركة المارة إن كانوا عائدين من الموت أو ذاهبين إليه، ورايته يمد أصابع يديه كمن يستجدي...، فكرت ان جاري، الذي اجهل ما اذا كان هو الذي تخلى عن الحياة، أم هي التي تخلت عنه، أراد ان يبرهن انه لم يفقد عقله، مع انه طالما اخبرني ان الحديث عن هذه القضايا محض إضاعة للوقت، فما شاننا  بهذا الذي تخلينا عنه، وليس هو الذي تخلى عنا. فكتمت لا مبالاتي وجلس بجواره أراقب أصابعه النحيلة تستجدي شيئا ً ما. فقلت له:
ـ أنا اعرف انك لا تطلب شيئا ً ما من احد..
  وأغلقت فمي. لأنني تذكرت الزمن الذي طالما رايته فيه لا يرد طلبا ً لأحد، في الوقت نفسه لم أجده راغبا ً بأمر ما من الأمور. ولكنني لم أره اشتكى أو رد مشتكي.
فقلت أخاطب نفسي بصوت مسموع:
ـ قد استطيع ان أقدم لك شيئا ً ما يا جاري العزيز ..؟
    حدق في عيني، بلا مبالاة، ولكنها ليست مؤذية، ولم ينطق بحرف. ولأنني اعرفه منذ زمن بعيد، بعيد جدا ً، واعرف إننا ـ طوال هذه العقود ـ لم نختلف، وثمة مودة ما سمحت لنا بالحفاظ على علاقات حسن الجوار، لم اتركه لشأنه، وهو مازال يمد أصابع يديه وكأنه يستجدي شيئا ًما. فسألته:
ـ أتطلب امرأ ما من الزمن ..؟
ـ لا.
   نطقها من غير تردد. فقلت:
ـ إذا كنت لا تستجدي شيئا ً ما من الزمن، فما الذي تطلبه..؟
ـ لا اطلب شيئا ً، أنا أفكر ما الذي في هذا الزمن، وما الذي منحه هذه الوثبات، وهذا الذي يمتد، من غير خاتمة له...
   فتذكر انه طالما فكر كيف اكتسب الزمن هذا التدفق، من الصفر إلى الامتداد، وكيف كان عليه الكون من غير زمن، وهل حقا ً ثمة على هي علة نفسها، وهل ...؟
    فجأة طلب مني ان أمد يدي ّ، فعلت. آنذاك لم أكن أفكر في الزمن، وفي الأزمنة، وبمرور هذا الذي يأتي، وهذا الذي يغادر، ويغيب، بل أحسست ان شيئا ً ما سكن الزمن، لم نراه، يأخذ أثره معه، و..ينبثق.
قال بصوت مرح:
ـ  عندما أصبحت لا امتلك ما أعطيه، لم أجد قدرة لدي ّ على الاستجداء! ومن يرانا نمد أيدينا، يا جاري، لن تجد أحدا ًيقترب منا، فالذاهبون إلى الموت، كالقادمين منه، غير منشغلين إلا بالمرور، أما أنا، أيها العزيز،  فانا أصبحت مثل هذا الذي عليه ان يجد سكنا ً بعد ان لم يعد للزمن إلا ذروته: الموجودات من غير وجود، والوجود من غير موجودات!
ـ فصرخت:
أمسكت به!
ـ إذا ً، ها أنت فقدتني!
    ومنذ ذلك النهار، وأنا اسأل نفسي: من فقد الآخر، لأنه لم يعد يراني، وفي الوقت نفسه، لم اعد أراه، إنما كان كل منا يدرك انه بجوار الآخر.
[24] حوار
 ـ اخبرنا، كيف كنت تمضي أزمنتك، مع الجلادين، ومع الضحايا، بلا شقاء ومن غير عذاب ضمير..؟
   صمت قليلا ً، وقال:
ـ لأنني كنت أجد في كل منهما، ما لم يجده احدهما في الآخر! ففي الضحية تجد ان هناك جلادا ً مستترا ً، مخفيا ً، ولدى الجلاد ضحايا استطاع الإمساك بمصائرهم.
ـ ولم يعذبك هذا ..؟
ـ لأن ادوار كل منهما، كانت تجري، بانتظام، فما من جلاد لم يصبح ضحية، وما من ضحية لم تزح جلادها وقد حولت الجميع إلى تراب!
ـ ولم تغتظ أو تشقى أو ...، تأسف ..؟
ـ بل أنا مازلت اجهل لماذا هذا التقسيم، بين صيادين، وطرائد، فلا الطريدة أخذت بثأرها، بعد الافتراس، ولا الصياد خالجه الندم، مادام صيادا ً.
ـ وأنت ..؟
ـ كان كل منهما قد اخذ حصته مني وما ترك لي إلا فرصة متابعة استكمال المشهد! ان استمع إلى أنين الجلاد تارة، عندما يختلي مع نفسه، والى زمجرة الضحايا واستغاثتهم تارة أخرى، وأنا ـ بمعرفتي لهما ـ كنت جلادا ً ممتازا ً لنفسي، مرة، وضحية للدرب الذي لم أجد سواه، مرة ثانية! فهل لديك لعبة لا خاتمة لها سوى الموت، كي تغوينا بالخلاص..؟
[25] مراقبة
    سأل المحقق الأكبر، الرجل الذي كان يراقب الدنيا من ثقب صغير، فأجاب:
ـ لأنني كنت أراهم جميعا ً يحدقون في هذا الثقب، فماذا افعل..؟ لو تركته، لكان علي ّ ان أكون معهم في البحث عن ثقب أشاركهم التحديق فيه، وأنا اعرف ان الجميع، عبر القرون، لن يجدوا إلا هذا الثقب الذي قبعت خلفه أراقبهم، وأنا، يا سيدي، لم اغفل ان أراقب نفسي، كي لا اخسرها، وكي لا اخسرهم أيضا ً. وما أنت، يا كبير المحققين، إلا هذا الذي كان يراقب الجميع، مثلما كانت أحداقنا كلها تتوجه إليك!

31/10/2013