أختام *
عادل كامل
الختم الخامس
[8] ديالكتيك التتابع
لنصف قرن وأنا أفكر: هل ثمة
مسافة بين إدراكي للحقائق، أو التي تحولت إلى موضوعات لهذا الإدراك، وبين ما هو
حقيقي، من غير تدخل شكوكي في الإدراك، الخاصة بتلك الموضوعات، أو المرئيات، أو
الأشياء...؟
انه سؤال الفلسفة السابق على حب
الحكمة: هل وجدت الموجودات لغاية تشترك معي في ما هو ابعد من غايتها، وابعد من
غايتي، أم وجد (وعي) ـ وعينا ـ كي يحدد وجودي وفق معايير هذا الوعي..؟ ما الحكمة
عندما اكتشف ان هذا النمط من المشتغلين في التفكير، هما اقل البشر تمتعا ً
بالحقوق، وهم، في نهاية المطاف، دروب لصعود اقل الكائنات إحساسا ً بموضوعات الفكر
وبما يتحكم فيه، بخلاصة الحكمة، ولغزها..؟
الختم، هناـ كما في أقدم النصوص
الشبيهة بالفن ـ ليس أداة تحكم، أو تعويذات، أو إشارات، وليس تمهيدا ً لتحولها إلى
سلع، للتبادل، أو للهيمنة، أو لبناء علاقات حسب، بل تغذية لنزعة الشك بما في مادة
الحياة ومظاهرها، وفي انساق الوعي نفسه، قبل جوهره النائي، والكامن بحصانته،
وامتناعه، وما هو عليه في الأخير.
إنها لذّة مقلوبة، يبررها علم
النفس، بظاهرة حب إيذاء الذات، في مقابل، إيذاء الآخر. لكن هذا لا يكفي لوجود
تقاليد امتدت عبر مختلف العصور، وتحولاتها. فالفن غدا مندمجا ً في حكمة الحياة، حد
لا يمكن استبعاده منها، لا في فن صناعة الطعام، ولا في فن التعذيب، والقتل،
وانتزاع مخفيات العقول، ولا في العمليات الأكثر قسوة في أنظمة الحكم وما تتطلبه من
فنون إبادة ـ ومحو، فحسب، بل للحياة بما لا يمكن دحضها!
لأن الإنسان لو لم يكن فنانا ً،
منشغلا ً بشحذ وسائله في التقدم، والتغيير، منذ تلك الحقب السحيقة التي منحت
الأصابع قدراتها، كالبصر وباقي المجسات، في صناعة ما يشبه آخر إبداعات الحداثة ـ
وما بعدها، لكان اقل إثارة للجدل، عند الحكماء، وليس لدي المتحكمين بمصائر الناس،
ولكان، وهو يكتفي بحياة النمل/ أو النحل/ أو الأسماك/ أو الطيور..الخ غير مراقب،
وغير مسؤول، عما سيراه خطيئة، ورحمة، وتوبة، واقل براعة في البرهنة ان الوجود ـ
بهذا الوعي له ـ هذا الانحدار الاستثنائي نحو المحو ـ بأكثر وسائله إبداعا ً، وعدم
اكتراث!
أم على الوعي، بشكل ما من
الأشكال، ان يجد نفسه ينحدر، خلف من سبقه، نحو الهاوية ذاتها، بالعثور على آليات
تضمنت المسافة بين الوعي ـ وما هو مكون له ـ في الوجود، ودمجهما بعمليات التتابع
حد ان هذا الوعي ـ المرهف والشفاف ـ لا يعمل على دحض ما هو عليه! بل على تغذية
الامتداد، بمنح الفن تقاليده، وخصائصه،
ومكانته في هذا الاشتباك..؟
[9] الذات ـ والبرمجة الجمعية
ربما هناك صيغة للإدراك تتضمن
سببيتها لكنها تحافظ على جانبها الوظيفي: إنها وجدت كي توجد. وسيشكل إدراكي لها لا
لأنها وجدت حسب، بل لأنني أنا هو الموجود، ولأننا
ـ ثالثا ً ـ وجدنا ضمن علاقة ثلاثية، فالكائنات لديها قدرة التلقي،
والتحليل، ومن ثم الدخول في عمليات الإنتاج. إنها ديمومة مركبة عبر دورات ـ كما
فكر أسلافنا عند تدشين الكتابة في سومر. والروح/ أو النفس/ منذ عصور سحيقة، تجد في
الجسد مأوى للإقامة ـ وللمغادرة ـ وللعودة مرة ثانية بعد الموت. وثمة، إلى جانب
هذا التصور، أن شيئا ً ما ـ كالنفس أو كالروح ـ يحل في كيانات أخرى، غير بشرية، في
الحيوان وفي النبات وفي الخامات. إنها تصوّرات تمنح (الوعي) صيغة جمعية متماثلة
تتصدع وتنبني عبر علاقات بالغة الدقة مع المكونات الأخرى. فالوعي الجمعي للأنواع ـ
إنسان/ حيوان/ نبات ـ لا يمكن فصله، في هذا السياق، عن عمل الكيانات المختلفة.
والاختلاف الفردي، ليس شذوذا ً، أو طفرات تحدث إلا لتؤكد هذا الترابط. فلزمن طويل
كان الحيوان الأقوى ، وضمنا ً الحيوان البشري ـ وفق قانون الصياد ـ الطريدة،
الضحية، الهامش له نسقه التام. ولتعديل هذا القانون، أو دحضه، كجعل ملكية الجماعة
خاصة بها، وليس لزعيمها، أو تحت زعامته، تعد وثبة نحو نظام الوعي الجمعي في حماية
مكونه، وضمنا ً أفراده.
فهل ثمة وجود ادراكات خاطئة
كلية، أو غير صائبة تماما ً،أم ليس هو إلا تعبير عن تدرج (سببي/ منطقي) للعمل
المترابط بين الجزء والكل..؟ كالاعتراف بوجود شخص ما يتقاطع مع عادات الخرافة، مثل
(غاليلو) ـ على سبيل المثال ـ أو كأبحاث دافنشي في العلوم، فان المثال يلفت النظر
إلى وعي جمعي أنتجته عوامله، وان تعديل المعتقدات/ التصوّرات، في الأخير، خاص
بالحقائق ذاتها، وليس في الوعي إلا لأنه أعاد اكتشافها.
وثمة أمثلة أخرى توضح، مثلا ً،
ان وجود اللذّة في الوظائف، وكأنها مستقلة أو منفصلة، تؤدي الدور الجمعي لحماية النوع. على ان هناك لذّات
تبدو شاذة، كوجود أجزاء ذات وظائف غامضة، كالجنس الثالث مثلا ً، المزدوج، وكوجود
أعضاء إضافية، أو ناقصة، وظهور سلوكيات مغايرة تماما ً، قد تؤدي إلى ظهور سلسلة
جديدة لها وعيها الجمعي، مرة أخرى، بدءا ً بالحالة الشاذة..؟
هذا المثال يؤكد تحولاته عبر أزمنة طويلة. لأن
عملية استبدال الوعي، سينتظر تراكمات لا تحصى، تؤدي إلى ضرب من الموازنة بين النوع
وعوامله الخارجية. فقد يؤدي ضمور نجم ما، أو أي تغير في الجاذبيات، والمسافات، إلى
وجود كيانات مغايرة لأصلها، مع احتفاظها بمبدأ انها تعمل بالقانون نفسه، وفي
مقدمته: إنها غير مسؤولة إلا عن حدود عمل وعيها، مع الكيانات الأخرى. فالحيوانات
التي تلقى حتفها، بإرادتها، لأسباب تبدو مجهولة،لا تتمتع بالحرية التي يستخدمها
نوعها قناعا ً، أو سلوكا ً يتضمن مشفراته، إلا باليات كلية تتضمن مبدأ المصادفة ـ
والشاذ.
هل أنتج أسلافي تلك الإشارات
الشبيهة بالفن، أقنعة، أو فرمونات، أو منبهات، لهذا السياق الجمعي في التكيف، مع
الحفاظ على النوع إلى تدميره..؟ بمعنى، ابعد من ذلك: ان اللاوعي سيتضمن أشكال وعيه
المعلنة، دامجا ً القصد، المصادفة، في عمله الكلي، الأمر الذي بلور حتمية التصادم،
والتناقض، والتناحر، كسياق لعمليات الانبثاق/ التواري، وكامتداد للقوانين في عملها
خارج حدود الإدراك.
هو ذا وعيي لن يسمح لي إلا بخلق
حمايات رمزية، تستبعد الرضا بالمسلمات لأنظمة شبيهة بما يحدث في مملكات النمل/
الأسماك/ والنحل. لكن الإنسان، بعد قرون، ليس لديه هذا الوعي، بحكم الضرورات،
والوثبات البديلة، التي لن تعدو أكثر من آليات عمل، تجعل الوعي يعمل بحدود ضوابطه،
وفي الوقت نفسه، تسمح له بكسرها، ودحضها، ومحوها في نهاية المطاف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق