متدينون بالشكل واللسان
جريدة المستقبل / بغداد / 3/1/2012
كاظم فنجان الحمامي
هل كان الكاتب الياباني (نوتوهارا) موفقاً عندما جازف بسبر أغوار شخصيت
نا العربية المعقدة في كتابه الأخير: (العرب من وجهة نظر يابانية) ؟؟, وهل كان صائباً عندما قال عنا ؟؟:-
العرب: متدينون جداً. . . فاسدون جداً
نحن نؤمن إيمانا نظريا قاطعا أن الدين هو الركيزة الأساسية القادرة على خلق منظومة اجتماعية مسالمة, مبنية على التمسك بالأخلاقيات والسلوكيات القويمة, لكننا نخشى أن يرتبط التدين بالمظهر أكثر من ارتباطه بالجوهر, فيفقد مضامينه الروحية بشيوع التدين الشكلي, ليتحول إلى مظهرية تتسم بسطحية منزوعة المعاني, فالإيمان الحقيقي ليس بالتمني, ولا بالتحلي, ولكن ما وقر في القلب, وصدّقه العمل.
لقد وقع ما كنا نخشاه عندما انتشرت عندنا مظاهر الورع النفعي في كل مكان, حتى اصطبغت بها أرصفة الشوارع, وتزينت بها واجهات المؤسسات الحكومية والأسواق والمحال التجارية, وطغت على سلوك كبار القوم وصغارهم, بحيث صار التدين الشكلي هو الشعار الشعبي والرسمي والسياسي والمهني, لدرجة انك تحس وكأننا نحلق في فضاءات العفة والطهارة والنزاهة, وننعم بالطمأنينة والهناء والصفاء والوئام والسلام, في الوقت الذي تستيقظ فيه مدننا على أصوات العبوات الناسفة, وتستفزها صفارات سيارات النجدة, ودوي عجلات الإسعاف والدفاع المدني, وزعيق مواكب المسئولين وهي تنتهك نظام المرور جيئة وذهابا, حتى صارت مدننا تحتل المرتبة الأولى في سجلات المدن الدموية الأكثر صخبا وتعرضا للضجيج والتفجير, وجاء اليوم الذي وقف فيه العراق
في طليعة البلدان غير النزيهة في التصنيف العالمي لمنظمة الشفافية العالمية. .
فكيف يمكن أن نكون الأكثر استقامة والأكثر انحرافا في آن واحد؟, وكيف يمكن أن نكون الأكثر حكمة والأكثر رعونة ؟, والأكثر رحمة والأكثر نقمة ؟, وكيف تجتمع الأضداد كلها فوق رؤوسنا الخاوية من دون شعوب الأرض. .
من الواضح أن مجتمعنا يمر اليوم بحالة غير مسبوقة من انفصام الشخصية, وانفصال العقيدة في السلوك والتطبيق, ويعزا ذلك إلى غياب المعايير الأخلاقية العامة, التي أكدت عليها الأديان السماوية كلها, فضلا عن شيوع الغش والكذب والنفاق, بحيث صار الدين في كثير من الأحيان مختزلا في مجموعة من ممارسات وصولية, وإجراءات سطحية مفتعلة,
يراد منها التزلف والتقرب لنيل المراتب, أو لتحقيق المكاسب, ويراد منها التبضع السياسي. .
أصبحنا نعيش في عصر يهتم فيه أصحاب الوجوه الزئبقية بمظهرهم لا بجوهرهم, فتراهم يتلاعبون بتضاريس وجوههم وجباههم, فيضعون الأقنعة التنكرية لتغطية ملامحهم الحقيقية, ويتخذون ماكياج التدين والوقار الزائف كبطاقات ترانزيت لعبور بوابات النصب والاحتيال, أو لاستغلال سذاجة الناس وطيبتهم, تمهيدا لتحقيق مآربهم الدنيوية, ونيل المناصب والدرجات الرفيعة. .
وانحصرت أدوات التظاهر الشكلي بحلاقة الشوارب, وإطلاق اللحى, وكي الجباه, وتقصير الثياب, والتباهي بتنويع الخواتم الكبيرة والصغيرة, وترديد بعض العبارات المشفرة, والكلمات المنمقة, وإظهار الشدة والصلابة المفتعلة عند التعامل مع عامة الناس, والتمسك بالقشور إلى درجة المبالغة في استعراض صور نمطية منسوخة من قوالب كاريكاتيرية متناظرة, حتى صار من المألوف مشاهدة الكثير من هذه النماذج المتخشبة, من الذين أساءوا للدين والتدين بمزايداتهم التمثيلية المعادة.
يتسترون بالدين, ويتظاهرون بالورع والتقوى, ويستبطنون الكفر والفسوق والعصيان, فاستغلوا الدين وقودا لإشعال فتيل الصراعات السياسية, وتأجيج نيران الفتن الطائفية, واتخذوا الدين جسرا تكتيكيا عبروا من خلاله إلى مواقع التسلط, وتبرقعوا ببرقع الإيمان المزيف وهم ابعد ما يكونون عن الدين وعن طاعة رب العالمين. .
مزيفون أعمى حب المال بصائرهم, فتمظهروا بكل أنماط الخشوع السطحي, خلعوا المهابة المصطنعة على عناوين شركاتهم المتنامية في مستنفعات الفساد, تحصنوا خلف جدران الرياء وتلحفوا بردائه, استغلوه استغلالا بشعا في الترويج لمنتجاتهم وبضائعهم المغشوشة, فأقحموا الرموز الدينية في الأنشطة الاستثمارية, التي شهدت في الآونة الأخيرة موجات جديدة لمشاريع ربحية اصطبغت بصبغة دينية صارخة.
نحن على يقين تام أن المتاجرة تحت غطاء الدين ليست اختراعا حديثا, بل هي قديمة قدم نشوء الأديان وتطورها في عصورها التاريخية المختلفة, فالطبيعة الاستغلالية التي تكبل الإنسان بالمادية هي طبيعة جشعة من شأنها أن تستفيد من كل فرصة في سبيل تحقيق مطامعها, فلا عجب أن نرى المتاجرة بالقيم الدينية وقد صارت اليوم هي الوسيلة الأسرع والأسهل لتحقيق الثراء الفاحش, بحيث امتطوا صهوة التدين السطحي, واتخذوا منه مطية لتحقيق مآربهم. .
أن أمثال هؤلاء لا يعرفون حقوقهم ولا حقوق غيرهم, وتكاد تنحصر صولاتهم الانتهازية في حدود أنشطتهم الوصولية المكشوفة, لكنهم أن صعدوا أو نزلوا, أو غابوا أو حضروا, لا يعدون عن كونهم مجرد كومبارس في هذا السيرك الرمادي المزعج. . .