العرب بلا عنوان:المأساة بإختصار
بقلم
د. لبيب قمحاوي
من الخطأ الأفتراض أن الوضع المأساوي الذي يعيشه العالم العربي الآن قد جاء بشكل مفاجىء أو نتيجة لأسباب تعود الى الوضع الذي مرت به المنطقة مؤخرﴽ،بل هو محصلة مسلسل طويل وتراكمي من الأنتهاكات للثوابت العربية وعلى مدى اكثر من ستة عقود أدت بنا الى ما نحن فيه الآن من مآسي و كوارث.
الأحداث المتلاحقه والتطورات السلبيه مؤخراً فرضت على المواطن العربي مسارات ليست من صنعه أو إختياره ووضعته بالتالي أمام مجموعة من الخيارات التي لا تعكس بالضروره مصالحه سواء جزئياﹰ أو كلياٴ. واختلاط الأمور هذا أدى الى أن تفقد البوصلة السياسيه قدرتها على تحديد الأتجاه الصحيح، وهكذا تختفي الخسائر الحقيقية والكبيرة للعرب بين أكوام من التفاصيل الصغيره التي لا تعكس أي قيمة وطنية أوقوميه أو استراتيجيه.
انهيارمنظومة الثوابت العربيه الرئيسيه تم على أيدي حكام و قيادات فاقده للأحساس بالمسوؤلية الوطنيه والوازع الأخلاقي ولا يهمها سوى مصالحها الأنانية وديمومة تلك المصالح . وانتهاك هذه الثوابت هو بمثابة تدمير للأسس التي تحمي الأمه و مستقبلها ومصالحها. ومن المؤسف أن معظم هذه الثوابت قد تم انتهاكها بالحد الادنى من الاعتراض الشعبي. وقد يعود ذلك الى جهل أو عدم درايه بما يجري ، أو لكون تلك الأنتهاكات قد جاءت مغلفة بعناوين أو شعارات لا توحي بحقيقة المضمون وماهيته.
ولابد من الأعتراف هنا أن غياب الديمقراطية وتمادي الانظمه العربيه الحاكمه في استبدادها واستعبادها لشعوبها قد جعل من انتهاك ثوابت الأمه أمراﹰ ممكناﹰ اذا ما توفرت النية لدى تلك الأنظمة لفعل ذلك.
أول وأهم الثوابت التي تم انتهاكها هي مركزية قضية فلسطين وحقوق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه ووطنه. وقد تم هذا الأنتهاك ابتداءً بأيدٍ عربية من خلال معاهدة السلام في كامب ديفيد التي أدت الى خروج مصر من معادلة الصراع. وقد أعقب ذلك توقيع اتفاقية أوسلو بين نظام الحكم الفلسطيني بقيادة ياسر عرفات و اسرائيل. وقد أدت هذه الأتفاقية الى بدء مسلسل التنازلات الفلسطينيه الأستراتيجية و العلنية مقابل تنازلات اسرائيلية شكلية. وفتحت هذه التنازلات المجال أمام دول عربية أخرى مثل الأردن لتوقيع معاهدةْ سلام منفرده مع اسرائيل، وأمام دول عربيه أخرى مثل بعض دول الخليج العربي والمغرب العربي لأقامة علاقات شبه دبلوماسيه صامتة مع اسرائيل، وكذلك تبادل الزيارات بين المسؤولين في تلك الدول، والتعاون في مجالات استخباريه وأمنيه مع اسرائيل، وكل ذلك مجاناً ودون أي تنازل من اسرائيل .
الثابت الثاني الذي تم انتهاكه هو وحدانية الهوية العربيه كتعبير سياسي جامع لشعوب الأمه العربية. وخلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين لم يتجرأ أي حاكم أو مسؤول عربي على التنصل علناً من عروبتة و إنتماءه القومي سواء كنظام حكم أوكشعب أو كدوله ، الى أن تمت الدعوة الفاشلة لانشاء الحلف الأسلامي في منتصف ستينات القرن الماضي وما تبعها من الأعلان عن إنشاء مجلس التعاوني الخليجي في 25 ايار1981 الذي شكل الخطوة الأولى في اتجاه التغاضي عن الهويه العربيه و تقديم هوية سياسية جديده للدول المنتمية الى ذلك المجلس وشعوبها وهي بالتحديد الهويه الخليجية. من جهته حاول أنور السادات طرح الهوية الفرعونية لمصر عقب اتفاقات كامب ديفيد الا أن تلك المحاولة فشلت لعدم وجود أرضية واقعية لها أو قبول شعبي بها. ولكن تبقى المحاوله الخليجيه هي الأخطر حيث وفرت نوعاً من الشرعيه وقدمت السابقة لمحاولات مماثله للأنقضاض لاحقاً على الهويه العربيه أو السماح بتفكيكها الى هويات فرعيه أو مذهبية. وما نشاهده الآن من هجمه شرسه على الهويه العربيه ومحاولة استبدالها بهويات مذهبيه وطائفيه انما هي نتيجة حتميه للمحاولات المستمره لأضعاف الهويه العربيه. إن استبدال الهويه العربيه بالهويه المذهبيه كأساس للأنتماء السياسي سيؤدي بالنتيجه الى تقسيم الدول العربيه وإعادة تشكيلها الى كيانات هزيلة طائفية أو مذهبية تتبع قيادات دينية في دول أخرى قد لاتكون عربية .
