السبت، 16 فبراير 2013
الجمعة، 15 فبراير 2013
من هو الفنان؟علي النجار
من هو الفنان؟
(الفنان
هو الشخص الذي يجعل الحياة اكثر اثارة للاهتمام, أو يجعلها جميلة ومفهومة أو
غامضة, أو ربما, في أقرب معنى, اكثر من رائعة..) جورج الخوار
"لقد
تذكرت التاريخ الملوك والمحاربين، لأنها دمرت؛ الفن وتذكرت الناس، لأنها
خلقت"
ويليام موريس (1834-1896)
ويليام موريس (1834-1896)
"كل
طفل هو فنان، المشكلة هي كيف يظل فنانا لمرة واحدة دون ان يكبر". بابلو
بيكاسو
الفنان هو
الانسان الذي يستمتع بالاساطير, سواء كانت مقروءة او مرويات او صور وصوت.من يتلعثم
في قراءة سر خط الافق, وعمود السماء. من يكشف عن اسرار البحر قبل ان يغوص فيه. من
يمسك بمعالم احلامه القصية قبل ان تتبخر. من يحفر الصخر حيث شلالات المياه تنتظره.
من يرف جفنه لرفيف الاجنحة. الفنان من تنتبه ذاته وترنو نفسه لأقتحام الفضاء
الرحب, حيث السحب فراشات والنجوم ومضات القلب. الفنان من تسحره رحاب الحرية
المطلقة متعدي التابوات التي حدت من كوننا كائنات فضائية لا تقيدنا قيود غير
انسانيتنا الشفيفة. من يتناول في يده ازميلا او فرشاة او كامرة ويتماهى في سر نبتة
تشق جذرها في التربة منطلقة بمودة متناهية صوب الفضاء السماوي الارحب. من يؤسس
لكامرته الخاصة بين تلافيف دماغه. ما دامت الكامرة, شاشة مفتوحة على فضاءات العالم
كلها.
من طفولة العالم, وقبل حوالي (40000) عاما, رسم وحفر فنان العصر الحجري على جدران وسقف الكهوف, صور عالمه متناسخا وحيواناته حد تجسيدها بمهارة هي جزء من مهارات فناني اليوم, في أمكنته السرية في عمق المغارات التي يتعسر الوصول اليها كان يود حفظ سرها. وهاهي مكتشفة في (350) كهفا في فرنسا واسبانيا فقط. ترى, هل كان شامانا ام فنانا يصنع تميته التي تنقذ طائفته, ام كائنا فضائيا يتدفأ بخيالات محيطه البيئي الجديد ويستذكر منشأه الأول, حيث العري جزء من تعرية الذات من زوائدها. لقد اثث من هذا العري مخلوقات لا تزال تتمتع بسحرها الذي لم تخربه كل العصور الموغلة في القدم. شهادة لفنان, ذلك الانسان الاول المتماهي والانسان الاخير في سحر الفن وومضة الابداع ومهارة الصياغة.
ماسر الختم الأسطواني السومري. فحجره من الصلابة بحيث نعجز عن نحته, كما فعلوا. ما سر الهته المجنحة المنقوشة(المفرغة عمقا), وما سر ملامحها الفضائية وملاحمها المبتكرة. وهل من نقشوها جاؤا فعلا من الفضاء, او جاء اسلافهم, مثل اوتونبشتم جد الملك جلجامش, وكما يذهب العالم الأمريكي (زكريا سيتشن) في كتابه (انكي المفقود). وهل نحن من هذه السلالات الفضائية. وهل عجزنا عن تتبع اثرهم (ونحن كذلك لهذا اليوم). لكن, وكما لفنان العصر الحجري دوافعه التي تتعدى التقصي, لتفجير مهارات اعجازية فنية, اعتقدها جزء من طبيعة مناطق اقامة الذات الانسانية في مجهولية الاقامة, حيث الذات جزء من سر الخلق الذي ينبثق من نبض الخلايا المنذورة للتأمل والتعبير, حتى في ظلمات الكهوف . السرية وبدائية مخلوقاته. لكن ان كان عدد الالهة السومرية يتجاوز الاربعة الاف. فهذا يعني, بمعنى ما, ان كل السومريين فنانين, ولو بحدود صناعة اختامهم الخاصة, او االمنذورة لالهتهم.
اذا كان (طفل العالم) السحيق فنانا, فان كل طفل هو فنان بطبعه. وفر له اية اداة رسم وسوف ترى. ليس الامر مجرد عبث, فنصف الدماغ الأيمن هو الأكثر فاعلية عنده. وفي هذا النصف يكمن السر, لذ هو مركز الابداع, كونه حدسي وتركيبي و يستوعب الفكرة الشمولية(يرى الاشياء ككل), اظافة الى انه يميل الى التناسق في الاشكال والانماط والاحجام. ومكمن لاحلام اليقضة والخيال والالوان والالحان والعاطفة والتعبير المجازي, والاقدر على تمثيل نسبية الاجسام في الفضاء. هذا الجزء الايمن من الدماغ هو المحترف الفعلي للفنان, حيث يقيم وينتج روائعه. وبناء على ذلك, فلا نستغرب ان صرح الكثير من الفنانين بانهم لا يزالوا اطفالا, وان لم يستطيعوا ذلك, فانهم يتمنوا ان يكونوا اطفالا.
لكن هل حافظنا على حيوية نصف دماغ الايمن للطفل, كما هو خامة تتطلغ بفضول لكل الموجودات. ام ساهم كل من العائلة والمدرسة والسلوك الاجتماعي, على ذبول منبع الالهام هذا.
الهة الحرب تقصي الفنان: لا اثينا افلاطون (427ـ347 ق.م.) في جمهوريته. ولا روما اعترفت بالفنان. فالاول اقصاه من جمهوريته, والثانية انزلته بمرتبة دنيا. لكن هل استطاع كلاهما محو ارث الفنان اليوناني او الروماني من الذاكرة او الوجود. ولم يجد كهنة معظم الديانات, وبظمنها السماوية, غير الفنان ليجسم او يشخص النص صورة تبقى حية في الذاكرة الجمعية, فالفنان هو الذي ابتكر الختم الاسطواني والايقونة والارابسك. هو الذي لون السماوات والارض والاجساد, واسكنها ارواحا فضائية وارضية, واشتق من قوس القزح وحركة الكواكب واواراق الشجر والزهور وكل المرئيات, ملاحم وقصصا وابتكارات خطية وتجسيمية, ومن خلجات الفؤاد عشاقا والحانا, انستنا حتى افعال كل الهة الحرب القدامى والجدد, وامدتنا بأمل تجاوز كد الحياة المضني.
دافنشي اوصانا بتتبع اثار التعري على الحيطان (وكما شاكر حسن ال سعيد من عصر اخر) وهم يعلمون جيدا ان انسان ما قبل التاريخ كان اشطر منهم ودون تاريخ حوادث عصره بوحي من اثار تعري كهوفه, سرا اكتشفناه مؤخرا. لكن فنان عصرنا الحاضر لا يتتبع خطوط الحظ وحدها من اثار الجدران, بما ان الفنان الان وارث كم هائل من الاثار والرؤى من شتى الحضارات, وله مطلق الحرية ليكتشف نفسه ضمن كل ذلك, او ضمن منطقة الايحاء الشاسعة التي عليه ان يجوب دروبها لوحده , هو ينأي عن اية تبعية تحوله الى مجرد حرفي ضمن رعيل الحرفيين الذي لا يحصى عدده. فالحذاقة او المهارة (التقنية) لوحدها لا تخلق غنانا, بدون الحدس والعب والالهام والتخيل. عاماء الرياضيات وبقية العلوم مهرة وحاذقين ايضا. لكن الفن ليس علما, ولولاه لتحول الانسان الى مجرد روبوت الي.
ليس غريبا ان يتناسل من عمق الصحراء العربية انبياء ورسل البشرية, وليس من المدن الحضرية. مع استثناء جنوب العراق السومري, كونه يتناظر وسيمترية الصحراء بمسطح مياهه ووحشة سكنه. انا نفسي جربت المبيت عدة مرات في صحراء الجزيرة العربية (في احدى هجراتي المبكرة), ما بين صفاء السماء التي لا تعد نجومها, ولا تناهي فضاء الرمال الذي تمسه الرياح مسا. لقد شملتني وحدة الكون, واخذتني بعيدا, حيث التامل والايحاء, معادل للالهام الفني. و لكن ان لم تكن ثمة صحراء واقعية, فالفنان وحده من يصنع صحراء الهامه التي توحده وسر الخلق. والصحراء ليست مختبرا مدينيا لأنتاج فنا متحذلقا. مثلما هي المدينة بمختبراتها المغلقة تنتجه. وان لم يحسن فنان اليوم (وخاصة العربي) انصاته لأيحاءات فضائها السحري, كما كان حال اجداده المبدعين. ولكي يهرب فنان اليوم من مختبره, فانه التجأ الى بيئته لاستنطاقها. مفترقا عن رومانتيكية فضاء الافق الطبيعي, كما كان بعض من سابقيه.
ليس غريبا ان لا يفهم او لا يستوعب غالبية الناس عمل الفنان, في اوقات, او ازمنة معينة. فليس كل ابتكار فني مقبول او مستساغ من قبلهم, وقد تعودوا على مالوفة الاشياء, وسكونية هذه المالوفة. عمل الفنان الحقيقي هو كسر اوتجاوز هذه المالوف,الفنان في سعيه الابتكاري, لا يهتم ان كانت ابتكاراته وتصوراته قريبة او بعيدة عن الثقافة العامة. هو يسعى لان ينقلنا خطوة الى رؤية مستقبلية. فليس غريبا ان يكون العديد من طليعي الفن الحديث منبوذين من قبل مجتمعاتهم. وبالذات من ترك منهم بصمات واضحة على مستقبل الفن. لقد كان الهامهم اكبر بكثير من معاناتهم. فان تكن فنانا , فليس من الضرورة ان يحالفك الحظ الجمعي. ليس من السهولة ان نعرف من هو فنان اليوم. اذ اختلط الاداء الفني بكل ما يخطر على البال من تصورات ووسائل تنفيذية. وتشعبت سبلها, لحد بات تقييمها مهمة صعبة وتضع للاهواء. فمتاحف فن اليوم تحوي باستمرار. فهل بات الفنان مهرج ام قائد ذائقته لمجهولة اقامتها. اعتقد ان للعولمة دور كبير في خلط الاوراق الثقافية ـ فنية, لصالح منافع فئة صغيرة مهيمنة على وسائل الميديا الاكثر نفوذا في العالم. مع كل هذه الفوضى, فان متاهة الفن المعاصر لا تعدم فنانين نوابغ هنا او هناك وعبر خطوط عرض وطول الكرة الارضية, بدون استثناء. فما دامت بذرة الفن لا تزال تنمو منذ عصورنا الموغل في القدم وحتى الان. لكن يبقى الكل فنانون. ما داموا يخوضون غمار الهامهم او صنعتهم الفنية. وان كان كل عصر بحاجة للفنان النابغة, او النوعي كما نطلق عليه في ايامنا هذه. فهل صحت نبوءة الالماني (بويز) بان كل انسان فنان, والتي كلفته الاستغناء عن عمله التدريسي الذي حاول ان يطبق فيه نظريته (الجديدة ـ القديمة), هي السائدة الان. بما ان فناني العالم يتجاوزون الملايين. بما توفر لهم من وسائل تنفيذية, تجمع الهواية والاحتراف, وباتت ثمة خطوة صغيرة بين الهواية والاحتراف. كثيرا ما تنتج فنا, بمقياس ما. وليس من الضرورة ان يعلن هذا (الهاوي ـ الاحترافي) عن نفسه فنانا. ربما هي عودة لطفولة العالم تنتظرنا, ولو باتت الا أخيرا, هل هي حقيقة أن كل البشر فنانين, لكن بالتأكيد أن ما يميز بعضهم. هو حساسيتهم المفرطة في ملاحظة الأ شياء, سواء منها الكونية أو المتناهية الصغر, ومعرفة اسرار خلقها, واكتساب تلك المعرفة فطريا أو اراديا, وتنشيط الذاكرة الفنتازية, واقتناص الملامح الوجدانية في شقيها المعتم والمضيء ,هو ابن مجتمعه المتمرد على الثوابت, المؤسس لذائقته المتجددة. هو هذا الكيان الفنتازي الذي غالبا ما لا نوليه اهتمام, لكنه يولي ذواتنا كل اهتمامه بما يحفز جانبها الخفي على الانفتاح على عوالم كنا نفقدها لولاه.
...............................
من طفولة العالم, وقبل حوالي (40000) عاما, رسم وحفر فنان العصر الحجري على جدران وسقف الكهوف, صور عالمه متناسخا وحيواناته حد تجسيدها بمهارة هي جزء من مهارات فناني اليوم, في أمكنته السرية في عمق المغارات التي يتعسر الوصول اليها كان يود حفظ سرها. وهاهي مكتشفة في (350) كهفا في فرنسا واسبانيا فقط. ترى, هل كان شامانا ام فنانا يصنع تميته التي تنقذ طائفته, ام كائنا فضائيا يتدفأ بخيالات محيطه البيئي الجديد ويستذكر منشأه الأول, حيث العري جزء من تعرية الذات من زوائدها. لقد اثث من هذا العري مخلوقات لا تزال تتمتع بسحرها الذي لم تخربه كل العصور الموغلة في القدم. شهادة لفنان, ذلك الانسان الاول المتماهي والانسان الاخير في سحر الفن وومضة الابداع ومهارة الصياغة.
ماسر الختم الأسطواني السومري. فحجره من الصلابة بحيث نعجز عن نحته, كما فعلوا. ما سر الهته المجنحة المنقوشة(المفرغة عمقا), وما سر ملامحها الفضائية وملاحمها المبتكرة. وهل من نقشوها جاؤا فعلا من الفضاء, او جاء اسلافهم, مثل اوتونبشتم جد الملك جلجامش, وكما يذهب العالم الأمريكي (زكريا سيتشن) في كتابه (انكي المفقود). وهل نحن من هذه السلالات الفضائية. وهل عجزنا عن تتبع اثرهم (ونحن كذلك لهذا اليوم). لكن, وكما لفنان العصر الحجري دوافعه التي تتعدى التقصي, لتفجير مهارات اعجازية فنية, اعتقدها جزء من طبيعة مناطق اقامة الذات الانسانية في مجهولية الاقامة, حيث الذات جزء من سر الخلق الذي ينبثق من نبض الخلايا المنذورة للتأمل والتعبير, حتى في ظلمات الكهوف . السرية وبدائية مخلوقاته. لكن ان كان عدد الالهة السومرية يتجاوز الاربعة الاف. فهذا يعني, بمعنى ما, ان كل السومريين فنانين, ولو بحدود صناعة اختامهم الخاصة, او االمنذورة لالهتهم.
اذا كان (طفل العالم) السحيق فنانا, فان كل طفل هو فنان بطبعه. وفر له اية اداة رسم وسوف ترى. ليس الامر مجرد عبث, فنصف الدماغ الأيمن هو الأكثر فاعلية عنده. وفي هذا النصف يكمن السر, لذ هو مركز الابداع, كونه حدسي وتركيبي و يستوعب الفكرة الشمولية(يرى الاشياء ككل), اظافة الى انه يميل الى التناسق في الاشكال والانماط والاحجام. ومكمن لاحلام اليقضة والخيال والالوان والالحان والعاطفة والتعبير المجازي, والاقدر على تمثيل نسبية الاجسام في الفضاء. هذا الجزء الايمن من الدماغ هو المحترف الفعلي للفنان, حيث يقيم وينتج روائعه. وبناء على ذلك, فلا نستغرب ان صرح الكثير من الفنانين بانهم لا يزالوا اطفالا, وان لم يستطيعوا ذلك, فانهم يتمنوا ان يكونوا اطفالا.
لكن هل حافظنا على حيوية نصف دماغ الايمن للطفل, كما هو خامة تتطلغ بفضول لكل الموجودات. ام ساهم كل من العائلة والمدرسة والسلوك الاجتماعي, على ذبول منبع الالهام هذا.
الهة الحرب تقصي الفنان: لا اثينا افلاطون (427ـ347 ق.م.) في جمهوريته. ولا روما اعترفت بالفنان. فالاول اقصاه من جمهوريته, والثانية انزلته بمرتبة دنيا. لكن هل استطاع كلاهما محو ارث الفنان اليوناني او الروماني من الذاكرة او الوجود. ولم يجد كهنة معظم الديانات, وبظمنها السماوية, غير الفنان ليجسم او يشخص النص صورة تبقى حية في الذاكرة الجمعية, فالفنان هو الذي ابتكر الختم الاسطواني والايقونة والارابسك. هو الذي لون السماوات والارض والاجساد, واسكنها ارواحا فضائية وارضية, واشتق من قوس القزح وحركة الكواكب واواراق الشجر والزهور وكل المرئيات, ملاحم وقصصا وابتكارات خطية وتجسيمية, ومن خلجات الفؤاد عشاقا والحانا, انستنا حتى افعال كل الهة الحرب القدامى والجدد, وامدتنا بأمل تجاوز كد الحياة المضني.
دافنشي اوصانا بتتبع اثار التعري على الحيطان (وكما شاكر حسن ال سعيد من عصر اخر) وهم يعلمون جيدا ان انسان ما قبل التاريخ كان اشطر منهم ودون تاريخ حوادث عصره بوحي من اثار تعري كهوفه, سرا اكتشفناه مؤخرا. لكن فنان عصرنا الحاضر لا يتتبع خطوط الحظ وحدها من اثار الجدران, بما ان الفنان الان وارث كم هائل من الاثار والرؤى من شتى الحضارات, وله مطلق الحرية ليكتشف نفسه ضمن كل ذلك, او ضمن منطقة الايحاء الشاسعة التي عليه ان يجوب دروبها لوحده , هو ينأي عن اية تبعية تحوله الى مجرد حرفي ضمن رعيل الحرفيين الذي لا يحصى عدده. فالحذاقة او المهارة (التقنية) لوحدها لا تخلق غنانا, بدون الحدس والعب والالهام والتخيل. عاماء الرياضيات وبقية العلوم مهرة وحاذقين ايضا. لكن الفن ليس علما, ولولاه لتحول الانسان الى مجرد روبوت الي.
ليس غريبا ان يتناسل من عمق الصحراء العربية انبياء ورسل البشرية, وليس من المدن الحضرية. مع استثناء جنوب العراق السومري, كونه يتناظر وسيمترية الصحراء بمسطح مياهه ووحشة سكنه. انا نفسي جربت المبيت عدة مرات في صحراء الجزيرة العربية (في احدى هجراتي المبكرة), ما بين صفاء السماء التي لا تعد نجومها, ولا تناهي فضاء الرمال الذي تمسه الرياح مسا. لقد شملتني وحدة الكون, واخذتني بعيدا, حيث التامل والايحاء, معادل للالهام الفني. و لكن ان لم تكن ثمة صحراء واقعية, فالفنان وحده من يصنع صحراء الهامه التي توحده وسر الخلق. والصحراء ليست مختبرا مدينيا لأنتاج فنا متحذلقا. مثلما هي المدينة بمختبراتها المغلقة تنتجه. وان لم يحسن فنان اليوم (وخاصة العربي) انصاته لأيحاءات فضائها السحري, كما كان حال اجداده المبدعين. ولكي يهرب فنان اليوم من مختبره, فانه التجأ الى بيئته لاستنطاقها. مفترقا عن رومانتيكية فضاء الافق الطبيعي, كما كان بعض من سابقيه.
ليس غريبا ان لا يفهم او لا يستوعب غالبية الناس عمل الفنان, في اوقات, او ازمنة معينة. فليس كل ابتكار فني مقبول او مستساغ من قبلهم, وقد تعودوا على مالوفة الاشياء, وسكونية هذه المالوفة. عمل الفنان الحقيقي هو كسر اوتجاوز هذه المالوف,الفنان في سعيه الابتكاري, لا يهتم ان كانت ابتكاراته وتصوراته قريبة او بعيدة عن الثقافة العامة. هو يسعى لان ينقلنا خطوة الى رؤية مستقبلية. فليس غريبا ان يكون العديد من طليعي الفن الحديث منبوذين من قبل مجتمعاتهم. وبالذات من ترك منهم بصمات واضحة على مستقبل الفن. لقد كان الهامهم اكبر بكثير من معاناتهم. فان تكن فنانا , فليس من الضرورة ان يحالفك الحظ الجمعي. ليس من السهولة ان نعرف من هو فنان اليوم. اذ اختلط الاداء الفني بكل ما يخطر على البال من تصورات ووسائل تنفيذية. وتشعبت سبلها, لحد بات تقييمها مهمة صعبة وتضع للاهواء. فمتاحف فن اليوم تحوي باستمرار. فهل بات الفنان مهرج ام قائد ذائقته لمجهولة اقامتها. اعتقد ان للعولمة دور كبير في خلط الاوراق الثقافية ـ فنية, لصالح منافع فئة صغيرة مهيمنة على وسائل الميديا الاكثر نفوذا في العالم. مع كل هذه الفوضى, فان متاهة الفن المعاصر لا تعدم فنانين نوابغ هنا او هناك وعبر خطوط عرض وطول الكرة الارضية, بدون استثناء. فما دامت بذرة الفن لا تزال تنمو منذ عصورنا الموغل في القدم وحتى الان. لكن يبقى الكل فنانون. ما داموا يخوضون غمار الهامهم او صنعتهم الفنية. وان كان كل عصر بحاجة للفنان النابغة, او النوعي كما نطلق عليه في ايامنا هذه. فهل صحت نبوءة الالماني (بويز) بان كل انسان فنان, والتي كلفته الاستغناء عن عمله التدريسي الذي حاول ان يطبق فيه نظريته (الجديدة ـ القديمة), هي السائدة الان. بما ان فناني العالم يتجاوزون الملايين. بما توفر لهم من وسائل تنفيذية, تجمع الهواية والاحتراف, وباتت ثمة خطوة صغيرة بين الهواية والاحتراف. كثيرا ما تنتج فنا, بمقياس ما. وليس من الضرورة ان يعلن هذا (الهاوي ـ الاحترافي) عن نفسه فنانا. ربما هي عودة لطفولة العالم تنتظرنا, ولو باتت الا أخيرا, هل هي حقيقة أن كل البشر فنانين, لكن بالتأكيد أن ما يميز بعضهم. هو حساسيتهم المفرطة في ملاحظة الأ شياء, سواء منها الكونية أو المتناهية الصغر, ومعرفة اسرار خلقها, واكتساب تلك المعرفة فطريا أو اراديا, وتنشيط الذاكرة الفنتازية, واقتناص الملامح الوجدانية في شقيها المعتم والمضيء ,هو ابن مجتمعه المتمرد على الثوابت, المؤسس لذائقته المتجددة. هو هذا الكيان الفنتازي الذي غالبا ما لا نوليه اهتمام, لكنه يولي ذواتنا كل اهتمامه بما يحفز جانبها الخفي على الانفتاح على عوالم كنا نفقدها لولاه.
...............................
مالمو ـ
26ـ01ـ2013
معمل سجاد الحلة اليدوي ...أنتاج نوعي مميز !!!-حامد كعيد الجبوري
معمل سجاد الحلة اليدوي ...
أنتاج نوعي مميز !!!
حامد كعيد الجبوري
الأربعاء، 13 فبراير 2013
قصة قصيرة-ألآثاري- عادل كامل
قصة قصيرة
ألآثاري
عادل كامل
- إلى بهنام أبو الصوف.
قال ألآثاري، لنفسه، بعد عمل أستمر عدة أشهر، أنه لم، ولن يفقد الأمل.
لكن مساعده قال:
- أنك تتحدث عن آثار مهمة.هنا ،وسط الصحراء...
قاطعه الآثاري:
- لن أفقد الأمل..
- لكننا سنخترق الأرض ..
- أجل..أن فكرتي مازالت سليمة..
- لكننا لم نعثر على شيء مهم..
في تلك الساعات، هبت عاصفة رملية، حجبت ضوء الشمس. كان الجميع في خيامهم، وهناك، والآثاري يعمل وحيداً..يتأمل تراب الأرض..ويفكر في مشروعه: ماذا لو لم نعثر على أي شيء؟ ودار بخلده، أيضاً، أنه طالما أنجز أفكاره، بصواب..وطالما تأكد من جدوى أستثمار الافكار القديمة..قال ذلك، عندما شعر بالأعياء..فنز جسده عرقاً ساخناً..لكنه لم يفقد الأمل. قال أنه طالما أحس بمرارة الخيبة..لكن الخيبات أثمرت، قال أيضاً، أشياء ثمينة لا تحص.
ولوى رأسه بأتجاه الأرض ..تأمل الرمال..بدافع أغفال الأفكار الحزينة التي داهمته..إلا أنه سرعان ما عاد يتساءل: ما جدوى البحث عن حياة تعود إلى آلاف السنين؟ ما جدوى التحدث مع بشر تحولوا إلى متحجرات؟ إلا أنه سرعان ما أغرى نفسه بلذة الجواب..أن عمله يكمن في البحث المتعب..وفي أكتشاف أصوات تعود إلى أزمنة بعيدة، فالمعنى لا يقع خارجه، مثلما الطريق بمسافته.
- ماذا..أفعل..الآن؟ لا شيء. أيها الآثاري العجوز.
وراح يخاطب نفسه، بصوت مسموع:
- أمضينا ستة أشهر في العمل حتى الآن..ولم نكتشف تلك الحضارة الأولى..أعرق الحضارات..للأسف..إنها تحولت إلى رمال.
فقاطعه مساعده الدكتور أحمد:
- يخيّل إلي ّ أنك تبحث عن لا شيء..
- أرجوك..أن بحثنا ما زال في البدء..نعم..في البدء. فالنهاية وحدها لا وجود لها.
وعاد يحاور نفسه، وهو يتفحص التراب، في عمق الأرض:
- لابد أن أستمع إلى الأصوات..وأقول لكم جميعاً: كانت هنا، حضارة.
أن السؤال الذي أثاره الباحث، قبل بدء التنقيبات في الصحراء، كان يتعلق، كما جاء ذلك في الكتاب الرسمي للآثار العامة، بأن الحضارة بدأت في الصحراء. لكن الصحراء بلا حدود، وشاسعة تماماً، ألا أنه أختار الموضع، وقل للجميع: هنا بدأت الحضارة. ألا أن قوله: هنا بدأت الحضارة وعلينا أن نبحث عنها..لفت انتباه الجميع. ماذا يمكن أن تكتشف أيها الآثاري؟ قال في ذلك اليوم: اللغة..الأولى.
قال مساعده:
- أننا نبحث عن لا شيء..أليس كذلك؟
قال الآثاري بكبرياء:
- كلا..أننا نبحث عن الأشياء كلها.
- في هذه الرمال..؟
- نعم..أنت تعرف..يا أحمد..أن الرمال تخفي الأسرار..فماذا نفعل؟
- نخترقها..أليس كذلك؟
- عظيم ..
قاطعه المساعد:
- لكنك تبحث عن اللاشيء..في هذه الصحراء الشاسعة..الممتدة بلا حدود.
- أبداً..أنت تعرف علم الآثار..أنا لا أبحث عن الخزف أو العظام..أو بقايا رماد الحرائق القديمة..أنا لا أبحث عن الأوهام..فأنا قلت: هنا بدأت الحضارة..وهنا كانت اللغة..
وصمت..دخن..وفكر بأن فريق البعثة الآثارية في الصحراء، والعاصفة مازالت تقذف برمالها فوقهم..بأن الجميع متعبين ولا جدوى من البحث في الصحراء عن حضارة..أولى تعود إلى آلاف السنين..إلا أنه أعترف، سراً، وهو في عمق الأرض، بأنه لم يفشل قط في حياته. فهو قد أكتشف حضارات قديمة، ذات أهمية بالغة..كما أكتشف عناصر علمية وثقافية لا تثمن..لكنه الآن شعر بالأسى..
- يا صديقي لنترك هذه المهمة الشاقة..
أجاب الآثاري:
- ألا ترى أننا بلغنا نهايتها..؟
- هذا ما قلته في الشهر الأول..
كان الآثاري، الذي أمضى زهاء نصف قرن في عمله التنقيبي، لا يبحث عن نتائج يسيرة، أو عابرة..بل كان يكرر، طوال حياته، أن علم الآثار لم يبدأ بعد..كذلك دار بخلده، وهو يتفحص التراب الرطب، الذي سحقه بأصابعه الطويلة القوية، أن علم الآثار ليس إلا كذبة..
- ماذا قلت لنفسي؟ كلا..أن هذا العلم في تقدم..مثل علم الفضاء والطب الذري.
- أنك تتحدث مع نفسك..
- أعرف..
وكاد يعترف، بدافع حبه الصوفي لعمله، بأنه مازال يبحث عن نسمه..وينقب عنها..بين أطلال تعود إلى أزمنة موغلة..لكنه قال:
- أتركني.
- هنا..في هذا الموقع..في جوف الأرض؟
وتساءل مساعده حالا:
- ألا تخاف أن تبقى وحيداً؟
لم يجب. كان يود أن يعرف الخوف..وكان يود أن يعرف معناه..أنما قال..بهدوء:
- أتركني..أرجوك..
خرج بعض العمال من الموقع، من داخل جوف الأرض..وخرج الدكتور أحمد..وصار وحيداً في موقعع العمل، بعمق خيالي، كما قال لنفسه..حسناً..وتساءل: ماذا أريد؟ ولم يجب..إنما أمسك بالمعول وراح يحفر..
- ماذا تفعل؟
تساءل رجل عجوز، لم يغادر الموضوع بعد، فقال له الآثاري:
- أتركني.
وأصبح وحيداً..قال فجأة:
- الآن أعرف ماذا ينبغي أن أعمل..
راح يحفر، مثل عماله، وراح يدرس الأشياء الجديدة..
فجأة..داخل البئر..وفي لحظة أرتج جسده فيها، سمع صوتاً غامضاً. تماسك، مثلما يفعل عند أكتشاف كبير. لكن الصوت أختفى. قال أنه يعاني من الأعياء..ولولا ذلك العناد مع النفس، الذي أتسم به، لغادر حفرة التنقيب، التي تشبه البئر. كان تارة يفكر بإعضاء البعثة والعاصفة الرملية..ويفكر تارة أخرى بمواصلة العمل..فأختار الحفر..كان يضرب الأرض الرطبة الطينية، التي لا تشير إلى أمر مهم..بكل قواه..بكل ما تبقى لديه من قوة الجسد، وأصرار الروح المبهم. سأكتشف..ودار بخلده، أنه يخشى سوء اختيار مكان التنقيب. بلا تفكير، وأصل ضرب الأرض، في جدار الحفرة..غير مكترث لقواه التي بدأت تتلاشى، ولصعوبة تحريك أصابعه..كان ثمة أمل ما يشده، ويجدد ما تبقى من قواه، كان وحيداً، مثلما كان يعمل وحيداً، خلال حياته في الوديان والصحارى والجبال..بلا تعب أو أوهام..
في صمت تام، وبعد أن ترك العمل، حدق في حركة غريبة بجدار الحفرة، تجمد..وكاد يستغيث..لولا أن المفاجأة جمدته تماماً.
راح يحدق في رؤوس أطفل وقد خرجت من الجانب الآخر..عدة رؤوس..صغيرة..وهي تحدق فيه صامته.
لم يتكلم..بالأحرى حسب الأمر محض حلم..أو تصوره مجرد وهم ولا علاقة له بعمله بتاتاً. إنما سأله أحدهم:
- ماذا تفعل هنا؟
أدرك، عملياً، أنه لا يستطيع الرد..ولا يستطيع التكلم. شل لسانه، وتجمد جسده. فعاد الصوت:
- سألتك ماذا تفعل، هنا، في أرضنا؟
دار بخاطره، أن الأمر حقيقة..فقال، بكملات مبهمة:
- لا..أعر..ف..بالضبط..ماذا..أريد.. لكن الطفل صرخ:
- أنك تنقب عنا.
ثم أضاف طفل آخر:
- أنك تبحث عنا..
- وصرخ ثالث:
- أنك تنوي أن تضعنا في المتحف.
نظر إلى الوجوه، الحائرة، وقد أدرك أن خطأ ما حصل..فقال، بعد أن هدأ من غضبه الداخلي، ومن خوفه:
- كنت أبحث عن حضارة قديمة..ضحك الجميع، بصوت واحد، وقال أولهم:
- هل أنقرضت حضارتكم؟
- لا ..
- إذن ما شأنك بحضارة تعود إلى مليون سنة مضت؟
وآضاف الثاني:
- ثم أننا لم نشن الحرب ضدكم..
ثم قال الثالث:
- ألا تتركوننا سعداء نعيش بعيداً عنكم..هل تعرف معنى السعادة؟
كاد يعترف بأن سعادته تكمن في أكتشاف الآثار القديمة..تلك السعادة التي تتضاعف كلما كان الأكتشاف أكثر أهمية، وقيمة آثارية. ومعنى إنساني..وكاد يعترف بأن سعادته الآن تكمن في أكتشافه حفنة أطفال مطمورين تحت رمال الصحراء منذ مليون ستة خلت.. لكنه أنتظر..
قال الأول يسأله:
- لا أعتقد أنك تكن أي تقديس لنفسك..إليس كذلك ؟
أجاب بذهول:
- لا أعرف.
قال الثاني يسأله أيضاً:
- بل أنك لا تكن أي تقديس لنفسك..أليس كذلك ؟
- ربما ..
وقال الثالث متسائلاً، بصوت أعلى:
- إذن ماذا تريد منا ..؟
وتابع بسرعة:
- لِم َ لا تبحث عن سعادت فوق الأرض؟ ثم أننا، صراحة، لم نفكر لحظة واحدة بالبحث عنكم.
وأضاف الطفل الأول:
- لابد أنكم تبحثون في السماوات أيضاً؟
أجاب الآثاري حالاً:
- أجل..نبحث في كل مكان..
- نعم .
بعد هذا الحديث الوجيز..سمع الآثاري صوت مساعده يناديه..وسمع أصوات عماله..إلا أنه، بلا وعي، قذف بجسده العملاق في الكوة التي يطل منها الأطفال، وأختفى معهم، رغم ما أبدوه من معارضة وأمتعاض.
ولما وصل المساعد، والعمال، والجميع، إلى قاع الحفرة، لم يعثروا على الآثاري..الأمر الذي دفع بالدكتور أحمد إلى القول:
- مهمتنا بدأت الآن.
وعلى الرغم من أن الرمال غطت كل شيء، في الخارج، إلا أن مساعد الآثاري، لم يفقد الأمل، في العثور على العالم الكبير، صديقه الآثاري..وكان ذلك هدفه الوحيد.
1986
قال ألآثاري، لنفسه، بعد عمل أستمر عدة أشهر، أنه لم، ولن يفقد الأمل.
لكن مساعده قال:
- أنك تتحدث عن آثار مهمة.هنا ،وسط الصحراء...
قاطعه الآثاري:
- لن أفقد الأمل..
- لكننا سنخترق الأرض ..
- أجل..أن فكرتي مازالت سليمة..
- لكننا لم نعثر على شيء مهم..
في تلك الساعات، هبت عاصفة رملية، حجبت ضوء الشمس. كان الجميع في خيامهم، وهناك، والآثاري يعمل وحيداً..يتأمل تراب الأرض..ويفكر في مشروعه: ماذا لو لم نعثر على أي شيء؟ ودار بخلده، أيضاً، أنه طالما أنجز أفكاره، بصواب..وطالما تأكد من جدوى أستثمار الافكار القديمة..قال ذلك، عندما شعر بالأعياء..فنز جسده عرقاً ساخناً..لكنه لم يفقد الأمل. قال أنه طالما أحس بمرارة الخيبة..لكن الخيبات أثمرت، قال أيضاً، أشياء ثمينة لا تحص.
ولوى رأسه بأتجاه الأرض ..تأمل الرمال..بدافع أغفال الأفكار الحزينة التي داهمته..إلا أنه سرعان ما عاد يتساءل: ما جدوى البحث عن حياة تعود إلى آلاف السنين؟ ما جدوى التحدث مع بشر تحولوا إلى متحجرات؟ إلا أنه سرعان ما أغرى نفسه بلذة الجواب..أن عمله يكمن في البحث المتعب..وفي أكتشاف أصوات تعود إلى أزمنة بعيدة، فالمعنى لا يقع خارجه، مثلما الطريق بمسافته.
- ماذا..أفعل..الآن؟ لا شيء. أيها الآثاري العجوز.
وراح يخاطب نفسه، بصوت مسموع:
- أمضينا ستة أشهر في العمل حتى الآن..ولم نكتشف تلك الحضارة الأولى..أعرق الحضارات..للأسف..إنها تحولت إلى رمال.
فقاطعه مساعده الدكتور أحمد:
- يخيّل إلي ّ أنك تبحث عن لا شيء..
- أرجوك..أن بحثنا ما زال في البدء..نعم..في البدء. فالنهاية وحدها لا وجود لها.
وعاد يحاور نفسه، وهو يتفحص التراب، في عمق الأرض:
- لابد أن أستمع إلى الأصوات..وأقول لكم جميعاً: كانت هنا، حضارة.
أن السؤال الذي أثاره الباحث، قبل بدء التنقيبات في الصحراء، كان يتعلق، كما جاء ذلك في الكتاب الرسمي للآثار العامة، بأن الحضارة بدأت في الصحراء. لكن الصحراء بلا حدود، وشاسعة تماماً، ألا أنه أختار الموضع، وقل للجميع: هنا بدأت الحضارة. ألا أن قوله: هنا بدأت الحضارة وعلينا أن نبحث عنها..لفت انتباه الجميع. ماذا يمكن أن تكتشف أيها الآثاري؟ قال في ذلك اليوم: اللغة..الأولى.
قال مساعده:
- أننا نبحث عن لا شيء..أليس كذلك؟
قال الآثاري بكبرياء:
- كلا..أننا نبحث عن الأشياء كلها.
- في هذه الرمال..؟
- نعم..أنت تعرف..يا أحمد..أن الرمال تخفي الأسرار..فماذا نفعل؟
- نخترقها..أليس كذلك؟
- عظيم ..
قاطعه المساعد:
- لكنك تبحث عن اللاشيء..في هذه الصحراء الشاسعة..الممتدة بلا حدود.
- أبداً..أنت تعرف علم الآثار..أنا لا أبحث عن الخزف أو العظام..أو بقايا رماد الحرائق القديمة..أنا لا أبحث عن الأوهام..فأنا قلت: هنا بدأت الحضارة..وهنا كانت اللغة..
وصمت..دخن..وفكر بأن فريق البعثة الآثارية في الصحراء، والعاصفة مازالت تقذف برمالها فوقهم..بأن الجميع متعبين ولا جدوى من البحث في الصحراء عن حضارة..أولى تعود إلى آلاف السنين..إلا أنه أعترف، سراً، وهو في عمق الأرض، بأنه لم يفشل قط في حياته. فهو قد أكتشف حضارات قديمة، ذات أهمية بالغة..كما أكتشف عناصر علمية وثقافية لا تثمن..لكنه الآن شعر بالأسى..
- يا صديقي لنترك هذه المهمة الشاقة..
أجاب الآثاري:
- ألا ترى أننا بلغنا نهايتها..؟
- هذا ما قلته في الشهر الأول..
كان الآثاري، الذي أمضى زهاء نصف قرن في عمله التنقيبي، لا يبحث عن نتائج يسيرة، أو عابرة..بل كان يكرر، طوال حياته، أن علم الآثار لم يبدأ بعد..كذلك دار بخلده، وهو يتفحص التراب الرطب، الذي سحقه بأصابعه الطويلة القوية، أن علم الآثار ليس إلا كذبة..
- ماذا قلت لنفسي؟ كلا..أن هذا العلم في تقدم..مثل علم الفضاء والطب الذري.
- أنك تتحدث مع نفسك..
- أعرف..
وكاد يعترف، بدافع حبه الصوفي لعمله، بأنه مازال يبحث عن نسمه..وينقب عنها..بين أطلال تعود إلى أزمنة موغلة..لكنه قال:
- أتركني.
- هنا..في هذا الموقع..في جوف الأرض؟
وتساءل مساعده حالا:
- ألا تخاف أن تبقى وحيداً؟
لم يجب. كان يود أن يعرف الخوف..وكان يود أن يعرف معناه..أنما قال..بهدوء:
- أتركني..أرجوك..
خرج بعض العمال من الموقع، من داخل جوف الأرض..وخرج الدكتور أحمد..وصار وحيداً في موقعع العمل، بعمق خيالي، كما قال لنفسه..حسناً..وتساءل: ماذا أريد؟ ولم يجب..إنما أمسك بالمعول وراح يحفر..
- ماذا تفعل؟
تساءل رجل عجوز، لم يغادر الموضوع بعد، فقال له الآثاري:
- أتركني.
وأصبح وحيداً..قال فجأة:
- الآن أعرف ماذا ينبغي أن أعمل..
راح يحفر، مثل عماله، وراح يدرس الأشياء الجديدة..
فجأة..داخل البئر..وفي لحظة أرتج جسده فيها، سمع صوتاً غامضاً. تماسك، مثلما يفعل عند أكتشاف كبير. لكن الصوت أختفى. قال أنه يعاني من الأعياء..ولولا ذلك العناد مع النفس، الذي أتسم به، لغادر حفرة التنقيب، التي تشبه البئر. كان تارة يفكر بإعضاء البعثة والعاصفة الرملية..ويفكر تارة أخرى بمواصلة العمل..فأختار الحفر..كان يضرب الأرض الرطبة الطينية، التي لا تشير إلى أمر مهم..بكل قواه..بكل ما تبقى لديه من قوة الجسد، وأصرار الروح المبهم. سأكتشف..ودار بخلده، أنه يخشى سوء اختيار مكان التنقيب. بلا تفكير، وأصل ضرب الأرض، في جدار الحفرة..غير مكترث لقواه التي بدأت تتلاشى، ولصعوبة تحريك أصابعه..كان ثمة أمل ما يشده، ويجدد ما تبقى من قواه، كان وحيداً، مثلما كان يعمل وحيداً، خلال حياته في الوديان والصحارى والجبال..بلا تعب أو أوهام..
في صمت تام، وبعد أن ترك العمل، حدق في حركة غريبة بجدار الحفرة، تجمد..وكاد يستغيث..لولا أن المفاجأة جمدته تماماً.
راح يحدق في رؤوس أطفل وقد خرجت من الجانب الآخر..عدة رؤوس..صغيرة..وهي تحدق فيه صامته.
لم يتكلم..بالأحرى حسب الأمر محض حلم..أو تصوره مجرد وهم ولا علاقة له بعمله بتاتاً. إنما سأله أحدهم:
- ماذا تفعل هنا؟
أدرك، عملياً، أنه لا يستطيع الرد..ولا يستطيع التكلم. شل لسانه، وتجمد جسده. فعاد الصوت:
- سألتك ماذا تفعل، هنا، في أرضنا؟
دار بخاطره، أن الأمر حقيقة..فقال، بكملات مبهمة:
- لا..أعر..ف..بالضبط..ماذا..أريد.. لكن الطفل صرخ:
- أنك تنقب عنا.
ثم أضاف طفل آخر:
- أنك تبحث عنا..
- وصرخ ثالث:
- أنك تنوي أن تضعنا في المتحف.
نظر إلى الوجوه، الحائرة، وقد أدرك أن خطأ ما حصل..فقال، بعد أن هدأ من غضبه الداخلي، ومن خوفه:
- كنت أبحث عن حضارة قديمة..ضحك الجميع، بصوت واحد، وقال أولهم:
- هل أنقرضت حضارتكم؟
- لا ..
- إذن ما شأنك بحضارة تعود إلى مليون سنة مضت؟
وآضاف الثاني:
- ثم أننا لم نشن الحرب ضدكم..
ثم قال الثالث:
- ألا تتركوننا سعداء نعيش بعيداً عنكم..هل تعرف معنى السعادة؟
كاد يعترف بأن سعادته تكمن في أكتشاف الآثار القديمة..تلك السعادة التي تتضاعف كلما كان الأكتشاف أكثر أهمية، وقيمة آثارية. ومعنى إنساني..وكاد يعترف بأن سعادته الآن تكمن في أكتشافه حفنة أطفال مطمورين تحت رمال الصحراء منذ مليون ستة خلت.. لكنه أنتظر..
قال الأول يسأله:
- لا أعتقد أنك تكن أي تقديس لنفسك..إليس كذلك ؟
أجاب بذهول:
- لا أعرف.
قال الثاني يسأله أيضاً:
- بل أنك لا تكن أي تقديس لنفسك..أليس كذلك ؟
- ربما ..
وقال الثالث متسائلاً، بصوت أعلى:
- إذن ماذا تريد منا ..؟
وتابع بسرعة:
- لِم َ لا تبحث عن سعادت فوق الأرض؟ ثم أننا، صراحة، لم نفكر لحظة واحدة بالبحث عنكم.
وأضاف الطفل الأول:
- لابد أنكم تبحثون في السماوات أيضاً؟
أجاب الآثاري حالاً:
- أجل..نبحث في كل مكان..
- نعم .
بعد هذا الحديث الوجيز..سمع الآثاري صوت مساعده يناديه..وسمع أصوات عماله..إلا أنه، بلا وعي، قذف بجسده العملاق في الكوة التي يطل منها الأطفال، وأختفى معهم، رغم ما أبدوه من معارضة وأمتعاض.
ولما وصل المساعد، والعمال، والجميع، إلى قاع الحفرة، لم يعثروا على الآثاري..الأمر الذي دفع بالدكتور أحمد إلى القول:
- مهمتنا بدأت الآن.
وعلى الرغم من أن الرمال غطت كل شيء، في الخارج، إلا أن مساعد الآثاري، لم يفقد الأمل، في العثور على العالم الكبير، صديقه الآثاري..وكان ذلك هدفه الوحيد.
1986
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)