الثلاثاء، 5 مارس 2013

قصة قصيرة-قلب-عادل كامل





قصة قصيرة

قلب

عادل كامل

     كانت تود أن تعترف له، بلا مقدمات، بأنها تبرعت بأعضاء جسدها كاملة، لولا أنها شاهدته، ذلك الزوج العنيد، يسوّد للمرة الألف مشروع قصيدة لا تريد أن تنتهي

    وكعادته، سألها
    - إذن ستذهبين مبكرا ً إلى النوم؟ 

    لم تجب بالحال كما في كل يوم، بل راحت تتأمل محياه..فرفع رأسه بهدوء، وبلا مبالاة، حدق في عينيها العسليتين وسألها

    - م الجديد؟ 
    - لا شيء
    - لكنني أراك حائرة

    وكادت تصمت، لولا أنه أشعل فيها رغبات حفية فهو، كما تعلم، يقدسها، كعادة الشعراء غالباً، وتعلم جيداً، بعد مرور عشر سنوات على زواجهما، أن سعادتها بلا نهاية، وأنها تحبه مثلما يكن لها الحب، فقالت ببراءة

    - تبرعت بجسدي!

    لم يعلق. كان يحدق فيها بذهول..

    قاطعته
    - المسألة أرويها لك ببساطة..
    ولم يتفوه بكلمة. فتابعت:
    - زميلتي الصحفية..وأنت تعرفها..اقترحت أن تتبرع بأعضائنا..نعم..لكن بعد الموت..لا تحدق في ّ..هكذا..أنا حاولت أن أكتم الموضوع وأخفيه عنك..لكن لا..الآن أعترف لك، أنا تبرعت بهذا الجسد كله..!

    لم يجب..حدق في الأوراق ثم حدق في عينيها..فقالت متابعة:

    - أدهشني رجل تبرع بإحدى كليتيه..وآخر قال لنا جميعاً: الإنسانية تدعونا إلى هذا..

    ثم رفعت صوتها:
    - أهذا غريب عليك..أيها الشاعر..؟
    بعد صمت طويل أجاب:

    - لا..لكنني لا أستطيع أن أتحدث في هذا الموضوع..
    - لأنك مازلت تكتب القصيدة..
    - ربما..إلا أنني لا أستطيع أن أفهم..
    - ماذا تريد أن تقول؟.
    - .. .. ..

    وانتهى الحوار بينهما، لا هي تتكلم ولا هو توقف عن الصمت..لم يكتب..وهي لم تذهب إلى النوم. ثمة صمت تام وموسيقا غامضة تأتي من بعيد، كان يصغي إليها. في الوقت الذي كانت فيه لا تعرف ماذا تفعل..إلا أنها سألته فجأة

    - هل ارتكبت حماقة..؟

    أجاب بعد صمت قصير:

    - لا أعرف..أنت حرة..

    فرفعت صوتها:


    - أنك لا تفهم..يا زوجي العزيز..فكرة بنك الأعضاء..واسترسلت، دون أن تسمح له بالكلام:
   
    - الفكرة إنسانية تماماً..وبسيطة جداً..فإذا متنا لماذا لا تتبرع بالأشياء الحية. العين أو الرئة؟ أنا لست خبيرة بهذه الأشياء..لكن علينا أن نفكر..


    ولم ترو ما حدث لديها أبان تبرعها بجسدها بعد الموت، بل اعترفت له بأنها عندما تموت لا تريد أن تذهب إلى التراب..


    - ماذا؟
    قاطعها بصوت حاد، فقالت
    - ترى لماذا لا نقدم مساعدة لإنسان يمكن أن يعيش، وهذا الإنسان لا يعيش إلا من خلالنا..


    هز الشاعر رأسه محدقاً في أوراقه الملونة..ثم رفع رأسه قليلاً كي يتفحصها شزراً..تجمدت..ولما حاولت أن تدافع عن نفسها اكتشفت ضعفها كاملاً.. فدار بخلدها أن تعود إلى غرفتها، مثل كل يوم، بعد الساعة العاشرة مساء..حيث يكون الشاعر، هو الأخر، وحيداً في صمت الليل بين أوراقه وكتبه..لا يفكر إلا في إنجاز قصائده الجديدة. لكنها تمتمت بغموض. كان ما يزال يحدق فيها شزراً..عندما قالت


    - لا أعتقد أني ارتكبت حماقة..


    عاد يتأمل أوراقه الملونة..دخن..وأمسك بالقلم..لم يكتب كان يخطط..يشطب فوق الكلمات..ومزق ورقة..ثم نهض وغادر الغرفة. في تلك اللحظات من الليل كم شعرت، بالعزلة. وتساءلت: ما يعني هذا؟ ما معناه؟


    لم تجب..لا تعرف لم َ سحقها كابوس غامض..وحيرة مدوخة..أنها، مثل زميلاتها، لم تبخل بإنقاذ حياة إنسان ما..إنسان مجهول تماماً، بجزء من أجزاء جسدها وهذا كل ما في الأمر..وقالت لنفسها أنها لم تكن ضده..أو ضد سواه.


    على أنها، في هدوء الليل، أحست بمرارة الخيبة مع زوجها، أمضت الحياة معه على مدى عقد كامل..زوجها الشاعر الذي كتب لها القصائد وتغنى بعينيها وقلبها..أما الآن_قالت لنفسها_ فلم يتفوه بكلمة واحدة يثني على قرارها بالمساهمة في إنشاء بنك الأعضاء، كما هو الحال في دول العالم الكبرى. لقد كانت تتخيل كل شيء يصدر عنه عدا صمته وغضبه المفضوح..ثم ها هو يتركها وحيدة كي تفكر، لأول مرة، بأنها ربما كانت على شطط. كلا، قالت ذلك وتخيلت، برهة من الزمن، إنها متجمدة في مؤسسة بنك الأعضاء. ميتة..موزعة الجسد..كل جزء من جسدها في مكان. إنها تناثرت. وأن ثمة بشراً ينتظرون..عيناً أو رئة أو كلية أو ربما بعض خلايا المخ..وقالت حالاً أن ذاكرتها جيدة ويمكن أن تنقذ بها أي مخلوق مجهول تعطلت أو تبلدت ذاكرته. ثم أن عينيها يمكن أن تمنح النور لكائن فقد بصره وهو ما زال في مقتبل العمر. وكاد خوفها أن يتلاشى لولا أن زوجها عاد، وبهدوء، جلس أمام أوراقه وأحذ يكتب على نحو مضطرب، متعجل..ثم يشطب..ويمزق الورق..ويكتب من جديد. لقد شعرت إنها أذلته في شيء ما..لا تعرف..إلا أنه الوهم..هذا ما دار بخلدها وهي تتصور إنها، في لحظة تتوقف حياتها على جزء من الأجزاء المهمة، تجد من ينقذها فيها من الموت. ومن ذلك الصمت، الأبدي. أنها تعود إلى الحياة..إلى زوجها الذي تغزل بها سنوات وسنوات وقال فيها أشياء عذبة ساحرة صارت مثلاً للغزل في الشعر والحياة..

     وودت لو ماتت على ألا تؤذي زوجها، لو ماتت دون عودة، وبلا إنقاذ كما حلمت. لكنها فقدت لغة الخطاب معه. ولولا أن قواها قد خارت لنهضت وصالحته..واعتذرت..ولكن لماذا؟. قالت لنفسها، بشكل جيد. أنها تعرف حساسيته بالتعبير..فهو أنيق متأنق ودقيق. على أنها لم تتكلم_قالت لنفسها_ ولم يسمح لها بالكلام..مثلما يحدث ذلك أحياناً، معترفاً لها بأنها تتكلم مثل ربات الشعر. أخ لو فعل ذلك اليوم. لكنه لم يتكلم. قالت. ثم راحت تتأمله وهو يدخن..وهو ينظر في المجهول.

     ولم تحتمل الصمت أو سوء الفهم..فجمعت قواها..وتكلمت:

     - لنعد كما كنا أصدقاء..ونتكلم..كعشاق..استفزته جملتها..لكنه لم يتكلم. تابعت:

     - أنا أود أن أقوم بأي عمل إنساني..مثلما كنا نقول في كل يوم، قبل العرس..عندما كنا نذهب إلى الغابة..وعندما كنا نتأمل الفجر معاً..هل نسيت أنك كنت تحدثني عن المزارع والحقول..وعن الإنسان الذي لا يشكو من العلل..ألم تقل لي أن المرض من أكثر الأشياء قبحاً في الحياة. كنا   عشاقاً. حسناً..وبعد سنوات، وعلى مدى عقد، كنا نكرر ما قلناه..ألم أكن أنا الجميلة أبداً؟ حدق فيها..تأملها..وقال:

     - هل تعرفين أني كنت صاحب هذا المشروع..

     - أنت؟
     - نعم..أنا صاحب الفكرة..
     لكنها سألته:
     - ولم تحدثني عنها..أبداً؟.
     - أنا كتبت عنها..قبل عقد كامل..
     - غريب..
     - ما الغريب؟
     - أنك كدت تحطم حياتي اليوم..ألا ترى ماذا فعلت؟
     - ماذا؟
     - أنك جعلتني أرتجف..وأخاف..
     - جميل!
     بيد أنها صاحت:
     - كدت تدفعني إلى..الموت..!
     - ماذا تقولين؟.
     - لم أكذب عليك أبداً..وأحمد الله أني الآن أستعيد بعض قواي..

     للمرة الأولى، ومنذ سنوات، تجد زوجها الشاعر وقد خارت قواه. أنها مثل طفل..بل كادت تفكر بإنقاذه من الكلام، والليل يتقدم. وهي لم تعتد البقاء مستيقظة حتى الساعة الواحدة ليلاً..مادامت قد تصالحت معه، من خلال اعترافه الجميل، كما قالت لنفسها..لكنها سمحت له، بالحديث:

     - أني صاحب هذه الفكرة..ولكن..

     قاطعته:
    - لن أتبرع بجسدي أذن!..
    - لا..أبداً..قلت أنا صحاب الفكرة..وأنا فكرت في إنشاء بنك الأعضاء منذ زمان..منذ ربع قرن تقريباً..ولكن..

    - ماذا..ماذا تريد أن تقول؟
    وأضافت حالاً:

    - هل من عذاب جديد.
    - نعم.
    وساد الصمت بينهما لحظات كي يبادرها القول:
    - تبرعت بكل أجزاء جسدك عدا..عدا..
    قالت حالاً، وهي تقاطعه للمرة الثانية:

    - ماذا تقصد؟.
    - أقصد أني لا أوافق أن..أن..تتبرعي بقلبي.
    - قلبك؟
    - أقصد قلبك يا سيدة الشعر.
    - قلبي؟
    - نعم. هذا القلب لا أتبرع به لأحد. لا أحتمل..
    - قل هذا منذ البدء..
    آنذاك استعادت قواها..فقد كانت تخشى أن يتحدث عن عينيها مثلا. أو أصابعها، أو أي شيء آخر..وبالتالي سيتحدث، قالت، عنها كلها، ويمنعها من التبرع بجسدها كله. فنهضت. لكنه طلب منها أن تصغي إلى قصيدته الجديدة: قــلب.


12\4\1987



الجمعة، 1 مارس 2013

ذاكرة النحت العراقي المعاصر.. في تجربة مرتضي حداد -عادل كامل




ذاكرة النحت العراقي المعاصر.. في تجربة مرتضي حداد
ديمومة الخطاب ومشفرات الأثر

عادل كامل
مهدت سنوات الدراسة التي أمضاها مرتضي حداد في بغداد، وعياً سمح له بدراسة ما هو ابعد من حرفيات الفن ـ وهو النحت ـ بتأمل ما لم يدرس بعد في ردم الفجوة بين أقدم جذور للنحت في حضارة العراق، وبين التيارات المعاصرة. لقد استخلص هذا الدرس ليس بالخبرة العملية علي أيد الرواد فحسب، بل في دراسة ما مكث يشكل امتداداً لمفهوم النحت بصفته لغة خاصة لا تنفصل عن الوعي ولا عن تأسيس المدن الكبري؛ فضلاً عن مغزاه كحامل لتشفيرات لا تخص الجسد أو الوعي الذاتي، بل ذات صلة بمجموع القوي والمكونات والمتراكمات والموروثات التي حددت سمات الحضارة وخصائصها علي صعيد المعني، أو الهوية، والخطاب بمعناه المعرفي.
كانت تلك الدروس قد سمحت له بتأمل أخلاقيات أساتذة صاغتها سنوات الريادة؛ وهي سنوات التأسيس والتحديث لمفاهيم لم تعد أحادية أو شكلانية، وإنما عملت علي صياغة جدلية للعلامات بواقعها لبلورة هوية النحت المعاصر في العراق. ولم تكن رهافة حداد بصرية ومنشغلة بتأمل السطوح والألوان والتمايز اللوني فحسب ـ كحال أساتذته أو من عرفهم من الرواد ـ بل ستظهر في مجال آخر هو مهارة الأصابع بصياغة إجابات طالما مكثت لغزا ص كامناً في أقدم المخلفات الأولي لجسد المرأة وصولاً إلي الختم والزخارف الإسلامية ذات البعد الثلاثي ـ إن لم نضف إليها أبعاد التشفيرات المعرفية وعمل اللاشعور والتهذيبات الجمالية ـ بما سيشكل لغة لا تنتمي إلا لعصرها. لقد كانت الدروس المبكرة في بغداد قد منحته مفاتيح لمعرفة الغاز النحت، ليس بمعناه الواقعي أو الرمزي أو الجمالي فحسب، بل بما يتضمنه من انشغالات انطولوجية لا يمكن عزلها عن عمل الوعي ـ تجاه مكوناته: ما هو مؤسس للذكري وما هو قيد الزوال. فالواقعية كانت منحته وعياً بذهابها ابعد من المحاكاة وتمثل الأساطير وإقامة النصب والتماثيل.. حيث (الحداثة) كمفهوم زمني أو بصفتها وعياً للفن ـ وبفعل ممارسته العملية كحرفي ينتمي إلي البنائيين العراقيين، إلي جانب المجال النظري في دراسته العليا للماجستير والدكتوراه ـ ترجع إلي أزمنة سحيقة منحت فن النحت مكانة خاصة إلي جانب فنون المعمار والملاحم والمعتقدات واللغة والتقاليد الاجتماعية .. الخ هذا الوعي الذي شكل الرواد تدشيناته البكر ( عند جواد سليم والرحال ومحمد غني حكمت وإسماعيل فتاح والحسني وصالح القره غولي والكيلاني ..) غدا محفزاً لمرتضي حداد لاستيعاب ما سيشكل محركاً دينامياً لمسيرته ولطموحاته باستكمال دراسة النحت في بلد لامناص له مكانته في هذه المعالجات المميزة. فروما لم تكن مشغلاً ـ أو منحتا أو متحفاً ـ لخمسمائة عام من النحت ـ بل رمزاً ابعد لعلاقات منحته إمكانية دراسة عالمية النحت، ودراسة جذوره وروافده المكونة لخطابه الخلاق.

ألغاز عمل الوعي
كانت أسئلة النحت لا تجد إجاباتها في التقنيات أو في المحاكاة أو في دحضها نحو مهارات التلاعب بالصياغات الشكلية، بل في مجال كان حداد قد تلمسه وهو يستعيد منجزات أسلافه في جنوب العراق وشماله؛ فالنحت سبق ظهور الكتابة بزمن طويل، كما سبق ظهور السلع ـ والنقد ـ بقرون.. لأنه نشا كأثر ـ أو كحد ـ فاصل بين عصر البرية ـ وعصر نشوء المدن. فإذا كان الكهف أول رمز تضمن عمل (الدماغ) في تشفيراته، فان الكهف سيدفع بالسحر نحو معتقدات اكثر تعقيداً ، لان النحت لم يشتغل كتعويض لزوالات, ومنها موت الجسد، بل غدا يخفي قوة لا واعية لديمومة تحافظ علي الغاز عمل الوعي. لقد راح مرتضي حداد يتفحص تماثيل الأم ـ تماثيل عشتار/ فينوس ـ بصفتها علامات مشفرة لانتصارات غير مؤكدة: فالطبيعة لا ترحم، كما الضواري، وكما هو عمل الموت.. فتكومت تلك التماثيل وكأنها النذور والأضاحي لإقامة صلح مع قوي لا تعرف الشفقة. تأمل مجسمات تحاكي ما كان يريد ان يراه، وما كان يشغل آليات وعيه في العثور علي إجابات ستبقي تدعوه للمزيد من الإضافات. بيد أن ما هو كامن في تلك النماذج سيمكث قائماً خارج الأسباب التي كونته. هنا، يستعيد النحات حداد اكثر الدوافع خفاءً ، كالتي شغلت صانع اللبوة الجريحة، أو كالشطحة التي دفعت مايكل انجيلو ليصرخ في التمثال: أنطق! فلا المثّال الأشوري أوقف نظام الصيد، ولا صخرة انجيلو نطقت! لكن ما هو اكثر خيبة للأمل سيجد نفيه: الانتصار المشّفر لديمومة فن النحت: انه ليس انتصار الجسد، أو المدينة، أو إرادة القوة.. وإنما، سيمكث مجاوراً لمسيرة عنيدة شكلت التاريخ المدوّن ـ وغير المدوّن ـ للإنسان في مواجهة كل الذي مكث يعمل عمل البذرة: الإنبات.
لقد واصل مرتضي حداد تأمل النحت بصفته جاور، منذ غدا النحت علامة قبر، وعلامة بين الفضاء والأرض، ومنذ غدا تعويذة، أو لعبة سحرية، أو تكراراً لأجساد تضمنت ديناميتها، ووهنها، ببناء مكونات الخطاب المعرفي ـ في التعرف علي عالم كونته فضاءاته ومخفياته النائية ـ في عناصره الحضارية. فالنحت تضمن هذا الانشغال حتي غدا النحات منشغلاً ببناء الخطاب كسلطة تضمنت لغزها في مواجهة عوامل دمارها. بيد أن النحات مكث حذراً من المضي في اتجاه واحد أو أخير، فسمح لوعيه، في عصر تصادم الاتجاهات، والنزعات، والفلسفات، أن يمنح (التجريبية ) أصولها في البحث، فالذي شغله مكث فلسفياً بما سيشكل، في التنفيذ، تنوعاً يؤكد أن المخيال التركيبي، لم يتوقف عند البديهيات، ولا يستند إلي التحليل في دوافعه الواقعية. فالمخيال التركيبي في فنه، منحه وعياً لدراسة اثر (المشفرات التراثية) في أعمال جيل الرواد؛ أي سمح لها أن لا تبقي كامنة في الماضي. كان هذا الانشغال الفلسفي في دراسته النظرية، قد ساعده، لإعادة تفكيك الأثر، وإعادة تشكيله، بصفته سيشكل (طفرة) وليس محض إضافة كالتي تظهر لدي الحرفيين، أو علي صعيد رموز الموروثات الشعبية، بل وعياً لصياغة إشكالية لم يمض ْ زمنها، ولم تصر سلعة كي تتخلي عن نبض صانعها، أو ما تخفيه من غائيات غير معلنة.

راديكالية قائمة
فالنحت، في تجاربه، علي مدي أربعة عقود، مكث إشكالية متجانسة بين ظاهره أو مكوناته الخارجية، وبين كل الذي يمتلك محركاته الداخلية. هنا، يغدو النحت قد تجاوز زمنه، ليتضمن ـ كما في كل نص لا يوظف للاستهلاك ـ زمنا آخر، ربما، ما هو ضده. فمرتضي حداد، وهو يعيد صياغة أساطير بلاد ما بين النهرين، وهو يعيد نحت تلك العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين المرئي وامتداداته نحو اللامحدود، سيشكل حداثة خارج وهم موجات وموضات ما بعدها. فلم ينشغل براديكالية قائمة علي الوهم، أو بما هو نتاج عولمة ساحقة للذات، ولنبضها، بل تمسك، كما في تجارب حافظت علي لغز التشبث بنصر قد لا يتحقق أبداً ، بالعناصر والدوافع ذاتها لدي أسلافه، ولدي أساطين النحت الكبار. لغز أن يقترن النحت بأبعاد، احدها الزمن، وليس آخرها أن الإشكالية غير قابلة أن تختتم بنهاية، كنهاية لعصر أو لحضارة أو لتاريخ، وإنما، علي نحو خلاق ومحير، أن الامتداد ليس محض آلية تعاقب، بل ـ هو ـ كل ما سيشكله الوعي ـ بمخفياته ـ استجابة ـ لتقاليد منحت النحت هذه الديمومة. والفنان مرتضي حداد لم ينحز إلا إلي تجريبية متوازنة مع عصر له مزاياه المختلفة ـ بين موروثات اخفت ماضيها كامناً فيها ـ وبين حاضر يحدق في المجهول. فثمة،منذ تماثيل الأم، مروراً بتماثيل الأسس، واقتران فن النحت بالعمارة، وصولاً إلي حرية اكبر في التنويعات الأسلوبية، مكث فن النحت لا يعلن عن موته، كما حدث أن لفت (هيغل) إلي موت الفن، بتحوله إلي سلعة، أو لم يعد الإنسان إلا بنية تحكمها قوانينها الخاصة. هذا الضرب من التمسك بـ [ سر] فن النحت دفع بالنحات للعثور علي جسور لا مرئية لـ: موضوعات، كالجسد، وتحويراته، وأساطير تم اختزالها إلي موضوعات الإنسان في مواجهة اغتراباته. ففي هذا [ الحاضر ] سكن لغز الانحياز الي المكان، كي يذكرنا، مرة بعد مرة، بالشاخص، وبتماثيل الأسس، وبالنصب وما تحمله من ديمومة لماضيها، وامتداداً ـ إن لم يقهر الزمن فانه ـ يجدده ـ تبعاً للعمل اللا ـ شعوري لأسطورة موت البذرة، أو نزول تموز إلي العالم السفلي، وبعثه ـ فان الاستجابة للنحت، بواقعيته، كمحاكاة، أو للنحت كجزء لا ينفصل عن المدينة، وجد النحات ـ عبر ممارسته العملية والطويلة وعبر دراسته النظرية ـ ان السحري فيه لا ينفصل عن هذه الواقعية. فالميتافيزيقا، هنا، لا تصنعها الميتافيزيقا، وإنما ستبقي الموضوعات ذاتها غير قابلة للدحض، بما تمتلكه الواقعية من ثوابت وعادات مازالت تمتلك ديمومتها. بهذا الدافع وجد النحات ان (الحداثة) لا تمتلك زمناً أحادياً ـ أو تقليداً لا يتصدع بعلاقاته مع الموروثات والتحديثات المختلفة ـ بل صياغة تتداخل فيها الأزمنة، ومن ثم: التمسك بما يخفيه النحت، وهو يجاور إشكاليات عالم تتنوع فيه أشكال الصراع، والأزمات. لكن النحات ـ بصفته ينتمي إلي نصف قرن من الجهود الطليعية في التجربة العراقية ـ

الاستهلاك لحد البذخ
تمسك بمفهوم الاختلاف، كأحد مظاهر الهوية. فالأسلوب لا يمكن عزله عن الموضوعات ذاتها: مأزق المدينة المعاصرة، والإنسان في مواجهة عدمه. فنصوصه النحتية ستحافظ علي توازنات بين الواقعي والمتخيل؛ بين المتوارث والمعاصر، بين الذاتي والجمعي، بين الواقعي والمحور، بين الرمزي والمشفر باتجاه معالجات الوحدة الكلية للذات في بلورة (الهوية)؛ فالنحات لم يعد يلبي إلا ما سيشكل لغزاً كامناً في النحت ذاته. انه ـ كما في اللغة ـ لا يتوقف عند النحت، او النحات، بل عند العملية الانباتية ـ بما فيها من أصول وقواعد واليات ـ للنحت في عصر تفكيك الذرة، من جهة، وفي عصر تفكيك الذات/ والإنسان ـ من جهة ثانية. فالنحات غدا يتلمس يومياً تحول موضوعات (الزوال ـ الصدمات) إلي إشكالية وجودية تخص المصائر، الامر الذي سمح للنحت ـ مرة ثانية ـ ان يفرض حضوره الفريد. فعلي الرغم من ازدهار قوي الاستهلاك، حد البذخ، والترف الشفاف للاكتفاء، فان المصائر ذاتها تعلن عن كائنات لا ينقصها إلا الدفن! فـ [الروحي] ـ منذ تماثيل الأم وحتي ما بعد جايكومتي ـ أصبح مظهراً لمأزق لم تعد فيه الفنون ـ في الغالب ـ اكثر من علامات له. بيد ان هذا [الروحي] مازال يتشبث بسكن لا للإقامة، بل للرحيل ـ: لديمومة لا تكرر إلا شعائر أساطير تموزـ ادونيس، وهي ذاتها: نظام دفن البذرة. والنحات مرتضي حداد، برهافة من لم يتخل عن بدائية ـ واكبت لغز انبعاثها ـ لم ينشغل بجماليات أحادية، أو بزخرفات وتجريدات انحازت للتأمل، بل لجعل النحت يتشكل عبر مصهر: هذا الذي تدعمه فلسفات لم تعد مغايرة لعمليات التفكيك ـ أو الاندثار ـ بل لتمجيده! فأية إشكالية اتسعت، وما الذي يمكن للنحت ان يخفيه، وقد تضمن أبعاد مازالت في ذروة تصادماتها، أكثر من جعل النحت، متضمناً هذا الاعتراف: إن مفهوم التذكار ـ كالرماد ـ لا يتحدث إلا عن تدشينات لتوقدات أو نيران مؤجلة. فالأشكال (النحتية) لم تفقد توازنها، بل راحت تعيد صياغتها بما لا تخفيه من امتدادات، ومحركات، لمجموع علاقات البشر ـ بحضارتهم، إن كانت ذات هوية، أو قيد التفكيك. فالعالم يعيد سرد (ميتافيزيقاه) كواقعية مدعمة بما لا يحصي من الوثائق، والمخلفات، علي خلاف الواقع القديم الذي أنتج أساطيره، في الماضي ـ في الماضي المجاور لحاضرنا ـ وراح ينتج لاعقلانية (العقل) في عالمنا المعاصر، بما لا يحصي من هذه (العلامات). إن مرتضي حداد، وكمسروق للنحت، ترك أصابعه تعمل بوعي لم يعد يحفل بالنصر، لكن لم يعد يحفل بالخسران، في النهاية أيضاً .


قصتان قصيرتان-د. بلقيس الدوسكي



قصتان قصيرتان

الصفحات المفقودة

د. بلقيس الدوسكي


    دار بخاطري، وأنا أحدق في المجهول: ان حياتي ليست أكثر من كتاب زاخر بالصفحات، المرة والحلوة، بالمفاجآت والغرائب، بالندم وبالأشواق. فهي مزدحمة بأسماء العديد من الأحبة والحبيبات، بالأصدقاء والصديقات، وبأسماء أخرى غابت، وليس لها اثر في ذاكرتي. ففي كل ورقة من أوراق كتاب حياتي، دوّنت تلك الذكريات بخفقات قلبي، وأنينه المكتوم، النائي. وأحيانا، خلال ساعات الليل، لا امتلك إلا ان استعيد صفحة من تلك الصفحات، وكأنني وجد تسلية ما مراوغة لا تدعني انظر في الفراغات، وفي المجهول.
     وها أنا أراجع ما دوّنته، من تجارب، وعبر، كي يتضاعف حذري من المطبات التي مازالت تتخفى في عالم الغيب. لكن صديقة لي ـ في ذات يوم ـ رغبت ان تطالع صفحات هذا الكتاب. قالت:
ـ كم ارغب ان اقرأ كتاب حياتك ِ!
ـ ولكن...،هذا الكتاب يضم بعض الإسرار التي لا أريد ان يطلع عليها احد.
ـ لكنني اعرف أسرارك كلها، وأنا احتفظ بها، وكأنها أسراري الشخصية.
ـ نعم، ولكن لبعضها، يا عزيزتي، مكانها الخاص الذي لا يمكن الإفصاح عنه.
ـ  ألا تثقين بي، وأنا صديقة طفولتك وشبابك ..؟
ـ بل أحسك اقرب الناس إلى قلبي..إنما لكل منا أسراره الخاصة.
ـ وهل هناك أسباب كي لا اطلع عليها، وأنا ارغب الاستفادة منها، كي أتجنب العثرات..؟
ـ كل الأشياء واضحة أمامك، الضارة والنافعة، الرمادية والبيضاء، المعتمة والمشعة، على حد سواء.
ـ كما تقولين، لكن المثل يقول: في الإعادة إفادة!
ـ سأسمح لك بمطالعة كتاب حياتي، ولكن ليس الآن.
ـ متى إذا ً ..؟
ـ عندما افرغ من تدوّين بعض الحالات التي مازالت تسكن ذاكرتي.
     ووضعت رأسها على طاولة الليل وسرحت بأفكارها إلى البداية مرورا ً بالأحداث التي رافقت مسيرتها ووصولا ً إلى اللحظة التي وجدت نفسها فيها تفيق من أوهامها وخيالاتها، وعواطفها. وقالت تخاطب نفسها بشيء من التذمر:
أين كان حذري؟
أين كان عقلي؟
أين كانت بصيرتي؟
هل كنت مغفلة إلى هذا الحد؟
 بكت. لكن في زمن جاء متأخرا ً حيث لا جدوى من الندم. ثم أضافت تدون في كتاب حياتها ما تبقى لديها من ذكريات كاد النسيان ان يطويها. وأعادت الكتاب إلى الرف العاشر في رفوف حياتها.
   وفي أمسية من الاماسي، اتصل بها من كان السبب في عذاباتها، وجراحاتها.
ـ من ...؟
ـ أنا حبيب الماضي..؟
ـ لكن الماضي مات!
ـ كيف مات..؟
ـ في اليوم نفسه الذي مات فيه ضميرك!
ـ لكن ضميري لم يمت، ومازال حيا ً..
ـ الضمير الذي يتجول، ويتنقل، ويعيش من فتات الموائد الذليلة، الرخيصة، يعد ضميرا ً ميتا ً.
ـ فلسفة..؟
ـ نعم فلسفة تعلمتها في جامعة الحياة.
ـ على أية حال، أريد ان التقي بك للمرة الأخيرة، فهل تسمحين لي...؟
ـ ولكن بشرط..؟
ـ ما هو هذا الشرط..؟
ـ ان لا تعيد أية حلقة من مسلسل الأمس البعيد.
ـ كما تأمرين.
     وبعد يومين على الاتصال الهاتفي زارها وهو في حالة تدعو إلى الرثاء، فسلم عليها، فردت عليه ببرود. قال متسائلا ً:
ـ أراك تطالعين في كتاب حياتك، لماذا ..؟
ـ كي لا اخدع مرة ثانية.
ـ عفوا ً.. وهل لي، في كتاب حياتك، حضورا ً..؟
ـ كان...، ولكن.
ـ ولكن ...، ماذا ..؟
ـ لقد ذهب مع الغياب، في الصفحات المفقودة، وفي الصفحات التي لن اتعب نفسي في تدوّينها أبدا ً.



المستقبل لم يذهب بعد

 
ـ أنا من لبنان، يا سيدتي.
ـ أهلا ً بك وبلبنان.
ـ قرأت عنك الكثير وهزني الشوق إليك ِ.
ـ يا مرحبا ً.
ـ أنا، يا سيدتي من المعجبين بأدباء العراق، وشعرائه، وفنانيه، وأنت ِ منهم.
ـ شهادة نعتز بها.
ـ ولدى أكثر من سؤال، لو سمحت الأديبة روناك.
ـ لك َ مطلق الحرية، يا أخي.
ـ شكرا ً، ماذا عن حياتك اليومية..؟
ـ لكل يوم مفرداته، ومعالمه، ومفاجأته.
ـ كيف تنظرين إلى الحياة..؟
ـ انظر إليها من نوافذها جميعا ً، فلكل نافذة خصوصيتها.
ـ إليك هذه المجموعة من الرسائل، وهي موجهة إليك ِ من الأصدقاء والمعجبين.
ـ أتشرف بها وبمرسليها.
ـ شكرا ً، والكل يرغب بإرسال صورة لك، ولمؤلفاتك..
ـ بكل سرور.
ـ احد الأصدقاء أوصاني ان أقول لك ِ عبارته التي تعبر عن مشاعره..
ـ يسعدني ان استمع إليها.
ـ يقول: الأدب والفن أجمل ما يمكن انجازه في هذه الحياة، وأنت كنت رائدة في هذا المجال.
ـ شكرا ً له، ولك، ولكل أحبتي.
ـ شكرا ً سيدتي.
ـ عفوا ً. وهل ثمة أسئلة أخرى..؟
ـ نعم، ما هو رأيك ِ بالمسرح..؟
ـ مدرسة الحياة، ولدينا أساتذة كبار في هذا المجال، ولعراقنا مسرحه العريق منذ آلاف السنين.
ـ العراق مهد الحضارات والعلم والمعرفة والفن..
ـ هذا ما يعترف الجميع به. وبالمناسبة يا سيدتي، نرجو ان تزودي مكتبة الأدباء اللبنانيين بمجموعة من مؤلفاتك الجميلة.
ـ هذا ما يشرفني مع اصدق المشاعر .
ـ سلمت يا سيدتي. سؤال آخر.
ـ قل ما لديك أيها الشقيق العزيز.
ـ ما هي نصيحتك للأدباء الشباب..؟
ـ أقول لهم، استفيدوا من تراثكم الأدبي، ولا تغرنكم الأساليب البراقة، الغريبة، واهتموا كثيرا ً بالتثقيف الذاتي، فانتم علامات المستقبل.
ـ نصيحة بليغة.
ـ والآن، ادعوك أيها الأخ للاطلاع على معالمنا الحضارية من خلال جولة في شوارع بغداد وأطرافها.
ـ شكرا ً، هذا ما أتمناه.
   اصطحبت الضيف بسيارتها وطافت به تتجول عبر شوارع بغداد، فأعلن عن إعجابه وقال لها:
ـ هنا ولدت الحضارة، وهنا كتب التاريخ أروع صفحاته بمداد من الذهب.
ـ إنها الحقيقة يا أخي.
ـ يا ليتك تقبلين دعوتي لزيارة لبنان.
ـ أتشرف بهذه الدعوة.
     وفي المساء اصطحبته لمشاهدة أحدى العروض المسرحية العراقية، فأعجب بمضمونها، وبممثليها، وبمخرجها، والتقط العديد من الصور مع الفنانين. وقال لها:
ـ إنها تجربة رائعة حقا ً.
ـ سأدعوك غدا ً لمشاهدة مسرحية أخرى.
ـ أشكرك من الأعماق أيتها الأدبية الرائعة!
    سلمته مجموعة من مؤلفاتها هدية لأدباء لبنان، وله، ولأصدقائه، مع مجموعة من صورها، وقطعت له تذكرة السفر إلى لبنان، ثم عادت إلى بيتها، لتجلس تبكي من شدة فرحها الغامر للحوار السريع الذي ترك أثره فيها، وخاطبت نفسها:
ـ  لم تذهب جهودي أدراج الريح.
ووجدت نفسها لا تقاوم رغبة انجاز مسرحية لم تكملها: المستقبل مازال هناك، هناك، وعلي ّ ان لا ادعه يغيب عني.