الثابت الثالث الذي تم انتهاكه هو الألتزام بحل المشاكل والخلافات العربيه بالوسائل السلمية وبأيدي عربيه وضمن مؤسسات النظام العربي و أهمها الجامعة العربيه ومؤسسات العمل العربي المشترك . وقد نجح هذا المبدأ بشكل واضح في البداية عندما تم استعمال المظله العربيه لوقف الحرب المحتمله بين العراق و الكويت في عهد الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم عام 1961. وفي المقابل فإن هذا المبدأ قد سقط في عدة اختبارات كان من أهمها الصراع المصري- السعودي في اليمن والنزاع المغربي- الجزائري حول الصحراء.
الثابت الرابع الذي انتُهِكَ بوحشية كان مبدأ عدم جواز احتلال أي أرض عربية بالقوة من قبل أي دولة عربية أخرى. و اكبر مثالين على ذلك كانا احتلال سوريا لدولة لبنان، والذي ابتدأ كقوات حفظ سلام عربيه بغطاء عربي لينتهي كإحتلال سوري فعلي ومباشر للدولة اللبنانيه . والمثال الثاني بالطبع هو احتلال العراق لدولة الكويت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين. وفي كلتا الحالتين أدى ذلك الأحتلال الى تولد حالة واضحه من الأستقطاب في العالم العربي، وأدى الى تحول الأهتمام الشعبي العربي في إتجاه معالجة ذيول تلك الأحتلالات عوضاً عن التركيز على الأخطار القادمه من الخارج مما أفسح المجال لقوى غيرعربيه للتسلل الى داخل العالم العربي وبدء مرحلة إعادة تشكيله .
أما الثابت الخامس والقاضي بعدم المشاركة أو التعاون مع اي قوة غير عربية تقوم بالأعتداء العسكري على دولة عربية، فقد تم انتهاكه أكثر من مرة. والانتهاك تم مباشرة و بشكل علني من خلال المساهمه العربية في الاعتداء الاول على العراق عام 1990 انطلاقاً من "حفر الباطن" في السعوديه وبمشاركة عربية واضحه . وقد تبع ذلك الحرب الثانية على العراق بمشاركة عربية عام 2003 حيث تم احتلال هذا البلد العربي وتدميره وتفكيك مؤسساته وتقسيمه على أسس مذهبيه وعرقيه . ولم تقف الأمورعند حدود التدخل العسكري المباشرمن قبل دول عربيه ضد أخرى، بل امتدت للمساهمه بشكل غير مباشر وغير معلن من قبل بعض الدول العربيه في تسهيل عمليات تجسس دول غير عربية على دول عربية أخرى ،أو تسهيل العدوان على منشآت عربية استراتيجية مثل التسهيلات التي أعطيت من قبل بعض الدول العربيه للطائرات الأسرائيليه للقيام بعملية قصف المفاعل النووي العراقي . هذه الأنتهاكات المتكرره أدت إلى إسقاط قدسية وأولوية الأنتماء العربي وفتحت الباب على مصراعيه أمام التدخل الأجنبي العسكري المباشر في العالم العربي مما رفع هالة القبح عن الأحتلال الأسرائيلي وجعله واقعاً منسجماً مع تطور الأمور في العالم العربي .
كما أدت هذه الأنتهاكات بالنتيجة الى خلخلة النظام العربي وتفكيكه تدريجياً خصوصاً وأنها ترافقت مع تسلم انظمه دكتاتوريه فاسده لمقاليد الحكم في معظم الدول العربيه مما أدخلها في حلقه مستعصية من التخلف والأنحطاط وعزز عوامل التجزئة والتخلف فيها، الأمر الذي سهل على قوى إقليميه ودوليه الأنقضاض على أشلاء العالم العربي والتلاعب بثوابته والأمعان في تمزيقه ونهب ثرواته.
