الخميس، 10 أغسطس 2017

بلزاك من خلال رسائله-*هاشم صالح


بلزاك من خلال رسائله

*هاشم صالح

في عصر بلزاك لم يكن هناك إنترنت ولا بريد إلكتروني ولا كل هذه الثورة المعلوماتية الهائلة التي غيرت وجه العالم… بل وحتى في عصرنا نحن لم يكن يوجد كل ذلك قبل بضع سنوات فقط. تذكروا أيها الناس: كنا نعتمد على الرسائل التقليدية المكتوبة على الورق للتواصل مع أصدقائنا وأحبائنا. أما اليوم فمن يكتب رسالة إليهم ويرسلها بالبريد؟ يضحكون عليك وربما اعتبروك ديناصورًا منقرضًا أو مرشحًا للانقراض. ومعهم الحق. وأنا شخصيًا أصبحت أنظر إلى تلك الفترة من حياتي وكأنها تنتمي إلى العصر الحجري أو ما قبل التاريخ البشري. متى كتبت آخر رسالة ورقية يا ترى قبل أن أقلع عن هذه العادة نهائيا وإلى الأبد؟ فما بالك ببلزاك الذي عاش ومات في النصف الأولى من القرن التاسع عشر! أي قبل قرنين تقريبًا… لذلك لا ينبغي أن نستغرب إذا كانت مراسلاته تشغل عدة مجلدات ضخمة. وهي تشكل جزءًا لا يتجزأ من أعماله الأدبية نظرًا لروعتها وجمالها. فرسائل الكتاب الكبار تكون أحيانا عبارة عن قطعة أدبية. يضاف إلى ذلك أنها تشكل معينًا لا ينضب من المعلومات الثمينة عن شخصيته وحياته وأحداث عمره.

وبالتالي فتلقي أضواء ساطعة على رواياته ولا يمكن فهم هذه الأخيرة دونها. وقد كتب بلزاك رسائل كثيرة إلى أمه وأخته وعشيقاته الكثيرات المتواليات، هذا ناهيك بأصدقائه الخلص…

ورسائل بلزاك إلى عشيقته الأساسية «مدام هانسكا» التي أصبحت زوجته في نهاية حياته تتجاوز المجلد الضخم ذا الألف صفحة! فما بالك برسائله الأخرى إذن؟ والواقع أن أدباء القرن التاسع عشر كانوا يعتمدون على المراسلات كثيرًا، مثلما اعتمد أدباء القرن العشرين على التليفون ومثلما سيعتمد أدباء القرن الحادي والعشرين على البريد الإلكتروني، والإنترنت، والهاتف الجوال للتواصل فيما بينهم.

بلزاك ولد في مدينة تور الفرنسية عام 1799 ومات في باريس مبكرًا عام 1850، وهذا يعني أنه لم يَعِش أكثر من واحد وخمسين عامًا. ومع ذلك فقد ملأ الدنيا وشغل الناس برواياته التي تجاوزت الثمانين! وقد جمعت كما هو معلوم في مجلدات ضخمة تحت عنوان «الكوميديا البشرية أو بالأحرى: المهزلة البشرية». فالحياة مهزلة أو مسخرة أو فضيحة. وقد ترجمت روايات بلزاك إلى لغات العالم أجمع، وأخرجت بعضها في أفلام سينمائية أو على خشبات المسرح. ولم يبقَ روائي كبير أو صغير إلا واطلع عليها. ومعلوم أن دستويفسكي تأثر به كثيرًا، هذا من جملة آخرين كثيرين.

ويبدو أن الأحداث المهمة في حياته الشخصية كانت ما يلي: ضعف حنان أمه تجاهه أو برودتها الصقيعية غير المفهومة. ويبدو أنها كانت تخون أباه ولا تكتفي به، لأنه تزوجها وهي صغيرة فهو كان فوق الخمسين وهي في العشرين: ثلاثين سنة بينهما.

ومن الأحداث المهمة في حياته محبته الكبيرة لأخته «لور» التي ولدت بعده مباشرة وله معها مراسلات كثيرة. ونسجل أيضًا ذلك الحادث المؤلم ألا وهو: موت أخته الثانية لورنس وهي شابة في الثالثة والعشرين من عمرها. وقد فجعت العائلة كلها بها. نقول ذلك خصوصًا أنها كانت قد تزوجت منذ فترة قصيرة، وكان زواجًا تعيسًا وغير موفق. والشيء الذي كان يزعج بلزاك أيما إزعاج هو محبة أمه الزائدة لأخيه الصغير هنري فرنسوا الذي يُعتقد بأنه ابن زنا، وليس ابن أبيه الشرعي! وكانت أمه تحبه كثيرًا، وتفضله على بلزاك الذي أهملته. وربما لهذا السبب أصبح بلزاك عبقريًا فيما بعد لكي يثبت لأمه أنه أهم بكثير من هذا الأخ التافه اللقيط الذي حظي بحبها واستأثر به كليًا. من يعلم؟ فالتحليل النفسي هو وحده القادر على كشف خفايا النفوس وأغوار القلوب.

ومع ذلك فقد كتب عدة رسائل إلى أمه ولكنها أقل أهمية من تلك التي كتبها إلى أخته المفضلة، والأثيرة لديه: لور، كما كتب رسائل غرامية كثيرة إلى النساء اللواتي تعرف عليهن. فقد ربطته علاقة حب أفلاطونية مع امرأة تدعى زولمى كارو. وتراسل معها كثيرًا ولكنه تعرف على سيدة أرستقراطية تدعى مدام دوبيرني وكانت تكبره باثنين وعشرين عامًا، أي من عمر أمه، وقد عاش معها مغامرات عاطفية هائجة. وأحدث ذلك نوعًا من النقمة في أوساط عائلته والمجتمع ككل، إذ كيف يتعلق بامرأة في عمر أمه؟ ثم تعرف بعدها على سيدة أرستقراطية أخرى وكانت تكبره أيضًا بخمسة عشر عامًا! ويبدو أنه كان معجبًا بالطبقة الأرستقراطية لأنه من أصل بورجوازي عادي وإن لم يكن وضيعًا.

ومعلوم أن الطبقة الأرستقراطية المتمثلة بالعائلات الإقطاعية الكبرى هي التي حكمت فرنسا طيلة العهد القديم السابق على الثورة الفرنسية. وكانت هيبتها لا تزال قائمة حتى في عصر بلزاك على الرغم من الثورة الفرنسية. ثم تعرف أخيرًا على السيدة «ايفا هانسكا» الأجنبية لأنها من أصل روسي أو بالأحرى أوكراني. وكانت أرستقراطية أيضًا وتملك الأراضي الواسعة في بلادها. كانت إقطاعية من الدرجة الأولى، وهي التي بادرت إلى التعرف عليه ومراسلته بعد أن اطلعت على رواياته وأعجبت بها كل الإعجاب.

وكان بلزاك يكتب رواياته الأولى باسم مستعار. وهي روايات تجارية هدفها الربح المادي والتسلية ليس إلا… ولم يكتب باسمه الشخصي إلا عام 1829.

وكان قد بلغ من العمر ثلاثين عامًا بالضبط، وفي العام ذاته أصدر رواية ثانية بعنوان: فيزيولوجيا الزواج من قبل شاب أعزب! وهي عبارة عن تشريح للزواج وإشكالياته في ذلك العصر.

وفي عام 1830 أصدر مجموعة قصص قصيرة بعنوان: «شاهد من الحياة الخاصة»، وموضوعها هو فشل الحياة الزوجية. فهل انعكست قصة أخته لورنس التعيسة مع زوجها على عالم بلزاك الروائي؟ وهنا نصطدم بسؤال وجيه يطرح نفسه: لماذا لا نجد زواجًا موفقًا أو ناجحًا في رواياته؟

ثم صدرت بعدئذ رواياته الشهيرة: يوجيني غرانديه، والأب غوريو، وخوري القرية، إلخ، لقد عكس بلزاك في رواياته المتتالية كل الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية لعصره: أي النصف الأول من القرن التاسع عشر. من هنا عظمته وأهمية أعماله. فالروايات التي كتبها هي مرآة لذلك العصر، ومن يريد أن يتعرف على تلك الحقبة من تاريخ فرنسا ما عليه إلا أن يفتح روايات هذا الكاتب الذي لم يكن يتجاوز طوله المتر ونصف المتر. كان قصيرا جدا.. قزما من الناحية الجسدية وعملاقا من الناحية الأدبية. وهذا يعوض عن ذاك كما يقول التحليل النفسي.

ولكن ليس كل قصير بلزاك. هيهات! ومعلوم أن البورجوازية كانت تواصل صعودها في ذلك الوقت بكل نهم وجشع لكي تأخذ المال والسلطة من أيدي الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية. وفي الوقت ذاته، فإن بلزاك يصور أوضاع الطبقة الأرستقراطية التي كانت لا تزال تحتل الوظائف العليا في الدولة.

ولكن كان يبدو للجميع أنها سوف تفقد امتيازاتها عما قريب وسوف تطيح بها الطبقة البورجوازية الصاعدة. فالجديد يحل محل القديم لا محالة. وعلى هذا النحو استطاع بلزاك أن يصور احتضار عالم بأسره وولادة عالم آخر جديد على أنقاضه. من هنا أهمية بلزاك التاريخية والفلسفية وليس فقط الروائية. فالواقع انه كان مفكرًا أيضًا وليس فقط كاتبًا روائيًا. وكان صديقًا لكبار كتاب عصره كفيكتور هيغو، ولامارتين، واليكسندر دوما، وجورج صاند، وعشرات غيرهم.

وكان مطلعًا على كتابات فلاسفة التنوير وبالأخص جان جاك روسو. وهناك مؤلفات تشرح لنا مدى تأثير روسو عليه. ومن لم يؤثر عليه روسو؟ وهناك مراسلات كثيرة بينه وبين أدباء عصره وكتابه الكبار.

ومعلوم أن علاقته بفيكتور هيغو كانت قائمة على إعجاب متبادل. وكان هيغو يدعوه بالشاعر لا بالروائي! وهذا يعني أنه كان يعرف قيمته الأدبية الكبرى بصفته أكبر شاعر في الرواية الفرنسية.

وقد رثاه فيكتور هيغو بشكل مهيب ورائع عندما مات، بل وصور لنا لحظات احتضاره بشكل أخاذ ومخيف ومؤثر جدًا. وقد تأسف عليه لأنه مات شابًا، فالواقع أنهما ولدا في الفترة نفسها تقريبًا بل وكان بلزاك أكبر من صاحب «البؤساء» بثلاث سنوات.

ومع ذلك فإن فيكتور هيغو عاش حتى عام 1885 هذا، في حين أن بلزاك مات عام 1850! لقد خلد التاريخ بلزاك كواحد من أكبر أدباء فرنسا على مر العصور. والواقع أن رسائله إلى حبيبة عمره الأوكرانية تقدم لنا معلومات تفصيلية مهمة جدًا عن «الكوميديا البشرية».

صحيح أننا نشعر بالملل أحيانًا أثناء قراءة هذه الرسائل، ولكن ينبغي أن نصبر عليها لكي نعرف كيف نستمتع بها ونستخلص الجوهر من القشور أو الحنطة من الزوان. فهي مليئة بالتفاصيل الصغيرة عن الحياة اليومية والشواغل العادية التي تجعلنا نرى بلزاك شخصًا عاديًا كبقية البشر. ولكن من حين لآخر نقع على إضاءات نادرة عن همومه النفسية والإبداعية. كما ونقع على معلومات تفصيلية تفسر لنا ما غمض من رواياته وأعماله.

والواقع أن المبدع لا يبوح بمكنون صدره إلا لأصدقائه الخلص أو للمرأة التي يحبها. وربما كان يبوح لها بأسرار كثيرة لا يستطيع أن يقولها لأي شخص آخر في العالم. نقول ذلك خصوصًا أنها كانت امرأة مثقفة وتعرف معنى الإبداع وتحب روايات بلزاك حتى قبل أن تتعرف عليه شخصيًا كما ذكرنا. ولكن الشيء الذي آلمه هو أنه عندما سألها وهو على فراش الاحتضار: ماذا أحببت في أكثر: الرجل أم الكاتب؟ فأجابته بعد تردد: الكاتب. فرد عليها: قاتلك الله لقد ذبحتِني! ويقال إنها كانت تغازل أحد الشباب «الحلوين» في الغرفة المجاورة وهي تنتظر بفارغ الصبر انتقاله إلى الملأ الأعلى.
________
*الشرق الأوسط

ليست هناك تعليقات: