جمال الصور في
(رذاذ على جبين غزاله)
جمعني ديوان (رذاذ على جبين غزاله) للشاعر (رياض النعماني) مع صديق مهتم بالثقافة عامة والشعر الشعبي خاصة ،وتحدثنا مطولاً عن القصائد التي أشتمل عليها الديوان ، وقورنت مع قصائد ديوانه السابق (إمام الورد) ، وخلصنا الى أن ديوان (رذاذ) جاء مكملاً ل (إمام الورد) ، مع فرق زمني واضح وأمكنة مختلفة عن بيئتنا العراقيه _مايسمونه اليوم الزمكانيه- ، ومحاولة جاده للخلاص من القيود (الفراهيديه) التي تؤطر جل القصائد الشعبية ، متجهاً صوب القصيدة النثرية الشعبية والتي تبنى (النعماني) وشعراء أخرون قلة أرساء قواعدها ،معتمدين على الموسيقى الداخلية للحروف المتجانسة لتشكل كلمة تتموسق مع المفردة ماقبلها وبعدها ، لتشكل جملة تتناغم مع الجملة السابقة واللاحقة ، وهذا مالا تدركه إلا الأذن المشبعة بموسيقى الحروف وقواها الحسابية الصوتية ونطقها ومخارجها ومثل ذلك (ح حرف حلقي ، ل حرف لساني ب حرف يخرج من الشفاه) ، والقصيدة النثرية المبدعة توهم قارئها ومستمعها ليحيلهاالى أنها قصيدة عروضية ولا يعني هذا أن قصائد ديوان (رذاذ على جبين غزاله) نحيلها كلها لقصائد نثرية ، وهذا غير منطقي ولا صحيح ، ففي الديوان نجد الموشح –الرمل- (عالي نهدك عالي وأعلى من المجد) ، ونجد التجليبه –الهزج- ( أنه الشفت الكحل نهرين فوك الخد / منو بجاك زعلت البنفسج والزعل راضاك / ياهو أوياك من غثك منو حاجاك) ، والنايل –البسيط- (مايل علي المطر جم ظل آنه مايل) .
(رياض النعماني) لا يهتم كثيراً بأنشاء قصيدته على بحر واحد فتراه متنقلاً بقصيدته لبحور متعددة مع ملا حظة التفاعيل المتقاربة عروضياً ، على أنه لا يغادر وحدة الموضوع رغم أستطراداته الزمكانيه ، وهذا متأتي من خزينه الثر وقراءاته المتنوعه ، سياسة ، أدب ،التاريخ قديمه وحديثه ، الديانات ونشأتها وتشعباتها ، صوفيه زرادشتيه ، صابئة ، الديانات الهندية ، ألخ ، وشخصانية (رياض) مكتسبة من تجواله القسري وهو لم يغادر جذور بيئته العراقية رغم أستيطانه الأوربي ومحطته الدائمة(دمشق الشام) ، فأضفت له كل هذه المحطات بجمالها لينثرها على متون قصائده مشبعة للقصيدة نكهة وما ألذها ، و(النعماني) كما أراه مهتم كثير الأهتمام بصوره ودقتها ، بمعنى أنه يلتقط أكثر من صورة لمشهد واحد ومن زوايا متعددة ويختار الأجمل منها معتمداً على ذوقه الحسي المرهف (يترك القداح لونه أبفي قميصك والسهر / يالسهر طولك وريحة هيل / خيمه وكهوه مره / والبدو شالوا خيمهم) ، ويؤطر (النعماني) صوره بمشاهدات حسية أختزالاً للسرد الغير محبب (عيني يا عيني اليشوف هلال خصرك) ، وميزة الهلال الذي تنتظر أشراقته العيون – هلال العيد – ولا يرى إلا بالبصر الحاد ، ناهيك عن دقته ونحوله ،موحياً لرقة خصر محبوبته وطراوته ، (أنت بين الستن والجرجف حرير) ، وخيوط قماش (الستن) تتجانس وصفياً مع الخيوط الحريرية الناعمة الملمس الطرية اللينه ، مجسداً لمعشوقته بأرق وألين من خيوط الحرير ، ومن الصور الجديدة الغير مطروقة على حد أطلاعي بموروثنا الشعبي الغزير لم أقرأ لأ حدهم وصفاً (للنهد) ب (الجمه) ، والكماة نبات بكتيري لذيذ طعمه أسفنجي ٌ ملمسه ، في حين نرى أن مبدعونا الشعراء وصفوا النهد ب (الرمان) ، وأخر يقول (حي حلو المراشف والنهد فنجان) ، ولا يكتفي (رياض) بهذا الوصف للنهد فيذهب لأكثر من ذلك ، (عالي نهدك عالي عالي وأعله من المجد) ، وعالي نهدك صورة قديمة رددها الكثير في وصف نهودة الثدي ، فهذه الفتاة الشابة تحاول أيصال رغبتها لوالدها عن طريق أمها لأنها أستحقت الزواج والوالد غير مكترث لذلك فتقول ، (يايمه خبري الأبو آنه أستحي منه / زمن أنهود الصدر للزيك شكنه) ، ويتبعها (النعماني) لأكمال صورته التي يرسمه للنهد ، (والحلمه فحل زعرور) ، وأجزم أن ( رياض ) لايريد ب (الحلمه فحل زعرور) لكبر ( الحلمة ) و أنتفاخها لأن ذلك سيأتي بصورة مشوهة للثدي ، ولكنه أراد القول بأن ( الحلمة ) نافرة ومتوثبة لرغبة حسية فطرية لأنوثة المرأة ورغبتها الجنسية ، ولأن المعشوقة أدركت وكما يقول المثل الشعبي (الممنوع مرغوب) لذلك ( تفتح على كد بوسه القميص ) لأجبار محبوبها على الأيغال بالنظر أليها وتتركه لتشاهد وقع جمالها فيه ، ( من تفتح أشويه من القميص أتحير بيه الروح ) ، ولأنشداد (النعماني) لأرضه – وهذا ملموس فيه – لذا يؤمن أن ريحة عنبر ( المشخاب ) أذكى من الزيزفون والنرجس الشامي ، ومن ( الكاردينيا ) الأوربية لذا ( من تفتح على كد بوسه القميص / وعنبر المشخاب كله أيفوح ) ، وفي باب آخر وصورة أخرى نتلمس شفافية ( النعماني ) قبالة غنج ودلا ل وتمنع محبوبته ، ( أبوردة رازقي ألمست الخدود / وشهكت وكالت يعابيك الله ) ، لماذا تجرح مجروحتك ، ويعود ثانية (رياض ) لرسم وأعطاء صورة أخرى للنهد دالاً على ( بشرة ) المحبوبة ( بلون الحنطه ريان النهد ) ، ولرب سائل يقول ماعلاقة ( الفلفل المسحون ) بالثدي الناهد ؟ ، و ( رياض ) كما أزعم لم يرد الفلفل على أنه نبات يؤكل ولكنه يؤكد على توقد رجولته مقترناً بالرغبة الحسية لدى المعشوقة كما نوهنا ، ولو أراد الفلفل لكونه فلفلاً لشوهت الصورة تماماً وأصبحت محض وجبة طعاميه ، مستخدما الصفة لهذا النبات للأيحاء بمكنونه ورغبته ورغبتها العارمتان ، ولربما يراها قارىء آخر حسب قرائته لها ويقال ( لولا أختلاف الأراء لبارت السلع ) ، والغيرة – من يغار – عند ( النعماني ) واضحة وجلية في أغلب نصوصه الغزلية وهذا لعمري حق مشروع ، فالشرقي عامة والعراقي خاصة جبلته هكذا ، بمعنى حب التملك الفطري للأشياء ومن ضمنها المعشوقة ، ( أموت آنه أمن أشوفن في ورد وازاك ) ، وأرى من خلال قرائتي المتمعنة ل ( الرذاذ ) أن ( النعماني ) أصيب بأكثر من خيبة أمل عشقية ، والصور التي رسمها (رياض ) في (الرذاذ ) لحبيبته كثيرة جداً ، ( أنت ألف بستان بالبستان ) ، و ( من حلاتك ياحبيبي أيغار كل قندون ) ، و ( محتار بيك أهواي / من يانبع غافي ياجرف فضه وعروس الصبه / لجلك جاوروا كل العمر ) ، وملاحظة ( الصبه ) – الصابئة المندائيين – وردت لأكثر من مرة في ( الرذاذ ) ومكررة أيضاً وكذلك أكثر من مرة في ديوان السابق ( أمام الورد ) ، ولربما يجد رياض في الطقوس الصابئية والتعمد في الماء للزوجين ليالي الزفاف الأولى أوحت له الكثير ، فالماء طهور وفطرة أكتشفها البشر لحظات التكوين الأولى للبشرية وأثَرت - بفتح الثاء - وأثرت - بسكون الثاء - لحياته لاحقاً ، وبقي يحملها صفة ملازمة له ( جنت أحلم .. أعيش الشجره من تكبر / تسوي العسل للناس وتقطر للزمان الجاي ) ، لذلك جعل رسالته الأنسانية ( آنه الحبيت كل دنياي / حبيت وخفت ماكفي / صرت أهواي ) .
( رذاذ على جبين غزاله ) يشتمل على نصوص غزلية غنائية كثيرة ، نجد فيها الصور الجميلة والمفردات الأحلى وعفوية الأسترسال ولربما سيتنبه لها الملحنون لاحقاً ، ودليلي لذلك هذا( النايل ) – البسيط – وأستمزاجه بتفعيلات عروضية أخرى تتقارب مع تفعيلة ( النايل ) – البحر البسيط – ( مستفعل فاعلن مستفعلن فاعلن ) ومن يقرأ النص بكامله يلحظ ذلك بوضوح ( قطر حياتك عسل / أشكر شهي وشفاف / بيه نهد ورد غرك / غركان بس ينشاف / للكاصده من بعد سبع أيام / ضاكك خمرنا وشهك الله ياخمره / يهلال فوك الخصر نايم وأبد مينام / ردنا ينام الهوى يفارعه ومانام ) ، ويختار ( النعماني ) من المفردات أرقها ، ومن الأزهار أذكاها ، ومن الأشجار أكثرها أختضاراً ، وحين أكتمال عناصر التصوير لديه من مسافة ووضوح يرسم صورته كما أسلفنا ، ( الندى فوك الكحل / وأكرنفلك حيران / نامت ريحة النعناع فوك أمرايتك / وأمخدتك ريحان ) ، ترى أي صياد ماهر يقتنص الصبايا ، وأين هي تلك الصبية التي ( جن سيف من ريحة بنفسج جارحه مثل النسيم / وشابعه حب ومطر ) ، و ( جارحه مثل النسيم ) ومن يصدق أن النسيم يجرح لذا عمد ( النعماني ) ل ( شابعه حب ومطر ) لتكون النسمة جارحة ببرودتها فعلا ً و برودة الحدائق عافية كما يقول فنانا ( سعدون جابر ) ،وصبية ( رياض ) كما يزعم ( التحارب عليها الليلو والياقوت / ياهو أيصير شامه أبعالي شفتها ).
بعد أنتهاء قرائتي ل ( رذاذ على جبين غزاله ) لأكثر من مرة ، وأكثر من مرة متأنية كمن ينقب عن ماس ، أو غواص ماهر ليصطاد لؤلؤة فريدة نادرة ، يتبادر لذهني سؤال مشروع ، لماذا يقتتل البشر ؟ أمن أجل مصالح مادية ضيقة زائله ؟ أم صراعات طائفية مذهبية مغذات من هنا وهناك ؟ أم من أجل كراسي خشبية منخورة بالأرضة أصلاً ؟ لماذا لا نقتتل ليس بالسيوف ولا بالقنابل النووية ! بل نقتتل بالجمال لنشيد صروحاً للأنسانية ، نتسارع أينا ينشأ حديقة غناء تتدلى أغصانها الفارعة لتخفي قبلات العشاق عن أعين المتلصصين ، هذا مايريده الحالم أبداً ( رياض ) ، ومانريده نحن عشاق الأنسانية للأننا نحمل قلوباً للشعراء بل قلوباً للأنبياء