الخميس، 22 ديسمبر 2011

موانئنا النفطية أولى بالمعروف-كاظم فنجان الحمامي


موانئنا النفطية أولى بالمعروف
جريدة المستقبل العراقية / بغداد في 21/12/2011
كاظم فنجان الحمامي
نحن عندما نتحدث عن الأولويات, التي يفترض أن نمنحها لموانئنا, فأننا ننطلق من المعطيات والأسس والأهداف السيادية والاقتصادية والملاحية, التي لا يتسع المقام هنا لاستعراضها كلها والتطرق إليها. .
كنا ومازلنا نذود بالدفاع عن منافذنا البحرية وممراتنا الملاحية, ونسعى لتوفير مستلزمات الرقي والتفوق والنهوض بمستوى الأداء نحو الأفضل, وبالقدر الذي يجعلنا نقف في مصاف الموانئ المتقدمة. .
وبناء عليه فأننا نرى أن التصريحات النفطية المعلنة في اجتماع مجلس الوزراء يوم السابع من حزيران عام 2011 ستعود بنا إلى الاتكال على الموانئ البديلة, والاعتماد عليها في تصدير النفط الخام, بدلا من تصديره عبر موانئنا العراقية, وستؤدي إلى هدر الأموال الطائلة لتغطية تكاليف المنشآت المينائية في العقبة واللاذقية, بدلا من صرف النزر اليسير منها في تغطية تكاليف بناء ميناء الفاو الكبير, أو صرفها في توسيع منصاتنا النفطية في خور العُمَّيَة وخور الخفقة. .
جاء في التصريحات انه في نية العراق تصدير أكثر من أربعة ملايين برميل يوميا من النفط الخام عن طريق الموانئ السورية والأردنية, لذا فأن الحد الأدنى من عمولات الترانزيت التي ستحققها الموانئ البديلة من الموارد المالية النظيفة, ستكون في أسوأ حالاتها أعلى مما تحققه الموانئ التجارية في العقبة وطرطوس واللاذقية من خدماتها المقدمة لسفن البضائع العامة المترددة عليها, فلو فرضنا ان عمولات الترانزيت التي سيدفعها العراق لسوريا أو للأردن هي دولار واحد فقط لكل برميل, فان تصدير أربعة ملايين برميل في اليوم الواحد سيحقق لتلك البلدان أربعة ملايين دولار يوميا, وبإجراء كشف حسابي بسيط, وكما مبين في أدناه, سنجد أنها ستجني (28) مليار دولار في حدود عشرين سنة:
1 dollar x 4 million barrel = 4 million $ / day
4 million $ x 360 day x 20 years =28.800 Billion $
ما يعني أننا سنفرط بهذا الكم الهائل من مواردنا المالية لتسديد عمولات الترانزيت وحدها, ناهيك عن المبالغ المترتبة على تكاليف إنشاء شبكات الأنابيب, ونصب محطات الضخ, وتكاليف تشغيلها وصيانتها, والتي لا تقل في أقل تقدير عن أربعين مليار دولار, فضلا عن احتمال تحمل العراق حصة كبيرة من تكاليف تطوير منصات التصدير في الموانئ السورية والأردنية, من أجل زيادة طاقتها التصديرية بما يتلاءم مع برامج العراق ومخططاته. .

وقد يضطر العراق لمساعدة البلدين وتمويل بناء موانئهما, أو توسيعها لكي تستوعب الزيادة المضافة إلى طاقتها التصديرية.
سبعون مليار دولار من المتوقع أن ندفعها لدول الجوار في غضون عشرين سنة عند تطبيقنا لسياسة تصدير النفط عبر الموانئ البديلة, في حين لا يتطلب منا إنشاء ميناء الفاو الكبير سوى عشر هذه المبالغ, وبالاتجاه الذي يضمن لنا بناء أرصفتنا المستقبلية العملاقة القادرة على استقبال أكثر من (100) سفينة عملاقة, وبمعدلات تصديرية أعلى بكثير من معدلات التصدير عبر الموانئ البديلة. .
وتجدر الإشارة هنا: أن سيطرة العراق على خطوط الأنابيب في شبكة التصدير الخارجية تنتهي عند الحدود العراقية, وتصبح منشآت التخزين والتحميل والعدادات تحت السيطرة السورية, أما في الأردن فالأمر يصبح أكثر تعقيدا لأن منصات التصدير ستقع تحت سيطرة الأردن من جهة, وتصبح في متناول السفن الحربية الإسرائيلية من جهة أخرى, فالنفط الخام في كل دولة من الدول يمر بثلاث مراحل: المرحلة الأولى وتتمثل بالإنتاج, الذي يقع تحت سيطرتنا, والمرحلة الثانية وتتمثل بالنقل عبر شبكة الأنابيب, التي نفقد سيطرتنا عليها بمجرد تخطيها الحواجز الحدودية, والمرحلة الثالثة وتتمثل بمنصات التصدير في الموانئ البديلة, والتي لا سلطة لنا عليها, وبالتالي فأننا سنخسر الكثير بسبب عدم قدرتنا على النهوض بواجبات الإشراف والمراقبة والتدقيق والرصد والمحاسبة في الموانئ البديلة.
بينما سيكون زمام الأمور كلها بأيدينا عند قيامنا بتصدير نفطنا عبر موانئنا الوطنية, أو عبر ميناء الفاو الكبير, الذي سيكون قادرا على تلبية احتياجات التصدير والنقل في المستقبل القريب والبعيد. .
ومن المؤكد انه سيكون قادرا على الوفاء بالتزامات وزارة النفط, التي تخطط لرفع سقف التصدير إلى (12) مليون برميل يوميا خلال السنوات الخمس القادمة, لذا فان تصدير أربعة ملايين برميل يوميا عبر الموانئ البديلة سيؤدي اقتطاع نسبة (40%) من حصة موانئنا والتنازل عنها لصالح دول الجوار, بحيث تكون تحت سيطرتها وبإشرافها. .
تبقى مسألة في غاية الأهمية, وهي: أن تصدير نسبة (40%) من نفطنا عبر الموانئ الأردنية والسورية المطلة على البحر الأبيض المتوسط, سيؤدي إلى زيادة الضخ من موانئ المتوسط, والذي تصدر منه كل الأقطار المطلة عليه, وبالتالي زيادة العرض لكميات النفط الخام, وانخفاض الأسعار, وتدهور الواردات العراقية.
مما لا ريب فيه أن الأوضاع الجغرافية الخاصة, التي تنفرد بها الموانئ العراقية المتقوقعة في الزاوية الشمالية الغربية من حوض الخليج العربي تلزمنا بتوفير أقصى درجات الدعم والإسناد لمنافذنا البحرية, الأمر الذي يستدعي عدم اللجوء إلى الموانئ البديلة التي ستزدهر وتنتعش على حساب موانئنا, ويستدعي عدم التفريط بموانئنا, فمشاريعنا المينائية أولى بالمعروف من غيرها. .
--

أيها الساسة تريدون ولا نريدكم-حامد كعيد الجبوري


إضاءة
أيها الساسة تريدون ولا نريدكم
حامد كعيد الجبوري
منذ مدة وأنا حاول أن لا أكتب شيئا في السياسة وشجونها المرة ، وربما عزفت عن القراءة والتتبع لما يكتب بسبب هذه المهاترات السياسية التي لا ترقى لفعل الصبية ، واكتفيت بالتتبع والنشاط الثقافي والأدبي حصرا ، وكل يوم أحاول فيه الكتابة أرجئ ذلك لوقت لاحق حتى طفح الكيل تشاؤما لما يدور في العلن وليس في الخفاء ، وكأن كل شئ بني على خطأ ، وأصر الكرسي السياسي على البقاء على ذلك الخطأ المقصود ، بمعنى أنه أصبح غير خطأ ، وسنت قوانين لشرعنته ، الكل يتربص بالكل ، فازت العراقية بأعلى المقاعد وذهبوا الى المحكمة الاتحادية وفسرت الماء بالماء ، وبدأت معركة تشكيل الحكومة التي لا تزل ينقصها وزيران أمنيان مهمان جدا ، ( المالكي ) يصرح لا نرغب ب( علاوي ) بعمليتنا السياسية ، ( العلاوي ) يصرح أن رئيس الوزراء لا يصلح لهذا المنصب وليستبدل بأي شخص آخر من الائتلاف الوطني ، وكأن العراق رغبة ل ( علاوي ) ولغيره ، وكأنهم بمراحل دراسية أولى ويستبدلون مراقب الصف متى شاءوا ، ( المطلك ) يقول أن رئيس وزرائه أكثر دكتاتورية من ( صدامه ) المقبور ، نائب لرئيس الجمهورية متهم بقضية إرهاب خطيرة ، فلان يريد إلغاء الانتخابات وما أفرزته والذهاب الى انتخابات مبكرة ، آخر يصرح يفترض أن نشكل حكومة أغلبية تضم الكورد والشيعة ، السنة يقولون أن شكلت مثل هذه الحكومة فهي حكومة طائفية لأنهم سيخسرون مؤكدا كل وزاراتهم التي غنموها ، وزارة للدفاع تباع بسوق المزاد ب( عمان ) عاصمة الأردن ، صفقات للسلاح فاقد الصلاحية بمليارات الدولارات الأمريكية ، صفقات للسونار تكتشف المخللات والروائح ولا تكتشف العبوات والمتفجرات ، مسدسات كاتمة مهيأة لكل من يعارض فلان أو فلان ، وزير يسرق المليارات ويدفع غرامة زهيدة ويعفى عنه ، وزير للكهرباء يسرق 6 مليار دولار أمريكي ، وزير للدفاع يسرق ويقتسم مع غيره لقاء بقائه مصانا في إقليم كردستان ، عضو برلمان سابق يمسك بجرم الإرهاب ويساوم عليه من قبل قائمته ويخرج بصفقة سياسية قذرة ، مجالس محافظات ليس لها إلا السفرات السياحية والترفيهية ، مزورون للشهادات ويعفى عنهم ، وما خفي هو الأعظم ، يتهمون الطاغية المقبور بعمالته المخبأة ويوقعون صكوك تسليم البلد جهرة ، والأغرب أنهم جميعا يتحدثون ويتشدقون بوطنية مزيفة لا وجود لها على أرض الحقيقة ، الكل نريد ونريد ثم نريد ، ولا تمتلئ بطونهم وأكمامهم بمال منهوب ، الكل يريد ولا يحدثون أنفسهم بما يريد هذا الشعب المبتلى بهم ، ولأن الكيل طفح كما أوردت لذا ليسمعوا ما نريده نحن منهم ، لا نريد إلا أن يتركونا نحن أبناء هذا البلد نصنع تاريخنا بأنفسنا ، ليتركونا جميعهم أحزابا وتجمعات سنية وشيعية وغيرها ، وسنريهم كيف سينهض هذا الوطن الجريح ويرسم حياته الوطنية بلا هذه الأسماء التي تثير لدينا الغثيان ، للإضاءة .... فقط .

الاثنين، 19 ديسمبر 2011

إنفجارات .. وطفولة .. وسنابل-يحيى السماوي



إنفجارات .. وطفولة .. وسنابل
يحيى السماوي


إنفجرتْ حبّة ُ قمحٍ
فأعـشـبَـتْ سـنبلة ..
إنفجرت السنبلةُ
فأنجبَتْ بيدرا ..
لكنّ قنبلة ً انفجرتْ في مدرسة
فأغلقتْ ستة صفوف
وذبحتْ سِـربَ عـصـافـيـر
مُـطـوّحـة ًبمئذنة ٍ
كانت ترشُّ فضاءَ المدينة
برذاذ الصلوات !
*

لا تذعري ياحبيبتي
سـنعود يوما ً لـنـردم الـخـنـادق
ونبني صفوفا ً جديدة
مُـفـجّـريـن تلالا ًمن السنابلِ في
رَحِم أرضنا ..
أرضنا التي حرثتها القنابل !
حينذاك
ستجتمع الزهور في حديقة واحدة
ويتناسل النخيلُ في بستان واحد
يمتدّ من أهدابِ البصرة
حتى قدَمَيْ أربيل ..
مُعيدين الإعتبارَ
للعَـلم المُثقّـب ِ برصاص الخيانة !
*

علّمتني العربات التي أكلت نصفَ عمري
أنّ الجالسين في المقاعدِ الأمامية
لا يبصرون غير زجاج النوافذ ..
لذا :
أبحث عن مقعدٍ فارغ
بين المقاعد الخلفية ..
فأنا أريد أن أرى الجميع
وهم يغذّون السير
نحو المدينة الفاضلة ..
وحين يترجّلون
سأسير خلفهم
فإنْ سقط أحدٌ مضرّجا بالضنى
سأجعل من صدري " نقّالة ً " إسـعـاف
ومن ظهري هودجا ..
أمّا إذا ضرّجني الضنى
فسأسقط دون ضجيج
كي تستمر القافلة !
*

قال النهرُ :
أنا ابـنُ الينابيع ِ الصغيرة
التي اتّحدتْ في جسدي ..
وقال الحقل :
الشجرةُ الواحدة
لن تكون بمفردها بستانا ..
فلماذا نفترق ياصاحبي ؟
إنْ كنتَ تأبى السيرَ معي
فاسمحْ لي بالسير معك
مادُمنا مُتّجهين
نحو المدينة الفاضلة
*

كـمـا يتوغّـل مسمارٌ في خشبة ..
أو جذرٌ في لحم الأرض :
أتوغّلُ في أودية الحنين
أجوب فضاءات ٍ ما مرّتْ في ذاكرة عصفور ..
وبحارا ً ما عرفها السندباد ..
لا بسفينة ٍ في بحر
ولكن :
على قدميّ الحافيتين
مُيمِّما ً روحي نحو الله
وعـيـنـيّ نـحـوك ..!
لا تخافي الرحلة يا حبيبتي
فإنّ فمي سـيعـلـن الإضراب َ عن القبلات
و الحقولَ ستعلن الإضرابَ عن الخضرة ..
الضفافَ لن تعانق الموجة َ العاشقة ..
وستعلنُ البراءةُ عصيانها على الطفولة
ستفقد الحياة عذريتها ويجفّ عفافُ الكبرياء ..
وتنتحرُ الأغنية على شفة القيثار ..
والنخل سيبرأ من أعذاقه ..
فأنحني خجلا ً من رجولتي
أنا الذي أريد أن أموت واقفا ً
كنخيل العراق !
**

اللهمَّ اجعلني :
عشبة ً في وطني
لا غابة ً في منفى ..
ذرّة رمل ٍ عـربية
لا نجمة ً في مدن النحاس ..
عُكّازا ً لضرير
لا صولجانا ً لـلـقـيـصـر ..
شريطا ً لضفيرةِ عاشقة ٍ قروية
لا سوطا ً بيد جلّاد ..
حصانا ً خشبيا ً لطفل ٍ يتيم
لا كوكبة ً ذهبية ً على كتف ٍ أثقلتْه الخطايا ..
فلقد أرهقتنا مهنة القتل وهواياتُ المارقين ..
لذا أعلنتُ تضامني مع الحفاة
في حربهم العادلة ضد ذوي القفازات الحريرية ..
مع البرتقالة ضدّ القنبلة ..
مع الأرجوحة ضدّ المشنقة ..
ومع أكواخ الفقراء ضدّ حصونِ الـدّهـاقـنـة !
*

أنا لا أبكي يـا حـبـيـبـتـي ...
إنما :
أريد أن أغـسـلَ بالدموع
صورة الوطن المنقوشة كالوشم
في عـينيّ !

أوفر حظا من خور عبد الله-كاظم فنجان الحمامي



أوفر حظا من خور عبد الله

جريدة المستقبل / بغداد في 18/12/2011


كاظم فنجان الحمامي

غاب خور عبد الله عن حلبة المناقشات العلمية والحوارات البحثية في جامعاتنا العراقية, وتراجع عن أولويات مؤسساتنا الرسمية التخصصية, واختفى تماما منذ اليوم الذي تفجرت فيه أزمة (ميناء مبارك), الذي أنشأته الكويت فوق حافة الممر الملاحي الوحيد الذي تسلكه السفن العابرة للمحيطات في طريقها نحو ميناء أم قصر أو خور الزبير.
وطوى زعماء قبيلتنا الخرائط التي رَسَمت مقتربات حدودنا البحرية المنكمشة إلى الداخل في خور عبد الله ورأس البيشة, ولم يعد يذكرها أحد, وتعمدوا تجاهل الموضوع حتى لا يتسببوا في زعل القبائل الشقيقة والصديقة, فجنحت بنا دفة الضياع نحو تطبيق سياسة اللامبالاة, ولاذ الجميع بالصمت المطبق, باستثناء فئة قليلة من أصحاب المواقف المنددة, الذين أبحروا وحدهم خارج مسارات الأسراب المؤيدة. .
أما مؤسساتنا البحثية المتخصصة في المجالات البحرية, (التشريعية والملاحية والجيولوجية والهيدروغرافية), فقد أشاحت بوجهها عن خور عبد الله, وانشغلت بتنفيذ مشاريعها الروتينية, ولم يعد لديها أي اهتمام بأطماع دول الجوار, ولم تكترث بتجاوزاتها المتكررة على مسطحاتنا المائية وممراتنا الملاحية, فسجَّلَ الجغرافيون والجيولوجيون والملاحون والمهندسون الساحليون غيابا ملحوظا, ولم يشتركوا في الندوات والحلقات النقاشية, التي عقدتها المنظمات الجماهيرية في المدن العراقية للذود عن حقوقنا السيادية المسلوبة في خور عبد الله, ومما يبعث على الغرابة ان العاملين في المراكز العلمية العراقية تأثروا كثيرا بما فعلته الموجات المدية التي اجتاحت الجزر اليابانية, وغمرتها بالمياه, فوقفوا يذرفون الدموع على الدمار, الذي خلفته تلك الموجات الكارثية جنوب شرق آسيا, وكانوا يتابعون بشغف تغيرات قيعان البحار المصاحبة لآخر ثورات زحزحة القارات في واجهات الصفيح القاري, لكنهم لم يبدوا أي اهتمام بزحزحة الحدود البحرية الزاحفة نحو سواحلنا في الفاو, ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الدفاع عن قنواتنا البحرية, وبحرنا الإقليمي المنكمش على نفسه تحت ضغط الانتهاكات الحدودية المتكررة, ووجد الجغرافيون ضالتهم في التحدث عن جبال الانديز, وتضاريس البحيرات المرة, وهجرات السلالات البشرية من هضبة التبت, وارتفاع مستويات الرطوبة النسبية في غابات الأمازون, لكنهم كانوا يخشون التحدث عن جغرافية خور عبد الله, مفضلين عدم التطرق لظاهرة الاختزال الساحلي عند مقتربات رأس البيشة, فتجاهلوا المواضيع المرتبطة بمياهنا الدولية المتقلصة, وممراتنا الملاحية المتراجعة, والأغرب من ذلك كله أن جامعة البصرة عقدت مؤتمرها العلمي الأخير على قاعة كلية الصيدلة في (كرمة علي), من يوم 12/12/2011 ولغاية 15/12/2011, لمناقشة التنوع الحياتي في المسطحات المائية العراقية والكندية, ومناقشة التجربة الكندية في التحكم بنهر (فريزر), لكنها لم تتطرق في مؤتمرها لمشاكل مياهنا الإقليمية في خور عبد الله, ولم تتناول العوامل السلبية لمشروع ميناء مبارك وآثارها المباشرة على المسالك الملاحية المؤدية إلى موانئنا في أم قصر وخور عبد الله. .
وهكذا كان نهر (فريزر) الكندي أوفر حظا في العراق من خور عبد الله العراقي, وتقدمت مشكلة الملوحة في شط العرب على أزمة الملاحة في قنوات أم قصر, وشتان بين الملوحة والملاحة. .
فسلطوا أضواء المؤتمر على نهر (فريزر), وابتعدوا عن مشروع (مبارك), وجاء الابتعاد في توقيتات حرجة ترسم أكثر من علامة استفهام كبيرة على واجهات مؤتمراتنا, التي انشغلت ببعض المهم وتجاهلت الأهم, حتى صارت الأنهار التي تجري في وديان جبال الروكي الضيقة, وتصب في المحيط الهادي عند مدينة (فانكوفر), الواقعة على الوجه الآخر من كوكب الأرض, أوفر حظا عندنا, وأكثر اهتماما من خور عبد الله القابع خلف قضبان الحدود المفروضة علينا بالقرار (833), ودعاماته الحدودية الصفراء المغروسة في ظهر جبل سنام المهدد بالضياع. .
في البصرة كرسّ الأكاديميون جهودهم لدراسة تيارات نهر (فريزر) الكندي, وتحمسوا للتعرف على خبايا هذا النهر, الذي يجري في مقاطعة (كولومبيا البريطانية) بقارة أمريكا الشمالية من المنبع إلى المصب, لكنهم فقدوا حماسهم هذه الأيام, ولم يتطرقوا لجفاف أنهارنا, وخفتت أصواتهم في التصريح عن انكماش سواحلنا, وتجاهلوا مناقشة التغيرات الجيولوجية والهيدروغرافية والملاحية التي ستعصف بمسطحاتنا البحرية في خور عبد الله, وخور وربة, وخور شيطانة, وخور السقة, وخور بحرة, وخور الثعالب, وخور الخفقة, وخور العُمَّية. والأخوار العراقية الأخرى التي لم يسمعوا ببعضها من قبل, ولا يعلمون حتى الآن أين تقع قناة (الروكا), التي تمثل العصب الرئيس, والركيزة السيادية لحقوقنا المنسية شمال الخليج العربي, ويرفضون الإشارة لانحرافات مدخل شط العرب ولو بالهمس من بعيد. .
نحن اليوم في أمس الحاجة إلى تعزيز قوتنا الثقافية التطوعية, وتوظيفها كلها في خدمة العراق لما لهذه القوة من أهمية كبيرة لبناء وطننا, الذي نخشى أن يصبح كما الجبل الذي تدكدك ثم مال بجمعه في البحر فاجتمعت عليه الأبحر, لذا فأن نداء الواجب يحتم علينا أن نندفع جميعا للعمل الوطني العفوي التطوعي , بحيث نكون أول المتصدين للأطماع الخارجية, وأول المتسلحين بمعاني العزة والكرامة والمروءة, في الذود عن مسطحاتنا المائية وممراتنا الملاحية ومنافذنا البحرية ودعاماتنا الحدودية, وأن نقف صفا واحدا في مواجهة كل التحديات والمخاطر من دون خوف أو تردد, ومن دون يأس أو تخاذل . . .

الفرق بين الخور والهور
الخور: منخفض مائي في البحر
والهور: منخفض مائي في البر
--

( غيوم الصبر)-حامد كعيد الجبوري


( غيوم الصبر)
حامد كعيد الجبوري
الى من طرقت بابي وأوصدت قلبها خوفا من اللقاء
الى راقية النعيم
--------------------------
لا توازيني وأفك كلبك عليك
وأنت شوف أبيا ركن تلكاني
آني صبري لو نزع عنه اللثام
حالي تعرفله وصرت دفاني
سمك أجرعته ودوهني الدلال
لا تكلي أمزوهر1 وتهواني
آنه راضع للصبر حد الفطام
أسمي ( حامد ) والصبر سماني
غفل جيتك ما ضحك سن الزمان
أبنار شوكه وللغدر نساني
أغيوم ترعد جذب ما غيم سماي
عطشت أورودي وذبل بستاني
ما أدك بابك ولا رايد وصال
كلبي يركض شوك ألك وداني
نار بعدك أقسم ونور الجبين
أبعسل شفتك قبلتي وآذاني
كلي بيدك وآنه ما مل الجروح
أشما يطيب وينلجم ويعاني
سودنتني وأعقل أبلحظة وصال
جننتني وتضحك أعله جناني
_____________________

1 : الزهر سم يرمى للأسماك وتبقى شبه حية – ترفس - لحين أن تمسك من قبل الصياد

الأحد، 18 ديسمبر 2011

لوحات جميلة من اليابان









صناعة الخبر و أساليب التضليل الإعلامي-د. معن الطائي


صناعة الخبر و أساليب التضليل الاعلامي
د. معن الطائي
اكتسبت دراسات التضليل الإعلامي أهمية متزايدة مع انتشار القنوات الإخبارية الفضائية العربية و تنامي الدور الذي تلعبه ليس فقط في نقل الخبر، بل في صياغة و تحديد توجهات الرأي العام العربي تجاه القضايا البارزة ذات الأبعاد السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.كان لظهور قناة الجزيرة الإخبارية الفضائية عام 1996 ،بالتزامن مع إغلاق القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، و بدء العمل في قناة العربية عام 2003 الأثر الحاسم في رفع مستوى الوعي الجماهيري بمسائل و إشكاليات أخلاقية و فنية و تقنية تتعلق بطرائق نقل الخبر و أساليب صياغته و تقديمه و تداوله. لا تعتبر دراسة التضليل الإعلامي من القضايا الحديثة أو الطارئة على حقل البحث الأكاديمي و المنهجي فيما يتعلق بممارسة النشاط الإعلامي بكافة مستوياته المقروء و المسموع و المرئي. فقد اعتبر النشاط الإعلامي من اقدم النشاطات البشرية التي ارتبطت بضرورات التواصل بين الجماعات و طبيعة إدارتها للعلاقات التي تربط بينها سواء على مستوى الصراع أو التعاون الثنائي. كما تم تسخير الإعلام لإدارة العلاقات التي تربط بين القوة الحاكمة و المهيمنة و بقية الأفراد داخل الجماعة الواحدة. و طالما كان هناك نشاط إعلامي فأن عمليات التضليل في أساليب نقل الخبر و تداوله تصبح جزءا من هذا النشاط بطبيعة الحال. و لكن مع تزايد وتيرة الحراك السياسي و الاجتماعي في المنطقة العربية في هذه الفترة بالذات، و تنامي الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في تحديد مسارات الصراع و ترجيح الكفة لصالح قوة أو جهة معينة على حساب الجهة الأخرى، من خلال طريقة نقل و تداول الخبر، يصبح من الأهمية بمكان الالتفات الى توجهات بحثية أكاديمية متخصصة تعنى بدراسة و تحليل ظواهر التضليل الإعلامي.
في هذا السياق يأتي كتاب الباحث و الأكاديمي العراقي المتخصص في شؤون الصحافة و الإعلام، د. ذياب الطائي، الموسوم "التضليل الإعلامي من صناعة الخبر الى صناعة السينما" و الصادر عن دار الينابيع، دمشق 2011. و قد وضع مقدمة الكتاب البروفيسور د. جمال السامرائي و جاء فيها "كتاب التضليل الإعلامي للدكتور ذياب فهد الطائي هو من بواكير العمل الأكاديمي المحض في بيان أسس التضليل و كيفية صياغة الخبر المضلل من خلال أشخاص أو خبراء للوصول الى مغانم حياتية أو إخفاء معالم عواقب النكسات و الحروب في مجتمعنا". (الكتاب، ص 8)
و قد توزع الكتاب على أربعة فصول متكاملة و تم تقسيم كل فصل الى عدد من المباحث. و تناول المبحث الأول في الفصل الأول التطور التاريخي لوسائل الإعلام بدءا من الممارسات البدائية للجماعات البشرية، مثل قرع الطبول أو اصدار أصوات معينة للتحذير أو إشعال النيران أو استخدام الحمام في نقل الرسائل. و تطرق لعمليات نقل الخبر و تداوله و الترويج للمعلومات في الحضارات القديمة مثل الحضارة البابلية و الحضارة الأشورية. و حمل المبحث الثاني عنوان "ماذا نعني بالتضليل؟" و بعد تقديم مجموعة من التعاريف لباحثين سابقين لمفهوم التضليل، يحدد الباحث التضليل بثلاث نقاط:
1- عدم تقديم المعلومات الى المتلقي كما هي.
2- إجراء التعديلات في النص أو في الصورة بشكل مدروس و منهجي مما يؤدي الى تغيير في المفاهيم.
3- إن هذا التعديل يهدف الى خلق واقع جديد لا علاقة له بالواقع المتحقق فعلا، و ذلك بهدف خدمة مصالح أو أغراض خاصة. (الكتاب ص 48)
و يشير الباحث الى أن أقدم عملية من عمليات التضليل الإعلامي استطاع تحديدها بعد الدراسة و البحث هي قيام كهنة معبد الشمس في جنوب العراق بكتابة تاريخ إنشاء المعبد على انه في عهد الملك الأكدي "مانيشا توشو) و الذي كان قد توفي حتى قبل البدء بالبناء و ذلك لتبرير النفقات الباهظة التي تم صرفها و إقناع الناس بذلك. (الكتاب ص 48-49)
أساليب التضليل الإعلامي في صناعة الخبر هي مادة المبحث الثالث من هذا الفصل. يشير الباحث الى مجموعة من الأساليب التي تندرج تحت مسمى التضليل الإعلامي و هي؛ التضخيم، و التعتيم، و التكرار، و إثارة الخوف، و لفت الأنظار، و الكذب، و الإثارة، و الخطاب المزدوج. و يؤكد د. الطائي في بداية هذا المبحث على أن "التضليل وسيلة يتم التحكم بها عبر وسائل الإعلام المختلفة و المتاحة في عمليات المنافسة و الصراع ليس بين الدول وحسب، و إنما بين الشركات و حتى بين الأفراد لتقديم الخبر الذي يخدم أهدافا محددة هي ضد رغبة المتلقي عن طريق الكذب و الخداع بهدف بلبلته و السيطرة على إرادته" (الكتاب ص 55)
يتكون الفصل الثاني من خمسة مباحث تدور حول أبعاد التضليل الإعلامي. يتطرق المبحث الأول الى دوافع عمليات التضليل. و من المثير أن الباحث ينظر الى التضليل بوصفه جزءا "من فن الاتصال في ظل المنافسة. و تتيح التقنيات الحديثة إمكانات متنوعة و هائلة لهذا التضليل الذي تقف وراءه نظريات متنوعة بدراسة السلوك الإنساني و ردود الفعل إزاء ما يقدم له" (الكتاب ص 88-89). و و يظل الدافع الأساسي هو إحداث التأثير بطرقة قصدية و مبرمجة في الطرف المقابل من عملية الاتصال، و هو المتلقي. و يدرس المبحث الثاني العلاقة بين الحرب النفسية و التضليل الإعلامي في صناعة الخبر. و هنا يكون التضليل في خدمة الحرب النفسية، من حيث أنه يهدف الى تحقيق أكبر قدر من التأثير السلبي في الروح المعنوية للخصم و إضعافها. و يقدم الباحث نماذج تطبيقية عملية على التضليل الإعلامي الذي يتم توظيفه في الحرب النفسية من خلال تحليله للخطاب الإعلامي و طبيعة اللغة الإعلامية المهيمنة في الصحف الإسرائيلية و الإعلام الأمريكي في كيفية تغطيته للحرب على الإرهاب و الحرب على العراق. ينتقل المبحث الثالث من المجال العسكري و السياسي الى المجال الاقتصادي و العمليات التضليل الإعلامي التي تشنها الشركات الاحتكارية الكبرى ضد بعضها البعض. و يندرج تحت هذا النمط من التضليل إطلاق أخبار كاذبة أو إشاعات غير صحيحة من أجل التأثير على سوق تداول الأسهم و البورصة أو لرفع أسعار منتج معين، كالنفط أو الذهب. كما يتم تحليل و دراسة أمثلة على عمليات التسويق و الترويج الإعلامي لمنتجات معينة، و منها إعلانات شركة الببسي كولا و تركيزها على ربط منتجها في ذهن المتلقي بالشباب و الحيوية و النشاط. أما المبحث الرابع فيعنى بدراسة التضليل الثقافي. و يوضح المبحث كيف تحولت الثقافة الى سلعة يتم تداولها و الترويج لها و تحقيق معدلات عالية من الربحية من وراء ذلك. فمع نهاية السبعينيات من القرن الماضي تزايد الحديث عن الطرائق الممكنة لتحويل الثقافة الى منتج يتم تسويقه على مستهلكين يسعون لتملكه. يشير الكتاب الى أن "في عام 1978 تبنى الوزراء الأوروبيون المسئولون عن الشؤون الثقافية مفهوم (الصناعات الثقافية)، من هذا التطور في مفهوم الثقافة اصبح الطريق ممهدا لدراسة دور الإعلام و نشاطاته المتنوعة فيما يسمى صناعة المعرفة و الذي دفعته آليات الاتصال المختلفة الى ما يمكن تسميته بمجتمع المعلومات" (الكتاب ص 128). و يسعى التضليل الثقافي الى خلق تأثير إعلامي هائل من أجل التأثير على ثقافة الشعوب و السيطرة عليها أو إحلال ثقافة جديدة مكانها. "أن هذه الإنزياحات مدروسة بعناية و مخطط لها بدقة متناهية" (الكتاب ص 129). و يرتبط التضليل الثقافي بصناعة السينما و خصوصا في أمريكا، من اجل تحقيق غايات معينة. و التضليل في السينما هو موضوع المبحث الخامس و الأخير من الفصل الثاني، و فيه يدرس الباحث الدور الكبير لصناعة السينما في عمليات التضليل الثقافي و العسكري و السياسي.
ينتقل الباحث في الفصل الثالث الى الجانب الفني من دراسة التضليل في صناعة الخبر، و المقصود به هنا هو الخبر بحد ذاته. فيوضح المبحث الأول تعريف الخبر من وجهة النظر الإعلامية، و يشرح المبحث الثاني عناصر الخبر، أما المبحث الثالث فيتناول مصادر الخبر. في هذا الفصل يشدد الباحث على ضرورة التفريق بين الخبر و بين أنواع التحرير الصحفي الأخرى مثل التحقيق و الريبورتاج. ثم يشير الى عدم اتفاق الباحثين بصورة عامة على تحديد مواصفات معينة للخبر. و من الصفات التي يفترض توافرها في الخبر في الإعلام؛ الحداثة، و الموضوعية، و الإثارة، و الأهمية، و المنافسة و الصراع، و التوقيت و التماثل. و تنقسم مصادر الخبر الى مصادر متخصصة، كالمراسلين و وكالات الأنباء المتخصصة و الوثائق، و مصادر غير متخصصة أو طارئة، كالشهود العيان و رسائل و اتصالات الجمهور. و من الجدير بالذكر أن المصادر غير المتخصصة للخبر بدأت تحتل مكانة بارزة و مهمة في العمل الإعلامي، و ذلك من خلا ظهور ما أصبح يعرف "بصحافة المواطن". حيث ساعدت التطورات الهائلة الحاصلة على صعيد وسائل الاتصال و التكنولوجيا على تحويل كل مواطن يحمل هاتفا محمولا أو آلة تصوير و لديه إتصال بشبكة الإنترنت، الى مراسل أو مندوب يقوم بنقل الحدث كما هو على الأرض بالصوت و الصورة و بالسرعة الممكنة.
و يستمر الفصل الرابع و الأخير في إغناء القارئ المتخصص و العادي أيضا من خلا تقديم تفاصيل إضافية تتوزع على أربعة مباحث هي؛ تحرير الخبر، و القوالب الفنية لتحرير الخبر، و أقسام الخبر، و أنواع الخبر حسب الوسيلة الإعلامية. و يؤشر الباحث وجود أربعة نماذج من للأخبار ذات ملامح و سمات متمايزة و هي؛ نموذج المرآة، و النموذج الحرفي، و النموذج المؤسساتي، و النموذج السياسي. بينما ينقسم الخبر من حيث التحرير الى خبر مركب و خبر بسيط. و يتطرق المبحث الأخير الى تقديم سمات و مواصفات الخبر الصحفي، والخبر الإذاعي، و الخبر التلفزيوني.
لقد نجح د. ذياب الطائي في تقديم كتابا يتناول موضوعا هاما و حيويا بإسلوب يبتعد عن التعقيد و التنظير دون التضحية بمتطلبات البحث الأكاديمي و العلمي. و مما زاد في أهمية الكتاب الأمثلة و الإحالات العملية و النماذج المتنوعة من الأخبار المنقولة عن العديد من الصحف و الإذاعات و القنوات الفضائية العربية و الغربية التي قام الباحث بإدراجها و تحليلها و ربط النتائج العملية بالمقدمات النظرية. و أجدني أتفق مع رأي البروفيسور جمال السامرائي و الذي أختتم به مقدمته للكتاب بقوله، "أعتقد على قناعة بأن ما قدمه الكاتب هو كتاب أكاديمي لايستغني عنه أي باحث أو طالب علم، إضافة الى انه كتاب علمي سلس و جميل لايمكن لأي مثقف أن يتغاضى عنه".

الجمعة، 16 ديسمبر 2011

زئبقيون في الوسط الجامعي-كاظم فنجان الحمامي


زئبقيون في الوسط الجامعي


جريدة المستقبل العراقية في 13/12/2011

كاظم فنجان الحمامي

لا تكاد تخلو أية شريحة في مجتمعنا العراقي من أصحاب الوجوه الزئبقية, وذوي المواقف الهلامية, وربما كان الوسط الجامعي بمنأى عن تحركاتهم ونشاطاتهم الأميبية السامة, لما يتمتع به هذا الوسط الراقي من حصانة ذاتية, ومناعة قوية وفرتها له الملاكات التدريسية الملقحة بالمضادات الفولاذية القادرة على التصدي لفيروسات النفاق والثرثرة والتلون, بيد أن المؤشرات الأخيرة توحي بتغلغل دفعات ضئيلة من الانتهازيين والوصوليين والنفعيين, من الذين دأبوا على التفريط بكل ما يمتلكونه من أجل تحقيق مآربهم الأنانية الضيقة. .

فالانتهازي, بغض النظر عن جنسه وعمره ودرجته, متذبذب في سلوكه, يتحين الفرص للحصول على الامتيازات بأسهل الطرق وأيسرها, فتراه يلجأ إلى الوعيد والتهديد لابتزاز من أهم أفضل منه, وقد تدفعه غرائزه الشيطانية إلى التلفيق والكذب لتحقيق مآربه الوصولية, وهو على استعداد دائم لخلع جلدة مؤخرته ليضعها على وجهه, فلا يتورع عن التقلب بين أحضان المسؤول الذي كان, والمسؤول الجديد, ولا يستحي من شتم المسؤول السابق من أجل إرضاء المسؤول اللاحق, فالأرجحية في عرفه تميل دائما مع صاحب المنصب الواقف في موقع المسؤولية, وتعزا مثل هذه الخصال الشاذة إلى عدم تأصل المبادئ في عقيدتهم الانتهازية غير المستقرة, أو بسبب ضعف ولائهم لوطنهم, ما يجعلهم يسهمون في إنعاش ظاهرة التسقيط والإقصاء المهني في ظل غياب العدالة الاجتماعية, وتفشي فوضى الديمقراطية, وضياع معايير الكفاءة والإخلاص. .
تتزامن النشاطات الكيدية وتنتشر بخطوط متوازية ومتوافقة مع تعاظم ظاهرة المخبر السري, وربما تجد ضالتها في انتحال الأسماء الوهمية المتاحة في واجهات الفيس بوك, أو المتوفرة في حقول المنتديات الالكترونية, وما تشتمل عليه من خيارات مفتوحة لاستعارة الأسماء المختصرة, وإضفاء الخصال الشبحية المزيفة, بالقدر الذي يتيح المجالات السهلة والسريعة لإرسال التقارير الدورية الملفقة ضد الكوادر التدريسية الكفوءة, وتشويه صورتهم بكل الأساليب المبتذلة. .

مما يؤسف له أن أصحاب الوجوه الزئبقية (من الجنسين) تحولوا في جامعاتنا إلى معاول هدامة, وفيروسات عدائية ماانفكت تسعى وتواصل سعيها لوأد الكفاءات, وإزعاج الأساتذة, وتخريب البنية العلمية, والقفز فوق واجهاتها وعناوينها, فبدلا من أن ينصرف أمثال هؤلاء إلى البحث العلمي, ويكرسوا جهودهم المهنية والمهارية للارتقاء بالمستوى التدريسي والتربوي نحو الأفضل, تراهم يمضون أوقاتهم كلها في الثرثرة الفارغة, أو في إعداد التقارير التشويهية, من أجل الإطاحة بهذا الأستاذ والنيل منه, أو من أجل إقصاء رئيس القسم أو عميد كليتهم أو جامعتهم انتقاما منه, فيرسلون تقاريرهم في كل الاتجاهات بغية توسيع حملات الشتائم والاتهامات المفبركة, ويوزعونها على أوسع نطاق, وربما تصل تقاريرهم إلى الجهات العليا في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي, أو تصل إلى الإدارات المحلية للمدن التي تقع فيها الجامعات والكليات التخصصية, فتتسبب في خلق حالة غير مرغوب فيها من الإرباك والإزعاج والقلق, وقد تسهم في ضياع وقت الجهات التي وصلتها التقارير الكاذبة, فتضطر إلى فتح أبواب التحقيق والتحري والاستفسار, وتشكل اللجان للتقصي عن الحقائق, والجدير بالذكر أن لجان التحقيق تابعت ميدانيا الكثير من تلك الدعاوى الكيدية, فوجدتها تدور في حلقات مفرغة, وتتحدث عن مواضيع مُختلقة, لا صحة لها على أرض الواقع. . .
الملفت للنظر أن هذه التقارير الكيدية, المذيلة بتواقيع وهمية, والمشفوعة بأسماء منتحلة, وعناوين ضبابية, تشترك كلها في صفات موحدة, وهي أنها مخالفة للتعليمات الإدارية النافدة, ولا تندرج ضمن التقارير المقبولة المعترف بها, ولا تعد من الوثائق المعتمدة في التحقيقات الإدارية والجنائية, لذا يفترض أن تجد طريقها إلى المحرقة, أو إلى سلال المهملات. .
نحمد الله أن جامعاتنا العراقية لا تخلو من العلماء الأعلام, ولا تخلو من التدريسيين الأكفاء, المشهود لهم بالعفة والنزاهة, من الذين افنوا أعمارهم في التعليم العالي والبحث العلمي, ولن تؤثر فيهم مثل هذه الحملات, التي تقودها جوقة القرود والمشاغبين, من الفاشلين والمتملقين والوصوليين والانتهازيين, ممن تفننوا بمهنة التشويه والتلفيق, والتصيد في البرك الآسنة, وتخصصوا بصناعة الأكاذيب, وتعليبها, وتجهيزها للتصدير والاستهلاك. وعلى الرغم من حصانة علمائنا وحصافتهم, فأنهم اليوم في أمس الحاجة إلى من يقف معهم في مواجهة هجمات هؤلاء, ويوفر لهم الدعم والإسناد, ويحميهم من بغض المبغضين, وحسد الحاسدين, وحماقات الفاشلين, ممن لا شغل لهم ولا عمل سوى محاربة أصحاب الكفاءات, والإساءة إليهم, وتدمير سيرتهم العلمية والمهنية. .
وبات من المؤكد ان مجالس الجامعات رصدت هذه التصرفات الغريبة, وأبلغت الوزارة بتفشي هذه الظاهرة المقيتة, التي تعكس مدى تدني أخلاقيات بعض المحسوبين على الوسط التدريسي, وشخصت مساعيهم الكيدية لتشويه صورة مرؤوسيهم, وسيأتي اليوم الذي تصدر فيه الوزارة قراراتها الحاسمة لردع هؤلاء وأمثالهم. .
أن هذه الفيروسات الزئبقية المختبئة خلف الأقنعة الهلامية الملونة, صارت من الآفات الخطيرة, التي أخذت تنخر في قواعد جامعاتنا وهياكلها, ولابد من القيام بحملة لتطهير جامعاتنا من تلك الفيروسات الشيطانية المريبة, والعمل على عدم السماح لها بالنمو في الأوساط التعليمية العليا. .

( ضمير أبيض ) !!! صوت المحبة-عدنان حافظ بابل


( ضمير أبيض ) !!! صوت المحبة
عدنان حافظ بابل
في سرادق الشعر الممتدة في وادي صفي الدين الحلي الزاخرة بالعطاء حظينا بديوان جديد للشعر الشعبي العراقي أنتجه الشاعر ( حامد كعيد الجبوري ) ، ضم بين دفتيه ما يقارب من خمسين نصا شعريا وعلى مائة وثلاثون صفحة من الحجم المتوسط ، وبإخراج فني أنيق ، أستطاع من خلاله هذا الشاعر الحلي أن يقف بثبات بين مجايليه كرائد من رواد الحركة الشعرية البابلية وأكثرهم تميزا سواء بحضوره الدائم لفعاليات المشهد الشعري وبفاعليته الواسعة ، وهو مقدم ومعد لبرنامج ذائع الصيت في إذاعة بابل المحلية الذي يحظى بقبول جماهيري لدى أبناء الفرات الأوسط ، أو من خلال تحريره صفحة الأدب الشعبي في جريدة الفيحاء الحلية الغراء ، وبرنامج آخر في إذاعة الفراتين وراديو إتحاد الشعب ، لذلك أستطاع أن يمتطي صهوة ديوانه البكر المسمى ( ضمير أبيض ) ، وفعلا كان ضميرا أبيضا لعشاق هذا الوطن المتعالي على جراحه وأبناءه ينظرون الى الشمس بأجفان غير مرتعشة ولا وجلة بعد ما نزفوا دما عبيطا على أرضه الطاهرة ، وعانوا من التهميش وحالات الانكسار والاستلاب الفكري بقصدية لئيمة وعلى مر سنين عجاف ، فولادة هذا المنجز بكبريائه جاء مكملا للوهج الوجداني المختزن في قلوب أبناء هذا العراق الناهض ، كفرصة مواتية تتمازج مع المدارك والأحاسيس ببصيرة نيرة تأخذ من مناهل الإبداع مديات واسعة لأفقها المترامي ، فالفطرة الملهمة التي يملكها هذا المنتج ( الجبوري ) استطاعت أن توظف خلق جديد متدفق من ينابيع الثقافة الإنسانية الجديدة وموروثها الشعبي ، وكما أشارت أصابع التاريخ الى معلمنا الكبير ( مظفر النواب ) كشاعر معاصر حركته فطرته وإلهامه الاستثنائي على تحريك القصيدة الشعبية الحديثة بأساليب مبتكرة جديدة أهمها الإيقاع النظمي المفتوح على أكثر من وزن في النص الواحد تؤطره صور رمزية مبتعدة عن النمطية السائدة في القصيدة الكلاسيكية ، وقريبا لهذا النهج الجميل الراقي جاء ديوان ( ضمير أبيض ) بحرفية واقعية لأسلوب القصيدة المتناغمة مع الذوق والإحساس كصناعة شعرية نموذجية ضد المباشرة السطحية والخطابة المترهلة وهي تحمل من القوافي الجميلة الأنيقة مرتكزات لثوابت النص أدرك من خلالها ( الجبوري ) متطلبات القصيدة الحديثة والولوج الى متونها العالية ، فقد أشتغل على أوزان مختلفة ك ( النصاري ، التجليبة ، الموشح ، البحر الطويل ، النايل ) ، وحظيت النصوص العمودية بالقسم الأكبر من نصوص الديوان بمقوماتها الحديثة الخالية مما هو سائد حاليا من تشابه الصورة في التقليد العشوائي لدى بعض الشعراء المهتمون بضبط الوزن والقافية فقط دون الالتفات لمعنى الصورة الجمالية التي تملك الوعي الثقافي والقادرة على التوصيل والتأثير بوهج متدفق يستطيع شاعرها التمسك بعنانها والصعود لرابية الإبداع ، فقد وجدنا هذا الوهج الفني الحديث في كافة نصوص ديوان ( ضمير أبيض ) وبخاصة في النصوص التي كتبت بعد التغيير فقد حملت تقنية شعرية عالية تشير لروح الماضي والحاضر كطائر محلق بإطار ثقافتنا الجديدة ، ففي قصيدة (نسمات حلية ) وهي من وزن الموشح أستطاع هذا الطائر من التحليق حول مدينته ( الحلة ) ويلتقط صورا عديدة للزمان والمكان فاتحا أفاقا جمالية تظل مستمرة في الحفاظ على طيبة أهلها ، مفجرة في الوقت نفسه ينابيع روح المحبة في روح شاعرها ( الجبوري ) المقيمة في مقاهيها وشوارعها ، هذه المدينة التي تغفو على ضفاف الفرات منذ الأزل ، وسنينها تتساقط مهاجرة الى العالم الآخر كضريبة يدفع ثمنها الطيبون .
أما قصيدة ( صبرا يا عراق ) وهي من وزن الهزج فإنها تخرج من وظيفتها الشعرية الى ما هو أكثر تأثيرا للتواصل مع الجرح العراقي النازف دما طهورا ، وتحلق مع أرواح الشهداء من خلال طرحها لحقائق موضوعية جريئة لتعمق فهم الأوضاع لبني جلدتنا وتضحياتهم بأرواحهم دفاعا عن القيم والأخلاق الوطنية والثبات على الحق والعدالة ومعايشة المحرومين والموزعين ، وممارسة النقد الجرئ للمسئول الذي أستغل هؤلاء للصعود لكراسي السلطة .
أما القصائد الشعرية النثرية فقد اختزلت القيم الإنسانية من صميم الذاكرة الشعبية كقناة تمكنت من الوصول الى المتلقي بسهولة وعفوية ، بمهارة عالية لسرد الحدث الموضوعي واستلهام فكرة العمل المبدع المغاير ، وهذه القصائد كانت بالحقيقة مؤجلة وبعيدة عن مواجهة السلطة حينذاك ، وغير خاضعة لرقابة المسئول وأثبتت الآن أنها بخير وتتمتع بلغة محببة عالية تكتسب حضورها اللافت وهي محرك قوي لمدارك الجماهير ، ولم تفقد بريقها السبعيني ولابد القول إن منتجها الشاعر ( حامد كعيد الجبوري ) هو من الشعراء الذين تأثروا بالقصيدة النثرية التي أنتجت نهاية الستينات من القرن الماضي ، شأنه شأن مجايليه من تلك الحقبة المثقفة الواعية التي أثرت وأثرت في واقعنا الأدبي الشعبي ، وإن تعميق معرفتنا بالنصوص وبدايتها ليس من باب التفتيش عن الأخطاء في العروض أو القافية وضعف الإيقاع بقدر بحثنا عن مدى التأثير والتوصيل الإبداعي المنشود ، وهذا ما أنتجه ( الجبوري ) بقصائد تخلو من الهنات الوزنية واهتمامه بجمالية الصورة وتأطيرها بشكل جميل يصل الى المتلقي بسهولة وبقصدية الشاعر ( الجبوري ) ، ومعلوم أن الشاعر ( حامد كعيد الجبوري ) لم يحضر ولم يشارك في أي فعالية شعرية قبل السقوط لأسباب يحتفظ بها لنفسه ، ورغم هذا الانقطاع إلا أن نصوصه شكلت نجاحا ملحوظا ومشارا اليه بعد السقوط ، وللحقيقة أقول أن الشاعر ( الجبوري ) لم يعرف رقصة ( نطنطة ) القرود ( السعادين ) على موائد مسئولي السلطة ورموز النظام السابق ، ولم يرتشي وينتشي بأوسمة وهدايا رخيصة من الأسرة الحاكمة المجتثة ، ويعتبر ( الجبوري ) قصائده بمثابة أفراد عائلته وأشار له الباحث د ( محمد عوده سبتي ) قائلا ( الشعر لدى ( الجبوري ) رسالة إنسانية تعبر عن إرهاصاته وهواجسه المتعلقة بجسد المجتمع ) ، وفعلا كان هكذا وشاهدي لذلك ديوانه البكر ( ضمير أبيض ) ، فضميره الأبيض صوت للإنسانية وصوت للعراق الناهض ، و ( ضمير أبيض ) نهر أبداعي حلي عراقي كبير .
--------------------------------

الثلاثاء، 13 ديسمبر 2011

عراق بلا انهار ولا أشجار-كاظم فنجان الحمامي



عراق بلا انهار ولا أشجار
جريدة المستقبل العراقية في 13/12/2011
كاظم فنجان الحمامي
ليست هذه نبوءة من نبوءات (نوستراداموس), ولا حكاية من حكايات العرّافات لقراءة طالع الميزوبوتاميا, ولا ظاهرة جغرافية طارئة قد تختفي بتغير الفصول والمواسم, أو تتلاشى بتحسن عوامل الطقس وتبدل الظروف المناخية, ولا هي رسالة تحذيرية عابرة من رسائل أصدقاء البيئة, إنما هي كارثة حقيقية مفزعة ستجتاح العراق برمته من شماله إلى جنوبه, وفاجعة مأساوية تهدد ملامح الحياة ومقوماتها في الاهوار والأرياف والسهول والوديان, كارثة محدقة بنا أكدتها المعطيات والاستنتاجات العقلية والمنطقية والسياسية, وأيدتها التقارير الدولية, وعززتها مؤشرات الجفاف والاضمحلال التدريجي, التي لمسناها على ضفاف الأنهار المتصحرة, وسجلتها الجداول والسواقي والترع وسط العراق وجنوبه, بحيث ظهرت جلية للعيان بعد انخفاض مناسيبها إلى المستويات الطينية الوحلة, حتى فقدت الأنهار مياهها بعدما جفت منابعها, وتقطعت شرايينها, وأصبحت في عداد الموتى بشهادات وفاة رسمية كُتبت على نعوش انهار (الوند), و(هوشياري), و(السويب), والكرخة, والكارون, وغيرها, وكانت مسبوقة بنداءات استغاثة أطلقتها الأنهار الأسيرة الواقعة خلف قضبان السدود والنواظم القسرية الجبارة. .

ففي الوقت الذي تلوذ فيه المؤسسات العراقية الاروائية والزراعية والتخطيطية بالصمت المطبق, وتنشغل فيه الكتل السياسية بصراعاتها العقيمة القديمة المستديمة, وتلهث فيه المحافظات خلف سراب التقسيمات الإقليمية (الدستورية), تواصل الحكومة التركية (الصديقة) تنفيذ مشاريع (الغاب) لإقامة أكثر من عشرين سدا منيعا لحجب منابع دجلة والفرات عن العراق, وتواصل الحكومة السورية (الشقيقة) تنفيذ مشروع جر نهر دجلة, لتغيير مساره العراقي, وتحويله بالقوة باتجاه الأراضي السورية, بتمويل مالي من الحكومة الكويتية (الشقيقة), بينما تواصل الحكومة الإيرانية (الصديقة) تنفيذ مشاريع (الأفق الأزرق) لتغيير مسارات الأنهار التي تغذي العراق, وتمنعها من عبور حدودنا الشرقية. .
وسنستيقظ من سباتنا في يوم قريب يخبئه لنا مستقبلنا المتعثر, لنكتشف أننا أصبحنا بلا انهار, ولا أهوار, ولا بحار, ولا أشجار. وربما تكتشف أجيالنا القادمة أن زعماء قبيلتنا هم الذين اختاروا الوقوف على التل, ولم يتصدوا لمخططات القبائل, التي نفذت ضدنا أبشع جرائم التجفيف والتزحيف والتحريف والتجريف, التي استهدفت أنهارنا كلها من (الزاب الأعلى) إلى (السويب الأغلى), وهم الذين شاركوا بكتابة شهادات الوفاة, وحضروا مراسيم التشييع والدفن والعزاء, من دون أن يذرفوا دمعة واحدة على أرواح الجداول الميتة والمفقودة والمطمورة, ومن دون أن يتألموا على الأنهار التي وقعت في الأسر, أو التي تحولت إلى قنوات آسنة لتصريف المجاري الإيرانية, ومن دون أن ينتبهوا للمشاريع التركية الجبارة في هضبة الأناضول, فلم يعترضوا على مخططات السلطان الطيب (أردوغان) حامل لواء الإمبراطورية العثمانية الجديدة, ومساعيه الحثيثة الخبيثة لبناء أكثر من عشرين سداً فوق منابع دجلة والفرات, ولم يحتجوا على محاولات سوريا لجر نهر (دجلة), وتحويل مجراه من الأراضي العراقية إلى صحراء الحسكة, بل أنهم لم يبدوا حتى هذه اللحظة أي اهتمام بهذه الفاجعة الجغرافية المعقدة, التي عصفت ببساتين أرض السواد وحقولها, وقطعت شرايينها الاروائية من الشمال إلى الجنوب, ولم تكن الاحتجاجات الخجولة, التي أطلقتها بعض المنظمات الاجتماعية من باب التكسب السياسي تتناسب مع تاريخ ومستقبل الممرات الملاحية المهددة بالاختناق بعد اكتمال سدود ميناء مبارك, ولا تليق بتاريخ شط العرب, الذي فقد اسمه العربي وصار (أرفند رود), وتحول إلى مثانة عملاقة ممتلئة بفضلات مجاري مدينة عبادان والمحمرة, وهكذا تراوحت المواقف المتأرجحة بين التخاذل المتجدد والإهمال المتعمد.

اعترفت سوريا أكثر من مرة عبر وسائلها الإعلامية بأن ما تحتاجه من مياه الري ستسحبه من حصة العراق في الوقت الذي تفرض فيه سيطرتها الكاملة على الفرات, وأنها ماضية في تنفيذ مشروع جر نهر دجلة, عن طريق تحويل مساره عنوة إلى أراضيها عبر قناة (عين ديوار), وهي قناة صناعية بطول (29) كيلومتراً, ثم تندفع المياه بقوة في نفق طوله (20) كيلومتراً يخترق جبل (كراتشوك), وتواصل تدفقها بسعات تصريفية هائلة في قناة صندوقية بطول (30) كيلومتراً, تتفرع بعدها إلى قناتين مفتوحتين متباعدتين, الأولى بطول (132) كيلومتراً, تنتهي عند سد (الثامن من آذار), والثانية بطول (124) كيلومتراً, تنتهي عند سد (باسل الأسد), وتتوسط المشروع مضخة عملاقة عند سد (السابع من نيسان), وستتراكم الآثار الكارثية لهذا المشروع فوق الآثار التدميرية لمشروع سد (أليصو) الذي أقامته تركيا على نهر دجلة, ضمن سلسة السدود التي باشرت بتنفيذها, في إطار مشاريع (الغاب), وبخطوات هندسية غير مسبوقة, ولا تتماشى أبداً مع أحكام القانون الدولي, وتتعارض مع قواعد العدل والإنصاف, ولا تقبلها الأعراف الحضارية, فجاءت تسميتها متطابقة تماماً مع مبادئ شريعة (الغاب), ما دفع جمعيات (أنصار البيئة), وجمعيات (الدفاع عن حقوق الإنسان) في القارة الأوربية لتبني مواقف شجاعة وحازمة في توجيه الانتقادات اللاذعة للحكومات, التي تنوي تجفيف العراق وحرمانه من موارده المائية, وكان لتلك المواقف الإنسانية أثر واضح في التطورات التي أدت إلى انسحاب الشركات البريطانية والايطالية والسويدية, التي عولت عليها تركيا في تنفيذ السدود العملاقة على دجلة والفرات, في حين لم تنسحب الشركات الإسرائيلية, وواصلت نشاطاتها المعادية للعراق, وقامت حكومة (تل أبيب) بتمويل معظم مشاريع (الغاب), وقدمت لها التسهيلات السخية, وساندتها بالخبرات التقنية, وزجت بأكثر من (75) شركة إسرائيلية, في مشاريع بناء السدود الضخمة لقطع مسارات دجلة والفرات, وتحويلها إلى نهر (مناوغات), الذي تتطلع إسرائيل لشراء مياهه من تركيا لتلبية احتياجات مستوطناتها, وربما تسعى من وراء مشاركتها في (الغاب) إلى تأكيد حلمها الصهيوني القديم, وتوسيع نفوذها على الأرض من النيل إلى الفرات.

وفي الوقت الذي يتعرض فيه العراق لأبشع أزمات المياه العذبة, التي تجلت صورها المؤلمة بجفاف العشرات من الروافد والجداول والسواقي والأنهار بقرارات جائرة ومشاريع متعمدة تبنتها الحكومات الإيرانية والتركية والسورية, جاءت الكويت لتشترك معهم في الحرب المائية المعلنة ضد العراق, وتستخدم ثقلها المالي كله لتزيد الطين بلة, وتشغل الفراغ الذي تركته الشركات الأوربية, التي استحت من نفسها, وأعلنت الانسحاب من المشاريع التركية المكرسة لتعطيش العراق وتجويعه, فهل صارت الشركات الأوربية أرحم من جيراننا وأشقائنا وأبناء عمومتنا ؟, أم أن دول الجوار تخطط لإيذاء الشعب العراقي المنكوب ؟, ثم ما الذي ستجنيه الكويت من وراء تمويلها لمشاريع تستهدف إصابة العراق بأضرار كارثية ؟. وما الفائدة التي ستحققها سوريا باستحواذها على حصة العراق المائية وتبذيرها في الكهوف والوديان الوعرة ؟. ترى هل سيكون العراق بهذا الحال, وتحت ضغط هذه الأوضاع التآمرية المتواصلة لو كان جيرانه من الهنود والمكسيكيين والفيتناميين واليابانيين والسريلانكيين والأرجنتينيين ؟. وهل سيتعاملون معنا من دون رحمة, ويقطعوا علينا الأنهار والروافد, ويفرضوا علينا الحصار المائي بعشرات السدود والنواظم, ويحرمونا من مياه الشرب والري ؟, وهل سيستمر الحال على ما هو عليه, وتمضي دول الجوار في تنفيذ مخططاتها وبرامجها المائية العدائية, من دون رادع ولا وازع ؟, وهل ستتحقق نبوءة المنظمات الاروائية العالمية بزوال دجلة والفرات بحلول عام 2040, وهذا ما توقعته منظمة المياه الأوربية, التي تنفرد بدقتها ومصداقيتها في تشخيص تداعيات الكوارث المائية, وهي أول من توقعت جفاف الفرات, وأول من حذر من اضمحلال نهر دجلة, وأول من حذر من حدوث انقلابات خطيرة في خارطة العراق المائية, وحددت المنظمة العام 2040 موعدا نهائيا لهذه الكارثة, وهو العام الذي سيصبح فيه تعداد نفوس العراق في حدود (75) مليون نسمة, ونترك لرجال التخطيط وعباقرة السياسة في العراق مهمة رسم التداعيات, التي سيفرزها هذا المشهد المأساوي بعد ربع قرن من الزمان. .
نحن يا جماعة الخير أمام كارثة حقيقية تكلمت عنها المنظمات العالمية بإسهاب, واتخذت على خلفيتها قرارات, تبناها الاتحاد الأوربي في تعامله مع الحكومة التركية, بحيث منع الشركات البريطانية والايطالية والفرنسية من المشاركة في تنفيذ عقود المقاولات المنوطة بها في مشروع (الغاب), حتى لا تكون طرفا مساهما في تعطيش العراق بإنشاء أكثر من عشرين سداً عملاقا لمنع تدفق مياه دجلة والفرات باتجاه العراق, في الوقت الذي نمعن فيه بتعميق علاقتنا مع تركيا, وكأننا لا نعلم بما ستؤول إليه أحوالنا بعد اكتمال المشاريع التركية لتعطيش العراق كله, وحرمانه من الماء. .
الإيرانيون يجففون منابع الأنهار والروافد على هواهم من دون رادع, والأتراك يقيمون السدود العملاقة لتجفيف دجلة والفرات على كيف كيفهم, وسوريا تتعمد سحب ما تبقى من نهر دجلة على راحتها, وتسعى لجره إلى أراضيها من دون أن يحتج عليها أحد. وتمضي دول الجوار في ارتكاب الانتهاكات الصارخة لأحكام وقواعد القانون الدولي, من دون أن يتقدم ضدها العراق بشكوى رسمية في المحافل الدولية, ومن دون أن يظهر اهتماما حقيقيا بملفاته المائية المرمية على الرفوف, والانكى من ذلك أن مؤسساتنا العلمية تقيم المؤتمرات, وتعقد الندوات داخل العراق لتشخيص تداعيات موجات التسونامي في اليابان, وتتعمق في دراسة الأعاصير والزلازل التي رافقت التغيرات البيئية المفاجئة في فلوريدا, لكنها لم تبد اهتماما بفاجعة أنهارنا المجففة, وجداولنا المتصحرة, وكأن الأمر لا يعنيها لا من بعيد ولا من قريب, والمصيبة الكبرى أن بعض مراكزنا العلمية والسياسية هي التي صارت تعطي الضوء الأخضر لدول الجوار لكي تشجعها على تنفيذ مشاريعها العدوانية ضدنا, وهي التي أعطت الضوء الأخضر للكويت لكي تدفعها لتنفيذ مشروع ميناء (مبارك), الذي سيقطع شرايين ممراتنا الملاحية المؤدية إلى موانئنا, وعبرت أكثر من مرة عن مباركتها لمشروع (مبارك) في بياناتها التي قالت فيها: أن الميناء لا يؤثر على سير الملاحة في خور عبد الله. .
فالملف المائي هو الذي يفترض أن يحظى بالأولوية والأهمية, وهو الذي يفترض أن يتصدر عناوين الأخبار في الصحف والفضائيات, ويتصدر مفردات التطلعات المستقبلية في أجندات الكتل السياسية, وهو الذي يفترض أن يكون في مقدمة الخطب والمحاضرات التوعوية في المساجد ودور العبادة, ولا نغالي إذا قلنا انه ينبغي أن يكون من ضمن مفردات المقررات الدراسية لكل المراحل من الابتدائية إلى الجامعة, فالمسألة مسألة مصيرية, مسألة حياة أو موت. خصوصا بعد أن أصبح العراق من الأقطار المهددة بالجفاف, وها نحن اليوم نقف موقف المتفرج الحائر على مسافة ربع قرن من فقداننا لدجلة والفرات, من دون أن نطلق صيحة احتجاج واحدة بوجه الأقطار المجاورة, التي سعت, ومازالت تسعى لتنفيذ مشاريع تعطيش العراق وأهله, ولم نستفد حتى الآن من مواقف المنظمات الدولية, التي فتحت آذانها لسماع الاحتجاجات العراقية. .
فمتى تتقدم الحكومة العراقية بشكوى رسمية في المحافل الدولية ضد الأقطار, التي حرمتنا من مياه الشرب, وقطعت عنا الجداول والسواقي من منابعها, وجففت الأنهار والروافد, وستتسبب في تعطيشنا وتدميرنا وتجويعنا وتشريدنا ؟؟.
ختاما نقول: أن من يحب وطنه ينبغي أن لا يتأخر في الذود عن أشجاره وأنهاره وبحاره وأهواره, ومن يحب شعبه ينبغي أن يصون ممتلكاته ويحمي موجوداته بكل الوسائل والأساليب والطرق المتاحة وغير المتاحة, فالذي يولد زاحفا لا يمكنه التحليق والطيران, والنجاح في المهمات الصعبة جبلاً وعراً لا يمكننا تسلقه نحو القمة وأيدينا في جيوبنا. . .
والله يستر من الجايات. . .