خيانة النقد
يحيى القيسي *
لم يعد النقد على العموم سواءً الأدبي
أو الفني يشكّل مصدراً للاعتماد عليه “لتمييز جيد الأدب من رديئه” حسب تعبير
الجاحظ، ولا حتى لإضاءة النص من الداخل، وبيان جمالياته، وإخفاقاته، فسلطة النقد
تهاوت بسبب ما تسرّب للنقاد من تهافت واستسهال، إلا من رحم ربي، أي أصابتهم عدوى
الأدباء الذين اختلط فيهم الحابل بالنابل، وصار عندهم كلّ من يدبج مجموعة من الجمل
التي تشبه “الكلمات المتقاطعة” أديباً، وصار كلّ من يخربش بالألوان بشكل مجاني
ودون أي انسجام أو إبداع تشكيلياً، وهنا يمكن أن نشير أيضا إلى فنون وإبداعات أخرى
تسرب إليها الوهن، وضمت المبدع والمدعي معاً في سلم واحد دون تمييز، فكم رأينا من
“الكومبارس” في التمثيل أصبح يشار إليه بالفنان القدير، وكم رأينا من كاتب خواطر
وموضوعات إنشاء تصلح للمدارس ينافس الراسخين في الأدب، ويوقع الغثاء الذي يكتبه في
المحافل الثقافية ويشارك في المهرجانات، وكم سمعنا لأصوات مشروخة لا تصلح حتى
للنداء على بيع البطاطا في الأسواق تفرض علينا على أساس أنها طرب أصيل .
أقول كلّ ذلك وأنا أشاهد يوماً بعد آخر
كيف يتم التضحية بالمبدعين الحقيقيين على مذبح الزيف والتضليل، فمن يوقف مثل هذا
الهذر، ومن يشير إلى مثل هذا الابتذال، والنقاد أكثرهم نيام، أو منتفع على موائد
اللئام، قد أدمن بعضهم التدليس والتضليل كي يكتب عن فلان ويعلي من شأنه، ويقصي آخر
ولا يأتي على ذكره، وهذا الأمر يبدأ من نقاد الملاحق الثقافية مروراً بالمجلات
الرزينة، وصولاً إلى المشاركات الأدبية والفنية في هذا المحفل أو ذاك، أو
المهرجانات والملتقيات، حتى ينتهي الأمر إلى لجان التحكيم في الجوائز، أما النتيجة
التي تحصل من كل هذه التنازلات والمحاصصات فهي منتج ضعيف يعاني “الأنيميا”
الإبداعية، يروج له على أساس أنه فتح عظيم في الأدب أو الفن، وبالتالي يقع ضرر ذلك
على المتلقي المسكين الذي يصدق ما وصل إليه، وما تم الترويج له من الناقد فلان
والباحث علان .
أما المصيبة الكبرى برأيي فهي تتعلق
بالنقد الأكاديمي الذي من المفترض أن يكون محايداً وعميقاً في التحليل والأمثلة
ودرساً نقدياً لدارسي الأدب، ولكن للأسف وصل “الفساد الثقافي” والعمى النقدي أيضا
إلى كثير من هذه المؤسسات، فكثير من “دكاترة” الأدب الحديث في الجامعات العربية
وخصوصاً في كليات الدراسات العليا يوجهون طلابهم نحو أعمال هذا الكاتب أو ذاك ليس
على أساس إبداعي بل لأسباب تتعلق كما أشرت بالمحاصصة، أو مدى علاقة المشرف على
رسالة الطالب بالكاتب نفسه، وأحياناً يفضل بعض المشرفين توجيه الطلبة إلى كتاب
راحلين أو اشبعوا بحثا من قبل لسهولة المراجع والكسل الأكاديمي المعتاد من أجل
الحصول في النهاية على “الشهادة” .
النقد في خلاصة الأمر إبداع، والناقد
الحقيقي يؤشر للكاتب على مواطن القوة والضعف في عمله الإبداعي من أجل أن يمضي
قدماً في عمله المقبل، ويسعى الناقد أيضا إلى تعريف القراء بهذا الكتاب أو ذاك،
بكل حيادية وبشرف مهني يجب ألا يتم المساس به، ولكن المتتبع للحياة الثقافية
العربية لا يكاد يجد شيئاً من ذلك، فقد تسرب للنقد أيضاً من هم من غير أهله، ويحسب
كلّ من درس مواد في النقد الحديث أو القديم وتخرج في جامعة معينة في تخصص اللغة
العربية والنقد أنه أصبح جاهزاً لرفع هذا والحط من ذاك خبط عشواء .
_______
* مؤسس ورئيس تحرير “ثقافات”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق