الاثنين، 29 مايو 2017

الرأسمالية ببساطة – الحلقات الخمسة الأولى- صائب خليل

الرأسمالية ببساطة – الحلقات الخمسة الأولى


صائب خليل

1- السلعة هي وحدة بناء السوق الرأسمالية، فما الذي يحدد قيمتها فيه؟ 
 قلنا ان السلعة هي وحدة بناء السوق الرأسمالية والتي تؤمن حياته من خلال حركتها وتبادلها. ويتم هذا التبادل من خلال مقارنات بين قيم السلع، والتي سنسميها "القيمة التبادلية" للسلعة. يمكننا أن نبرهن أن "القيمة التبادلية" للسلعة في السوق، اي ما تساويه السلعة من نقود (سعرها) أو سلع اخرى، لا تتبع دائما "القيمة الاستعمالية" للسلعة، اي فائدتها لنا.
فقيمة لتر من الماء (التبادلية) أقل من قيمة لتر من البنزين، رغم ان الماء اهم بكثير للإنسان (أي "القيمة الاستعمالية" له أكبر) من البنزين. ولا يوجد في السوق من يقبل متر مكعب من الهواء مقابل كيلو من الذهب مثلا، رغم ان الأول لا غنى عنه للحياة، على عكس الثاني، أي أن قيمته الاستعمالية أكبر بكثير من الثاني!
فإذا كانت "القيمة الاستعمالية" للسلعة ليست هي من يحدد "القيمة التبادلية" لها، فما الذي يحدد "القيمة التبادلية" للسلعة في السوق إذن؟

2- ما يحدد القيمة التبادلية للسلعة في السوق هو "العمل" اللازم لإنتاجها. 
 بينا أن "القيمة الاستعمالية" للسلعة لا تحدد "القيمة التبادلية" لها، وتساءلنا: "ما الذي يحدد "القيمة التبادلية" للسلعة في السوق إذن؟"
 لنأخذ مثالا بسيطا، لصياد يصيد الأرانب احياناً والغزلان أحيانا أخرى. وكان يحتاج، كمعدل، إلى يومين من الجهد ليصطاد غزالا، بينما يستطيع ان يصطاد (كمعدل ايضاً) ارنبين في اليوم. ولنفترض أن معدل شدة الجهد المطلوب للمطاردة في الساعة الواحدة، متساو في الحالتين. فلو أخذ هذا الرجل غزالا إلى السوق، وأراد "مبادلته" بأرانب، فلن يقبل بأقل من أربعة ارانب مقابله. ببساطة لأنه يستطيع أن يصطاد أربعة ارانب مقابل نفس العمل الذي احتاجه لاصطياد الغزال. فإذا كان الصيادون الآخرين يبذلون (كمعدل) نفس نسبة الجهود لصيد الغزلان والأرانب، فأن قيمة الغزال "التبادلية" في السوق سوف تتراوح وتستقر عند أربعة أرانب. وهكذا الأمر بالنسبة لمقارنة اية سلعتين، مثل الكرسي والمنضدة أو طن من الخشب وكمية من الحنطة الخ. أي أن ما يحدد "القيمة التبادلية" للسلعة في السوق هو (معدل) وقت وشدة العمل المبذول للحصول عليها، اي كمية العمل المبذولة لإنتاجها.
إن هذا يفسر لنا الظاهرة التي قد تبدو غريبة في أن "الهواء"، رغم أهميته القصوى لنا، لا يمتلك من "القيمة التبادلية" في السوق، إلا صفراً! والسبب لأننا ببساطة نستطيع الحصول عليه بدون ان نبذل أي جهد، فلماذا نبادله بأية سلعة او ندفع له ثمناً؟
 وهكذا يبتين أن "القيمة التبادلية" لأية سلعة، تعتمد على "كمية العمل" المبذولة للحصول عليها. وتقاس كمية العمل بشكل عام بطول زمن بذل العمل اللازم لإنتاجها، من ساعات وايام واسابيع.

3- ماذا يعني أن يكون خلق القيمة التبادلية للعمل وحده؟ 
هذه الحقيقة – حقيقة أن "القيمة التبادلية" للسلعة تأتي من كمية العمل المبذول فيها، تشكل الأساس للاقتصاد الماركسي، حيث انها تبين ان قيمة السلعة (في السوق الرأسمالية) تأتي بكليتها من جهد العامل. ويستنتج ماركس من ذلك بالتالي أن ما يأتي من "أرباحها" هو من حق من عمل على انتاجها وحده!
المدهش في الأمر أن الاقتصاديين الذين سبقوا ماركس مثل ريكاردو وآدم سميث كانوا قد تمكنوا من الوصول إلى هذا الاكتشاف وصاغوه صياغة قريبة جدا أو مطابقة لصياغة ماركس لها، لكن هؤلاء توقفوا عند تلك الحقيقة ولم يكملوا الطريق (الخطر) إلى الاستنتاج المنطقي بأن كل ما يعود من أرباح يجب أن يعود للعمال الذين أنتجوا السلعة. وهذا الكشف هو المساهمة الأساسية التي قدمها ماركس للاقتصاد وما ينتج منها من تداعيات سياسية وفلسفية.
************
 بعد ان طرحنا الخط العام للفكرة في هذا المنشور وفي المنشورات السابقة ادناه، سنعود لاحقا لطرح بعض التساؤلات المهمة في حقيقة كون القيمة التبادلية تعود للعامل وحده، وما دور رأس المال والمكائن والمواد الاولية فيها وغيرها من الاسئلة. 

4- تساؤلات واعتراضات على اعتبار العمل مصدر قيمة السلعة
 يطرح المعارضون للماركسية اسئلة وتحديات عديدة لتلك النظرية. ومن واجب النظرية ان تتمكن من الإجابة على التحديات التي تطرح عليها إن ارادت ان يصدقها الناس. ومن أشهر التحديات لنظرية أن قيمة السلعة تقاس بكمية العمل، التساؤلات التالية:
 إذا كانت "كمية العمل" هي التي تحدد قيمة السلعة في السوق، فهل يعني هذا ان قيمة السلعة التي ينتجها الشخص قليل الخبرة، تكون أكبر من قيمة السلعة التي ينتجها العامل الماهر، باعتبار ان الأول سيبذل فيها كمية أكبر من العمل؟ أو ان السلعة التي ينتجها من يستعمل تكنولوجيا متخلفة أكبر من تلك التي ينتجها من يستعمل تكنولوجيا متقدمة، باعتبار ان الأول سوف يعمل اجبارياً أكثر من الثاني؟ 
 ثم لنفرض ان صياداً للسمك اصطاد عشرة سمكات في عشرة ساعات، أي أنه وضع عمل ساعة في كل سمكة. بينما لم يحالف الحظ الصياد الآخر فلم يصطد سوى سمكة واحدة في عشرة ساعات. أي انه وضع في سمكته عمل عشر ساعات. فهل يعقل ان يتمكن الأخير ان يبيع سمكته في السوق بعشرة اضعاف سمكة الصياد الأول باعتباره تعب بها عشرة مرات أكثر من سمكة الصياد الأول؟
هذا طبعا غير معقول، فكيف تجيب النظرية عن تلك التساؤلات؟ سنحاول الاجابة عن ذلك في الحلقة القادمة.. 

5- هل قيمة سلعة العامل الماهر أدنى، لأنه يبذل فيها "عملا" أقل؟ 
 قلنا إن كمية العمل في صناعة سلعة ما، هي التي تحدد قيمتها في السوق (أي القيمة التبادلية). وفي الحلقة السابقة طرحنا السؤال: هل يعني هذا أن نفس السلعة عندما يصنعها العامل الماهر تكون أدنى من غيرها باعتباره يبذل فيها عملاً أقل؟ وهل أن قيمة السمكة تزداد إن كان الصياد سيء الحظ قياساً بغيره فاصطاد سمكة واحدة في 10 ساعات، بينما اصطاد غيره 10 سمكات؟ 
وطبيعي أن الأمر ليس كذلك، وقيمة السلعة لا تحددها مهارة العامل أو حظ الصياد. حيث ان من يشتريها لا يعلم اصلا بهذه المعلومات ولا يهمه أن يعلم بها. فكيف نفسر إذن بذل عمل أكبر في حالة العامل غير الماهر والصياد سيء الحظ، دون أن يزيد ذلك من قيمة سلعتهما؟
إن تفسير ذلك هو أن كمية العمل المحسوبة هي "معدل العمل الاجتماعي" اللازم لصناعة تلك السلعة، وليس العمل الذي قام العامل ببذله فعلا. أي أنه كمية العمل المتوقع أن يحتاج إليها عامل متوسط المهارة والنشاط والذكاء، مستعملا معدل التكنولوجيا المتوفرة لتلك الصناعة في ذلك المجتمع - مجتمع السوق الذي تباع السلعة فيه، وفي ظروف متوسطة. يعني ببساطة هو ما نتوقعه من كمية العمل اللازمة لإنتاج تلك السلعة، بشكل عام.
لذلك، فالعامل الماهر فوق المتوسط، يعطي "كمية عمل" في نصف ساعة ربما تساوي ما يعطيه العامل المتوسط في تلك الصناعة، في ساعة، وما يعطيه العامل غير الماهر في ساعتين. وكذلك إن كان "معدل" صيد الأسماك هو سمكة كل ساعتين، فأن من يصيد سمكة في كل ساعة قد انجز (بفضل الحظ هنا) عمل ساعتين في ساعة واحدة، والعكس صحيح بالنسبة للصياد سيء الحظ.


1- السلعة هي وحدة بناء السوق الرأسمالية، فما الذي يحدد قيمتها فيه؟ 
https://www.facebook.com/Capitalism.Simply/posts/431340850568879
2- ما يحدد القيمة التبادلية للسلعة في السوق هو... - الرأسمالية ببساطة
https://www.facebook.com/Capitalism.Simply/posts/431342897235341
3- ماذا يعني أن يكون خلق القيمة التبادلية للعمل وحده؟
https://www.facebook.com/Capitalism.Simply/posts/431346810568283
4- تساؤلات واعتراضات على اعتبار العمل مصدر قيمة السلعة
https://www.facebook.com/Capitalism.Simply/posts/433687943667503
5- هل قيمة سلعة العامل الماهر أدنى، لأنه يبذل فيها "عملا" أقل؟



السبت، 27 مايو 2017

نزار... ليس منكم أيها المخذولون-صائب خليل

نزار... ليس منكم أيها المخذولون
صائب خليل
20 مايس 2017


إن أكثر قصائد نزار شهرة وانتشاراً على الفيس هي التي يقول فيها:

عـفواً فيروزُ ومعـذرة ً
أجراسُ العَـوْدةِ لن تـُقـرَع ْ
خازوقٌ دُقَّ بأسـفلِـنا
من شَرَم الشيخ إلى سَعسَع ْ

ومن قام بترويج تلك القصيدة في الغالب، أرواح سيطرت عليها المسكنة واستطابتها، رغم تظاهرها بالغضب، او أصوات تريد ترويج تلك المسكنة، وهي أصوات كثيرة لا تترك فرصة إلا وتغتنمها...

لكن نزار لم يكن من هؤلاء ابداً، حاشاه.. بل كان شاعراً وطنيا شجاعا.. يدفعه الغضب إلى ما يكتب وليس الإمعان في إهانة امته، كما يفعل من ينقل قصيدته، ويكرر نشرها متظاهرا بالغضب.

غضب نزار دعوة إلى الثورة، حتى في قصيدته تلك، أما "غضب" هؤلاء فدعوة إلى قبول الإذلال والاعتراف به.. إنك لن تجدهم مثلا ينشرون قصيدته الموجهة الى سيد المقاومة حيث يقول:

يا أيها المسافر القديم فوق الشوك والآلام 
يا أيها المضيء كالنجمة، والسّاطع كالحسام
لولاك مازلنا على عبادة الأصنام
لولاك كنا نتعاطى علناً
حشيشة الأحلام
اسمح لنا أن نبوس السيف في يديك
اسمح لنا أن نجمع الغبار عن نعليك
لو لم تجيء يا سيدنا الإمام 
كنا أمام القائد العبري 
مذبوحين كالأغنام

ولا تخلو قصيدة نزار هذه من تأنيب العرب وفضح واقعهم المرير الذليل، لكنها لا تنتهي بتطبيع العار والانكفاء الى اليأس والأنين، كما يريد هؤلاء ويروجون، بل تنتهي بطلب النهار، لمدن الملح والطاعون..

لم يبقَ إلا انت
تسير فوق الشوك والزجاج
والإخوة الكرام
نائمون فوق البيض كالدجاج
وفي زمان الحرب يهربون كالدجاج
يا سيدي
في مدن الملح التي يسكنها الطاعون والغبار
في مدن الموت التي تخاف أن تزورها الأمطار 
لم يبقَ إلا أنت 
تزرع في حياتنا النخيل، والأعناب والأقمار
لم يبقَ إلا أنت.. إلا أنت.. إلا انت 
فافتح لنا بوابة النهار

بهذا أردنا أن نقول لهؤلاء، وبمناسبة مرور 19 عاماً على رحيله، "نزار ليس منكم".. نزار يأنف من مطبعي الإذلال.. فارفعوا اقلامكم عن قصائده.


غالب المسعودي - حبيبتي ثمار

السبت، 20 مايو 2017

ماركس بمناسبة ميلاده 2- حرب التشهير ودلائلها-صائب خليل

ماركس بمناسبة ميلاده 2- حرب التشهير ودلائلها
صائب خليل
9 أيار 2017
وصلت إلى "ترير" تلك المدينة الألمانية الصغيرة المغرقة في التاريخ، وفي بالي ان أزور بيتاً محدداً. كانت هذه المرة الثانية التي أمر بهذه المدينة السياحية التي يخترقها نهر اسمه، يا للصدفة الجميلة، "موصل"، وتشتهر بزراعة الكروم ووفرة الآثار،... وشيء آخر...
فقبل 199 عاماً (5-5-1818) ولد في هذه المدينة، الفيلسوف والاقتصادي الأكبر، كارل ماركس، وقد تحدثنا في الجزء الأول(1) عن موجز لأهم اسهاماته الاقتصادية في خدمة البشرية، ونخصص هذا الجزء (الثاني والأخير) لإعطاء صورة عن حملات التشهير التي جرت وتجري ضده ودلالاتها على معرفتنا اليوم والمستقبل.

يقع بيت ماركس في شارع فرعي بسيط جدا، وقد تم تحويله الى متحف صغير متواضع. ويمكن للزائر أن يمر من امام بابه دون ان يلاحظه فلا توجد اية علامة مميزة تدل عليه عدا ريليف حجري صغير، لرأس ماركس قرب الباب. وحتى على لوحة الإعلان الموجودة قرب الباب، لا تستطيع أن ترى كلمة "ماركس" إلا بصعوبة لصغرها ووضعها في أسفل اللوحة تماما! وسنعرف بعد قليل أن هذا الشيء المريب قد لا يكون مصادفة أو إهمالا.

في الداخل تجد المزيد من الملاحظات المثيرة للدهشة. فلم يجد المتحف تمثالا لماركس أفضل من تمثال بحجم صغير يمثل الرجل وهو يمد يده متسولاً المال بطريقة مهينة من صديقه. ومن الغريب جداً ان النحات المعروف الذي نحت هذا التمثال، والذي يفترض به ان يختار الأهم والأبرز من بين صفات موضوعه وانجازاته ليصورها، كما يقتضي الفن ويعرف أي فنان، لم يجد كما يبدو في كل هذه الشخصية المفرطة الثراء والتاريخ، ما يكون موضوعا لقطعته الفنية، سوى حقيقة ان الرجل كان لفترة من حياته يحصل على المساعدة المادية من إنجلز! بل وصورها بشكل بشع، فظهر ماركس يستجدي النقود وهو ينظر بعيداً وعالياً!

وبين أروقة البيت- المتحف، تدور ممثلة بملابس القرن التاسع عشر بين الزوار، لتشرح لهم "حياتها" كزوجة ماركس. لكنها لا تنسى أن تتحدث بتركيز وتكرار عن قصة عن ابن غير شرعي لزوجها "ماركس" من مدبرة المنزل، مؤكدة انه رغم ان إنجلز اعترف بالطفل، إلا ان "الجميع يتفق" على انه كان ابن ماركس!  

وحقيقة هذا الأمر ان رواية انتشرت، تتهم ماركس بأبوة غير شرعية لولد لمدبرة المنزل التي كانت تعامل كفرد من افراد الأسرة. لكن المتابع لتاريخ الأسرة، لا يجد أية مؤشرات محددة تدعم التهمة، بل العكس تماما، نجد مؤشرات تنفي مثل هذا الاحتمال. ومنها حقيقة ان علاقة جيني (زوجة ماركس) بتلك السيدة كانت ممتازة واستمرت ممتازة ومتعاونة وودية، وأنها (زوجة ماركس) قد اوصت قبل وفاتها (وبعد عشرات السنين من ولادة الإبن المذكور) بأن تدفن المربية في مقبرة الأسرة. كذلك فإن جيني بقيت وفية لزوجها تعمل معه بكل جد وتضحية وعانت الكثير وبقيت مؤمنة به وقريبة منه، ولم يكن هناك أي من ردود الفعل المتوقعة على علاقتهما، من مثل هذا "الاكتشاف" لـ "الخيانة" المزعومة.

إضافة إلى ذلك فقد بقي ماركس متعلقا بزوجته اشد التعلق حتى نهاية حياتها. وكتب إنجلز ان ماركس لم يفق نهائيا من صدمة وفاة زوجته، فمرض ولازم الفراش منذ وفاتها ولمدة سنة وبضعة أشهر حتى توفى. فهل هذه حال اسرة تتفجر فيها فضيحة خيانة من هذا النوع، و"يتفق عليها الجميع"؟
بعد البحث في هذه القضية، وجدت شهادة البروفسور في النظريات السياسية تيريل كارفر والتي تؤكد بأن "الوثائق المتوفرة لا تقدم اساساً لهذا الافتراض"!

يبدو ان القصة لا أساس لها، وأن احداً لم يتبناها في ذلك الوقت، لكن دعونا نفترض جدلاً أن للقصة بعض احتمال صدق، ولنفترض ان هناك اختلاف حولها (في أحسن الأحوال)، فهل من المعقول ان يتبنى متحف ماركس الجانب التشهيري من القصة وذلك الاحتمال، ويفترض انه هو الصحيح، وأن تقول الممثلة المؤجرة، أن "الجميع" يتفق على ذلك؟ ولعل حقيقة ذات دلالة كبيرة هي أن تلك الاشاعات، أطلقت في عام 1962، أي بعد وفاة ماركس بثمانين عاماً! فلماذا لم يشر أي أحد إلى تلك القصة خلال كل تلك العقود، وحتى ذلك العام؟ ومن اين أتت الممثلة إذن بهذا "الجميع" وهي تمثل دور امرأة توفت قبل حوالي قرن من ظهور الإشاعة؟ ألا يفترض بالمتحف على الأقل احتراما لتسلسل الأحداث ان يلغي تلك الفقرة باعتبار ذكرها على لسان زوجة ماركس سيناقض حقائق التاريخ وزمن ظهور تلك الإشاعة؟

كما نلاحظ، فإن حملة تشويه صورة ماركس، قد تمكنت من الدخول الى متحفه نفسه، ابتداءاً من المدخل الذي صمم لكيلا يلفت النظر ابتداءاً. فإن فشل المدخل في إبعاد الزوار، فسيجد هؤلاء أنفسهم أمام تمثال يقدم ماركس كمتسول يستغل اصدقاءه، وبعد ذلك تتكفل ممثلة ببث شبهات اخترعت بعد 80 عاماً من وفاة ماركس تشكك بأخلاقيته، وتقدمها على أنها شيء أكيد "يتفق الجميع عليه"!


لماذا يفعلون كل ذلك؟ قلنا في المقالة السابقة أن ماركس جهر بحقيقة خطيرة برهنت وبالمعادلات الرياضية، ان كل ما يكسبه صاحب رأس المال في النظام الرأسمالي، هو سرقة من المشتغلين الذين أنتجوا السلعة. تلك الحقيقة بقيت كامنة لزمن طويل تنتظر اقتصادياً يتجرأ على كشفها. وقد أدرك الاقتصاديون الذين سبقوا ماركس حجم الخطر فتجنبوها. ودفع ماركس وعائلته غالياً ثمن جرأته تلك. ومازال التشهير يطارده وهو في القبر، بعد أكثر من 130 عاما من وفاته!


هذه المقالة هي في حقيقتها، عن الإعلام أكثر مما هي عن ماركس. وهي تكشف إلى أي مدى وصلت إمكانيات هذا الإعلام في اختراع الأوهام وزرعها في رؤوسنا وقلب الحقائق واختراق أكثر المصادر ثقة لتحويلها الى أسلحة تشويه للحقيقة. ولنلاحظ اننا نتحدث عن "متحف" رسمي، لن يخطر ببال زائره انه مخترق! فإن كان هذا ما يحدث في متحف في المانيا حول شخص معروف جداً، وذو حياة موثقة بكل تفاصيلها، فما هو حجم الأكاذيب التي يستطيع هؤلاء أن يغرسوها في الحقائق الأقل شهرة، بوسائل الإعلام التي يسيطرون عليها؟ وأين يولي من يريد البحث عن الحقيقة وجهه؟ وما هي الأكاذيب التي ستفرض على الأجيال القادمة كـ "حقائق"، بعد ان يدفن التخريب المتعمد والنسيان، الوثائق الأصلية، وينقرض من يعرف الحقيقة ويستطيع كشف تزويرها؟ وأي تشويه لصورة الماضي وصورة الحاضر الذي نعيش فيه وشخوصه، سيتم فرضه على الأجيال القادمة، وكيف سيشكل التشويه قيمها، وإلى اين سيقود البشرية ذلك الطريق؟


(1) صائب خليل: ماركس بمناسبة ميلاده.. 1- ما الذي قدمه للبشرية؟