هذا عن الواقع الذي نعيش بدون مواربه. فكيف يمكن أن ننطلق من الواقع الحالي الى مستقبل أفضل ؟
إن المضمون الرومانسي للقوميه العربيه الذي ميز حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والمد الناصري الذي رافقها شَكلا خطرﴽ على العديد من الأنظمة العربية الحاكمه في ذلك الحين الى الحد الذي أدى بها الى اعتبار العروبه و المد القومي و الوحده العربية المنشودة أخطاراً يتوجب عليها مقاومتها بإعتبارها تهديداً لوجودها. وقد لجأ العديد من تلك الدول مثل السعوديه والأردن الى الأستعانه بالأسلاميين وحركة الأخوان المسلمين لمقاومه التيار القومي باعتبارالأيديولوجيه الأسلامية النقيض للفكر القومي العربي .وقد قامت تلك الحركات الأسلامية بالتصدي فعلاً للتحركات الجماهيرية المطالبه بدولة الوحده .
ان إعادة تعريف الثوابت والمصالح المشتركه بين العرب والأنتقال بها من المضمون الرومانسي الذي ساد في منتصف القرن الماضي الى المضمون العملي والمصلحي هو نقطة البدايه الصحيحه لأعادة بناء النظام العربي. وهذا المطلب لا يهدف الى المساس بالرابطه القوميه أو إلى اضعافها بقدر ما يهدف الى تقويتها من خلال تبيان أهمية هذا الرابطة كونها تعبرعن المصالح المشتركه بالنسبه للجميع وأنها بالتالي لا تشكل خطراً على أي نظام لأنها انطلاقاً من هذا المفهوم تصبح تكامليه وليس إحلاليه . وما كان مطروحاً في حقبة الخمسينات يجب أن يُعاد النظر به بحيث لا يعني تأكيد الرابطه القوميه رفضاً للدوله القطريه ولا يعني تحقيق الأمل الوحدوي إلغاء الواقع القطري ومكاسبه. واقع الأمور والتطورات الدوليه أكدت للعرب والدول العربيه أن التعامل مع المنطقه لا يتم من خلال الدوله العربيه القطريه بمعزل عن عمقها العربي بل أن الأستهداف والخطر هو على المنظومه العربيه بشكل عام . فدول الخليج مثلاً تعلم الأن جيداً أن الأحتماء خلف أسوار مجلس التعاون الخليجي والهوية الخليجيه لن ينفع لأن الأخطار المحدقة ببعضها خصوصاً السعوديه والكويت والبحرين تأتي من خارج المنطقه العربيه ، وأن عمقها الأستراتيجي الحقيقي الحامي لها هو في المنظومه العربيه. كما أن خطر الانشقاق المذهبي بين سنة وشيعه هو في طريقه لأستبدال الهويه العربيه أو حتى الخليجيه لتلك الأقطار بهويه مذهبيه. وهذا من شأنه- إن حصل- أن يشق السعوديه ويشتت بعض دول الخليج مثل الكويت والبحرين٬ ويضعها جميعاً تحت خطر التقسيم أوالهيمنة الأيرانية.
الصراع على العالم العربي حالياً يأخذ أشكالأ مختلفه ويعبر عن نفسه بطرق متعدده ، ولكن المحصلة النهائيه ليست في صالح العالم العربي خصوصاً أن السياسات العربيه ليست أفعالاً بل هي ردود فعل لأفعال الأخرين .
لقد فشل العرب حتى الآن في ارغام الآخرين على تبني سياسات تنسجم مع المصالح القطريه للدول العربيه ناهيك عن المصلحه القوميه . والسبب الأساس في ذلك يعود الى العرب أنفسهم ، والى أنانية حكامهم التي ضحت بالمصالح الوطنيه والقوميه من أجل مصلحة هذا النظام أو ذاك . وعلى أي حال ، فإن انتهاك الثوابت التي شكلَتْ أساس النظام العربي وحَمَتْه لعقود قد أدى بالنتيجة الى خلخلة ذلك النظام واضعافه الى حد الأنهيار . نحن نشهد الآن تواصل انهيار النظام العربي دولة اثر دولة ، الى الحد الذي قد يصبح فيه العرب بلا عنوان ، ومجرد كمٍ بَشَرِي يعيش على أراضٍ مُبَعْثَره حُكْمُها لمن غَلَبْ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق