بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الأربعاء، 7 أبريل 2010

يمامة الرسام -بقلم د علي عبد الامير صالح-رسوم د غالب المسعودي-القسم الثالث

.


نعم , فالحاضر يجود علينا يومياً بالمآسي والكوارث والفواجع .. والكوابيس .. وتعذر عليّ في الشهور التسعة التي أعقبت الحرب أن أغادر محترفي .. الواقع كان محترفي ومسكني في آن , وربما يجدر بي ان اقول صومعتي , مختلاي , مأواي .. غالباً ما أمضي فيه أياماً معدودات من دون أن أغادر .. اشتري حاجتي من الطعام , والتبغ , ومواد الرسم .. وأبقى أمارس طقوس حياتي اليومية التي تشبه , ربما , طقوس الحياة اليومية لملايين العراقيين , الذين يعيشون مثلي على شفير اليأس , والاحباط , بلا ماء ولا كهرباء , ويستنشقون مثلي , ايضاً , دخان العجلات المحترقة , وروائح الاجساد المتفحمة في السيارات , الفنادق , المدارس , مطاعم الاكلات الشعبية ..

نعم , مرتين فقط , اذا لم تخني الذاكرة , حضرت افتتاح معرضين تشكيليين لرسامين شبان توهجت فهيم الحماسة , باعوا اغلى ما يملكونه واشتروا مستلزمات الرسم ورسموا ما تعذر عليهم ان يرسموه في السنين الخوالي .

وحتى زيارتي للمعرضين , اللذان كانت إقامتهما , في ظروف معقدة كظروفنا , مغامرة جريئة , لا بل قل بطولة فذة , لم ألتق بامرة أو فتاة تشعل فيّ حريقاً لذيذاً , توقظ حواسي المعطلة .. على نحو ما فعلت هذه المرأة التي حدست ان عمرها يتراوح بين الخامسة والعشرين والثلاثين .. شاء القدر ان تزورني في وقتٍ كنتُ فيه اهفو الى انثى حقيقية , انثى اطوقها من الخلف , واستنشق عبير شعرها , شعرها البليل .. وامرر شفتيّ , شفتيّ الظمآنتين الى ريق امرأة على خطوط عنقها , شرايين واوردة العنق , واشمن عطرها الأخاذ الذي تضوع من رقبتها , ترقويتها , ابطيها , نهديها .. امرأة تقاسمني عذابي , ألمي , عزلتي , توحدي , لوعتي , يأسي , مرارتي .. وحتى غضبي .. غضبي ونكدي .. وكراهيتي لكل اولئك الظلاميين الذين يريقون الدم من دون وزع ..

سيطر عليّ فضول لمعرفة اسم المرأة , وعنوانها .. من أين جاءت هذه السيدة ذات للاناقة الباريسية , والى اين ستغادر بعد زيارتها لي .. وأولاَ وقبل كل شيء : لماذا جاءت اليّ .. ولماذا اختارتني من بين عشرات الرسامين الذين انزووا وورشاتهم الكئيبة , نصف المعتمة .. بعد ان كان بعضهم يرتاد المقاهي ويرسم على الرصيف او في الساحات العامة .. يرسمون منظرهم الطبيعية , لوحاتهم السوريالية , التعبيرية , الانطباعية الرومانسية .. او ما شاء لهم من الرسوم .. والتخطيطات .. وربما اتفقوا مع موديلات لهم كي يرسموهن على وفق ما يشتهون هم , او على وفق ما يرغبن .. او ربما على وفق ما يشتهي الإثنان .. لأننا , معشر الرسامين والنحاتين , نعرف ما هو الشكل الاجمل للبورتريه , او الوضع الافضل الذي ينبغي ان تتخذه الموديل اثناء وقفها او جلوسها .. هل تسند ذقنها براحة يدها الكأسية , ام تبقيها في حضنها على نحو ما تفعل , عادة , معظم الموديلات .. هل تضع وردةً خلف اذنها , وهل تمسك بمروحة يدوية .. الى ذلك نقول , ان بعض الموديلات يتوضعن لقاء اجر بسيط يتفقن بشانه مع الرسام , وغالباً لا يتقاضين غير وجبة طعام بسيطة مع قبلة على الخد او مصافحة باليدين .

نسيت ان اقول ما ان شربت قهوتي حتى وقعت تحت اغراء رسمها عارية . عارية تماماً .

لا أدري لماذا خطرت ببالي هذه الفكرة . ابسبب جاذبيتها الانثوية , غنجها , ام بسبب حركتها الايروسية ؟

والحق يقال انني قلما طلبت من احدى موديلاتي ان تخلع قطعةً من ثيابها .. لم اجرؤ على طلب ذلك , ولا حتى التلميح به .. كانت الموديل نفسها هي التي تخلع بلوزتها او ترفع ذيل تنورتها وهي تلف ساقاً على ساق .. ولابد ان انوه هنا ان بعض تلك الموديلات كن فتيات بائسات الا انهن لعوبات .

شربنا كوبينا صامتين .. كانت العيون تتكلم أما الرسام وزائرته فكانا يلوذان بالصمت .. كل منا أراد أن يفتح الآخر نافذة الكلام . وبقيت أتأمل جمالها الأخاذ , نعومة بشرتها , أصابعها الطويلة , الممتلئة نوعاً ؛ اماهي فراحت تتفحص لوحاتي المعلقة على الجدران وتلك الموضوعة على البلاط والمركونة على حائطين متجاورين تقشر كلسهما من جراء الرطوبة ..

بقينا صامتين على مدى لحظات .. تبادلنا النظرات المتواطئة , مكتفين بمتعة الصمت وبلاغته .. هل كانت تنقصني الشجاعة ؟ وهل كانت تنقصها الجرأة ؟ ان لم تكن جريئة وواثقة من نفسها فكيف استطاعت المجيء الى مشغلي , وغامرت بالخروج من مسكنها في طقس ممطر , وفي ساعة , مع انه لم يمض على مغيب الشمس سوى وقت قصير , كانت الشوارع والطرقات تخلو فيها من المارة وأغلق اصحاب المحال التجارية مخازنهم . الا تخشى هذه الحورية الجميلة ان يتم اختطافها ؟ ام ان اصرارها وعزمها هما اللذان جاءا بها الى هنا متناسيةً الوضع الامني السيء ؟

يبدو ان زائرتي الباريسية مشت نحو قدرها .. من دون ان تكترث لأي شيء .

هل جاءت لتتحرش بي عبر دلالها الانثوي , وجسدها المبهج للحواس ؟

هل جاءت لتستفز حواسي المعطلة ؟

هل جاءت لتحرك في الرغبة في رسمها عارية , مع انني رسمت عشرات الموديلات من دون ان يطرأ على بالي يوماً , او تحدوني الرغبة , في رسم احداهن مجردة من الثياب , ولا حتى نصف عارية ؟

هل جاءت لتشعل نار التحدي كي احرق كل لوحاتي المحتشمة وابدأ مرحلةً جديدةً من حياتي الفنية , من خلال رسم النساء عاريات تماماً ؟

هل جاءت لتعبث بي , لتدمرني , لتستفز شوقي المؤجل , ذكورتي , موهبتي الفنية , بحضورها الانثوي الطاغي , جاذبيتها , حضورها الجسدي والروحي ؟

هل جاءت لتقضي على احزاني السرية , وتبدد قنوطي الذي شرعت غمامته السوداء تغلف فؤادي الكسير ؟

هل جاءت لتزرع فيّ بذرة حب جديد , بعد ان منيتُ بخيبات امل مريرة من جراء مشاريع الحب الفاشلة ؟

هذه الاسئلة خطرت ببالي وهي تجلس قبالتي على اريكة عتيقة لا تبعد عن مقعدي سوى مترين لا غير .. أريكة حديد تآكل تنجيدها من طرفيه .. ثم لفت زائرتي ساقاً على ساق فرأيت جوربيها الاسودين , المخرمين .. ذلك النوع من الجوارب المزخرفة , المليئة بالثقوب التي ربما ابدعتها , ايضاً , مخيلة مصمم ملابس فرنسي .. ولم لا تكون مصممة ؟ نعم .. ربما تكون السيدة شانيل نفسها التي كانت تنصح المرأة بأن تغادر كل يوم بيتها وهي بكل أناقتها , وكأنها ستلتقي ذلك اليوم بالرجل الذي سيغير حياتها !!

خطر ببالي , آنذاك , ان أرسمها عاريةً تماماً الا من الجوربين الأسودين .. اغلب الظن ستكون لوحة رائعة لأن بشرة زائرتي البيضاء ستبدو أكثر سطوعاً وأكثر جاذبية ؟

هل فكرت يومئذ براسبوتين , ذلك الراهب الروسي الذي كان يجرد عشيقاته من ثيابهن ويبقي جواربهن السود فقط ؟

فكرت في قرار نفسي : من تكون هذه المرأة المشبوهة ؟ ما إسمها ؟ ما إسم عطرها ؟ هل ينبغي لي أن أسألها اولاً عن إسمها , ومن ثم عطرها أم العكس ؟ هل جاءت لتتوضع قبالتي ؟ هل عملت موديلاً لرسام غيري ؟ هل تعرت أمام رجل : زوج , عشيق , رسام , نحات , طبيب, ممثل سينمائي ؟ ام انها جاءت لتمتحن رجولتي , شجاعتي , نزقي , موهبتي الفنية ؟ هل جاءت لتطلق رصاصة عليّ من مسدس كاتم الصوت تخبؤه في جيب معطفها الجلد أو في حقيبتها اليدوية السوداء أيضاً ؟

هل كان مجيئها نوعاً من المجازفة أم ضرباً من الجنون ؟

هل كان مجيئها غوايةً تقوم به امرأة لعوب كي تطلق عليّ النار أخيراً ؟

هل تعطلت قدراتها العقلية , لتنوب عنها حواسها , غرائزها .. وهي التي تشي حركاتها الايروسية بشبق قل نظيره ؟ لا أعرف الى أي محطة نائية قادني قطار الأسئلة .. ف (( الأجوبة عمياء .. وحدها الأسئلة ترى . ))

كان واضحاً انها تعرفني حق المعرفة , وتعرف عنوان مشغلي .. وحين نهضت من الأريكة وجعلت تتجول في محترفي متأملة لوحاتي ومشيرةً بسبابتها الى هذا الشكل أو ذالك , شعرت انها زائرة مزمنة لمعارضي الفنية العديدة التي اقمتها خلال العقود الثلاثة المنصرمة . وأنا أقصد المعارض الشخصية , ناهيك عن المعارض المشتركة مع رسامين آخرين في مناسبات كثيرة .. لا بل خطر ببالي أنها عرفت عدداً من موديلاتي من الفتيات والسيدات اللواتي كن يواظبن على المجيء الى مشغلي كي أرسمهن لقاء أجور زهيدة .. الواقع هؤلاء النسوة لم يكن يأتين طمعاً بالنقود الشحيحة التي كنت أعطيها لهن لقاء الجلوس أمامي أياماً معدودات .. بل لأنهن لا يجدن ما يشغلن به وقت فراغهن , وكن يبددن ضجرهن ويتظاهرن بالتخلص من أحزانهن خلال مجيئهن .. ويسعدن بالتعرف الى فنان يخلدهن في لوحةٍ تصبح علامةً بارزةً في تاريخي الفني ويصورها المصورون الفوتوغرافيون بكاميراتهم العادية , أو الفيديوية , أو حتى كامرات الدجيتال أو أجهزة ( الموبايلات ) .. على أن بعضهن كن يصرن على عدم تقاضي أي مبلغ من المال , بل يلححن على إقتناء اللوحة ( أو نسخة منها في الأقل ) فور انتهاء المعرض.. وهكذا أكون مضطراً للصق كلمتي (( ليست للبيع )) في الزاوية السفلى اليسرى للوحة .. مع أنني عرفتُ , ذات يوم , أن أحداهن أضطرت ذات يوم الى بيع لوحةٍ لها الى تاجر أعمال فنية في ( الكرادة ) كي تشتري فيستاناً انيقاً كي تلاقي الرجل الذي سيغير حياتها , كما نصحت السيدة شانيل بنات جنسها , لأن ذلك سيحدث حتماً في يوم تكون فيه المرأة قد أهملت هيأتها !!

اذاً , كانت بعض تلك الموديلات يحببن الرسم , وتستبد بهن رغبة قوية في أن يرسمهن واحد من الرسامين المشهورين , وحين يعلقن ذلك ( البورتريه ) في حجرات نومهن يشعرن برضا ألذات , والاكتفاء , وحتى بالتفوق وعبادة الذات .. لأن بعضهن كن مغرورات ونرجسيات.. على أنني عرفت ان أحداهن ظلت أعواماً طويلة تتأمل بورتريها أكثر مما تتأمل صورتها في المرآة . ولهذا كانت تتأمل هيأتها .. ظناً منها أنها ستبقى تلك المرأة الفتنة التي رسمها بالزيت فنان عراقي شاب آثر الغربة , ومشروع يحصد الجوائز الفنية في مدن عديدة بأوربا .


ليست هناك تعليقات: