ماركس بمناسبة ميلاده 2- حرب التشهير ودلائلها
صائب خليل
9 أيار 2017
وصلت إلى
"ترير" تلك المدينة الألمانية الصغيرة المغرقة في التاريخ، وفي بالي ان
أزور بيتاً محدداً. كانت هذه المرة الثانية التي أمر بهذه المدينة السياحية التي يخترقها
نهر اسمه، يا للصدفة الجميلة، "موصل"، وتشتهر بزراعة الكروم ووفرة
الآثار،... وشيء آخر...
فقبل 199 عاماً
(5-5-1818) ولد في هذه المدينة، الفيلسوف والاقتصادي الأكبر، كارل ماركس، وقد تحدثنا
في الجزء الأول(1) عن موجز لأهم اسهاماته الاقتصادية في خدمة البشرية،
ونخصص هذا الجزء (الثاني والأخير) لإعطاء صورة عن حملات التشهير التي جرت وتجري
ضده ودلالاتها على معرفتنا اليوم والمستقبل.
يقع بيت ماركس في
شارع فرعي بسيط جدا، وقد تم تحويله الى متحف صغير متواضع. ويمكن للزائر أن يمر من
امام بابه دون ان يلاحظه فلا توجد اية علامة مميزة تدل عليه عدا ريليف حجري صغير،
لرأس ماركس قرب الباب. وحتى على لوحة الإعلان الموجودة قرب الباب، لا تستطيع أن
ترى كلمة "ماركس" إلا بصعوبة لصغرها ووضعها في أسفل اللوحة تماما! وسنعرف
بعد قليل أن هذا الشيء المريب قد لا يكون مصادفة أو إهمالا.
في الداخل تجد
المزيد من الملاحظات المثيرة للدهشة. فلم يجد المتحف تمثالا لماركس أفضل من تمثال بحجم
صغير يمثل الرجل وهو يمد يده متسولاً المال بطريقة مهينة من صديقه. ومن الغريب
جداً ان النحات المعروف الذي نحت هذا التمثال، والذي يفترض به ان يختار الأهم
والأبرز من بين صفات موضوعه وانجازاته ليصورها، كما يقتضي الفن ويعرف أي فنان، لم
يجد كما يبدو في كل هذه الشخصية المفرطة الثراء والتاريخ، ما يكون موضوعا لقطعته
الفنية، سوى حقيقة ان الرجل كان لفترة من حياته يحصل على المساعدة المادية من إنجلز!
بل وصورها بشكل بشع، فظهر ماركس يستجدي النقود وهو ينظر بعيداً وعالياً!
وبين أروقة
البيت- المتحف، تدور ممثلة بملابس القرن التاسع عشر بين الزوار، لتشرح لهم "حياتها"
كزوجة ماركس. لكنها لا تنسى أن تتحدث بتركيز وتكرار عن قصة عن ابن غير شرعي لزوجها
"ماركس" من مدبرة المنزل، مؤكدة انه رغم ان إنجلز اعترف بالطفل، إلا ان
"الجميع يتفق" على انه كان ابن ماركس!
وحقيقة هذا الأمر
ان رواية انتشرت، تتهم ماركس بأبوة غير شرعية لولد لمدبرة المنزل التي كانت تعامل
كفرد من افراد الأسرة. لكن المتابع لتاريخ الأسرة، لا يجد أية مؤشرات محددة تدعم
التهمة، بل العكس تماما، نجد مؤشرات تنفي مثل هذا الاحتمال. ومنها حقيقة ان علاقة جيني
(زوجة ماركس) بتلك السيدة كانت ممتازة واستمرت ممتازة ومتعاونة وودية، وأنها (زوجة
ماركس) قد اوصت قبل وفاتها (وبعد عشرات السنين من ولادة الإبن المذكور) بأن تدفن المربية
في مقبرة الأسرة. كذلك فإن جيني بقيت وفية لزوجها تعمل معه بكل جد وتضحية وعانت الكثير
وبقيت مؤمنة به وقريبة منه، ولم يكن هناك أي من ردود الفعل المتوقعة على علاقتهما،
من مثل هذا "الاكتشاف" لـ "الخيانة" المزعومة.
إضافة إلى ذلك
فقد بقي ماركس متعلقا بزوجته اشد التعلق حتى نهاية حياتها. وكتب إنجلز ان ماركس لم
يفق نهائيا من صدمة وفاة زوجته، فمرض ولازم الفراش منذ وفاتها ولمدة سنة وبضعة
أشهر حتى توفى. فهل هذه حال اسرة تتفجر فيها فضيحة خيانة من هذا النوع، و"يتفق
عليها الجميع"؟
بعد البحث في هذه
القضية، وجدت شهادة البروفسور في النظريات السياسية تيريل كارفر والتي تؤكد بأن
"الوثائق المتوفرة لا تقدم اساساً لهذا الافتراض"!
يبدو ان القصة لا
أساس لها، وأن احداً لم يتبناها في ذلك الوقت، لكن دعونا نفترض جدلاً أن للقصة بعض
احتمال صدق، ولنفترض ان هناك اختلاف حولها (في أحسن الأحوال)، فهل من المعقول ان
يتبنى متحف ماركس الجانب التشهيري من القصة وذلك الاحتمال، ويفترض انه هو الصحيح،
وأن تقول الممثلة المؤجرة، أن "الجميع" يتفق على ذلك؟ ولعل حقيقة ذات
دلالة كبيرة هي أن تلك الاشاعات، أطلقت في عام 1962، أي بعد وفاة ماركس بثمانين
عاماً! فلماذا لم يشر أي أحد إلى تلك القصة خلال كل تلك العقود، وحتى ذلك العام؟
ومن اين أتت الممثلة إذن بهذا "الجميع" وهي تمثل دور امرأة توفت قبل
حوالي قرن من ظهور الإشاعة؟ ألا يفترض بالمتحف على الأقل احتراما لتسلسل الأحداث
ان يلغي تلك الفقرة باعتبار ذكرها على لسان زوجة ماركس سيناقض حقائق التاريخ وزمن
ظهور تلك الإشاعة؟
كما نلاحظ، فإن
حملة تشويه صورة ماركس، قد تمكنت من الدخول الى متحفه نفسه، ابتداءاً من المدخل
الذي صمم لكيلا يلفت النظر ابتداءاً. فإن فشل المدخل في إبعاد الزوار، فسيجد هؤلاء
أنفسهم أمام تمثال يقدم ماركس كمتسول يستغل اصدقاءه، وبعد ذلك تتكفل ممثلة ببث شبهات
اخترعت بعد 80 عاماً من وفاة ماركس تشكك بأخلاقيته، وتقدمها على أنها شيء أكيد
"يتفق الجميع عليه"!
لماذا يفعلون كل
ذلك؟ قلنا في المقالة السابقة أن ماركس جهر بحقيقة خطيرة برهنت وبالمعادلات
الرياضية، ان كل ما يكسبه صاحب رأس المال في النظام الرأسمالي، هو سرقة من
المشتغلين الذين أنتجوا السلعة. تلك الحقيقة بقيت كامنة لزمن طويل تنتظر اقتصادياً
يتجرأ على كشفها. وقد أدرك الاقتصاديون الذين سبقوا ماركس حجم الخطر فتجنبوها.
ودفع ماركس وعائلته غالياً ثمن جرأته تلك. ومازال التشهير يطارده وهو في القبر،
بعد أكثر من 130 عاما من وفاته!
هذه المقالة هي
في حقيقتها، عن الإعلام أكثر مما هي عن ماركس. وهي تكشف إلى أي مدى وصلت إمكانيات
هذا الإعلام في اختراع الأوهام وزرعها في رؤوسنا وقلب الحقائق واختراق أكثر
المصادر ثقة لتحويلها الى أسلحة تشويه للحقيقة. ولنلاحظ اننا نتحدث عن "متحف"
رسمي، لن يخطر ببال زائره انه مخترق! فإن كان هذا ما يحدث في متحف في المانيا حول
شخص معروف جداً، وذو حياة موثقة بكل تفاصيلها، فما هو حجم الأكاذيب التي يستطيع
هؤلاء أن يغرسوها في الحقائق الأقل شهرة، بوسائل الإعلام التي يسيطرون عليها؟ وأين
يولي من يريد البحث عن الحقيقة وجهه؟ وما هي الأكاذيب التي ستفرض على الأجيال
القادمة كـ "حقائق"، بعد ان يدفن التخريب المتعمد والنسيان، الوثائق
الأصلية، وينقرض من يعرف الحقيقة ويستطيع كشف تزويرها؟ وأي تشويه لصورة الماضي
وصورة الحاضر الذي نعيش فيه وشخوصه، سيتم فرضه على الأجيال القادمة، وكيف سيشكل
التشويه قيمها، وإلى اين سيقود البشرية ذلك الطريق؟
(1) صائب خليل: ماركس
بمناسبة ميلاده.. 1- ما الذي قدمه للبشرية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق