الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010
الاثنين، 25 أكتوبر 2010
الشاعر حامد كعيد الجبوري في مجموعته الشعرية ضمير ابيض-بقلم ناهض الخياط
الشاعر حامد كعيد الجبوري
في مجموعته الشعرية ( ضمير أبيض )
ناهض الخياط
عن دار الأرقم للطباعة / بابل ، صدرت المجموعة الشعرية ( ضمير أبيض ) للشاعر حامد كعيد الجبوري ، وقد صمم غلافها ولوحاتها الداخلية الفنان د / صفاء السعدون لترمز الى مضامين قصائده تحت سماء الزمن الممتد بين سنة 1970 م _ 2010 م ، وأغلب اللوحات تحمل سمات الفترة التي أعقبت التغيير في عام 2003 م ، وهي التي حددت خصائص قصائده بلغتها الشعبية الدارجة .
بهذا العنوان ( ضمير أبيض ) ... يخمن القارئ ما تنطوي عليه حنايا قصائده ، وأن الشاعر ( حامد كعيد الجبوري ) مع الشعراء الذين يقفون الى جانب شعبهم للدفاع عن حقوقه ، والتغني بأمجاده ، وشهدائه ، برؤية المثقف المنفتح على الإنسانية دون تمييز :
إيذوب رقه ويحزن الدمع اليتيم
ويفرح أبكد الفرح تزهي الخدود
أيغني للعشاك بأوتار الأمان
للشعوب ويعتنق دين الورود
( قصيدة دين السلام / ص 34 )
كما تنشغل شاعريته بما تزخر به النفس من العواطف النبيلة تجاه الأحبة والأصدقاء ، وما تصبو له من آيات الجمال في وجوه المناضلين
على خدوده ورد رمان
ومشكبن أشليله أبنفحة العنبر
باليمنه ....
ترفرف راية الثوار
وباليسره ....
طفل شاله ....
أيخاف لا يعثر
( قصيدة ضلوع السجن / ص 60 )
وبهذه الرؤية الواعية ، أنشغل الشاعر الجبوري بما يحلم به مواطنه ، وما يعانيه في حياته عبر واقع شائك ، مائر بالصراع ، وإزاء التزاماته بمواقفه الجادة ، وأفكاره ومشاعره المنشغلة بمراراتها ، تتألق ذاته في خصوصيتها بموحيات المكان الجميل ، والطبيعة الساحرة ، والحب والغزل ، ليعزز مبدأه الثابت في الدفاع عن الجمال أمام قوى الموت والخراب ، وكثيرة صوره المؤنسة ، حتى في قصائده التي تقطر حزنا وألما ، ولا يمكن حصرها في هذا العرض الموجز البسيط ومنها :
وأتمنه ...
أتمنه أكتب شعر ، أكتب شعر شعبي
مابيه وزن للدمع ، ما بيه أبو ذيه
ينكط ترافه وسعد ...
مليان حنيه
( قصيدة أمنيات ترفض التأجيل / ص 100 )
وكما تتوهج شاعريته بحبه الشديد لمرابع أهلنا وثقافتهم المتوارثة في تقاليدهم وعاداتهم ، وفي بوحه الساخن بها ينزلق أحيانا في زحافات الوزن ، واندماجه بوزن آخر كما في قصائده ( غنائيتان من سامراء / ضيف فقره / السكوت من الذهب / ضلوع السجن ) ، وهي من القصائد حديثة البناء – غير كلاسيكية – إذ أعتمد فيها على وزني الرمل والهزج مندمجين معا ، حيث يتبادل الوزنان دورهما الإيقاعي في العديد من أبياته ، وظل الوزنان ( الهزج والرمل ) هما الوزنان اللذان أقام عليهما الشاعر أغلب قصائده ، عدا ثلاث قصائد أعتمد لها بحر السريع .
غير أن هذا الأنزلاق - ربما المقصود – لا يبدوا واضحا لانسجامهما مع الإيقاع الداخلي في قصائده ، كما في قصيدته ( غنائيتان من سامراء ) والمؤرخة في عام 1972 م ، إذ يبدأ بها بوزن الرمل كقوله
لملمتلك ...
كل ضوه الكمره ، وأجيتك
لملمتلك ، كل جرح يحدي أبجرح
لملمتلك شوك روحي
وأعتنيتك
ثم ينتقل الى بحر الهزج
خايف من ينام الليل
أشوف النخله والسعفه
و أشوف الميه والشجره
وبعدها يعود لبحر الرمل وهكذا .
والشاعر حامد كعيد الجبوري كغيره من الشعراء الشعبيين فهم ينظمون باللغة الدارجة لعامة مجتمعهم ، سواء أولئك الذين يسكنون المدينة ، أو ضواحيها ، وحتى أريافها ، وهي لغة مقبولة من الجميع ، نتيجة لانتشار الثقافة التي تعم العالم الآن عبر وسائل الاتصال المتاحة ، وسرعة المواصلات وارتفاع مستوى المعيشة لعموم الطبقات ، فيبدوا ذلك التفاوت البسيط في بعض ألفاظها غير مؤثر على استجابتهم لهذه القصائد في مختلف أغراضها .
والشاعر ( الجبوري ) يمد نظره من شرفات مدينته الى ظلال القرى مستلهما بقدر طاقته مزايا الشعر التراثي ، ليشكل هذا الدمج المؤتلف أبرز خصائصه التي ترتكز الى شعرية غنائية متوازنة ، بين البوح الذاتي الساخن والتأمل الموضوعي في واقعه ، ووعيه لضرورة الاندماج الشعوري مع مشاعر الآخرين ، كما وفرت نزعته للتحرر من شكل القصيدة التقليدي إمكانية النظم بأشكاله المتعددة ، فبرزت من قصائده ما تصلح للحن والغناء ، فهل أدعو الملحنين للالتفات الى ما تتضمنه مجموعته الشعرية ( ضمير أبيض ) من القصائد التي نحن بحاجة الى سماعها مغنية على الشفاه لنستعيد بها تلك الأغاني الرصينة الرائعة التي أتحفت فن الشعر والغناء .
إن هذا العرض الإحتفائي بالمجموعة الشعرية ( ضمير أبيض ) لا يمكنه الإحاطة بما تستحقه هذه المجموعة من التقييم ، ولذا أدع القارئ المجد أمر تقييمها ، وسنكتشف معا أن للشاعر نصيبا مما تبتكره الموهبة الأصيلة المثقفة من المعاني والصور التي تغني فكر القارئ وتمتعه ، وهي ما يحدد لنا مستوى الشاعر في عالم الشعر الفسيح .
الفية الولد الخجول-العشر الثامن-عادل كامل-تقديم مدني صالح
العشر الثامن
[1]
خاتم من هذا الذي أضاء الأعراس
حينما الأبواب كفت عن الدوران.
[2]
النار والحجارة تاج كلام .. فهات لي نارك ..
مثلما برفق ضع الحجارة عند الرأس.
[3]
نتجمع عند الوديان .. نفترق عند البحر/ نتلملم عند النار/ نتوزع عند الأمراء .. إنما في آخر الليل تستيقظ الأسئلة.
[4]
آخر الليل أوله .. وعند الحاجة أوله دليل المسرات.
[5]
اكرر .. اكرر .. اكرر: انها روحي تتنـزه في عصور سحيقة.
[6]
أصغ إلي ّ: انها انحناءات مارة:
وثمة ظلال لن تأتي وآخري لن تتلاشى
أصغ اليّ: هل تستطيع أن تفعل ذلك حقا...؟
[7]
يستيقظ الشهيد .. بلا استئذان ..
يحمل رايته ويختفي.
[8]
ميلاده لم يأت من المجهول.. لا ولا بأمر الرمال
إنما كنا نطرز الليل بالدخان
فجاء الولد .. براية طواها واختفى.
[9]
بعد أن رأى الأرض حل بها الخراب
حمل أثقاله باتجاه الينابيع .. بلا أناشيد.
[10]
انظر: كم هو زاه هذا الطاووس
انظر: لِمَ يتجاهل انه مصنوع من عظام الموتى؟
[11]
أصغ: ما ضاع هو الربح. تعلم: ما من مكاسب أبدية.
[12]
بعض هذا الليل يشبه بعض ذاك النهار
هكذا غالباً النسيان يخترع ذاكرة مبللة.
[13]
بعض التفاح مثل الكروم .. جماجم ..
كأن الذي ولد للأرض .. يشقى للدفاع عن السماء.
[14]
هذه الطيور لا تعرف اللغات
إنما لماذا نطلق النار عليها بلغة واحدة؟
[15]
احمل جمجمتي معي .. مثلما لا أعرف ماذا افعل بالمسرات.
[16]
أعدائي .. مثلما أصدقائي .. كلاهما في محنة.
[17]
ليس لديّ إلا جدار اكتب فوقه
هنا يرقد الولد الذي لم يأت.
[18]
عند منعطف الأنهار .. أنبياء يصغون للطيور
وعندها .. في الأعماق .. ارض غرقى قبل الطوفان.
[19]
انها محض عواصف .. لكني غير مستئنس اضطرابها .
[20]
لا تذهب إلى الحبيب إلا ومعك خجلك.
[21]
لا .. لا .. لا لن تقف أمام الأسوار طويلا
الموت له كواكبه.
[22]
بعض ذئاب الأمس .. مثل ذئابنا ..
إلا أن خراف الأمس اكثر خجلا.
[23]
ولد وحيد يبصر .. ولد وحيد يصغي ..
ولد وحيد لا يكف عن العويل
لكن الأفواه تغار منه.
(24)
بعض أوهامي حقائق .. وبعض خجلي جمال.
[25]
كم شاهدت حروباً .. حربك .. لم تشتعل بعد.
[26]
بعض تراتيل الغرباء .. تتركني أغفو لحظات.
[27]
ليس من دليل قط .. أن الغزلان أقل حكمة من الغابات
كلاهما .. مثلي .. نبؤات مسروقة.
[28]
للجمال آثام وحدها جعلت صمتي كلمات.
[29]
لأي الأسباب تتشاجر العصافير .. فيما القلائد
بالتراب انصهرت.
[30]
يا رب أوقد فيّ الآثام .. أدلني على الذنوب ..
ليس لي سواها دليل للمسرات.
[31]
أللهم لا تدعني أنسى جراحي .. فمن لي سواها للسعادات؟
[32]
بعض الموتى يلعبون معي .. إنما أيضا ً .. لا يكفون عن السرقات.
[33]
لا تقطف السحب .. الأرض .. مثلي .. أنهكها الجفاف.
[34]
بعض الشعراء يسرقون القصائد
إنما بعض القصائد .. تتخلى عن الشعراء.
[35]
سأكف عن الكلام .. عن الأحلام ..
سأبحث عن غابة – عن نفس لا تتخلى عن نفسٍ.
[36]
كلانا أنا والرصاصة .. هدف هذا الغزال!
[37]
ارسمها ملكة فوق الورق ولا أعرف من يمحوها.
[38]
لا تحصى الآثام .. إنما الميلاد أولها.
[39]
لحظة واحدة دعوني أغفو .. قد لا أرى عاشقها مثلي.
[40]
لا تدع الأحلام تدخل بيتك .. لا تدعها تخرج
اكتف للغد بقليل من العتمة .. اكتف للماضي ببصيص نور.
[41]
في الفردوس .. كلانا لا يكف عن العواء.
[42]
الشجرة قالت لي: اقطعني لكن دع نشيدي.
[43]
فيما هم يجرحون الغابة
لا أمنع روحي من الغناء .. لا أمنعها من الرقص.
[44]
انتظر .. انتظر .. انتظر
ليس بعد الشيخوخة .. إلا ضريح تخجل منه الريح.
[45]
المْ تعرف انها المساواة .. تارة تولد .. وتارة تسرقك زرقة المساء .. فلِمَ كل هذا الصخب؟
[46]
ليس للكلمات من صوت .. ليس للصوت من كلمات
هناك فقط .. ولد مؤهل للإقامة .. مؤجل الجنون.
[47]
لا تتحدث إلى الآخرين إلا عندما تكون وحيداً.
[48]
أعظم المدن: الأميرات ارتدين فيها خيوط الشمس
حليهن مرصعة بأسرار القمر .. اليوم ليس للبغايا مأوى ..
إذ ْ التراب ينام مع الغرباء.
[49]
ماذا تفعل يا سقراط .. أتلهو أم تفكر
أم كلانا يعيد سرد الحكاية؟
[50]
بعض النور الذي لدىّ .. لا .. لا لم اسرقه من النهار انه بعض بقايا رماد ..
[51]
بعض الموتى ينهضون عند سماع الكلمات
ماذا لو قلنا .. مرة واحدة فقط .. الشعر ؟
[52]
انه ليل يثرثر .. مثلي .. لكن بصمت.
[53]
لي يد لا اعرف لماذا تكون معي أينما اذهب؟
[54]
متى أفقت .. لدىّ ذاكرة تغادرني ..
متى غفوت لدى صحو يشردني
إنما لدىّ جراح تنام مع جراحي.
[55]
لديّ أرض لا ازرع فيها الفقراء أو الحكماء
لا ازرع فيها حتى العشاق
لدىّ أرض ازرع فيها نفسي إلى جانب نفسي.
[56]
بعض الكنوز نعثر عليها في سنبلة .. بعضها نجدها في صخرة .. إنما أكثرها بريقاً يخفت عندما تمسك بها الأصابع.
[57]
أحيانا ً:
أعالج نفسي بالسكاكين العمياء
فيما جراحي تورق .. وبعض الموتى يستأنفون الاحتفالات.
[59]
بالأمس عرفت .. انها لم تكن أغنيات .. إنما عويل.
[60]
بعض ما لدىّ مسروق من ملائكة
والبعض الآخر من لصوص.
[61]
الليل أضاء مسار روحي .. وأضاعها .. الليل وحده ..
الليل وحده فعل مجد الضياع .. مجد الضياء .
[62]
بلا مبالاة اخترع أعظم الاحتفالات
وبلا استئذان أوقد ليلي الأخير.
[63]
الآلهة القديمة .. صانعة الفتنة .. تبحث ..
بشظايا المعادن .. عن قتلى ظرفاء.
[64]
بيت بلا امرأة .. بيت لا يدخله حتى الشيطان.
[65]
أضع أوسمة الشمس فوق الأرض
فيما أتأمل مقابض أسلحتي تتحول إلى أعشاب.
[66]
أرأيتم جرذاً فذاً .. انه الذي يقرض كلماتي ..
انه الذي يسكن روحي.
[67]
إنهما لا يتحدثان إلا عن رجل غريق
عني .. وعن آخر .. سيأتي بالبحار.
[68]
لا ينام الموتى بهدوء .. مثلي .. إنما عظامهم مثقلة بالحزن والأناشيد.
[69]
اكرر .. اكرر .. اكرر .. لا تحّدث نفسك إلا وحيداً.
[70]
من ذا يعلمني أسرار الفجر
فيما هو .. مثلي .. يرقد خارج الطرقات.
[71]
إنها لم تبدأ .. إنما .. لا نهاية لها قط .. هذه الحكاية.
[72]
كلمات .. إنها محض كلمات مبعثرة ..
محض ظلال .. كلمات وبعض هواء لا يتكلم.
[73]
في الغابة ضبية جريحة .. وفي روحي ..
منقرضات لا تثير الفضول.
[74]
اكثر صحواً .. اكثر صحواً .. اكثر صحواً ..
ربما هو بدء الطوفان .. ربما هو بدء الميلاد.
[75]
لِمَ سقراط يتسكع .. في آخر الليل .. مثلي
ولِمَ .. مثله .. تركت كأسي للعابرين.
[76]
سلاحي يرقب الفجر .. وأنا لا اكف عن المستحيل.
[77]
أشعل رمادي ثم انطفئ .
[78]
خذوني .. خذوني إلى كواكب منسية.
[79]
وحيد أتنزه مع حكماء نبحث عن تراتيل
لجمهوريات غير مطرودة من الجنة.
[80]
عند باب كوخي عاشق يرقد فوق العشب
وفي روحي ملاك لا يكف عن العويل.
[81]
معاً .. مثلما نتجمع .. معاً .. نفترق.
[82]
روحي لا تبحث عن أشياء .. روحي .. مثلي .. سرقتها الانعطافات.
[83]
تذكر:ليس أعظم من الصمت استغاثة
تترك الرأس يتدحرج .. نحو المجهول.
[84]
في مقلتي غرقى ينشدون : ماذا تفعل النوارس
: ماذا تفعل النوارس
في فضاءات الفولاذ.
[85]
القديسون أيضا .. يتنـزهون بلا رسالات ..
إنما هناك ..
عتمة تتبع خطى الجميع.
[86]
أنا لا اكتب .. أنا محص إصغاء لنهار قديم.
[87]
عند انطفاء الأنوار .. ظلالي تحرسني.
[88]
أينما اذهب .. كأن ملائكة معي تعلمني الصمت.
[89]
عند ضريحي .. أنبياء وعشاق .. ورجل مثلي يثرثر مع نفسه.
[90]
ليلي مثل نهاري .. كلاهما يتبادلان الأسئلة.
[91]
الذي ابحث عنه .. لا أجده ..
مصادفة التقاني الفجر .. مصادفة أضعته.
[92]
هذا آخر الكلام .. هذا أول الفجر
هو ذا خاتمي يدور بباب الأرض.
[93]
بعض أحلامي أستعيرها من أسلحتي الجريحة
والبعض الآخر من شيخوخة تتجول في الطرقات.
[94]
بيتك بلور أيها المحارب .. مثلما دائماً .. خنادقنا ذكريات.
[95]
بعضي يصالح بعضي .. إنما السلام لم يبدأ بعد.
[96]
تنحني الكلمات .. مثلما السنابل .. إنما إلى الأعلى.
[97]
دعوني أقول .. بلا كلمات .. دعوني أقول ..
أجمل الآمال أجنحتها كسيرة.
[98]
مثلي .. هو ذا عاشق يحّدث الجدران
مثلي .. هو ذا عاشق ينام في الحرائق.
[99]
لا ترقد الحكمة في كهف .. إنها أنا ..
كلانا ولدنا للفضاءات.
[100]
اليد تكلمت .. لكن الرأس لا يكف عن الصمت.
الجمعة، 22 أكتوبر 2010
الخميس، 21 أكتوبر 2010
من مصمم نصب १४ تموز؟ بلقيس شرارة
من مصمم نصب 14 تموز؟
بلقيس شرارة
لقد كُتبت أبحاث و مقالات و كتب عن نصب 14 تموز، و لكن جميع ما كتب عنه، كان يتعلق بالجداريات النحتية التي قام بنحتها الفنان جواد سليم. إن معظم الذين كتبوا أو ما زالوا يكتبون عن نصب 14 تموز، يجهلون – على ما يظهر- من الذي قام بتصميم النصب، هذا بالرغم من تدوين الأحداث بالتفصيل في كتاب من قبل مصمم النصب. و أجد أن من الإنصاف بعد مرور ما يقرب من الخمسين سنة على إشادة النصب أن أكتب عن مصمم هذا النصب و عن المهمة التي ألقيت على عاتقه في تنفيذه، و المشاكل التي جابهها في الحفاظ عليه. و الغريب في الموضوع أن هذه الأبحاث جميعها أغفلت ما دوّنه رفعة الجادرجي من الأحداث اليومية التي تبين كيف تحقق النصب، ودور المساهمين فيه، و ذلك في كتابه «الاخيضر و القصر البلوري» الفصل التاسع بعنوان «مع جواد سليم»، ص 94- 115، المنشور سنة 1991، من قبل دار الريس للكتاب و النشر.
لقد قام عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء، في نهاية عام 1958، بتكليف رفعة الجادرجي بتصميم ثلاثة نُصب في بغداد لتخليد ثورة 14 تموز. نصب الجندي المجهول و نصب 14 تموز و نصب الحرية. و لقد تم تصميم و تنفيذ الجندي المجهول من قبل رفعت الجادرجي في 14/7/1959، و افتتح بمناسبة مرور عام على الثورة. و تحقق انجاز نصب 14 تموز بعد عامين على الثورة. أما النصب الثالث و هو نصب الحرية، فأقدم على تصميمه رفعت بعد عام من انجاز نصب 14 تموز. و كَلف الرسام فائق حسن بتصميم الجدارية في ساحة الطيران.
أما كيف خطرت الفكرة له، فيقول رفعت الجادرجي، كانت شوارع مدينة بغداد آنذاك تغص بالمتظاهرين الرافعين اللافتات بجميع أشكالها و ألوانها. و « تساءلت: لِمَ لا يكون التصميم على شكل لافتة جميلة بدلاً من هذه اللافتات القبيحة المرفوعة الآن؟ لافتة جميلة و تكون باقية، و «خالدة» حسب قولهم... فقررت أن يبلغ ارتفاع اللافتة عشرة أمتار و يكون ارتفاعها عن مستوى الأرض ستة أمتار، و طولها اثنان وخمسون متراً، تملأ هذه اللافتة بأشكال برونزية تمثل يوم 14 تموز، و لتكن بديلاً عما يملأ شوارع العاصمة الآن... و عرضت على قاسم رسماً لنصب 14 تموز، و لم يكن أكثر من تخطيط كبير لجدار مرتفع... و قد بينت له أن هذا السطح سيحتوي على نحت ناتئ يمثل الثورة، فوافق على الفكرة من غير مناقشة...»
و من ثم فاتح رفعت الجادرجي جواد سليم بالموضوع و عرض عليه التصاميم المعمارية الأولية، و طلب منه ملأها بنحت برونزي. و تقسيم الجدارية إلى ثلاثة أقسام:« قبل الثورة، يوم الثورة، و بعد الثورة، على أن يبرز الجيش في قسم يوم الثورة و أن يتوسط النصب. أما قبل الثورة فيرمز إلى التهيؤ لها، و أما بعدها فيرمز إلى الازدهار المتوقع في الصناعة و الزراعة... تأمل (جواد) قليلاً و بان عليه الفرح و قال: إن هذه أعظم فرصة في حياته و إن هذا العمل سيجعلنا نرتبط بالآشوريين و انه سيكون أكبر عمل في العراق لمدة طويلة... و اقترحت عليه أن يبتدئ تسلسل النصب من اليمين إلى اليسار، أي أن تكون رموز ما قبل الثورة في اليمين و ما بعدها في اليسار لأن اللغة العربية تكتب من اليمين إلى اليسار، فاستحسن ذلك.»
تكونت لجنة للأنصبة التذكارية برئاسة رفعت الجادرجي و حسن رفعت الذي كان وكيل وزارة الإسكان آنذاك، و سافر جواد سليم إلى فلورنسا للقيام بتنفيذ العمل بعد أن وافق عبد الكريم قاسم في اجتماع خاطف عرضت عليه مبادئ التصاميم من قبل رفعت الجادرجي، و لم يقابل جواد سليم عبد الكريم قاسم، إذ كانت جميع الاتصالات تحدث بين رفعت و عبد الكريم قاسم في جميع المناسبات المتعلقة بالنصب. و لم يستطع جواد أن ينجز في تلك الفترة القصيرة، بعد مرور عام على الثورة، إلا تمثالاً واحداً و هو تمثال الفتاة التي تمثل «الحرية». و كتب رفعت الجادرجي بهذه المناسبة كتيباً صغيراً عن النصب، بحث فيه النقاط الرئيسة التي تتعلق بفحوى النصب، و رمزيته، و هو الكتيب الذي وزع على الحاضرين أثناء الاحتفال. و قام جبرا إبراهيم جبرا ببعض التعديلات اللغوية، كما وافق على طلب رفعت في أن يصدر الكتيب باسمه، و ألا يذكر اسم رفعت في الكتيب، لأنه يرغب في أن يتفادى مقابلة عبد الكريم قاسم في الوقت الحاضر، خشية من طلبه تغيير في نصب 14 تموز.
و لكن بعد بضعة أشهر من افتتاح القسم الوسطي من النصب، عرض رفعت على عبد الكريم قاسم بناء على طلب هذا الأخير، صورة فوتوغرافية بطول مترين و بارتفاع سبعين سنتيمتراً، بعثها جواد سليم من فلورنسا إلى رفعت. و شرح رفعة لعبد الكريم قاسم الفكرة التي صمم على أساسها النصب، و ما يرمز كل قسم منه، و ما سيكون شكله النهائي. و بعد أن تأمل «قاسم» الصورة الفوتوغرافية، قال لرفعة: «هذا النصب جيد و لكنه لا يمثل ثورة 14 تموز بالذات، انه قد يكون نصباً رومانياً أو نصباً في أي مكان آخر»، و هذا ما كان رفعتيتجنبه، خاصة بعد أن أصبح الزعيم يشار إليه بـ»الأوحد»، و الجماهير تهتف باسمه ليل نهار، فكيف بنصب بهذا الحجم يكون خالياً من تمثال «الزعيم الأوحد»؟ لذا أراد أن يكون تمثاله في منتصف النصب! و في هذه المحنة التي كان يمرّ بها رفعت، تبرع النحات خالد الرحال و أبدى استعداده لنحت صورة لعبد الكريم قاسم في النصب.
سافر رفعت إلى فلورنسا، ليضع حداً «للنغمة الجديدة الخاصة بإضافة صورة شخصية إلى نصب فني». و بلّغ جواد أن يكمل العمل كما هو مخطط – و هذه التفاصيل مذكورة في الكتاب المشار إليه أعلاه - ارتاح جواد بعد اللقاء و استمر في العمل. و هنا يتعين أن نؤكد ان كل ما جاء في المنحوتات الجدارية كان من تصميم جواد سليم.
و لكن عادت الشائعات ثانية، عندما علم جواد من خالد الرحال أن النصب سيرفض من قبل عبد الكريم قاسم و انه سيكلف بهذه المهمة بدله، ارتبك جواد خاصة و إن السفارة العراقية في روما لم تتعاون معه آنذاك، و على أثر ذلك أصيب جواد بانهيار عصبي أدى إلى دخوله مستشفى الأمراض العقلية. الأمر الذي دفع برفعت إلى السفر حالاً ثانية إلى فلورنسا، و كنت معه هذه المرة، و ذهبنا إلى المستشفى بصحبة زوجته لورنا و محمد غني حكمت. و أخرجه رفعت من المستشفى بعد تقديم تعهد بأنه المسؤول عنه، خرج جواد ليكمل ما تبقى من صب تماثيل النصب.
و وصلت التماثيل إلى بغداد، و بدأ نصبها، حيث نقل رفعت الجادرجي محل عمله إلى نصب 14 تموز. و كان جواد مشرفاً معه على فتح الصناديق التي وصلت من ايطاليا، وصفت المنحوتات على الأرض. و قبل المباشرة باللحم و الرفع و التثبيت، أصيب جواد بنوبة قلبية نقل على أثرها إلى المستشفى و توفي بعد عشرة أيام، و لم يرَ المنحوتات مرفوعة على النصب، و قام رفعت بتكملة العمل.
و عاد الكلام على وضع نحت لصورة عبد الكريم قاسم، و أدى النحات خالد الرحال دوراً بعيداً عن الأخلاق المهنية، إذ كان من المفترض أن يكون مدافعاً عما تركه رفيق له في المهنة، و هو عمل من أهم ما أنتج من فن في القرن العشرين في العراق، و ليس إثارة ضجة ربما كانت ستؤدي إلى نسف النصب و تدميره لو وضعت منحوتة لعبد الكريم قاسم في النصب. و هذا ما حاول أن يقوم به البعض بعد انقلاب 8 شباط 1963. و باستطاعة القارئ أن يطلع على تفاصيل إنقاذ النصب في كتاب «الاخيضر و القصر البلوري». و عن نجاح رفعت في عدم الرضوخ لطلب عبد الكريم قاسم في وضع تمثاله في النصب.
و عندما علم رفعت أن النصب في خطر و ربما يهدم من قبل السلطة الجديدة بعد انقلاب 8 شباط، للتخلص من كل ما له علاقة بعهد عبد الكريم قاسم، اتصل رفعت بالدكتور محمد مكية، الذي قام بدوره بتقديم احتجاج شديد اللهجة إلى أمين العاصمة، ما أدى إلى التراجع عن الفكرة و إنقاذ النصب.
_____________
1- (الأخيضر و القصر البلوري) رفعت الجادرجي، دار الريس للكتب و النشر، لندن 1991، ص94-95
2- - المصدر نفسه، ص 99- 101
3-و على خلفية هذا الكتيب، كتب جبرا إبراهيم جبرا كتاباً مفصلاً عن «نصب 14 تموز»، بعنوان: «نصب الحرية»، و أصبح هو المرجع بالنسبة إلى الكتّاب الذين يكتبون عن النصب. (ب.ش)
4- التفاصيل في كتاب (الأخيضر و القصر البلوري) حول الدور الذي قام به كل من إحسان شيرزاد و لورنا سليم و محمد غني حكمت و فاضل ألبياتي و عبد الأمير أحمد و غيرهم
الشاعر السيد جعفر الحلي وقامة الرشأ المهفهف-حامد كعيد الجبوري
الشاعر الشهير السيد جعفر الحلي
و قامة الرشأ المهفهف
حامد كعيد الجبوري
أبو يحيى السيد جعفر بن حمد بن محمد حسن بن كامل بن منصور بن كمال الدين ، ينتهي نسبه الى الحسين ذي الدمعة ، الى الحسين بن علي أبن أبي طالب عليهم السلام ، وتسمى عائلتهم بالحلة الفيحاء بآل كمال الدين ، ويسكن أجداده بقرية السادة التي تبعد عن مركز الحلة الفيحاء بحوالي كيلو متران تقريبا .
ولد الشاعر السيد جعفر الحلي سنة 1277 هجرية ، وتوفي سنة 1315 هجرية وعمره ثمان وثلاثون سنة هجرية ، ومعلوم أن السنة الهجرية تقل عن السنة الميلادية باثني عشر يوما ، ونحن الآن بسنة 1431 هجرية ، بمعنى أن السيد جعفر الحلي توفي قبل مائة وستة عشر سنة ودفن بالنجف الأشرف .
ولادة الشاعر المعروف السيد حيدر الحلي عام 1246 هجرية ، بمعنى أن السيد جعفر الحلي ولد وعمر السيد حيدر 31 سنة ، وتوفي السيد حيدر الحلي قبل وفاة السيد جعفر الحلي بأحد عشر سنة أي بسنة 1416 هجرية ، وكل هذه المقارنة والتواريخ الهجرية لنتعرف كم عاش السيد جعفر الحلي كشاعر مع السيد حيدر الحلي ، فلو افترضنا بزوغ فجر شاعريته وشهرته – السيد جعفر - بعمر العشرون سنة فننتج أنه عاش مع السيد حيدر الحلي كشاعر يشار له أكثر من عشر سنين قليلا ، وهذه العشر سنين كانت ثقيلة على كُبّار شعراء ذلك العصر ، فالسيد جعفر الحلي بدأ يسرق الأضواء ويسحبها نحوه بمختلف المجالس والمنتديات الثقافية التي تعقد ببيوت مراجع الدين آنذاك .
يتحدث الأستاذ الباحث والأديب الشيخ محمد علي اليعقوبي ببابلياته عن شاعرنا السيد جعفر الحلي ويقول عنه بأنه شاعر كثير النظم ومجيد بأغلب ما كتب من الشعر ، وكان يحاكي أو يقتبس أو يضمن بعضا من قصائده ممن سبقوه سواء الشعر الجاهلي وصولا لشعراء جيله ، وقد قرأت ما أورده الشيخ اليعقوبي فوجدت أن الصور التي أتى بها السيد جعفر الحلي تختلف عما ذهب إليه الشيخ اليعقوبي برأيه المحترم ومثلا لذلك
درت الخطوب بأنك أبن جلاها ... ولثغر كل ثنية طلاع
يقول الشيخ اليعقوبي بأن ذلك مأخوذ من سحيم بن وثيل الرياحي الذي يقول
أنا أبن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ولا أدري هل لذكره أبن جلا علاقة بالموضوع فالبيت الذي يذكره السيد جعفر لا يشبه بمعناه ما أراد الشاعر الرياحي ، وكذلك يؤاخذ السيد جعفر الحلي لأخذه عجزا كاملا من قصيدة الشاعر الشيخ كاظم الأوزري الذي يقول
وأقبل النصر يسعى نحوه عجلا ... مسعى غلام الى مولاه مبتدر
ويقول السيد جعفر الحلي
قد أقبلت نحوه تسعى على عجل ... ( وأقبل النصر يسعى نحوه عجلا )
ويذهب الشيخ اليعقوبي لأكثر من ذلك ، ولست هنا منتصرا للسيد جعفر الحلي ولكني لا أجد فيما قاله السيد جعفر الحلي مع الشاعر أبو فراس الحمداني بشئ من صلة ، وهناك أكثر من حديث بهذا الإتجاه ، وأنا أرى أن ما جاء به السيد جعفر الحلي غير ما جاء به ابو فراس الحمداني ، يقول السيد جعفر الحلي
الحب للرجل البعيد مقرب ... والبغض للرحم القريب مبعد
في ما يقول الشاعر أبو فراس الحمداني
كانت مودة سلمان له رحما ... ولم تكن بين نوح وأبنه رحم
وأورد الشيخ اليعقوبي رحمه الله الكثير من هذه التناصات التي أجد أنها أتت من غير باب أتى بها السيد جعفر الحلي رحمه الله .
كان السيد جعفر الحلي ذكيا وقارئا نهما لسيرة من تقدمه من الشعراء ، ومتابعا ومتتبعا لأخبار الأولين وأحاديثهم ، وترك الحلة الفيحاء وهو بعمر الخامسة عشر سنة ليتجه صوب النجف الأشرف حاضرة العلماء ومنجبة الشعراء، ودرس الفقه والشريعة على يد والده وأخوته وكبار علماء عصره كالشيخ عباس بن الشيخ علي كاشف الغطاء ، والشيخ محمد طه نجف ، وكان السيد جعفر سريع البديهة يرتجل البيت والبيتان بأحايين لا تحصى ، وكان يداعب أصدقائه شعرا ، وأن ذهب لزيارة أحدهم ولم يجده يترك له أكثر من بيت يستحضره آنيا ، ويقول الشاعر الشيخ السماوي عنه ، كتبت قصيدة وقرأتها على مسامع السيد جعفر الحلي وقلت فيها
فلو أشكو الذي لا قيت منها ... الى جبل لهال على الرمال
ولو أشكو الذي لا قيت منها ... لدهري رق لي ورثى لحالي
وأكملت قصيدتي له ، فقال لي – السيد جعفر - أستمع لي بعد أن أبدلت قافية قصيدتك الى حرف السين ،
فلو أشكو الذي لا قيت منها ... الى جبل لدكدك وهو راسي
ولو أشكو الذي لا قيت منها ... لدهري رق لي ما كان قاسي
فأعقبه الشيخ السماوي مجاريا إياه
ولو أشكو الذي لا قيت منها ...الى وعل لخر من الرواسي
فقال السيد جعفر الحلي
ولو أشكو الذي لا قيت منها ...الى عمرو لظل بغير باس
فقلت مجاريا له
ولو أشكو الذي لا قيت منها ...الى الحنفي بات بلا قياس
فقال السيد جعفر الحلي
ولو أشكو الذي لا قيت منها ...لإبراهيم بات بلا جناس
وضحك الإثنان وأوقفا هذه المجاراة ، وإبراهيم المذكور شاعر صديق لهما يشغف بالجناس ، ومن أجمل ما يروى عن سرعة بديهيته أنه كان يدرس بإشراف أحد الأساتذة بالشريعة مع صحبة له ، ومن المعتاد تعطيل الدروس الفقهية في شهر رمضان نهارا وتعطى عوضا عنها بعد الفطور عشاءا وبصحن أمير المؤمنين (ع) ، وكانت الحضرة العلوية غير معبدة بالآجر بل كانت عبارة عن أرض رملية ، وأثناء المحاضرة نهض الأستاذ مذعورا لوجود شئ ما تحته ، وحين نهوضه فإذا هي أفعى ذهبت حيث تريد دون أن تمس أو تلسع الأستاذ ، نظر السيد جعفر لذلك وأنشأ قائلا
لا تحسبوا حية الأرض التي التصقت ... في حجر سيدنا رامت به فزعا
لكنها من صنوف الجن مذ سمعت .... بالوحي يتلى فجاءته لتستمعا
ولم يملك الأستاذ إلا أن يخلع عباءته ويهديها للشاعر الحلي السيد جعفر ، ومرة أخرى رأى جمهرة من الناس وهي تصوب بصرها نحو السماء ، فرفع رأسه معهم ليشاهد صقرا مفترسا يطرد حمامة يتعقبها وهي تحاول الهروب من مخالبه القاتلة ، وبدون وعي أو بوعي رمت بنفسها من سماءها العالية صوب قبة أمير المؤمنين علي (ع) ونجت من موت محقق ، لأن الصقور تخاف أن تطير قريبة من الأرض ، كانت هذه الصورة مدعاة لأن يقول السيد جعفر الحلي هذان البيتان ،
جاءت سليمان الزمان حمامة ... والموت يلمع في جناحي خاطف
من علم الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف
ويروى أن السيد جعفر الحلي رحمه الله كان حاد الطبع لا يترك له حقا إلا أخذه ، ومع حدة طبعه كان لينا ويتعامل بالسيئة أن بدت بالحسنة ، متأسيا بأجداه عليهم السلام ، وفي هذا الباب يقول
جازِ الإساءة بالإحسان أن صدرت ... من أمرءٍ زلة تدعو الى الغضب
سجية النخل من يضربه في حجر ... جازاه عن ضربه بالبسر والرُطب
كذلك الصدف البحري أن فلقوا ... أعلاه كافأهم باللؤلؤ الرَطِب
وإن تكررت الإساءة وتكرر العفو لأكثر من مرة عد تخاذلا ومضيعة للحقوق ، ونرى ذلك مجسدا ما دار بينه وبين أحد مراجع الدين آنذاك وهو السيد إبراهيم ، وكان السيد إبراهيم يأخذ دروسه منه ويصلي خلفه ، ومعلوم أن طلبة العلم آنذاك ليس لديهم ما يسد رمقهم إلا القليل ، ورأى يوما خادما للسيد إبراهيم يحمل قفصا مملوء بالديكة ، فقال للخادم لمن هذا القفص ، أجابه الخادم إنه لسيدي إبراهيم لأنه لا يأكل من الدجاج إلا الديوك ، ولهذه الحادثة أمتنع السيد جعفر من الصلاة خلف السيد إبراهيم ، بعد مدة أسمعه أستاذه السيد إبراهيم عتبا لعدم حضوره صلاة الجماعة معه ، فأجابه السيد مرتجلا هذه الأبيات
أحب أن أصلي كل يوم ... وراءك في العشي وفي الغداة
ولكن ليس لي في البيت ديك .... ينبهني لأوقات الصلاة
وأستمر الخلاف بينهما وترك دروس هذا الأستاذ بل وبدأ يكتب قصائده ضده محرضا الطلبة – طلبة العلم – لتركه وترك درسه ويقول
يا مرسلا فضل العمامة خدعة ... أصبحت ذا فضل على إبليس
خشنت ثوبك كي تنعم زوجة ... لبست بزهدك حلية الطاووس
أن كان كل مقدس هو هكذا .... يا رب فحفظنا من التقديس
ومعلوم أن رجال الدين سابقا ولا حقا لهم سلطة كبيرة ، ومن خلال هذه السلطة فقد هدر السيد إبراهيم دم الشاعر السيد جعفر الحلي ، بسبب هذه الأبيات ، ومعلوم أيضا أن هناك الكثير ممن يود التقرب لله من خلال هؤلاء العلماء ، فلذا أصبحت حياة السيد جعفر الحلي مهددة من قبل العامة لتنفذ أمر مرجعها ، لذا هرب السيد جعفر الحلي عائدا لمسقط رأسه الحلة الفيحاء وخلع عمته ولبس الكوفية والعقال ، بعد أيام قليلة قرر السيد جعفر الحلي العودة للنجف لجلب عائلته وأطفاله ، وليلا دخل لزقاق داره ، والزقاق مغلق لا يفضي لشارع أو زقاق آخر ، وهو يحمل بيديه أمتعته البسيطة ومن خلفه زوجته وأطفاله فإذا بسراج يسير خلفه السيد إبراهيم الذي هجاه شاعرنا ، وما هي إلا لحظات وأستل مرافقو السيد إبراهيم – المرجع – سيوفهم للإجهاز على الشاعر السيد جعفر تلبية لنداء المرجع الفقيه ، وقربة الى الله تعالى بتنفيذ تلك الفتوى الظالمة ، لم يكترث السيد جعفر الحلي بالذي رآه وتقدم صوب المرجع ، أشار المرجع للسيافين بعدم تنفيذ شئ ، وصل السيد جعفر قبالة المرجع مرتجلا هذه الأبيات
رأيت ( إبراهيم ) رؤيا بها ... أضحى ك ( إسماعيلها ) جعفر
ها آنذا جئتك مستسلما ... يا أبتي أفعل بيّ ما تؤمر
نزلا هاذان البيتان بقلب المرجع مباشرة وقال للسيافيين ، أتركوه إنه ينحت من قلبه ، بمعنى أن عمره قصير بسبب هذه الإرهاصات الشعرية التي لا يقدر عليها أحد ، وفعلا مات السيد جعفر الحلي عن ثمان وثلاثون سنة هجرية ، والأبيات التي قالها الشاعر الذي عدّ المرجع السيد إبراهيم وكأنه النبي إبراهيم الخليل (ع) ، وجعل نفسه – الشاعر – بمثابة النبي إسماعيل الذبيح ( ع ) ، وهنا أدرك السيد المرجع بأن الله لم يأمره بذبح السيد جعفر الحلي لذا وهبه حياته .
ومن طريف سرعة بديهية السيد جعفر الحلي بقول الشعر ارتجالا ، ما قاله بعد مطر ربيعي سقى البادية النجفية وطاب هواءها ، فدعا صديقا له وهو الشيخ العلامة هادي كاشف الغطاء للنزهة حول غدير تجمع من مياه المطر هناك ، فأبى الشيخ الخروج معه فأنشأ قائلا
عذيري منك إذ تأبى إتباعي ... على حق ومن لي بالعذير
ومن عجب بأنك ( جعفري ) ... وترغب عن أحاديث ( الغدير )
فلو لا حظنا استعارته لمفردة جعفري وما يعني للجعفري الغدير .
كتب السيد جعفر الحلي بكل أغراض الشعر من مدح وهجاء ورثاء وغزل وباب إلأخوانيات وأجاد بكل ما كتب من أغراض ، والسيد أن رثى يفي المرثي حقه ، وإن هجا وكما تقدم فإن هجاءه يعد إخماد جذوة المهجو ، وهناك بابا نادرا ما يتناوله الشعراء وهو التشطير والتخميس ، فإن أعجب أحد الشعراء بقصيدة شاعر غيره ، أخذ تلك القصيدة وشطرها ، ومعنى التشطير أن يضيف عجزا للصدر وصدرا للعجز لنهاية القصيدة ، أو الأبيات التي أحبها من ذلك الشاعر ، ومثال لذلك تشطيره أبياتا من قصيدة العلامة السيد حسين القزويني والتي بعث بها من الديار المقدسة أثناء تأديته مراسم الحج ،
( طاب النسيم بطيبة ) ... وجلا السرور بها مدامه
علقت بها أرواحنا ..... ( وحلت لنا فيها الإقامه )
( دار توارثنا بها ) ..... شرفا يدوم الى القيامه
ولنا بحوزتها انتهى ..... ( إرث النبوة والإمامه)
( كم من كريم ليس ) ... تأخذه بمكرمة ملامه
حلف المكارم ليس ..... ( نأباه ولا يأبى الكرامه )
( قد زارها بسلامة ) ... وبنى على الجوزا خيامه
ودعا القبائل للقرى ..... ( منه وأقرأكم سلامه )
الأبيات المقوسة هي القصيدة الأصل للسيد حسين القزويني ، والأبيات غير المقوسة هي للسيد جعفر الحلي ، والتشطير ليس بسهل الصنعة على الشعراء ، فعلى الشاعر المشطر محاكاة شاعر القصيدة ولا يهم إن حول المدح لهجاء بل عليه ملاحظة قوة سبك القصيدة ، فإن جاءت أقل سباكة من منشئها حُسبت على الشاعر المشطر لا له، وللتخميس عملية تختلف عن التشطير ، والتخميس يأخذ بيتا من شاعر ما ويضاف له أربعة أشطر والشطر الخامس يعود لمنشئ القصيدة وهكذا .
السيد جعفر الحلي مولع بحل الألغاز الشعرية التي يرسلها له الأصدقاء من الشعراء ومن تلك الألغاز ما أرسله الشاعر السيد حسين القزويني ملغزا بمفردة الصقر حيث يقول
ما أسم ثلاثي على طرده ... يفعل فعل الضيغم الخادر
وعكسه يصدر من جاهل ... تهواه نفس الرجل الفاجر
وإن يكن أوسطه أولا .... كان رفيع السمك للناظر
فأجابه السيد جعفر
يا آمري في حل ألغازه ... سمعا وطوعا لك من آمر
هذا الذي يذعر سرب الظبا ... والسرب في أمن من الذاعر
وكان السيد الحلي رحمه الله محبا كشعراء عصره التاريخ الشعري ، والتاريخ الشعري مسألة صنعة حسابية أقرب منها للشاعرية ، ومعلوم أن لكل حرف باللغة العربية له قوة حسابية يعرفها المختصون ، ولها دلالات والتزامات لسنا بصددها ، ومن جيد ما تركه تاريخا شعريا مؤرخا عام وصول أسلاك البرق ( التلغراف ) الى النجف الأشرف بعهد السلطان العثماني عبد الحميد عام 1313 هجرية
فالتلغراف لبلدة النجف انتهى ... أرخ أجل يأتيك بالأخبار
وله أبيات يؤرخ وفاة العلامة حبيب الله الرشتي سنة 1312 هجرية
بكته الملة الغرا فأرخ ... بكى لحبيبها الشرع الشريف
وأرخ وفاة العلامة الشيخ محمد حسن آل ياسين سنة 1308 هجرية قائلا
مذ توفى أرخوه ... ثلم الإسلام ثلمه
ومن جميل غزله قوله
بسرك وهو للصب افتضاح ... أجد منك صدك أم مزاح
ترى أن الوصال لنا حرام ... وقتل العاشقين هو المباح
أحن إليك إن ناحت حمام ... على غصن تميل به الرياح
تهيج حشا كجمرة مقلتيها ... فتخفق مثلما خفق الجناح
وما وجد الحمامة مثل وجدي ... فنغمتها غناء لا نواح
وأين من المسهد عين ورق ... غفت ليلا ونبهها الصباح
ومن روائع الغزل العربي ما قاله السيد جعفر الحلي بقصيدته الغزلية التي غناها المطرب العراقي العربي الكبير ناظم الغزالي
يا قامة الرشا المهفهف ميلي ... بظماي منك لموضع التقبيل
رشأ أطل دمي وفي وجناته ... وبنانه أثر الدم المطلول
يا قاتلي باللحظ أول مرة ... أجهز بثانية على المقتول
مثل فديتك بي ولو بك مثلوا ... شمس الضحى لم أرض بالتمثيل
فالظلم منك علي غير مذمم ... والصبر مني عنك غير جميل
أتلو صحائف وجنتيك وأنت في .. سكر الصبا لم تدري بالأنجيل
أفهل نظمت لئالئا من أدمعي ... سمطين حول رضابك المعسول
أشكوا الى عينيك من سقمي بها ... شكوى عليل بالهوى لعليل
فعليك من ليل الصدود شباهة ... لكنها في فرعك المسدول
وعلى قوامك من نحولي مسحة ... لكنها في خصرك المهزول
لي حاجة عند البخيل بنيلها ... ما أصعب الحاجات عند بخيل
ويصم عني سمعه وأنا الذي ... لم أصغ فيه ملام عذولي
وأخيرا نصل لرثائه لآل البيت عليهم السلام ، وهي مراثي كثيرة سنأخذ مثلين أحدهما للإمام الحسين ( ع ) وهي ترتل من على منابر المسلمين ، ومثل آخر للأمام العباس ( ع ) ، قال راثيا جده الحسين ( ع )
بأبي أفدي قتيلا بالطفوف ... مزقت أحشاءه بيض السيوف
............
يوم نادى وعلى السيف أنحنى ... أيها القوم أنسبوني من أنا
فأجابوه بأطراف القنى ... وإليه زحفت تلك الصفوف
............
بين من يطلب في ثار أبيه ... ومن أستتبع بالشرك ذويه
فأحاطت زمر الأعداء فيه .... فهو فرد وأعاديه ألوف
..................
الى أن يقول مستصرخا المسلمين لنجدة الحق وأهله
لم يفدنا لطمنا راح براح ... لا ولا ينفعنا طول النياح
فمتى نلطم بالبيض الصفاح ... أوجها قد جدعت منا الأنوف
.... .........
ميميته العصماء برثاء العباس ( ع )
------------------------
وأبرز ما كتب في هذا الباب - مراثي آل البيت - قصيدته الميمية بحق الإمام العباس ( ع ) ، وهي أروع ما كُتب للعباس ( ع ) برأي أغلب النقاد ورواد المجالس ، وقد نشرت في كراس خاص سمي بالقصائد الخالدات ، ولا يوجد منبرا حسينيا إلا وقرأت هذه القصيدة من خلاله ، والقصيدة التي أعني لها قصة يكاد لا يعرفها إلا القلة ، ومفادها أن المرجعية الشيعية الدينية ارتأت أن يكون لها حضورا في مدينة سامراء ، ومن المعلوم أن سامراء التي تحوي قبر العسكريين ( ع ) يكاد يكون مذهبها الديني غير المذهب الشيعي ، فذهب أحد المراجع الى سامراء المقدسة وأصطحب قسما من طلبة العلوم الدينية معه ، وباركت الحكومة العثمانية هذا التحرك من قبل المرجع لغرض رص الصف الإسلامي من خلال تلاقح أفكار المذهبين ، وحين وصول المرجع الى سامراء وانتشار العمة الدينية الشيعية فيها ، حبذ الكثير من أهالي سامراء هذه الخطوة وباركها طالما أنها ستفتح أبوابا للرزق لأهالي المدينة ، وصمت الآخرون ممن عارض احتراما لرأي الأغلبية الساحقة من أهالي سامراء ، وحدثت أكثر من مصاهرة وعلاقة بين الطرفين ، وحين قدوم شهر محرم الحرام بطقوسه الدينية التي تمارس داخل الصحن الشريف ، خاطب المرجع الديني الشاعر السيد جعفر الحلي الذي كان مع هؤلاء الطلبة وقال له ، يا سيد جعفر ليلة غد ستكون لعمك الإمام العباس فهيأ قصيدة لذلك ، والغريب أن السيد جعفر الحلي رحمه الله لم يستطع كتابة أي بيت من القصيدة ولا حتى مطلعها ، وكان الفصل صيفا وهم يفترشون السطح للمرقد الشريف ليقضوا لياليهم الصيفية فيه ، مسك ورقته وقلمه وأخذ يجوب الصحن والسطح ذهابا وإيابا إلا أن ملكة الشعر لم تحضره ، وهو يصارع ذلك آيس من أن ينجز ما يريد ، لذا قرر أن يستخرج إحدى القصائد القديمة بحق العباس ( ع ) لتقرأ ، أُذّن لصلاة الفجر وأدى صلاته وذهب الى فراشه وهو يحاول أن يجد مخرجا لذلك ، تقلب على فراشه ونزل خيط الفجر رويدا رويدا ، ولاح في الأفق الضياء فأطبق عينيه لينام وإذا بسلطان الشعر بل مارده قد أمره بالنهوض ليستهل قصيدته قائلا
وجه الصباح علي ليل مظلم ... وربيع أيامي علي محرم
والليل يشهد لي بأني ساهر ... مذ طاب للناس الرقاد وهوموا
قلقاً تقلبني الهموم بمضجعي ... ويعود فكري في الزمان ويتهم
أو موتته بين الصفوف أحبها ... هي دين معشريّ الذين تقدموا
ما راعهم إلا تقحم ضيغم ... غيران يعجم لفظه ويدمدم
عبست وجوه القوم خوف الموت ... والعباس فيهم ضاحك متبسم
قلب اليمين على الشمال وغاص .. في الأوساط يحصد بالرؤؤس ويحطم
وثنا أبو الفضل الفوارس نكصا ... فرأوا أشد ثباتهم أن يهزموا
ما كر ذو بأس له متقدما ... إلا وفر ورأسه المتقدم
صبغ الخيول برمحه حتى غدا ... سيان أشقر لونها والأدهم
بطل تورث من أبيه شجاعة ... فيها أنوف بني الضلالة ترغم
فأنصاع يخطب بالجماجم والكلا ... فالسيف ينثر والمثقف ينظم
أوتشتكي العطش الفواطم عنده ... وبصدر صعدته الفرات المفعم
ولو أستقى نهر المجرة لارتقى ... وطويل ذابله إليه سلم
لو لا القضى لمحا الوجود بسيفه ... والله يقضي ما يشاء ويحكم
وهوى بجنب العلقمي فليته ... للشاربين به يداف العلقم
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه ... بين الخيام وبينه متقسم
قد رام يلثمه فلم يرّ موضعا ... لم يدمه حر السلاح فيلثم
أأخي يهنيك النعيم ولم أخل ... ترضى بأن أرزى وأنت منعم
أأخي من يحمي بنات محمد ... أن صرن يسترحمن من لا يرحم
هونت يبن أبي مصارع فتيتي ... والجرح يسكنه الذي هو أألم
يا مالكا صدر الشريعة أنني ... لقليل عمري في بكاك متمم
والقصيدة طويلة اخترت لكم منها ما ذكرت .
...............................
المصادر
* : سحر بابل وسجع البلابل / ديوان السيد جعفر الحلي
* : البابليات الجزء الثالث للباحث والمؤرخ الشيخ محمد علي اليعقوبي / نبذة عن حياة الشاعر السيد جعفر الحلي
الأربعاء، 20 أكتوبر 2010
جمل ثقيلة ومروعة-علي السوداني
جمل ثقيلة ومروعة
علي السوداني
جمل ضخمة تمطر فوق وجه البلاد . جمل ضخمة وقاسية ومروعة وسخيفة . جمل كما فزّاعات ترفرف لحرامي مفترض . خيال مآتة لصيد عصافير الغفلة . جمل مثل جثث محشاة بقطن أو بقش مبلول تسد مسد القلب والكبد والمخ . جمل شكسبيرية تتدعبل على دكة الفرجة . جمل من دون جوهر ولا رحمة كأنها طعم صدأ في حلق يابس . جمل مشهورة صائحة . واحدة اسمها " خطوة في الأتجاه الصحيح " ، وهذه استعملت عندما كانت البلاد المريضة تنزع ملابسها قطعة بعد قطعة ، واذ تعرت حتى من وصلة التوت ، قيل لها : هل من مزيد ؟ جملة سامّة ثانية صاحت أن عبود عبد العال " يقف على مسافة واحدة من الجميع " لكن الحق والحقيقة هي أن عبّوداَ انما يحب هذا المكون ويكره ذاك . عبود يسوس العربة والحصان والسيارة من مقعد خلفي صوب وجهة لا فرار منها ولا مفر . عبود ينادي بعالي الصوت ان هلموا هلموا الى " حكومة وحدة وشراكة وطنية " فلا تشوف الرعية وحدة ولا تسمع شراكة ولا تحس وطنية لأن عبود القاسي يبشرهم بخرافة فرصة تأريخية مستعادة . أقطار وأمصار الجوار والطوق ، تتفرعن وترسم السبّابات في الهواء وتريد عراقاَ واحداَ موحداَ ينام الكل بحضنه ، لكن السبّابات ستتكسّر تالياَ وتنوخ وتبصم على بياض ، واللعاب سيسيل والحناجر ستطقطق اذا ما مدّ لها عبود القوي ، انبوب نفط أسود وبوري غاز مسال وسوقاَ مشاعة تغسل شعرها بشامبو صحون وتلون قدر مرقها بمعجون فاسد وتداوي جرحها بكبسولة دواء تسميها الناس " أكسباير " حينها ستقع حفلة التبويس والتعصير وسيسمع ، قوياَ واضحاَ ، تبويق أمصار الطوق والجيرة " أن دورها هو دور مشورة ونصح وحب ، وأن اهل بلاد ما بين القهرين ، هم أدرى بشعابها " لكم شأنكم ولنا شأننا . قيل أن واحداَ من مداميك قوة هذي البلاد انما يكمن في تلك الفسيفساء الجميلة من طوائف واقوام وملل ونحل . يا لها من كذبة مجلجلة ، لأننا لو كنا من لون وهوى واحد ، لما وقعت فتنة ولما أهدر دم ولما هجّرت ناس ولما شال سائق التاكسي هويتين واحدة لكرخ بغداد والأخرى لرصافتها . رجل الدين في بلادي أقوى واذكى من رجل السياسة أذ ان بمستطاع عمامة واحدة وجلباب ، تحريك ملايين مملينة من البشر وتوجيهها الوجهة التي تحب ، لكن شاحنة عملاقة من رجال ونساء سياسة ، لن يكون بمقدورهم تحريك وتثوير محلة . رجل الدين الشاطر هذه السنة ، يغمض عيناَ واحدة عن باب حانة مفتوح ورقصة باليه فوق خشبة مهملة ، ويصم أذناَ عن وصلة غناء مدلوقة على أعتاب أبي نؤاس ، لكنه على أوشال العام القادم ، سيشوي رأس بصل حار على أذن كل من غنى وموسق وشرب ورقص وكتب خارج اطار اللوحة . بلادي مرهقة وتعبانة وحائرة . الغزاة الأوغاد الأوباش الحرامية يتركونها مثل طريدة موشوم جسمها بزفة من كيّات سكائر . بلاد مدماة ضاع دمها بين القبائل . جمل ثقيلة . ثقيلة ومروعة . مروعة وقاسية . قاسية وكذابة . كذابة وسخيفة . بلاد تئن ، وانت تئن ولا حول لك ولها ، ولا حيل ولا حيلة . جمل مكرورة ودبقة ومملة ومهينة . تصبحون على خير .
الجواهري في اي طرطرا.......تطرطري-رواء الجصاني
الجواهري في : "أي طرطرا ... تطرطري"
رواء الجصاني
jawahiricent@yahoo.com
في عام 1946 ينشر الجواهري قصيدته الذائعة الصيت "أي طرطرا ... تطرطري" في أجواء احتقان سياسي واجتماعي متعاظم في البلاد، قد يقارنه البعض بسوء، او بحسن نية، مع كثير من الوقائع التي يعيشها عراق اليوم... وكأن التاريخ يعيد نفسه بعد أزيد من ستين عاماً...
أي طرطرا ، تطرطري .. تقدمي ، تأخري
تشيعي ، تسنني .. تهودي ، تنصري
تكردي ، تعربي .. تهاتري بالعنصر
تعممي ، تبرنطي .. تعقلي ، تسدري
تزيدي ، تزبدي .. تعنزي ، تشمري
في زمن الذرّ إلى بداوة تقهقري
وان كان المقطع السابق تناول تورية ً ومباشرة ً شخصيات البلاد المؤثرة آنذاك، ونال منها في مناح سياسية معلومة، يعود الجواهري في سياق القصيدة ذات الأكثر من ثمانين بيتاً ، لينتقد الأوضاع الاجتماعية والمدنية وغيرها، وبشكل قاس ٍ لحدود بعيدة... ولربما تسود هنا ومن جديد مقولة: ما أشبه الليلة بالبارحة في الكثير من الشجون، والشؤون العراقية ... وتباً للمتسببين :
أي طرطرا تطرطري .. وهللي ، وكبري
وطبلي لكل من يُخزي الفتى ، وزمري
وعطري قاذورة ، وبالمديح بخري
والبسي الغبي والاحمق ، ثوب عبقر
وافرغي على المخانيث دروع عنتر
طولي على "كسرى"، ولا تُعنيّ بتاج "قيصر"
... شامخة شموخ قرن الثور بين البقرِ
وبحسب ما ندعي، ومعنا غزير من المتابعين ، فان الرائية الجواهرية هذه قد حظيت بجماهيرية لا حدود لها، وحتى عند النخب السياسية التي عنتها أبيات القصيد فراحت امثلة على ألسن الناس، وكأنها تنطق باسمهم، وتكشف احوالهم، وأوضاع البلاد السائدة حينئذ ٍ، بكل التفاصيل والعناوين... ولم يضاهها في الشعبية والانتشار، كما نزعم ثانية، سوى تنويمة الجياع التي نظمها الشاعر الخالد عام 1951 والتي فيها الكثير من الموحيات والمتشابهات مع "طرطريته" الشهيرة:
نامي جياعَ الشَّعْـبِ نامي ، حَرَسَتْكِ آلِهـة ُالطَّعـامِ
نامي فـإنْ لم تشبَعِـي مِنْ يَقْظـةٍ فمِنَ المنـامِ
نامي على زُبَدِ الوعـود يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ
نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ فـي جُـنْحِ الظـلامِ
تَتَنَوَّري قُـرْصَ الرغيـفِ كَـدَوْرةِ البدرِ التمـامِ
نامي تَصِحّي! نِعْمَ نَـوْمُ المرءِ في الكُـرَبِ الجِسَامِ
نامي إلى يَــوْمِ النشورِ ويـومَ يُـؤْذََنُ بالقِيَـامِ
نامـي على المستنقعـاتِ تَمُوجُ باللُّجَج ِ الطَّوامِي
نامي على نَغَمِ البَعُوضِ كـأنَّـهُ سَجْعُ الحَمَامِ
وعلى ما نرى أيضاً فان ديوان الجواهري العامر لا يشمل كثيراً على مثل تيّنك الفريدتين، وان جاءت أبيات بعض القصائد الأخرى، حاملة بهذا القدر أو ذاك من السخرية الجادة الكثير والمؤثر... ومن بينها في "عبادة الشر" (عام 1933) ومطلعها: دعْ النبلَ للعاجز ِ القـُـعدد ، وما اسطعتَ من مغنم ٍ فازددِ ... أو تلكم الموجهة إلى الملاكم الدولي الأشهر في حينه، أواسط السبعينات، محمد علي كلاي وخاطبه فيها قائلاً: شِسْعٌ لنعلك كل مَوهبة، وفداء زندِك كل موهوبِ ...
وللمزيد، نوثق هنا، إلى ان رائية طرطرا الشهيرة قد جاءت على وزن القصيدة الدبدبية القديمة المعروفة "أي دبدبي، تدبدبى ... أنا عليّ المغربي"... وعلى ما ندري فثمة أبيات عديدة أخرى في "طرطرية "الجواهري حُجبت عن النشر، في ديوانه على الأقل، لأنها شملت أسماء صريحة، لعدد من القادة والزعماء السياسيين آنذاك، وقد عرف بعضهم بها، فتوسط، وترجى، بعدم النشر... وقد استجاب الشاعر لذلك بعد مماطلات، مقصودة على ما نعتقد...
... وختاماً ، دعونا نستمع سوية لمقطع ثالث وأخير من "اي طرطرا" الجواهرية ، وفيها ، وكالعادة ،من العبر ، ما يفيض :
اي طرطرا سيري على نهجهُم والاثر ِ
تقلبي تقلب الدهر، بشتى الغير ِ
تصرفي كما تشائين ، ولا تعتذري
لمن ؟! أ َللناس !! وهم حثالة في سقر
ام للقوانين؟ ... وما جاءت بغير الهذر
ام للضمير، والضمير صنع هذا البشر
لمن؟ أ للتاريخ؟ وهو في يد المحّبر
ام للمقاييس اقتضاهن اختلاف النظر؟
.. أن اخا طرطر من كل المقاييس ، بري
ملف صوتي عبر الرابط التالي
http://www.iraqhurr.org/audio/audio/283952.html
مع تحيات مركز الجواهري في براغ
الأربعاء، 13 أكتوبر 2010
لوردة صغيرة زرقاء-الشاعر عبد الجبار عباس-تخطيط غالب المسعودي
لوردة صغيرة زرقاء.....
من نال منها لمحة ظل الى الابد....
اسيرها التائه في وعورة الشعاب
يخالها تلوح في ضفائر الشجر
او رقصة الشعاع فوق صفحة النهر.....
حتى اذا ما مد للقطاف يد
عادت له بجفنة السراب....................
شاخت غصون غابة الحجر
وغاب جيل اثر جيل اثرجيل..................
ولم تزل تلوح في المنام او في قدح الشراب
باسمة بخصرها النحيل
صبية ناهدة كانها القدر
الشاعر عبد الجبار عباس
من ديوان اشواك الوردة الزرقاء
الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010
رسالة من شالا-نص شالا
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)