بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 8 ديسمبر 2017

تأثير الاحتلال على الفوارق في الدخل-صائب خليل

تأثير الاحتلال على الفوارق في الدخل
صائب خليل
5 ك1 2017
ليست حملة الخصخصة الشرسة لثروات وخدمات البلد، التي أطلقها الأمريكان منذ احتلالهم العراق، بأمر غريب. فمن يقرأ التاريخ الحديث للعالم، سيجد أن تلك العملية جزء لا يتجزأ من أي احتلال امريكي لأي بلد. ويبلغ هذا الحماس مدىً مثير للدهشة إن تمت مقارنته بعمليات الاحتلال القديمة. فالخصخصة تبدو وكأنها الهدف الأساسي للمحتل الأمريكي، والعامل الأول في عملية اختيار الحكومات التي ينصبها على البلدان التي يحتلها، أكثر من الهدف المباشر السابق المتمثل بنهب ثروات البلد الذي مارسه المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون والبلجيكيون والإسبان والهولنديون وغيرهم. وإن كان النهب الاستعماري ينتج الفقر كعامل أوضح، فإن الأولوية للاستعمار الأمريكي كما يبدو هي خلق الفوارق الشاسعة في الدخل بين أبناء البلد المحتل.

ويعزو جلال أمين في كتاب “العولمة” سبب تزايد الفوارق في الدخل “بشكل حتمي” حيثما تتواجد قوة غازية على أرض الدولة، بأن نمو التفاوت في الدخل والثروة بين السكان المحليين (في حالة الغزو) يحقق أمرين في مصلحة القوة الغازية. الأول هو إيجاد سوق للبضائع المستوردة الثمينة كالمنسوجات الانكليزية او العطور الفرنسية او السيارات الامريكية الفارهة، فتصريف هذه السلع يحتاج الى طبقة عالية تستأثر بنصيب الاسد من دخل المجتمع. ففي مجتمع “فقير” يتمتع بدرجة عالية من المساواة في توزيع الدخل، يصعب ان تجد بين السكان من لديه القدرة على شراء مثل هذه البضائع. لذلك يؤدى هذا التفاوت الى توسيع حجم السوق أمام معظم السلع التي تريد الدولة الغازية تصريفها.
ولعل هذا السبب كان السبب الأهم في الاستعمار السابق، أما السبب الثاني الذي يطرحه جلال أمين، وهو برأيي الأهم بكثير في عالم هذا اليوم فهو: أن تحقيق التفاوت بالدخل يؤمن خلق طبقة ثرية تتصف بالولاء للمستعمر الذي تدرك فضله فيما وصلت اليه من نجاح، وهي مستعدة لتولي السلطة بالنيابة عنه. اذ تشعر هذه الطبقة بحاجتها المستمرة الى دعم المستعمر لها إذا ارادت الاحتفاظ بما تتمتع به من مزايا في الثروة والدخل.

وفي حالة العراق، لم يكتف الأمريكان بالإجراءات المعتادة القسرية على الدول التي يسيطرون عليها، بل قاموا بحشر نص في الدستور العراقي يفرض على الدولة “اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسسٍ اقتصاديةٍ حديثة”.. “وتشجيع القطاع الخاص وتنميته" (المادة 25) و "تشجيع الاستثمارات" (المادة 26). ومن الواضح ان النصوص وضعت بشكل يتيح للمشرع تفسيرها بطريقة تؤدي إلى لبرلة الاقتصاد وعرقلة اية محاولة لاستعادة الشعب لسلطته على اقتصاده، حتى بالطرق الديمقراطية وبانتخاب حكومة تمثل تطلعاته.

ويمكن للعراقيين ان يلاحظوا بسهولة أن كلام جلال امين عن زيادة الفوارق في الدخل والثروة واضحة جدا في العراق. وإن استثنينا أيام الحصار الأمريكي عليه، الذي عانى فيه البلد من ضيق رهيب في الدخل القومي، فلم يسبق للعراق ان عانى من انهيار في التعليم والصحة والعشوائيات والفقر كما هو الحال اليوم. ومن ناحية أخرى لم يكن العراق يملك هذا العدد من أصحاب الملايين وعشرات الملايين من الدولارات، بل وربما المليارات، بما في ذلك من اخطار شديدة على بنية المجتمع.

ومن الطبيعي ألا يهتم الامريكان ببنية المجتمع الذي يحتلونه، بل ان تدميره قد يكون احد أهدافهم المتعمدة في تلك الدول، خاصة العربية والإسلامية. فلا يجهل ساسة اميركا خطر الفوارق الطبقية البالغة على المجتمع. فإذا جربت ان تبحث عن ضرر اللامساواة ـ "inequality" على كوكل، فسوف تجد عددا لا نهاية له من المقالات والدراسات. وتبين الدراسات أن التأثير المدمر لـ "اللامساواة" لا يقتصر على فقرائه، بل بشكل عام على المجتمع واقتصاده.
ورغم ذلك تستمر هذه السياسة الأمريكية، بل أنها لا تقتصر على الخارج. فالسياسة الاقتصادية الامريكية الداخلية، كانت بشكل عام ضخاً مستمراً لثروات الفقراء الى الطبقات شديدة الثراء. وكان آخر إجراءات الحكومة الامريكية بهذا الشأن، ما اقره ترمب من إعفاءات ضريبية جديدة توفر تريليونات الدولارات لأثرياء الولايات المتحدة، تستقطع من الخدمات الشحيحة التي تقدمها الدولة لفقرائها، في الصحة والغذاء والضمان الاجتماعي. ويعي الشعب الأمريكي تلك الحقيقة. فقد اختار في أحد استبيانات الرأي، مشكلة "الفوارق في الدخل" باعتبارها الخطر الأكبر الذي يتهددهم، متفوقا على اخطار التلوث البيئي والتصاعد الحراري والكراهية الدينية والاثنية والخطر النووي.(1)
ولا يأبه ساسة اميركا بمثل تلك الاستبيانات لرأي شعبهم، فكأن هذا الشعب هو الآخر، شعب محتل من قبل طبقة أثريائه التي تعين له ساسته. ويعاني المجتمع الأمريكي من مظاهر مرضية غريبة مثل كونه المجتمع ذو عدد السجناء الأكبر، نسبة إلى سكانه وعددا مطلقاً، ومن الضعف الكبير للنظام التامين الصحي والاجتماعي. وإن كان هؤلاء قد أوصلوا مجتمعهم ذاته إلى هذه المرحلة من المرض رغم ثروة بلاده وقوة مؤسساتها، فلنا ان نتوقع ما يمكن ان تنتج هذه سياسة هذه الطبقة من فوارق قاتلة على المجتمع الأجنبي، وخاصة العربي، الذي قد يوقعه القدر تحت احتلالها.

(1) Americans consider inequality world’s greatest danger


ليست هناك تعليقات: