الجمعة، 28 فبراير 2014

ليلة القبض على (حسين علي حسين)- كاظم فنجان الحمامي

ليلة القبض على (حسين علي حسين)

كاظم فنجان الحمامي
لو بحثنا في العراق عن الأسماء المتشابهة في قيود وسجلات دوائر الأحوال المدنية لظهرت لنا قوائم طويلة جداً تحمل القواسم الثلاثية المشتركة, وربما يصل التشابه إلى الجد الخامس والسادس, ولسنا مبالغين إذا قلنا أن اسم (علي حسين علي), أو (علي حسين علون) هو الأكثر شيوعاً من شمال العراق إلى جنوبه, تليه قوائم أخرى تضم أسماء (جودة كاظم جواد), و(فاضل عباس خضير), و(شهاب أحمد مصطفى), و(جاسم محمد قاسم), و(صادق جعفر محمد), و(علي هادي حسن), فما بالك إذا ظهر في قائمة المطلوبين للعدالة رجل يحمل اسم: (علي حسين علي), أغلب الظن أن الجهات المعنية ستلقي القبض في ليلة واحدة على أعداد كبيرة من الذين يحملون الاسم نفسه, فالبطاقات الالكترونية وقواعد البيانات غير متوفرة لدى معظم دوائرنا الأمنية, أو غير موجودة بحوزة عناصر نقاط التفتيش في الطرق الخارجية, وربما تأخذ عمليات الفرز والتدقيق وقتاً طويلاً قبل البت بموضوع المقبوض عليهم.
أذكر أن زميلي الكابتن (علي حسين علون) تعرض للمنع من السفر مرات عدة بسبب تشابه اسمه مع أسماء الفارين الذين يحملون الاسم نفسه. وكان الدكتور (علي حسين علي) آخر المقبوض عليهم في البصرة للأسباب التي أشرنا إليها هنا.
وما أكثر المواقف الحرجة التي واجهها المتشابهة أسمائهم في المطارات والمنافذ الحدودية, وربما أمضى بعضهم فترات طويلة جدا خلف القضبان أو في مراكز توقيف الشرطة بانتظار الفرج, وكل القصة وما فيها أننا لا نحمل هويات الكترونية رقمية, ولا بطاقات بلاستكية ممغنطة على غرار بطاقات الائتمان والبطاقات المصرفية الحديثة المتداولة هذه الأيام في شرق الأرض وغربها, والتي لا مجال فيها للخطأ والاشتباه.  
من المفارقات العجيبة في العراق. أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات انتهت قبل بضعة أسابيع من توزيع بطاقات الناخبين الالكترونية من أجل تعزيز الشفافية وتوطيد الثقة وضمان الدقة, في الوقت الذي ظلت فيه مديرية الجنسية العامة متمسكة بإصداراتها الورقية التقليدية, وذلك في ضوء أحكام قانون الأحوال المدنية رقم (65) لسنة 1972 المعدل. بينما قفزت أقطار الخليج كلها نحو المساحات المفتوحة للتجديد والتحديث, فاستعانت بالتقنيات المعاصرة, وكانت دولة الإمارات أول من رفع راية التغيير بالقانون رقم (2) لسنة 2004, عندما تبنت مشروع تحديث السجلات السكانية, وإصدار الهوايات الرقمية. ثم أصدرت الهويات الرقمية للوافدين, فحصلت على شهادة المقياس الدولي في هذا المضمار.
واشتركت معظم البلدان العربية في تنفيذ مشروع (نجمة التميّز), الذي يمثل أحدث الأساليب الجديدة المبتكرة لتقييم أداء مراكز التسجيل الرقمي, وقطعت شوطا كبيراً في هذا الاتجاه نحو تطبيق أنشطة التصويت الالكتروني, والتصديق الالكتروني, والإحصاء الذكي, وإدارة الموارد المؤسسية.
أما نحن فمازلنا نبحث ونفتش عن نظراء (علي حسين علي), حتى غرقنا في بحار التشابه الثلاثي والرباعي والخماسي, من دون أن نفكر بإتباع الخطوات الرائدة التي تبنتها ونجحت فيها المفوضية العليا للانتخابات.



من الوجه إلى المجهول تأملات في بورتريهات عدنان المبارك- عادل كامل

تشكيل
من الوجه إلى المجهول
تأملات في بورتريهات عدنان المبارك




عادل كامل
[1]: مكونات، تتابع/ تحولات

     لم يكن للبورتريه ـ الرأس تحديدا ً ـ أهمية تذكر لا في تماثيل الآلهة الأم، ولا في رسومات الكهوف ـ بين 100 ـ 20 ألف عام ـ فلم يكن الرأس قد استقل بعمله، كمركز. كان الجسد مأوى اللغز، لغز بذرة الخلق، كتاريخ للعصور اللا تاريخية، وهو اللغز المزدوج: للغذاء ـ وللخصب. فلم تدجن الحيوانات، وتروّض، ولم يتم انتقاء المحاصيل، وتحديد قيمتها، إلا كجز من آلية البقاء. فكيف انبثق مفهوم التدوين من اللا تدوين، والزمن الأرضي من اللازمن ـ أو من الزمن الكوني، أو من العدم..؟
   فلا رؤوس للدمى، إلا كعلامة فائضة. وفي رسومات الكهوف، إشارات نادرة لنقاط تمثل الصياد، فالحواس مازالت تؤدي ما عليها من وظائف، ولم يتح التراكم لها ان يتحول الرأس إلى مركز. فكانت العصور البدائية السابقة لعصر التدوين، تدوّين تاريخ (القلب) ـ الجسد/ الدم/ وطقوس القتل ـ من ثم، عندما لم يعد (القلب) وحده لغزا ً، ولا الرحم، تربع الرأس على العرش.  انه أقدم شكل للمثلث: الهرم، النظام وقد أعاد للمركز سطوته على القاعدة. ولم يتأسس هذا النظام ـ التشكيل ـ بمحض الخيال، أو بقوة خارجية مستقلة عن (التجريب ـ التاريخ)، بل غدا التدوّين أقدم عمل لقلب الاقتصاد (العشوائي) إلى الاقتصاد المنظم. فالهرم لم يتخذ المثلث علامة له إلا إيجازا ً لنظام: الصياد ـ الطرائد.  فالهرم ليس رمزا ً للموت، بل لقوته، وقوة الموت، ـ منذ مقتل ديموزي وانبثاقه، دون إغفال اشتغالات مراثي سومر، ومراثي أكد للنسق ذاته، لكن جمعيا ً، بعد ان كان بحدود الإله الواحد ـ  هنا، مستمدة من التركيب المعقد للمتناقضات الخاصة بالرب القدير، وهو يستعين بالعناصر الأرضية في خلق الإنسان، الطين والماء، وفي الأسطورة البابلية، الطين والدم. قوة الهرم تعد أقدم (بورتريه) للوعي الجمعي ـ وآلياته ـ بالتجريد الهندسي. فهو رمز الإله، ولده، وهو الإله ـ الفرعون، الذي لا يموت، وإن مات ـ كجسد ـ فالروح ستعود له. فهو قوة كامنة، قوة دائمة، قوة لا يمكن قهرها. بمعنى  غدا (البورتريه) مركزا ً لاواعيا ً للصراع ـ العام والخاص ـ الصراع مع الطبيعة وضواريها وقسوتها، ومن ثم الصراع مع البشر ضد البشر، صراعا ً تطوريا ً لخص تاريخ صنع الأدوات، وتقدمها.  تاريخ تبادل السلع من الفوضى إلى حرية السوق.
   وليست أسطورة (نرسس) إلا مثال يؤكد ان ما رآه نرسس، فوق سطح الماء (المرآة)، ليس محض اكتشاف للرأس، فحسب، بل دافعا ً لمنحه كيانه الجديد. انه ليس أنانية محض، وإفراط في الإعجاب، وغلو إلا للانتقال من (المخفي) نحو المعلن: من الجسد/ الأم، الكهف، البذرة، النواة ..الخ، نحو المفتاح. فإذا كانت تلك الكيانات تمثل القفل، فان انشغاله بالبحث عن المفتاح، سيسمح له بصناعته، وليس بالتنقيب عنه. انه عمليا ً أقدم تعريف لنظرية المؤامرة: القصد المخفي وقد غدا يعمل بالحتميات في مواجهة العشوائية، والاضطراب.
    على ان نرسس لم يكتشف وجهه في الماء ـ كمرآة ـ بل أصبح الوجه يحمل تاريخ الوجوه منذ تشكلت جرثومة الخلق ـ بما تمثل فيها من إرادة للديمومة ـ وصولا ً إلى لحظة: الدهشة، الصدمة، المعرفة، والمزيد منها. فالهيئة (الوجه) ـ كما الهرم ـ خلاصة أزمنة بلغت ذروتها بالأداة ـ  الاكتشاف: البصر أولا ً، ومن ثم الحواس المرافقة، ليعّبد دربا ً ليس هبة ـ كما يهب الجلاد الحرية لضحاياه، وكما يهب القائد أوسمة لأبطاله الموتى ـ بل ضرورة تدحض حواجزها، وحجاباتها، كي يكف نرسس عن الإعجاب بذاته، ولكن ليس نحو الإعجاب بالوجه البشري، بل لتعديله، كي لا يكون حضوره محض وجود حدث مصادفة، أو عرضا ً، بل بما تتطلبه دينامية التدشين، والممارسة،  لمنح الديمومة منطقها، وآلياتها، وغوايتها، ولغزها، وجمالها، وكي يغدو الفن ضرورة محركة للحريات؛ حرية تهدم مرآتها، في هذا النسق، كي لا ترتد، أو تنغلق. 
    كان البورتريه، في الماء، وسطا ً بين الأرض والهواء، بين: الأسفل وبين الأعلى، الماضي وما سيولد، المرتد والمتقدم ...الخ،  ولكنه سيغدو، عبر الأزمنة، لصيق القوة الأكثر تحكما ً في المصائر، مصائر البشر كافة. فأولى (الصانع/ الحرفي/ الساحر) ـ في النحت والرسم والفخار ـ هذه العلامة، أبعادها كاملة: بورتريهات ملوك، رجال معابد، تجار، قادة، سحرة، كاهنات ..الخ، بما تمثله من هيمنة على الموارد، أي الاقتصاد المنظم، والقطيعة مع العشوائية.
  على ان التحريم لدى عدد من القبائل، يؤكد منحى مزدوجا ً لرأس المال ـ الثالوث المكون من: الخطاب/ القوة/ الثروة ـ  فهو يحافظ على سرية (التراكم) ومنحه لغزه البدائي ـ الماورائي/ المثالي .. الخ، ومكانته العليا أيضا ً. فالتحريم لم يدم طويلا ً، بعد ان غدا (البورتريه/ علامة المركز؛ السلطة) المتحكم بالسياق الجمعي للتراكم. فهو صراع خفي بين القلب، وبين العقل. بين الجسد والصورة، بين المخفي والممكن، وأخيرا ً، بين: الظلمات ـ والنور.
     فالبورتريه أرخ، عبر النصوص الفنية، وما تبقى منها، اعقد الصراعات، والتحولات، بما يمثله (الرأس) من مكانة في الديمومة، في مواجهة الاندثار، والغياب. فالموت ليس محض ملكية ضائعة، مع انه يمثل الخسران، والفقدان، والتوقف عن العمل (الإنتاج)، بل سيمتلك قوته بلغز ان: الحياة لا تنبثق إلا منه.  فلا زوال للملكية، في الأخير، مادامت الشمس ستشرق مجددا ً، ومادمت البذرة، لن تنمو إلا بالدفن.
      آليات ظاهراتية تمتلك أنساقها مهما استقلت الأشكال عن مكوناتها، كما في الفن الحديث. فالرأس لم يعد (الطاغية) أو (الإله) بل هو الضحية. والأمثلة ناصعة، وفي مقدمتها السيد المسيح، بعد قصة حلم إبراهيم وهو يرى انه يذبح ولده إسماعيل.  فالضحية ـ هنا ـ غدا الفعل المقدس: الذي تكمن فيه سرية الديمومة، في مواجهة الفناء.
فالاشتغال الرمزي، بواقعيته، خيال صاغته الأسس التجريبية، وخضعت لمنطقها، حتى ان استقلاله ـ بل وعزله عن الجسد/ البدن ـ شبيه بالعملة ـ النقد ـ كقوة دالة على ما فيها من متراكمات، مادية ورمزية ومشفرة، تؤدي دورها كآلية للاختزال، والتحكم بالزمن.
      فإذا كان البورتريه قد بدأ صفرا ً ـ من غير رأس تقريبا ً ـ في الاقتصاد البري، وصولا ً  إلى الحداثة ـ والعولمة، فان هيمنته ستتضاعف، مع تحول العنف، من تلقائية الغريزة ـ إلى تنظيمها، ومن عفوية القصد، وبرمجته، كنظام لا يعرف الرحمة، بعزل الهوى عن العقل، وعزل التبذير عن التراكم، فان المجهول وحده سيأخذ موضوعات الوعي، بالأهمية ذاتها للحياة كاملة.
    انه السلطة، بتراكم خزينها الطويل. سلطة تراكمت فيها عصور: الزواحف/ الثدييات/ والإنسان الحديث/ مقننة بطبقات الدماغ الثلاث. ومقولة ديكارت: أنا أفكر فانا موجود إذا ً، دالة على ان عصر (الجسد) برهن ان الوعي اقترن بالوجود، وليس بماضيه، ولا بغيابه، ولا بما يتعرض له من تهديدات بالزوال.
      انه صراع بين عناصر ما تحت النظر، مع عناصر ما فوق النظر: الثقيل/ الخفيف، الكثيف/ الشفاف، الخفي/ المعلن ..الخ، كي يمثل البورتريه التاريخ  الذي سيعيد (الرأس) نبشه، ووضعه كقوة للديمومة. ومرة أخرى  يغدو الموت مركبا ً من فعله وما ضد هذا الفعل، فالمفكر ـ الذي يدير الإنتاج ويتحكم به ـ آليا ً، ووفق اللاوعي الكلي ـ الكوني، الإلهي، والأرضي، هو الموضوع بتاريخيته، مجده، وأبهته. وهو، في الوقت نفسه، سيغدو: الأثير. فالا صورة، بعد تفكيك الذرة، وصولا ً إلى المناطق اللا مرئية فيها، قوة تماثل اتساع الكون إلى لاحا فاته، كلاهما شكل مكونات (الدماغ) ـ العقل أو ماكنة التفكير ـ  بالأشياء لذاتها، وفي ذاتها. وبعيدا ً عن التجربة المعقدة للتصوف، فان قراءة تاريخ البورتريه، بمعنى من المعاني، قراءة لتطور الدماغ، وقدراته على النمو. ومع ان (فوق كل ذي علم عليم) بالغة الدقة بتجريبيتها، فان البورتريه، لن يتخلى عن توثيق ان (الرأس) غدا صورة رمزية للكون، في حضوره الذاتي ـ بل والفردي الخالص. فهو ليس علامة للتاريخ، أو علامة تاريخية، وحضارية، فحسب، بل تمثلا ً للأسرار بانتقالها من المخفي إلى الظاهر،  ومن العدم كمفهوم يماثل الصفر في قوته الديالكتيكية ـ قوة تماثل حضور الزمن من اللازمن، والوجود من اللا وجود، ذلك لأن العناصر التقليدية ـ منذ اليونان ـ لم تعد تسد التركيب الذي تقوم عليه المادة. فإلى جانب الزمن ـ كعنصر حاسم ـ هناك المضادات لها، الداخلة في تركيبها، كقوة غير أحادية تتحكم بما رصده (الدماغ) من اكتشافات، فلا العناصر الأربعة ـ الماء/ التراب/ النار/ الهواء ـ وحدها تمد الخيال بما هو ابعد منه، بمفاتيح لا تتقدم ـ عشوائيا ًـ  وإنما ثمة عناصر لا مرئية كامنة في كل خلية من الخلايا ـ خلايا الدماغ، ومشفرات الجسد برمته، مع إنها، بما نعلم، تلقي الضوء على ان ألجين الواحد يتكون من ترليونات الوحدات!
   فالعناصر التي كونت البورتريه، لا تكمن في مواجهة الغياب حسب، بل لتأسيس حضور آخر يبتعد عن (الملكية) والوجود التراكمي للمادة. انه الحضور الرمزي للتشفيرات ذاتها التي ستمنح، كل ذات مفكرة، القوة ذاتها لدى كل من كان له الحضور في الشهادة ، وفي الوجود؟  فهو شهادة غياب استحال إلى مد الحضور بما لم يُدشن بعد.
  [2] اختلاف ـ ووحدة
      هل تتماثل الذرات، في حركتها، وتتشابه...؟  كلا، مادامت وثبات الإلكترون غير منتظمة، بأدواتنا وبمقاييسنا. كذلك العناصر، بذراتها، من الماء إلى النار، ومن التراب إلى الهواء، والى الأثير، لا توجد ذرة مستقلة بعملها بمعزل عن الكل الدينامي. فلا مجال لوجودها في ذاتها عدا انها تنتمي إلى خواصها: ذرات ذهب أو ذرات غبار. والأمر، في الكائنات، لا نملة تشبه نملة أخرى، ولا عصفور يماثل آخر. فبوجود ترليونات الترليونات من البذور، والخلايا، والوحدات الأصغر، في مساحة مختارة، لا يمكن هدم الاختلاف. صحيح، عندما ينظر العربي الشرقي، للوهلة الأولى، يتساءل: كيف يعرف الصيني الصيني الآخر؟ انه اختلاف لم يُكتشف إلا عندما بدأت الذرات تعزل ـ لتؤسس ـ كيانها: هويتها كوجود مستحدث، بفعل العمل: التراكم ـ النوع ...الخ، وعبر قوانين الصيرورة، والاندماج، والانصهار، والانبثاق. فالوجه برز كعلامة أخذت تعزل كيانها عن الكل، في محاولة للاختلاف عن التماثل العضوي، نحو التأمل: فانا موجود بكياني كاملا ً، من (الفكر) إلى (الشكل)، ومن الشكل إلى التفكير. هذا المنحى سبق المرآة ـ الماء ـ والانا، كي يأخذ دوره بصفته مغادرة من التماثل، إلى التشخيص، ومن الكل إلى الفرد. فإذا كانت الفلسفة المصرية القديمة تحافظ على الوجه، كي تستدل الروح عليه، في العودة، فان اللاوعي في التصوّر، يذهب ابعد من الحافظ على الملكية ـ المركز ـ نحو ديمومة النوع. وفي الأخير فان البورتريه ليس إلا (أبجدية) مصغّرة للمطلق. فالرب لا صورة له! ولكن للأنبياء سمات، وملامح، وأبعاد تعبيرية وجمالية. وليس تحريم التشبيه ـ هنا ـ إلا محاولة للخروج من التاريخ ـ الزمن ـ إلى المطلق. فالا مسمى لا شكل له، لأنه غير قابل للتأطير، بحدود الحواس، أو العقل، فهو سابق على التجربة، وابعد من ان تكون له خاتمة. لكن البورتريه سيطمح للعثور على فك شفرات هذا اللغز، للعثور على تساميه، وملغزاته، بالمهارات الاستثنائية. لأن (الإبداع) لم يحصل بمحض الحدوث، تلقائيا ً، ما لم يمتلك أسبابه، حتى لو كانت كامنة في اللا سببية.
    بهذا المعنى فان العناصر، شبيهة بالحروف، لها عدد (بحسب المكتشف)، فاذا كانت كلمات كل لغة تبقى توليدية )حتى باخفاء اللغة، وظهور ابجديات اخرى) فان كل كلمة، لا تشبه أي كلمة، حتى لو تماثلت في الحروف، بالعدد، والرسم، فانها تبقى تمتلك قدرات متجددة على التاويل. انها شبيهة بكل وجه مكون من عناصره ـ المركبة ـ  تتميز بحسب الزيادة، أو النقصان، بالبرنامج الكلي، وباليات عمله الكلية. فلا توجد  لحظة تماثل أخرى. لأنها مقننة بكلية القانون، وليس بالمحاكاة او بالتكرار. كذلك فكل ذرة، ما ان تتعرض للتفكيك، الهدم، فانها ستكّون غيرها عند التشكل.  فالميت إذا ًسيفقد وجهه، والروح، بعودتها، لن تجد وجهها القديم، مما منح التطور، مسارا ً للاختلاف، والتجدد، في تعددية الاساليب، والمناهج، والنتائج.
       وما دامت القناعة المشتركة بين المذاهب، الفلسفات، كامنة في استحالة الديمومة، فان لغز المفارقة سينشطر بين التاريخي، الظاهرة، وبين استحالة تصوير هذا الذي هو قيد الغياب، وقد غدا بحكم اللا وجود، لكن التشبث بالمرئي، سيتشبث بلغز محركاته، ومخفياته أيضا ً.  حتى لو كانت غير قابلة للدخول في العدد ـ أو في المرئيات. انه منحى يبقى يحافظ على أبجديته، إلا انها تبقى احد دوافع دينامية الانبثاق، كبرنامج عمل لكل ما هو غير قابل للدخول في آليات الموجودات ـ وتاريخها.
    على ان دوافع التجربة كعلاقة بين عودة الروح إلى الوجه، والدوافع المادية المقترنة بالأنا ـ ومنح الذات كيانها الانطولوجي ـ تسمح بالعثور على تداخل الدوافع لأجل: علامة تتضمن مهاراتها الفنية. فالحرفة ـ بحد ذاتها ـ تنتمي إلى مهنة اقترنت بمواجهة الغياب، وهي عودة دائمة للحفاظ على تميز التراكم؛ وعيا ً مقترنا ً بهذه الإرادة، وتقسيما ً لتراتبية النظام.
   
[3] مدخل آخر ـ
     بعد نصف قرن من مزاولتي للعمل المزدوج بين الكتابة حول الفن، والعمل الفني، بات علي ّ دمج المسافة بينهما، فالناقد إن لم يكن فنانا ً، فانه سيماثل الفنان الذي لا يمتلك تحديا ً ما. على ان تحديد من هو الناقد ومن هو الفنان، في عصر سمحت حريات التعبير بالتعددية، حد العشوائية، وإثارة البلبلة، ستجعل من بائع (الخردة) فيلسوفا ً، ولكنها قد تفشل بدفع العالم إلى التزوير، بل تضطره إلى امتهان بيع (الخردة)!
   فهل الحرفة تفسد الفن، وهل الفن يفسد النقد ..؟ سؤال نجد له أمثلة متعددة، فهناك من لم يدرس الفن نهائيا ً، ككل الفطريين، والبدائيين الكبار، رسّخ قناعة بان (الصدق) ذاته، بما يعنيه من قدرات على البناء، بناء النص الفني، ومغزاه الخلاق في نهاية المطاف. صحيح لا تقارن هذه التجارب بتجارب الأساتذة الكبار، ولكن في عصرنا، فان كبار الزعماء كانوا أمثلة لبائع (الخردة) الذي سيتحكم بالمصائر، فعن أية فلسفة سنتحدث، وكيف سيتم التمييز...؟
      إلا ان إعادة تفكيك بعض اعقد المسالك وعورة، كالعلاقة بين المحترف والفنان، لن توسع الهوة بينهما، مادامت الدوافع النائية قائمة ومن الصعب قمعها، فإنها لن تنتظر إلا مهارة غير متحذلقة، كالتي يتعلمها الحرفي، بإمكانها البرهنة على بناء نصوص ذات شأن. لم يدرس فان كوخ الفن، ولم يكن بحاجة لتعلم التشريح، كي يحافظ على النسب! بل الصواب انه لو كان فعل ذلك، لكان في عداد المجهولين.
    فهل هذا وحده سيطلق المارد من قمقمه، كي يتحول أي إنسان إلى (أسطورة)..؟ قد يتحول أي فنان ـ لأن كل ذات بشرية لديها الكثير من المشتركات مع سقراط، أو ماركس، أو بتهوفن، إنما هل حقا ً باستطاعة باع (الخردة) ان يمتلك تقنيات بوشكن أو بروست أو موزارت كي يجعل من (العام) فنا ً متفردا ً عابرا ً للزمن...؟
     مادام الفن ـ بعد موته إلى جانب موت الفلسفة وموت الإنسان نفسه ـ سلعة، وهيمنة السوق، وجني المزيد من الإرباح، بأية طريقة من الطرق، فان المعايير النقدية ـ إزاء الإبداع النقدي وإزاء الفن ـ ليس باستطاعتها ان تواجه تحولها إلى ذرات، وتزول، مادام ثمة قوة غير قوة (الربح) تهيمن على 90% من مصائر البشر.
       إنها إشكالية عصية، وليست إشكالية وجود محض. فالعودة إلى معايير تقرب الذائقة لدى السكان، بشكل أو آخر، لن تفرط بأية (ذات) تغادر انغلاقها، ومحدوديتها، كي تشكل مكّونا ً لاغناء الفن.
    من يضع أسس هذه المعايير ...؟
  ثمة طرفة تتحدث عن مأساة عانى منها شعب من شعوب الفئران، إزاء  (هر) طالما تلاعب بمصائرها، حتى قرروا التوصل إلى حل لهذه المعضلة، فاقترح احدهم ان المشكلة في غاية اليسر، وذلك بتعليق جرس في عنف الهر، فما ان يدخل المغارة، حتى يكون الجرس قد نبههم إلى حضوره. صفق شعب الفئران طويلا ً، وفي النهاية، سأل احدهم: من يعلق الجرس..؟!
    مثال يخفي عصور من السلب، والرياء، ليفصح عن لغز استخدام (الأقنعة) في المسارات البشرية.  لا لأن كل من يستخدم هذا الدافع لديه مبررات ما ان تسندها القوة، حتى لا تعمل إلا على تدمير الآخر، ومحاولة محوه، واجتثاثه من الجذر!  فحسب، بل لأن الطرف الآخر ـ أي الأطراف الأخرى وهي بعدد المراكز المتصارعة ـ سيضطر لاختراع وسائل يحولها من صفتها الدفاعية إلى أسلحة للمحق بسبب آليات الوجود نفسه: التصادم ـ والديمومة.
   فعلى مدى عصور التدوين، ظهر آلاف الحكماء، الفلاسفة، المصلحين، إلى جانب آلاف آلاف الذين حصنوا رسائلهم بالقواعد والأسس والبرامج، وعند تتبع الأصول، فان كل من هؤلاء الأساتذة الكبار، أو الأقل سطوة، كان أشار إلى الاقتراح بوضع الجرس في عنق الهر!
  لكن من هو هذا الهر ...؟ هل هو تراكمات الجهد البشري، أو غريزة الموت، أم القتال حد الفناء من اجل: الانعتاق أو الحرية؟
   لا احد باستطاعته ان يمسك بأي حل، صائب، بعد ان ازدادت آليات المؤسسة البشرية تعقيدا ً، وتحولت من مؤسسة: يقتل فيها قابيل اقرب مخلوق له بالدم والمصلحة والمصير ـ وهو جذر العنف ولغزه ـ إلى أمم تعمل على محو شقيقاتها، لأنها اتخذت من الجرس حلا ً لمعضلة الوجود!
     هل لا أمل لمليار إنسان مثقل بالحرمان ـ أو تحت خط الفقر ـ وهل لا أمل لمليارات أخرى  تولد، وتعيش، وترحل كأدوات، كأشياء، في الماكنة (المطحنة) التي يديرها عدد من أصحاب الشركات عابرة للقارات، وهل حقا ً لا أمل إزاء وجود تعددت أسبابه ـ بعدد من يمسك بالقوة والمال والدعاية ..الخ ـ عندما يحافظ على شفرة انه لا يمكن ان يكون كما هو عليه: فائضا ً، ولا معقولا ً، وبلا غاية، سوى انه لا يعرف أكثر مما يوجد في: الأشياء في ذاتها، مادامت الإشكالية، في الأصل، لا تكمن في التعبير ـ الفني أو بأي مستوى من مستويات الاستغاثة ـ وإنما لأنها ذات جذر ابعد، شبيه، نسبيا ً، بالثقوب البيض أو السود ـ تعيد إنتاج الأكوان التي التهمتها مرة ثانية!
     فهل باستطاعة عدد قليل من هؤلاء الذين تجاوزوا مصالحهم الشخصية، وعملوا للحضارة، ان لا يعيروا حكمة غوته: التمسك بالإرادة حتى لو كانت تذهب إلى العدم،  واستبدال قانون(الحركة) أو الإرادة العمياء، أو العدم الممتد، أو الدهر والقدر، أو المصادفات اللا متوقعة ...الخ، بدوافع ديمومة هذا المحكوم بالزوال، بدل القبول بالهزيمة حتى لو كانت المعركة زائفة، وقائمة على مباديء مضادة للعدل ـ والمنطق..؟
    فرويد رأى ان مشروع الإنسان تنقصه الاستعدادات لبناء حضارة. ونيتشه رأى ان الإنسان شبيه بالمرض، سارتر رآه جذاما ً، وحكمة برنارد شو ليست مرحة عندما أكد انه كلما تأمل الإنسان ازداد إعجابا ً بالكلب...الخ
   أمثلة كثيرة تجد بائع (الخردة) الذي أصبح (ناقدا ً) أو (فنانا) لا يتصدى لها ـ عبر امتلاكه لوسائل الدعاية فحسب ـ بل بقوة القمع الأكثر خفاء ً، من الإعلان إلى الرياضة، ومن التصورات إلى صناعة الرموز ...الخ ـ وصولا ً إلى تدمير الهندسة الوراثية ذاتها، والتلاعب بإعادة إنتاجها، وفق نظرية: انه وحده علق الجرس!
   على ان الأمل بنهاية وشيكة للوجود البشري مازالت مؤجلة. فمنذ كانت القرارات تصدر عن الآلهة، في العصور السحيقة، وممارستها لحقها بالإبادة، والمحو، والاجتثاث، كالطوفان، والكوارث المماثلة، بسبب لغط البشر، وفسادهم المشين، وخساسة طباعهم، وافتراس بعضهم البعض الآخر، واستحالة تحقيق أوامرها، وصولا ً إلى أي حل كارثي آخر كالاستخدام المروع للأسلحة الفتاكة الكبرى، أو قيام حرب تشترك فيها القارات، إلى جانب خطر سريان فعالية ضعف المناعة، بسبب التلوث البيئي (الايكولوجي) وتحول السكان إلى أسراب من طيور مهاجرة، أو شعوب من النمل التائهة في المنافي..الخ، فان عدم قدرة احد ـ لا الآلهة القديمة ولا من يتربع على أهرامات عالمنا المعاصر ـ على المحو تبدو ليست خيالية، إلا ان اينشتاين لم يفقد الأمل ـ بعد ان تزول حياتنا ـ لتبدأ الحياة من الصفر!  ذلك لأن (الهر) ـ ككائن رمزي ولد مفترسا ًـ ما ان يأخذ كفايته من الطرائد، يهمد، ويستكين، عدا (الوعي) الاستثنائي للبشر، ما ان يمتلك أدوات صناعة الأدوات، حتى لا يكف عن تحقيق نزعة محو كل من يعمل للحفاظ على الحلم!
 [4] ما الفن ـ اقتراحات  
   يمكن اختزال عدد من تعريفات الفن بأنه: صياغة بدائل تستبدل الوجود ـ بقسوته وبغياباته ـ بحضور تتداخل فيه مقدمات الزمن (الدهر)، بنهاياته (الأزل)، كلحظة تتزامن فيها لا نهائية المسافة في هذا الحضور: الفن!
      بمعنى انه ليس دفاعات ضد الغياب، بل إعادة غزل الغزل ونسج النسج للارتقاء بالخامات الواقعية نحو معمارها الروحي ـ الجمالي، في نهاية المطاف.  هذا الامتداد من الطبيعة إلى الفن سيحافظ على لغز دوافعه بدينامية لا يمكن عزلها عن اشتغالات المخيال، ولا عن آليات الوعي، ولا عن السياق التجريبي. لكن هذا لا يعني إعطاء اللا معنى ـ معناه، إلا بحدود الحفر بحثا ً عن المعنى الكامن، وصياغته بحسابات العوامل كافة، بدءا ً بلحظات التحول، وبنسيجها البنائي، مرورا ً بالعوامل الكامنة، المتنوعة، والمتعددة، وانتهاء ً ببنيوية النص الفني ـ برهافة الفنان ـ وبلحظة الخلق التي تتجانس فيها العناصر بالأسس، المشفر بالعلامة، والظاهر بمخفياته.
[5] تعددية
    إلى جانب تنفيذه لرسومات موضوعات موقع (القصة العراقية)، واضب عدنان المبارك بنشر صورة شخصية  في كل أسبوع، تحت عنوان: بورتريه.
    وإذ ْ تعود ذاكرة المبارك إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث تبلورت ملامح جيل استحق مواصفات الريادة، ليس زمنيا ً حسب، بل نموذجا ً لمكانة الثقافة في المجتمع العراقي/ البغدادي. فعدنان المبارك، القاص والروائي والمترجم، بالرهافة التي امتلكها، عمل على وضعها شرطا ً لبنائه الفني ـ في الرؤية وفي تقنياتها. فالانتساب إلى الرواد مهد له الابتعاد عن الأحادية، والتزمت، والحفاظ على (ديمقراطية/ مرونة) متأصلة في كل جهد يتوخى ذروته: الجمال.  ولعل استذكار الأسماء ـ من اليساريين إلى الواقعيين، ومن المحسوبين على اليمين إلى المعتدلين، ومن الوجوديين إلى المتطرفين أو الراديكاليين ـ  نجدهم قد اشتركوا جميعا ً بإغناء تجاربهم بروافد معاصرة، متعددة، إلى جانب حفريات في الثقافات القديمة ـ القومية والوطنية مع حرص صريح على بنائية النص ـ بمعالمه في التجارب الفنية على صعيد الرواية، المسرح، النحت، الموسيقا، الرسم، إلى جانب الحقول الأخرى كالطب، والقانون، والآثار، والدراسات الفكرية، والاجتماعية، واللغوية.
    من هذا المعطف، لم يخرج عدنان المبارك حسب، بل راح يولي مفهوم النسج أهمية المغزل وهو يغزل معادلات النص الفني ـ جماليا ً، من غير تفريط بالموقف الفلسفي/ الاجتماعي/ السياسي، لكن ليس على حساب آلية تحديات الزمن، بجدلية الأشكال مع محركاتها، بل بالحفر في ملغزاتها. 
   فالإحساس الجمالي، بجذره الموغل في أقدم التماثيل، والرسومات، والفخاريات، في الحضارات الأولى، شكل هاجس هذا الجيل، مبدئيا ً في الأقل.  فنرى أكثر الأسماء ريادة  عالجت أكثر من جنس، في تجاربها، والأمثلة امتدت إلى الجيل التالي. فكان قحطان المدفعي معماريا ً وشاعرا ً ورساما ً وباحثا ً وناقدا ً، وقحطان عوني رساما ً ومعماريا ً، ومظفر النواب رساما ً وشاعرا ً،وجبرا إبراهيم جبرا ً قاصا ً ورساما ً ومترجما ً وروائيا ً وناقدا ً، جواد سليم نحاتا ً ورساما ً ومولعا ً بالموسيقا، يوسف الصائغ كاتبا ً وتشكيليا ً وشاعرا ً ومسرحيا ً، محمود صبري منظرا ً ورساما ً، جميل حمودي نحاتا ً وناقدا ً ورساما ً، شاكر حسن آل سعيد كاتبا ً ورساما ً وصاحب رؤى، إبراهيم زاير صحفيا ً وشاعرا ً ورساما ً، مؤيد الراوي كاتبا ً وشاعرا ً، فاضل العزاوي روائيا ً وشاعرا ً وصحفيا ً، إلى جانب عدد من ابرز الأطباء وقد مارسوا الرسم مثل خالد القصاب، ونوري مصطفى بهجت، وعلاء بشير.
     عدنان المبارك، لم يغب عنه مفهوم (الصوت) على صعيد الكلمة، كي تأتي الصورة، مكملة للمحركات بأشكالها المعلنة. كان يتمتع بدوافع الهواية، وليس محترفا ً، على صعيد الرسم، إلا إنها هواية  وجدت ـ في أوربا ً ـ دعوة للتخلي عن الدراسة في معاهد الفنون، استثناء ً لمنح اللاشعور/ اللاوعي، آليات التحرر من العادات، والقيود، والثوابت، وترك المخيال الكلي للكون ـ وللذات ـ ان يغادر مدافنه. إنها دعوة راديكالية، ككل موجات التحرر، أسهمت بمنح الإبداع مغامرته، حتى لو لم تقدر على مواكبة موروثات صناعة الفن. فالهواية تغدو برنامجا ً للخلاص الأعراف وأطرها العتيقة، نحو اكتشاف المخفيات، في الذات، أو في فضاءات الكون.
[6] استذكار ـ وتراكمات
  لا مناص من تذكر أو استحضار كل صورة شخصية رسمت بمجموع دوافعها كي تغدو علامة. فإذا كانت كل علامة هي سلاسل من تراكمات، انصهرت، عبرها، فان العلامة، في الحاضر ـ الآن أو قيد المشاهدة ـ غير منفصلة عن صفتها في الشهادة. إنها ليست نزوة، أو رغبة، أو إيضاح، أو تعبير، أو هوى، إلا بمهارة التشذيب لمنحها حضورها بصفتها: فنا ً.
    فمنذ المومياءات، ورسومات القبور، والمعابد، في الكثير من الحضارات القديمة، مرورا ً بالأقنعة، والتماثيل، والصور الشخصية، وصولا ً إلى عصر (المرآة) و (المرايا)، ومنذ بورتريهات عصر النهضة، عند روفائيل وتتيان ومايكل أنجلو ودافنشي، وعصر رامبرانت، وروبنس، وغويا، وفلاسكيز، وليس انتهاء ً ببورتيهات فن كوخ، وجوجان، ورو، ونولده، ومونخ، وبيكاسو، وفرانز بيكون ..الخ تكون الذات قد تمثلت مستوياتها المتعددة والمتنوعة في هيمنة الانشغال بعالمها الخاص. فالعلامة اقترنت بالزمن، إنما، في الفن، أخذت الأسئلة مداها الأبعد. فكتابة التاريخ غير منفصلة عن فلسفته، الأمر الذي منح الفلسفة قدرة نسج النسيج وغزل الغزل، في محاولة لمنح (الحركة ذاتها) موقعها في تسلسلها، حتى عندما تتمثل الاضطراب أو الارتدادات. فالبورتريهات رسمت كعرف يخص الفلسفة وهي تنتقل من التاريخ إلى لغزه: سر الحضور، في مواجهة الضرورة، لكن بارتقاء الأخيرة نجو مجال يمنحها درجات في التسامي، نحو (الرأس) ـ الذي هو الهرم ـ  بمعالجة ديالكتيكية تسمح للفن ان يقترن بما يقوم به المنقب، لكن ليس بحثا ً عن اثر مخفي، بل عن اثر يُصنع من المخفيات علامة في الحضور ـ وهنا يتشكل الناقد في رأس المصور، كي يكف عن المحاكاة، ولكن ليس بدونها، وهنا يأتي دور الناقد ـ الآخر ـ في تتبع أقدم مفهوم للبناء ـ الاستحداث ـ والانتقال من البرية إلى التراكم، ومن الرغبة إلى المعمار.
   إننا  إذا ً لسنا إزاء تأملات ذاتية للذات، ولا إزاء تاريخ مرايا، ولا إزاء مهارات، بل ثمة معمار اجتمعت فيه الأصول: المعرفة. فالزمن لم يعد متسلسلا ً، في الصورة، بل كامنا ً فيها، حد استحالة فصله أو عزلة عن بنية العلامة، كوحدة قاومت فعل الزمن ـ في إعادتها إلى عناصرها البكر. انه ضرب من إرادة تحول الإرادة إلى ما تمتلكه من الحضور ـ وهي شاخصة بما يهددها من عوامل التآكل.  فما تبقى من الدمى، الوجوه والأقنعة والمومياءات بما عليها من طلاء ومعالجات طبية وفنية، إشارة تحكي جانبا ً يبقى يحافظ على لغز هذا الحضور، فعله ـ وما هو عليه ـ وما يمهد لصياغات تتطلب فتوحات لا تتعثر عند أزمات عصر من العصور.
[7] أصول ـ شرق/ غرب.
      ينحدر عدنان المبارك من أصول شرقية، فقد ولد في مدينة البصرة، في العراق، وهي مدينة تطل على البحر، من ناحية، وتحاصرها الصحراء من ناحية ثانية. على ان المدينة بهويتها المتنوعة، عبر القرون، وجدت معادلها بخلق ثقافة قائمة على التعايش، وليس على الصدام. إنها مفتاح حضارات تراكمت عبر الطوفانات، وأزمنتها، كي يأخذ الماء شفرته بفتح المخفيات، والمندثرات، ويتحول إلى علامة معرفية، وجمالية معا ً.  فلم يروّض البحر طبائع الغرباء عليها، ومن أجناس مختلفة، آتية من البادية، غالبا ً، وأحيانا من القارات النائية، بل منحهم دينامية الحفاظ على واقعية المدن غير المنغلقة. ولكن اغتراب عدنان المبارك لم يتشكل بسبب تأملاته لواقع مدينته، أو لبغداد التي سكنها فترة من الزمن، بل للإنسان  في عالمنا المعاصر، وفي أوربا بحداثتها، وتحولاتها، وألغازها.
   فالصدمات تتوالى بمعناها الثقافي عليه. فشغفه ان (يعرف) وان (يُدشن)، واختياره للأدب، واللغات، سمح له ان يعيد سؤال أسلافه سكان سومر وأكد: ما الذي يستحق ان ينجز...؟ فكانت الكتابة أداته للحفر في المنجز الفني، وهو يصطدم بأوربا  وقد بلغت حداثتها ذروتها، في ستينيات القرن الماضي، وبدأت موجات التمرد: كالثورة الطلابية في باريس، والكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية، والثورة الثقافية في الصين، صدمات فكر، تهدم بلا رحمة، وتحدق في المجهول  بعناد، لأنها صدمات حرية، في الأخير. ففي بولونيا لم يواجه الإشكاليات التي عرفها وخبروها في وطنه، بل غدت أكثر اتساعا ً، وتعقيدا ً، لتغذي لديه فكرة إعادة رؤية ماضيه، في مدينته الأم ، البصرة ووادي الرافدين عامة ـ إزاء العالم بأسره. فمدينته ليس لديها إلا ان تحافظ على احتضارها، وفي الوقت نفسه، ليس المستقبل (في أوربا) إلا نسقا ً آخر للاحتضار، وليس للفردوس. ثمة جذور لـ: (كافكا) تمتد إلى إنسان السواحل: العفن، ولكن الذي سينشغل بالتطهر.
   فالمناهج، وفلسفاتها، ليست أدوات تأمل، أو دهشة، أو معرفة حسب، بل أدوات عمل.  فكانت بنيوية عدنان المبارك شبيهة ببنائية أسلافه الذين وضعوا أسس الكتابة ـ المعرفة، بالمعمار إلى جانب بناء مخيال للدورات، والعالم السفلي، ومصائر البشر، بعد محاورات لتفكيك الغاز الآلهة.
   انه لم يعد خياليا ً، ولم يترك الأسطورة تسكنه كثيرا ً، ولكنه سيحافظ على الديالكتيك الواقعي في مواجهة الاغتراب: تأمل الزائل إزاء الذي لا يزول.  ولم يكن لديه غير (الوعي) الكامن في (المركز) ـ الوجه ـ للنظر إلى الخارج. انه ـ هنا ـ ليس رساما ً، ولم ينظر للعالم كمجموعة من الصور، ولا أحداثا ً مسرحية، أو سينمائية، بل علامات (معرفية/ ثقافية) منحت الرأس دوره في صياغة أداة التفكير، والتأمل. فالبورتريه إذا ً ليس ما رآه في المرآة (الذاتية)، بل غدا هو ذاته مركز الجذب للعالم كأثر تكوّمت داخله المشاهد، ليبلور، كرد فعل، مرآة تشظت، وتناثرت أجزاؤها، كي تغدو علامة تمثلت فيها إشكاليات التصادم، لكن ليس بين الشرق ـ الغرب، وليس بين الأنا والآخر، أو بين منفاه القديم والمنافي الجديدة، حسب، بل لنسج رقعة شبيهة بالأختام السومرية/ الأكدية، في مجدها وفي  موجهتها لقدرتها بالغياب.  فالمرآة ستؤدي دور (البحر) أكثر مما تؤديه (الأرض)، لأن الأخيرة ستحافظ على العنف، فيما البحر ـ كمدفن ـ سيعيد للحياة لغز تجددها بما للماء من أصول في ولادة الحياة ـ الإنسان.
   هذا الشرق ـ الغرب، سيشكل تركيبة الصورة الشخصية ـ بصفتها خلاصة واعية للتأمل الانطولوجي، للحفاظ على اللغز ذاته للديمومة. فالبحر سيحافظ على توغله في الأشكال، وكأن غبار مدينته، والاغتراب في أوربا، وعشوائيات عالمنا المعاصر، ما هي إلا بذور ستنمو ليس في الأرض (المكان) بل في (الفكر) كأحد أنظمة البحر. فالصور الشخصية، بهذا المعنى، لا تحكي ـ كما في نصوصه الكتابية ـ بل ستتحول إلى مثابات، علامات، إشارات، أجزاء، شظايا، إلا إنها ستحافظ على أسرار الغمر القديم، والمتجدد، لأن الكون برمته لم يتخل عن لغز ديناميته: الانبعاث ـ منذ الآلهة الأم ـ وصولا ً إلى مقاومة عوامل الاندثار، بموازاة الدورات، والزمن.

 [8] البورتريه ـ الحفاظ على الروح
  جاء في المعتقد المصري القديم، ان الحفاظ على الوجه يعني الحفاظ على الروح. لكن إذا استبعدنا الجانب الرمزي فان التأويل المقبول بديمومة السلطة؛ سلطة (المركز)، يتمتع بالواقعية التي منحت الهرم ـ المثلث ـ تراتبيتها. فالديمومة المتخيلة تفرض آلياتها بالحفاظ على الوجه: وجه الراحل الذي ستعود له الحياة، كي لا تغتصب منه، وكي تواصل السلطة أبديتها. على ان التأويل الذي منح  القراءة المتجددة، بعد ثلاثة آلاف سنة، يتجاوز تلك الدوافع، نحو إعادة صياغة السؤال: ما المعنى من الوجود ـ وجود السلطة وقاعدتها ـ لعبتها بهذا الإحكام..؟
      فهل ستبحث أرواح الراحلين عن وجوههم، بعد القطيعة، ومن لا وجه له فان روحه ستبقى بلا مأوى ـ وغير مشخصة، وتائه في الفضاءات ...؟
   عدنان المبارك لا يهمل أي سؤال تمت صياغته بالكلمات. فعمله ـ في اللغة ـ سمح له بمنح الصورة جانبها المخفي ـ المحرك ـ وتشكلها مع الكلمات: الرموز، كي ينظر بموضوعية إلى الأشكال بوحدتها، وبتفاصيلها أيضا ً.
   فهو يصوّر ذاته داخليا ً، ليراها متوازنة، وغير منفصلة. فهو يشخص في البورتريه ذاته: مكونات الوجه، ولا يتوقف عندها كما هي عليه في الخارج حسب. بمعنى لا مسافة بينهما، بين الأجزاء ومحركاتها، ظاهرها ولغزها النائي.
    فهل الحلم مصدر الفكر، بمعنى: هل الفعل المتخّيل له فعله المعرفي، بحسب باشلار، أم ان القطيعة مستحيلة بين المرئيات ومخفياتها، عندما راح المبارك يتحرى عن ذاته، لا كي يكتشفها، أو يزيح الغبار عنها، بل كي يعيد بناءها، وأحيانا ً ترميمها، كي يحدث التطابق بين المتخيّل، والنص الفني...؟ ذلك لأن منهجه الديالكتيكي، التجريبي، لن يوهمنا بالمواعظ أو بالوصايا. لأن فعل الرسم يغدو تحديا ً. وهذا هو الدرس الذي استمده من تأملاته لمكونات الوجه: ليس كإعلان معاصر لموت الإنسان ـ بعد موت الفن وموت الفلسفة ـ بل المغزى السيزيفي لإنسان يدرك استحالة الإمساك بهذا الذي بدا له يتمتع بالثوابت، وبعلاماتها.
      وهنا لا يمكن إغفال التجارب السابقة، القديمة قدم الختم السومري الاكدي في حضارة وادي الرافدين، وصولا ً إلى الإعلانات الضوئية. فعدنان المبارك  يستبعد الخوف مثلما يستبعد أقنعة الحرية وأوهامها. فهو ـ بالدرجة الأولى ـ يحاور الكائن الذي سكنه، وليس الآخر الجحيم ـ بحسب سارتر، فلا جحيم ولا فردوس، بل ثمة لا مبالاة جادة ـ كالتي سمحت لصموئيل لبيكت ان يكتب بانتظار لا احد (غودو) وهو مثال مستمد من آليات أساطير البعث ـ لأن مغامرة الكاتب بالرسم، هي مغامرة المتصوف وقد ترك (الأزل) و (الأبد) يلتقيان في بؤرة: الفناء. هذا المجال الدينامي لا يخفي مهمات التعبير، عن حالات الترقب، التوجس، الأسى، القنوط، الاغتراب ..الخ، ليؤدي البصر، دور (العين) التي ترى؛ عين الإله المصري القديم، ولكن بعين شهدت انهيارات كبرى تتبعها عدنان المبارك، في منفاه الأول، وفي منافي أوربا أيضا ً. فالكاتب غير معني ان يكون دليلا ً، مثل أعمى يقود أعمى داخل ظلمات بلا حافات، ولا هو مسؤول عن رصد حركة أو عن وجود محصور بين عدمين، أو مجهولين، بل هو يعلن عن أخلاقيات كادت، هي الأخرى، تلحق بالإنسان نفسه: موته، وتحولها إلى سلعة. فالدافع الأخلاقي لا يتمثل بالعودة إلى لغز تكون بذرة الحياة، إن كانت (نفسا ً) من الآلهة، أو عفنا ً من سواحل المستنقعات، لأن الوجه غدا شهادة على الحياة، وعلى العصر، شهادة لمليارات الوجوه التي أكدت أهمية اللا متوقع، اللامعقول، المصادفات، كي تأخذ هذا الترتيب، للكائن، وهو يعيد بناءه وسط حرية (القتل)، الشبيهة بحرية السوق، والفوضى العدمية، لمكاسب لم تدم أكثر من زمن زوالها.
  إنها حرية جمالية تأمل الكاتب/ الرسام، حضورها ضمن الوجود ذاته الذي أسس المرآة، لكن المرآة التي لا تبث، أو تعكس، بل التي تعمل عمل الجحيم: هل من مزيد...؟
      فالوجه غدا علامة مواجهة بين اللحظة ـ التي تجمدت فيها الأزمنة ـ إزاء اللازمن: هذا الانشغال بما بعد المعنى، ولكن عبر البورتريه كجزء ليس فائضا ً، حتى لو تضمن خلوه من المنطق، وغدا عبثا ً. فثمة تاريخ للفوضى، وهو تاريخ الاغتراب برمته، تاريخ اكتشاف الذات بصفتها وجدت كباقي الموجودات، كالنبات أو العناصر، وتحولاتها، إلا إنها ذات تعرضت للانتهاك، وللهتك، ضمن قوانين الديمومة؛ ديمومة: صوب، وامض..! لكن الوعي راح يصوّر تشكله للحفر في لغز البذرة: دفنها ـ وبعثها، حيث عدنان المبارك، لا يطلب منا ان نراه، كما تحولت ومضاته الداخلية إلى بورتريه فحسب، بل قراءة هذا كله كوجود ـ بنسبيته ـ تضمن ديمومة لغزه.
[9] من البصر إلى: البصيرة
    عند تأمل (البورتريه) بقراءة لا تمنح التعبير مظاهر خادعة، أو هشة، فان شيئا ً ما سابق على (الصورة) يكمن فيها. وهنا نواجه سؤال: لماذا كان الزمن مهما ً في التعبير، لكن ماذا عن: الزمن السابق..؟ بمعنى: ما قبل الزمن، الذي هو امتداد ـ خلاصة ـ وتحول. فالتعبير تزامنت فيه وتداخلت، مثلما انصهرت، وتوارت، كي يؤدي التعبير دور العبور من ـ إلى، وإلا فان المحاكاة تعوض، أو لا تدعنا نحفر في لغز: الوعي ـ وما يمثله كاستحداث لا تعبيري كامن في التعبير، ولا يتوخى إلا مغادرته ـ كقوة باثة ـ لاستكمال التسلسل، وحلقاته.
    البورتريه ـ هنا ـ هو الوعي وقد تجمد، فهو كثافة قصوى؛ كثافة تتضمن الإنساني في قراءة اللا أنساني، مواجهة متواصلة بين الصورة وخطر زوالها. فالكاتب/ الرسام، لا يعبر، ولا يعبّر، بل يسكن، إن لم اقل يعيد بناء البناء. فالفراغ ـ المجهول ـ السابق على الوعي، يبقى يشتغل كالنسغ، كالزمن، في الصورة، ينتقل من وجود سابق ـ باتجاه وجود غير قابل ان يغدو صورة ـ مركزا ً. فالهرم ـ المثلث ـ السلطة تسرد، من غير كلمات، أقسى ما يمكن تلخيصه بالغياب. لأن الرسام لا يمجد، ولكنه لا يستجدي، ولا يستغيث. فالتعبير لم يعد أسلوب معالجة ولا مدرسة أو فلسفة، بل هو احد عناصر الرسم ـ وما بعده.  ثمة ما هو ابعد من المحنة، وخارج نطاق معالجتها أيضا ً. لأن الكاتب/ الرسام، الملغز بالماء، لا يتشبث بالرأس ـ رأسه ـ إلا كعلامة حاول تشذيبها ودفعها كي تقول شيئا ً ما غير: الاستغاثة. ولأن ذهن الرسام مزدحم بالأبعاد ـ من المتضادات المثنوية إلى الأبعاد الأخرى/ ومن الأساطير إلى ما بعد الحداثة/ ومن الأخيرة إلى العولمة/ ومن اللازمن إلى المجهول ..الخ ـ فان تأويلنا بالكلمات قد يبدو حجابا ً، الأمر الذي يجعلني كأنني لم اقل شيئا ً، وأنا أردت ان أعيد قراءة تاريخ (البورتريه) منذ صدمة نرسيس، مرورا ً بالهرم، وهشاشة الإنسان، وصولا ً إلى عصر آخر أكثر استحالة على الفهم، ولكنه ليس مبتورا ً عن النشأة البكر: المجاميع، وليس الأفراد، الكل وليس الأجزاء.
   إنها مفارقة تكمن في وعي يصوّر الوعي بصفته مواجهة بين الذات والنوع، بين الأنا والعناصر، بين الواحد واللا عدد،  وبين الحاضر وما سيشكل غيابه.  فالإشكاليات النفسية، الاجتماعية، الأخلاقية هي جزء ـ وليس كلا ً ـ لهذه الأنا، في الدينامية. عدنان المبارك  يلتقط ملامح هذا المحدود وقد اتسع كي يواجه امتداده. وكأنه يوثق ـ يدوّن ـ  الفجوة ذاتها التي يقهرها الزمن، إن لم اقل ما هو كامن فيه، أي ما هو محرك للحركة، وموجه لها، ليحافظ على نظرة لا ارتداد فيها، بل تبقى تتجه إلى الأمام. فليس ثمة عقدة (تعبيرية) أو (أيديولوجية) أو حتى (إنسانية)، بل ثمة تكرار تتمثل فيه نزعته الاستحداثية. فـ : لا جديد تحت الشمس، لسقراط، لا تجعل الجديد معادا ً، بل لابد من قلبها. فكل تكرار ما هو إلا استحداث يتجاوز (البصر) نحو (البصيرة)، مثلما يتشكل المرئي من مخفياته اللا مرئية.  فهو انتقال دائم لدحض التكرار عبر الصورة ذاتها بما يدعونا لإعادة قراءة ما لم تبح به، كقراءة متجددة للأثر، وليس لعناصره التكوينية حسب. فالبورتريه، بصفته صورة تشخيصية ـ كما تأمل رامبرانت ذاته أو جورج رو أو فان كوخ أو بيكاسو ـ تهشم سطح المرآة للامساك بما لا وجود له ـ في هذا المدى أو الامتداد. واللا وجود ـ هنا ـ هو جزء من مكونات الوعي ـ لذاته ـ عبر التكرار الذي يجدد فعالية الحضور؛ شهادة  اثر صاغها مسمى امتد بصره من الوجه إلى المجهول.

    

ملف ( الأديب الثقافي ) عن عادل كامل


 
ملف ( الأديب الثقافي ) عن عادل كامل
  






في هذا الملف تسهم نخبة من النقاد والأكاديميين في تقييم منجز عادل كامل الدال على تجربة مركبة تركيبة ثقافية ، تتحاور فيها وتتجاور بنى نقدية وسردية وتشكيلية ونحتية . 

وقد نشرت جريدة الأديب الثقافي، في عددها الأخير(198/ كانون الأول 2013) ـ التي تصدر عن مركز تنوير للبحوث والدراسات التنموية ـ بغداد ـ هذا الملف، وجاء في تقديم الجريدة: يندرج هذا الملف ضمن خطة الأديب الثقافية في فحص ومقاربة أهم التجارب والظواهر الثقافية ، وذلك بالكشف عن العوامل المحركة والدافعة لتشكلاتها النصية أو الخطابية ، وتحليل شفراتها الإبداعية والمعرفية 
وقد أسهم في الكتابة كل من: 
ـ د. عاصم عبد الأمير. 
ـ د. محمد أبو خضير. 
ـ د. جواد الزيدي. 
ـ د. محمد علي علوان. 
ـ أ. جاسم عاصي. 
ـ د. شوقي الموسوي. 
ـ د. فائز يعقوب الحمداني. 

د. فائز يعقوب الحمداني 

جسد الحكاية. قراءة في أعمال عادل كامل 

يمثل الجسد الانثوي باختلاف تمظهراته/طقوسه مركز رؤية الفنان عادل كامل. والجسد الانثوي منطقة غنية ومربكة على قماشة الفن التشكيلي لدلالاته الجمالية والرمزية ولانه لا ينفك يشكل بؤرة جذب لعيني المتلقي. ولكن عادل كامل لا يمنح عيني المتلقي الفرصة لكي تسكن مع هذا الجسد. ان كل مشهد مؤطر في لوحة عادل كامل يوحي ايقاع قصصي. بداية او نهاية قصة يعيشها هذا الجسد ولكنها قصة مبتورة وسيناريو ناقص. ان اجساد نسائة المثيرة صادمة وهي تمارس طقوسها المبتورة بالاطر القسرية التي تمنح احساسا مؤقتا بالنشوة. انها تثقل ولا تمنح حرية العيش معها. ربما لانها اجساد محبوسة مكتومة، وطقوسها مربكة بسبب هذه الاطر المتعددة التي تشتت وجودها. 

ان أجساد نسائه وهي تمارس طقوسها المبتورة تتوسل بالفضاء... تحاول ان تخرج عن الاطار/ الاطر التي تشظي وجودها وتمزق قصصها لترتد في عين تلهث خلف ايحاءات هذه الاجساد الثرة المليئة بالحياة بسبب الحدود التي تسلبريتها. ويبدو ان هذا اللهاث وما خلفه من خيبة امل في وعي الفنان ادى الى تجريد هذه الاجساد (في اعماله الاخيرة) من ثورتها ونزوتها وحولها الى مساحات خالية من اي حياة وبالمقابل فان الاطر التي احاطتها أصبحت أكثر صلابة وسمكا. كان وما يزال الجسد الانثوي رمزا للحياة ببعدها المتوهج الحار، بعنفوانها وشبابها، وظل على طيلة مسيرة الفن التشكيلي وايا كانت وسائل توظيفه رمز الحياة النضرة وعنفوانها، فلا غرابة ان يصاب المتلقي امام لوحات عادل كامل بالتشوش والارتباك لان اجساده بقدر توهجها وحسيتها تعيش عالم مقطع الاوصال بالاطر التي تعزل هذه الاجساد بعضها عن البعض الاخر. 
ان المتلقي أمام أعمال عادل كامل يعيش ازمة الجسد الانثوي... ربما في واقعنا او في وعيناالشرقي، فان كان الجسد الانثوي المتفتح بطقوسه يمنحنا شهقة الحياة الحرة، فان عادل كامل يذكرنا بازمة هذه الحياة وهي تشرذم طقوسها وتكسرها وتعزلها عن بعضها البعض. ان الحياة على القماشة لا يمكن ان تكتمل فصولها ما لم تكن منفتحة على الفضاء. هذا الفضاء الذي يمنح الجسد او الكيان الذي تضعه الفرشاة على القماشة فرصة للتنفس وللمتلقي افق التامل ان عادل كامل يروي لنا من خلال الجسد على قماشته، قصة الحياة في واقعنا، ربما، او دواخلنا. قصة الكبت والعزل والتشظي، ان متابع اجساد عادل كامل يئن مع اجساده وهي تعيش مبتورة عن فضائها وافقها. فما كان لعادل كامل ان اختار لاجساده نهاية تجريدية لم تبق لهذه الكيانات سوى همس مكبوت. 

جاسم عاصي 


مسيرة التأمل لدى عادل كامل - من الإبداع إلى الرؤى الصوفـية 

اشتباك الرؤى 

مسيرة الفنان ( عادل كامل ) طويلة ، ليس في حقل الإبداع الأدبي والفني فحسب ، ولكن في مسار ومخاض الحياة العامة . إذ يصح قول ( إرنست همنغواي ) على تجربته بشكلها العام ( الحقيقي مصنوع من التجربة والمعرفة ) فحياته منغمسة في التجريب في اشد حالاته الحرجة والاستثنائية ، بما صاغ من سيرة قلميه عبر مسيرة تجوّل من خلالها في رحاب وأروقة الأدب والفن والفلسفة . وبما أتاحت له فرصة النجاة من هذه الممارسات الإبداعية والتوجه نحو غيرها هي أكثرها استثناءاً . وفي غالب الأحيان نجده يخوض وسطها جميعا ً بسباحة متوازنة. وتلك سمة أراها تعمّق التجربة ، وتؤصل المعاني والاجتراحات المراد منها التأصيل والاستنبات وتحقيق الهوية الذاتية . ولا أجد في ذلك غرابة ، وأقصد بها الشمولية الثقافية والمعرفية التي أدت إلى التطبيقات المثيرة . فمن كتابة القصة القصيرة ، وتجربة كتابة الرواية ، ومن ثم النقد التشكيلي . فهي لم تُبعده عن جذوره الأولى في كونه فنانا ً تشكيليا ً ذا حراك متنامي ومتجدد على صعيد البني الفكرية والجمالية . وكل هذا لم يحرفه أيضا ًعن صيرورة مهمة في نتاجه الإبداعي المتنوع ، ألا وهي الهم الفلسفي ، الذي كما أرى ترّحل إليه جينيا ً بتأثير الثقافة والمعرفة المكثفة . فـ (كامل ) صيغ من طين سومر ، واستلهم الحكمة من أفواه الجدّات والشيوخ ذوي البلاغة الفطرية ، وله في الحكيم السومري ( إحيقار ) مثالا ً شخصيا ً . وفي الحكمة السومرية التي صاغت الفلسفة والكتابة مثالا ً جمعيا ً . لذا نجده في تنوعه يعتمد رؤى متشابكة ، وشخصيته في الحياة ذات اشتباك فلسفي ، وإن لم يُظهره للعيان عبر اللسان . لكنه وعبر اهتماماته نجده مولع بالفلسفة ، ونقصد بها فلسفة الوجود ، والمتركزة في قول ( هاملت ) أكون أو لا أكون .. وهذه الحكمة هي التي دفعت الفنان إلى أن يحلَّ بقوة في كل مجالات الإبداع محققا ً وجودا ً ترك أثره على وجوده المادي ـ الجسدي ـ . ولأن هذه الشمولية الإنتاجية غطت على فنه التشكيلي افتراضا ً، إلا أنها اتضحت ـ وكما أرى ـ انعكست وتبلورت في تأملات كتاب(الأوثـــان) وذلك بتجميع كل رؤاه في الحقول كافة في مركز واحد هو التأمل الصوفي في الوجود والخلق . وهو لم يكن بعيدا ًعنه في نتاجاته السابقة ، بل ظهر فيه أكثر تبلورا ً وتركيزاً لأسباب كثيرة لسنا في مجال الخوض بها . لكننا نؤكد على أن بلوغ سن الحكمة ، وتبلور الرؤى الصوفية الخالصة مرهونة بتجربة المبدع العامّة ومدعومة بالعمر وما تسبب للجسد من أنهاك وانتهاك باعتباره جزءا ً من الوجود البشري الذي تعرّض لمثل هذا عبر تاريخنا المرير . 

إن تأمل تجربته في كتابة القصة مثلا ً منذ مجموعته (صوت الغابة) نجده مهموما ً بالطرح الفلسفي ، الذي يعمل على صياغته بأسلوب لا يعلى على مسار النص وبنيته وتشكّله الفني والموضوعي . لكن من الممكن الوقوف عند ذلك ضمن العلاقات التي تتحكّم في منظومات النماذج الفكرية. فقد عالج من خلال نصوصه تلك العلاقات التي تهم المثقف ، والمبدع بشكل خاص . أولئك الذين لهم حراك مع واقعهم . أو المنغمسين في الوجود ، وليس الهامشيين فيه . لذا تحمّل جرّاء ممارسته هذه الكثير من التعب النفسي من أجل بلورة رؤى على كل الأصعدة . ويمكن الإدراك مبكرا ً إن على هذه النصوص سمة التوغل في الأسس النفسية التي يتداول بها المبدع وهو يعالج رؤاه في الحياة ، لاسيّما ما يخص النماذج المنتجة للوحة التشكيلية . فقصصه تلك هي إرهاصات المبدعين ، وقل ممن لهم هما ً واضحا ً في الوجود . كما نلاحظ على نماذجه البسيطة ، بأنها من عامة الناس ، كونها تطرح ثيمات كبيرة دالّة على معاني كبيرة . وهنا يكمن ما نقصده بفطرية الحكمة والفلسفة . و(عادل كامل) بالتأكيد يعرف بالعيان والسماع والمطالعة طبيعة تلك النماذج في الحياة والتاريخ البعيد والقريب في كيفية ما تطرحه من رؤى عميقة تترشح منها الحكمة والرؤى الفلسفية ، معتمدة على حكمة اجتماعية شعبية تقول :( المجالس مدارس) معتمدة على قول :( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وتعني به الأب كما نقرأ ، وهي الحياة والمعترك الاجتماعي الشعبي الخالص . وتلت ذلك رواياته التي ابتدأها في ( رغبات قيد الاستيقاظ ) وهي واحدة من الروايات العراقية التي لم تأخذ نصيبها في النقد العراقي . وأجيز لنفسي القول إنها تقترب في محاورها الفكرية والجمالية من رواية (جبرا إبراهيم جبرا) الموسومة بـ (السفينة) فـ (عادل كامل) أراد لشخوصه المجتمعة يوميا ً في أحد البيوت ، والآتين من مشارب معرفية واختصاصات مختلفة من أجل تداول الحوار الذي يتشعب إلى كل ما يمت بصلة لحراك الوجود ونشأته وفلسفته وما طُرح من نظريات بالفكر والجمال . ولنا في (ثرثرة فوق النيل) اللاحقة مثالا ً للرؤية التي تقترب من (رغبات) وبخصوصية مجتمعية . في حقل النقد التشكيلي ، لا يختلف في ذلك أحد ، في كونه الناقد الأكثر غزارة وشمولية . فلم يبتعد في نقده وملاحقاته عن جيل دون آخر . فهو راصد جيد لجيل الرواد ، ومنغمس كثيرا ً في تجربة الفنان ( جواد سليم ) والفنان ( محمد غني حكمت ) ذلك لأنه تعمّق في منحوتاتهم وجهدهم المنصّب على جوّانية أعمالهم ، باعتبارها سيّر فلسفية . فمن نصب الحرية يستلهم المُشاهد فلسفة الوجود بشكلها العام ، من خلال العلاقة الجدلية بين الرموز والنماذج ، وجدلية علاقتها بالتاريخ ، والتاريخ الأكثر عمقا ً وهو التاريخ الأسطوري وحصرا ً تاريخ حضارة وادي الرافدين الأكثر بلاغة ودلالة . نحو منحوتات ( حكمت ) وأصالتها المنبثقة من سر علاقتها بالتاريخ العربي الإسلامي . وقد صرّح يوماً الفنان في كونه قد لفتت نظره مبكرا ً تحدب القبور في مقبرة السلام في النجف ، وأشكالها وتقوسات نهاياتها العليا بل في كل ما توحي به . و(عادل ) تابع ذلك ، مثلما تابع تجربة ( شاكر حسن آل سعيد ) الرؤيوية التي تتطلب كماً معرفيا ً متخصصا ً بالفلسفة والفلسفة الإسلامية والصوفية تحديدا ً. ,أفترض أن الناقد استغرقته هذه العوالم كثيرا ًوأكلت من جروفه وصادرت من زمنه الذي أشرنا إليه ونقصد به الإنتاج الفني التشكيلي . ولا ندري كيف كان الفنان يعالج اختصاصه داخل ورشته في الخفاء العميق . ولم يغفل أو يبتعد عن تجارب الفنانين ، عراقيين وعرب وعالميين ، فقد رصد تجاربهم وفق منهج يراعي فيه ـ وجود الجيل ـ الذي ينتمي إليه الفنان . بمعنى لا يأخذ الجزء ـ الفنان ـ بمنأى عن الكل ـ الجيل ـ مؤمنا ً بأن انبثاق وجود هذا تتطلبه وتحكمه عوامل كثيرة عامة . لذا فقد درس الخصائص العامة لكل فنان ، ولم يغفل خصوصيته الذاتية . وفي هذا يمكننا القول أن الناقد قد أجهد نفسه في تأمل الحراك الفني عبر التاريخ القديم والمعاصر ، بما وفّر له من علاقة جدلية في ظهور الحركات الفنية المتبلورة في المدارس الفنية والتجمعات ، سواء كانت هذه عالمية أو عربية أو عراقية . فما حصل ويحصل هو نوع من تبادل التجارب ، محكومة بالأثر والتأثير وليس التقليد . وحساب هذا متأتي من توفر الخصوصيات الذاتية لفنون هذه الشعوب والبلدان . 

العبور إلى التأمل الفلسفي 

لا أجد التركيز على البنية الفلسفية وبالتحديد الصوفية سوى في كتابه (الأوثان) الشعري الخالص . والوثن هنا يبدو استخداما ً مجازيا ً لتأكيد بنية الأفكار والشواهد ذات الفيض الفكري . فهو لم يكن ضمن سياق الفصول الحاوية على التأملات الذاتية جامدا ً ، بقدر ما هو حاو لبنية تحرّك . بمعنى ؛ الوثن هنا هو اشتقاق من طبيعة المدوّنة الأولى التي اتخذت من الطين والماء تشكيلاتها الأولى . ولما كان هذا التشكيل مرافق وموافق لنظريات التشكيل في الحراك المثيولوجي بصورة عامة ، وبالأسطورة بشكل خاص ، نرى أن تأثير نظرية الخلق البابلي ( أنوماليش) أكثر تأثيرا ً في ذلك . فالصياغة أتت على النتائج من إتحاد الآبسو وتيمات لتشكيل وحدة خلق ، وما رافقها من تشكيلات أخرى شكّلت صيرورة الوجود . لذا أرى أن الوثن هنا اشتقاق طيني مائي مطلق ، يرتبط بكل حيوات الفكر ولا يختصر على نمط دون آخر . ومن هذا أيضا ً أجد إن الرؤى الصوفية لـ ( عادل كامل ) هنا متأتية من طبيعة هذا التشكّل الذي يراه على أوسع الرؤى كما ذكر ( النفّري) لذا انبسطت العبارة بانثيالاتها كما لو أنها نهر كانت مياهه محتبسة لزمن طويل . فلا النهر و تجميعه لكتل المياه ، ولا عادل توقف عن تجميع ما باستطاعته التجميع وهو بصدد ممارسة الإنتاج في حقول الإبداع الكثيرة ، بل هي الحقيقة الصوفية المطلقة. 
من هذا أرى أن ( أوثانه ) مجسّات لخلق العبارة التي تمتلك فيوضاً خالقة للمعاني العرفانية . فهو بذلك يتوسط المحراب في نقطة مركزية ، هي حصيلة لتجربة طويلة وكبيرة . ولأنه عرف الطريق فسلكه ، فمن حقه كما يرى أن يكون داعية لحقيقة ما رأى واكتشف عبر رؤاه . بمعنى حقق عبارة ( النفّري ) معكوسة فقال : ( أنا أم الوثن أنار للآخر مسالك هذا الابتداء ؟ ) ولعله بهذه لعبارة قد مزج بين مستويين من قوة الرؤى وتأثيرها . فسؤاله ـ أنا أم الوثن ـ دال على الامتزاج ، أي لا انفصال بين الاثنين فهو الأنا وهو الوثن . ولا فرق هنا في هذا الفيض أن يكون من أي طرف يصدر. المهم أن الذات متعلقة بالقوة المعنوية الصوفية ، والمهم أكثر الفيض من النور لا المسبب . وهذا هو المتحقق الصوفي . وهو القريب من قول ( أبا منصور الحلاج ) في ( إني أرى الله ، أو الله في جبتي ) وهو قصد لم يدركه ذوي السلطة ، بل ذهب أدراج الرياح كما اعتقدوا غافلين عن صفاء الرؤى والرؤيا التي بقت محلّقة في طيات التاريخ ، سواء كانت هذه الرؤى صوفية أو مادية وضعية . فالهدف العام هو ما يُحدد شرعيتها في الوجود . 

التركيز على ثيمة الوجود 

نجده يؤكد أيضا ً بعبارة أكثر تركيزا ً على مثل هذه الرؤى ، لكنها توضح الطبيعة أو الكينونة بقوله : (فوق الموجة الأسماء تتلاشى .. أحيانا ً .. تتكون ) ولنتأمل في هذه العبارة القصيرة والمركّزة في آن واحد . فتلاشي الأسماء تعني نكران الذات ، وهي صفة الصوفي الذي يُمحي الذات ويُبقي الأثر للآخرين ، فتتلاشى تعني تختفي أو تضمر ، ولكن ليس على حساب المعنى . للمعنى البقاء وللإنسان الفناء . وتلك سيرة وسر الوجود . أما ـ أحيانا ً تتكوّن ـ ففيها الجدلية متمكنة من قدرتها وتواليها في تأكيد الحقيقة . فالفناء الذي أشرنا إليه لا يعني فناء الكل ، فهو باق ، إذ يتجدد في هذا الجزء أو ذاك ، فالوجود لم يتوقف في فناء ( الحلاج ) بل واصل حراكه وتناميه في وجود غيره ممن لهم رؤى متجددة . وأرى أن في هذا أيضا ً تأكيد من ( عادل ) على مواصلة العطاء في الوجود . لقد انفتحت المجالات كثيراً في تداعيات المتأمِل ( عادل كامل ) في سعة الوجود . لكنه وضمن وجوده المقتصر يُدرك إن لا اتساع في الرؤى بدون العمل على تركيز التأمل والزيادة فيه . بمعنى لابد من امتلاك الزمن في عزلة الكرستال التي تفتح الأبواب ولعل عبارة : ( يأتون من البعيد .. يا للكهف .. ثم باستدراك الهواء يرجعون : يا من لم تولد .. إن عويل قبرك أقل فرحا ً من رحيلي ) ولعل هذا ينطوي على مساءلة واسعة ومكينة في مجال الصيرورة التي لا تتوقف في ـ يأتون ـ ومن البعيد أي من التاريخ وـ يا للكهف ـ أراها مرتبطة بالواقع ، أي بالمُحدد والمحدود لأنها أساسا ً تنفتح باستكمال العبارة في ـ يرجعون ـ والدليل الآخر ما تنطوي عليه بقية العبارة من جدلية الفناء والانبعاث في ـ عويل قبرك ـ وـ فرحا ً ـ و ـ رحيلي ـ . 


هذه المفردات المركّزة هي ما أشار إليها ( النفّري ) والمراوحة بين سعة الرؤيا والعبارة . و( عادل ) يحاول اتخاذ ناصية الرؤى الصوفية ليحدد كيف تتسع العبارة ، وكيف تتركز في آن واحد . لأنه أساسا معنيّ بالحكمة من كل هذا الحراك الذهني التأملي ، لاسيّما في عبارته اللاحقة ( ليس للحكمة باب . يا أيتها النفس اخرجي ، فالمدينة خالية من حرس الليل . لا ملائكة ، لا ياقوت في المدى . جبل يلملم لصوص القلب . فالعاشق استوي على عرش حصاة ، وأنا عند السماء . كفت روحي الشكوى ، يا أيتها النفس اخرجي فالآتون ظرفاء ، لا أمير خير من أمير ، فالظلام حشرنا / جميعا ً / فرّقنا في حبة رمل ) . 

رؤى الشعر 

إن الفنان المسكون برؤى الشعر يُحيلنا إلى اتجاهات متعددة من خلال تأملاته غير المستقرة على حال ثابت . وهذه الصيرورة إنما تؤكد قوله أن الحكمة بلا باب . فهي تنفتح فجأة إذا توفرت لها مفاتيح المعالجة . وتلك المفاتيح كامنة في صيرورة الحراك التأملي . وهكذا فعل المتأمِل ( عادل ) حين تدرج في البحث عن حكمته إلتي لا ينتهي البحث عنها ، بسبب جدلية وأزلية الوجود . فهو يتواصل في الدخول إلى المغلق افتراضا ً والمنفتح بلا مفتاح افتراضا ً أيضا ً . لأنه إنما يترك النتائج رهينة تلك الحالة من الاتحاد مع الوجود . فسؤاله ( روحي ورقة ونفسي صدى صوت أم صوت صدى؟ ) ينمّ عن إدراك ما لا يُدرك . وهو إشارة إلى الموجود في الوجود . لأنه يتواصل مع صور فيها الكثير من متحقق الوجود . وهي أسئلة مشروعة ، بسبب ارتباطها بالكينونة :( الميت يرحل ليولد؟ كلمات القلب تكتب الكتاب.. والعاشق يتبعثر. يا للمثقل بالهواء آن لك تدبر الإقامة: طرز لا مبالاتك بالغياب، أعلن ميلادك: ليس بالدهور تعمر المؤانسات. أفق: يا أيها العاشق مستودعك التراب. خذ حفنة من الأرض وامح بها آثار خطاك: القلب جمّع قلائده للمنفى هدايا غانيات. آيا أيتها العاصفة أما آن لك الرحيل ؟ هذا حبيبي أراه كلما ابتعد .. هذا حبيبي لا يراني كلما اقتربت. يا لصوت الجذر وهو يتوزع: الريح تدفع بالسفينة، والغرقى فوق الغرقى يعلنون الاحتفالات. هذه عروسي لا اعرف أسبقتني إلى المنفى أم تعثرت خطاي .. هذه عروسي تقيم لي ولائمها: رملة فوق رملة أناشيد وداع ) . إن عباراته تلك تضمر نوع الأسى الكامن في الذات جرّاء ما تكبده المخلوق في وجوده . وهي ليس مكمنا ً للجزع فحسب ، وإنما مكمن للوجع الذي يفتح مداخل العبارة الصوفية ، التي هي الأصل في تأملات الصوفيين واجتراحاتهم في الوجود . فالتأمل فعل مركون ، لكنه يحمل حراكه في النمط الداخلي للعبارة التي ينتجها العقل بعيدا ً عن الفذلكة والتنميق ، فهي لا تفتح بابها سوى بعبارات مكثفة . وحسبي عالج المُتأمِل ذلك بعبارة لاحقة ( من ذا صاغ كتاب الكلام ومد الكف ومن ذا للدهر قال يا ليتني كنت نفياً منفياً ؟ ) وما يؤكد ذلك عباراته اللاحقة : (اليد فوق اليد كتاب نياشين.. هو ذا الفجر يبزغ يطلع أمام الليل. هكذا الجدران تمايلت/ انشقت/ تهاوت فيما القلب كبذرة أعاد صياغة العرش.اليد فوق اليد نياشين كتاب .. أيها الاسم الممحو أتبحث عن آخر أكثر محواً. تباً للكاتب ولعنة للكتاب، فالممحو ما زال يحمل عرشه: كواكب انطفأت/ تلاشت، إنما ظلالها فوق القلب يد تكتب آخر الكلام ) . ويحاول أن يستجمع رؤاه لتكون بمثابة المؤشر على استقرار العبارة . أي إدراك خطوات المعنى للصيرورة الذاتية إذ يقول : ( قطرة ماء أعادت لي التماثل: هو ذا صوت قبلات، موتى بلون النوارس، قارّات تتبادل المواقع .. أيها الشعر اعرف انك آخر النبض .. أيها الشعر انك أوله ) . في مثل هذه الرؤى التي تتكشف من خلال الشعر التأملي ، تذهب في المتأمل مذهبا ً بعيدا ً في صياغة ما يراه ، والذي لم يره غيره . وهذه سمة قلَّ نظيرها . لأنها رؤى صافية تتجلى من خلالها العلاقة الوجدانية غير المشوشة للوجود في كل تشكيلاته الروحية . وهي رؤى تجلّت للكثيرين ممن كان الاتحاد مع الذات العليا سبيلا ً لاصطفاء الموقف وتجليه . ولعل (عادل كامل ) يقدم بهذه الرؤى تجلياته من بعد ما كانت معرفته لرؤى الآخر مرآة عرف من خلالها ذاته . فما يتقاسمه مع تجليات المرآة وصفائها نوع من اختزال التجربة بأقصر العبارات وأكثرها عكسا ً للكم من التجارب الروحية وهو يشد الرحال لنمط من الكتابة المختزِلة ، الدالة والموحية . كاشفا ً ما يتضح إليه من صورة الوجود ، وما يتأكد من كونها رؤاه ممتزجة مع رؤى من سبقه ، مبقيا ً السؤال الذي تصوغه الذات المولعة في البحث . ولعله يستدرج إدراكه بما رأى وما تكشف له ، منطلقا ً من تجربته الرؤيوية ، متحاشيا ً أن يكون ظِلا ً بل أصلا ً في السؤال والشك ومن ثم اليقين في ما يرى ويدرك : (ذرة ذرة اجمّع العمر: كواكب فوق الماء.. مدن تغازل مدن . يا لقلبي كم علمك صوت اللامبالاة التقدم إنما ما جدوى الصوت. عند الجذور ، ذرات هواء ، ووثن يغازل ظلاله .. ليس هو بالرماد . يا لقلبي كم صبرت: شموعي مضاءة .. والغابة تأتي بالقلائد: أوسمة للهواء، أوسمة للحشائش، فانا أغادر .. مملكة بلا أعذار .. إلى هناك .. إلى هناك .. بلا اسم بين الأسماء، وأنت كل الأسماء بين الممحوين. ) ، وهذا المقطع من تهدجاته الصوفية حاملة للتركيز ، تاركا ً العبارة تختزل مشهدها عبر المفردة التي تُشكّل بوجودها العبارة ، لما لها من فيض روحي من مثل ( ذرات ، كواكب ، مضاءة ، جذور ، هواء ) وآخرها يترك العبارة تقفل مسارها في ( وأنت كل الأسماء بين الممحوين ) فالمحو هنا دال على فعالية الآخر ، ممن يصادر مكوّنات وجود الأنا الفاعلة . فمحو الجسد ومن ثم الاسم من التاريخ ، لم يذهب بالحلاج عن ذاكرة بغداد ، ولا عن ذاكرة التاريخ بشكله العام . كذلك غيره ، فقد حفظ التاريخ لكل من أشار بيده للطريق موضعا ً مناسبا ً تفخر به الذات الجامعة ، أو ما نصطلح عليه العقل الجمعي . وهو أيضا ً ما يحفظ لـ ( لعادل وقرائنه ) مثل هذا السجّل الصافي كالماء . لذا فهو مطمئن على صورة مصيره تماما ً ، لأن كل كشوفاته تدله على موئل كهذا : (بلور مدفني .. [ باب الأبواب بابي ] ادخل ليس للداخل أعذار، ليس للخارج مفاتيح : مدفني صغيروجسدي غائب. ادخل .. باب الأبواب بابي .. ومدفني [ هناك ] ) . ولعله بهذا يغدو داعية لمن يحاول ولوج ما ولجه المتأمل من مكان ، يُخلّد وجوده المعنوي ، عبر عطاء خاص لهذا الوجود غير الممحو بالمطلق . وهذه الدعوة لم تكن سوى اصطفاء الأمثال من النوع البشري ، من الذين توحدوا مع الحقيقة المطلقة في الوجود ، والذين خاضوا التجربة من أضيّق فضائها فاستحقوا دعوة المكوث في هذا الملكوت وافر الضوء والسطوع : ( بكتمان نبض : تعال إلىّ اطرق هو ذا الباب .. هو ذا القفل عندي لك صخرة وكتاب ولك عندي: قلائد ومزارات لمن هذا التاج .. يا ماء غادر أجئت ؟ ) وحسبي أن عبارة ( لمن هذا التاج .. يا ماء غادر .. أجئت ) أكثر دلالة على اتحاد الذوات في ذات واحدة ، تستشرف الاستقرار بعد طول مسير . المسير الذي لا يكّل المُتأمِل البحث عنه ، وإن أدركه . فليس ثم فناء للسالك مثل هذا الطريق والباحث عن العبور بمراتب هي نوع من التطهير لا من الذنوب ، بقدر ما تكون من الشوائب اللاحقة من هنا أو هناك . لذلك فالبحث عن مفتاح الدخول مستمر ، بدلالة نمط رؤيا ورؤى ( الإسراء والمعراج ) الصوفية . ولكل باب مفتاح يمنح الداخل جواز المرور والسؤال . وهذا ما يضع رؤى المُتأمِل ضمن هذه الدائرة الصوفية ، التي لا تُلغي تعدد المفاتيح ، لأنها السبيل للكشف المتواصل ، فالحقيقة لا ضفاف لها ، بل هي منتشرة كالهواء وكسطوع الشمس :(اففتح الوثن: هذه صخرتي. الباب لا يدور والقفل باليد. اليد سماء، والقلب سكين. الروح عند العتبة، والباب لا يدور فيها القفل، عندي الباب وعندي الصخرة، إنما أسئلتي ، ما أدراك ما سر الغيمة، أسئلتي، مثلي ؛ النوارس عند الضفاف .. والنسوة يصطحبن الظلال، وأنا الميت أخطو: أهذا ما سعيت .. فافتح باب الأوثان، أعلن أعيادي، وأغادر ) . 

تواصل الرؤى وتماسكها 

إن التواصل ، يعمد عليه المُتأمِل، معتبرا ً إياه نهاية النهايات وليس انتهائها ، لأنه موصول بالاستمرار الدائم في البحث عن (إلى أين ؟ ) وليس من جواب : إلى هنا أو هناك . بل إلى المطلق الكامل في الوجود . فالباحث لا استقرار له على شيء ، لأنه لا يريد التوقف عند ناصية معينة ، ولا عند مثابة راكزة في موضع معرفي ما ، بل هو باحث متواصل ، يكتشف ويندفع إلى ما تؤول إليه صيرورة البحث المولدة للأسئلة غير المحددة بأجوبة محددة ، بل يحدّها المطلق كما ذكرنا : (.. هو ذا الذي قبل أن أبصره غادرني خاتمه أحيى اليباب.هو الذي ظله أعاد المسرات .. هو الذي أودع الفصول الرغبات. أيا نور لا مطرزاته تكلمت: الغيوم توحدت،القلوب انثنت . من سيذكر من الحجارة أم الشجرة فيما أنا ارقد في قاع النسيان ) . هذا النسيان لا يعني الإهمال ، وإنما تفرضه طبيعة التأمل والمُتأمِل ، لأنه السبيل للمتصوف في طرق أبواب المعرفة الكاشفة للملكوت الذي يُنير الطريق . ولعل ما عناه بالوثن وكما قرأنا ، ليس الراكد الجامد الذي لا حس فيه ، بل المتحرك النابض ، الذي هو علامة للمُتأمِل في وجوده . يسلكه ويبحث عن غيره . إذا ً هو الضوء الذي سيولّد ضوءا ً آخر ثم آخر . وتتواصل المتوالية هكذا ضوء يقود إلى ضوء ، وبهجة روحية تقود إلى مثيلاتها : (هذا الوثن وردة فوق بحر: اسمي عندك وأنا مسافة: تعال لا تغادر لي - مثلك - ارتعاشات غادر - لا تأت - أنا مثلك - صوت. يا لهذا الامتداد. كلمة فوق كلمة يتكون الصمت يتلاشى البرق) . إذ نلاحظ ثمة نوع من الاتحاد بين الذات والدال في ( اسمي عدنك ) ثم بأكثر وضوحا ً واتحادا ً في ( أنا مثلك ) الاعتراضية ، مؤكدا ً علّة الكلمة التي هي الابتداء ولا انتهاء لها ، لأنها باتحادها مع مثيلاتها يتشكّل الصمت ، لكنه في مرأى المُتأمِل لا تعني الصمت المطبق أو تلاشي الكلام ، بل أنه الكشف الجديد وإن تلاشى البرق ، فالضوء مستمر في الذات . ولعله يُعيد صياغة الكلام بأسئلة جديدة ، لكنها تتوحد مع أسئلته الأزلية في الوجود . بمعنى تكون أسئلة مشروعة ، لأنها من جدليات المتصوف في عزلته : ( من سيذكر من: أتصالحت أضدادي من سيذكر من: الملك يتنزه مطرزاته تكلمت: الغيوم توحدت ، القلوب انثنت من سيذكر من الحجارة أم الشجرة فيما أنا ارقد في قاع النسيان ) . ولعل النسيان هنا أيضا ً من صياغات الرؤى ، وليس نتاج لفعل الآخر ، لأنه يوصل الذات ولا يمحو أثرها كما يعتقد البعض . فالخطوة تنسحب إلى غيرها . وهذا ما يؤكده المقطع التالي ، الذي يسحب من خلاله ما قد يتخلّق من شك أو تشويش لمرأى المُتأمِل . فهو يستدرك خطواته ، لا ليصححها ، وإنما ليفتح بابها المغلق : (باسم الهواء أعيد صياغة الكلام: يقولون عادل تناثر، أيها المبارك أمواجي تمتد جفافاً نحو البحر، وساريتي تجرجر مداها، أيها المبارك باركني إني عندك ضيف ) . وهذا الرجاء في ( أيها المبارك باركني ) مسبوق في ( أمواجي تمتد جفافا ً نحو البحر، وساريتي تجرجر مداها ) وفي أضعف وجود للمتصوف ، هو التلاشي مع الذات العليا . وقد عبّر عنها المُتأمِل بـ ( باركني إني عندك ضيف ) . إن الشاعر ( عادل كامل ) ما لجأ إلى لغته المرهفة هذه ، إلا لأنه راء مرهف وهو يخوض في تجارب الآخرين ، مكتشفا ً اللآليء ، مبحرا ً في الملكوت ، سائلا ً لا ينضب لديه السؤال في منحاه ، ولا تكّل رؤاه عن التجدد . لا يفتح لأسئلته سوى مجاز العبور إلى الضفاف التي لا تنضب عنده الرؤى ، خالقا ً صيرورة قلَّ مثيلها في دقة العبارة وانسجامها مع المعنى المتواري بين ثنايا الكلام : (من القادم إلىّ وأنا بلا أبواب: يا لذكريات الاستثناء. أزمنة ما تتلهى وأخرى تتعثر. الأتون يلونون الأفق بالأصوات.. فيما نسوة الليل يتبادلن الطرائف .. أهو آتٍ إلينا هذا أيضا. يا حبيبي جسدي أنحلْ من خيط ضوء ، وأفراحي تحت التراب ترتل سلواها .. لا اعرف من يعرفني .. ولا الذي يعرفني اعرفه .. ضاع الذي رأيته .. فاتركني لكف أضعها فوق الظِل .. انثر وردة فوق المدى، وأتجمع في حبة رمل ) . في كتاب الأوثان الشعري ؛ تتوحد الرؤى وتصطفي . وفيه تتجمع الانثيالات في بؤر سرعان ما تتوحد . فخالق النص ، متبّع تبئيرات نصه الطويل في مدى تتواصل فيه المحطات التي يستدرك فيها القائل شعرا ً صوفيا ً خالصا ً مبلغ ما وصل إليه . فلا يؤثر فيه سوى صياغة ذاته وبلورتها عبر مسير طويل من التأمل من أجل صفاء الذات . فما يأتي عليه سوى الصفاء بعينه ، والمدرك بحقيقته النسبية ، والوجد بقوامه الهيولي ، والمدى باتساعه أمام الذات العاشقة . عندها تصح المخاطبات سواء إلى الذات أو للذات العليا : ( بأي رمال يضاء القلب : تعلمني السر وتكتم عليّ الفضاء . الباب الموصد أعلن كلامه .. والميت قام .. يا أخشاب الإشارات أفصحي عني : لا أنا بالقديم ، لا أنا بالمبتكر : أنا غابة أنوار وحفنة خطايا : أنا المجرد ، وأنا الليل في وردة . تعالي خذي هذا الراغب بالإقامة .. عنده أحزان/ وعنده سلوى: حلمت باتساع الومضة. أيتها المرأة أما من شكوى تعيد المسارات: الحجارة اصطخبت، والأعشاب أعلنت أعيادها . أيتها الشكوى أنا اجلس في العيد: معبدي كلمة وأعراسي رماد) . (أين اعثر على من فيّ ؟ بلاغة ظلام ! والنفس جمعت أسئلتها .. الرمل فوق الكف: الياقوت الخاتم العقد .. والملكة احتفلت فاهدت وهبت وبالنذور لها الزنابق غنت . أتشتكي لتكف الشكوى عنك ؟ غريقان يتوحدان في غريق، وبالماء تجرح الوردة: الروح أينعت، والأرض جرح: يا أيتها المرأة/ الملكة /الشجرة/ البرية/ النار/ الغيمة/ البحر/ جمعي الحروف في حرف .. وبالمفتاح اقفلي الكتاب .. وبالمفتاح افتتحي الخاتمة، فانا أمير الأوثان ) . 

إشارة: كانت القراءة لل(الوثن الأول ) من بين عشرة أوثان ضمهاالكتاب . 

د. شوقي الموسوي 


حوار في بغداد مع عادل كامل 

عادل كامل فنان وناقد تشكيلي عراقي ، مارس فنون الرسم و الحفر (الكرافيك) و السيراميك والنحت ، له العديد من المعارض القطرية والدولية آخرها تجربة (أختام سومرية2012) في بغداد ، والعديد من المؤلفات النقدية اهمها : على هامش الحركة التشكيلية في العراق(1979) ، الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد (1980) ،علامات الكتابة (2001) ، التشكيل العراقي ـ التأسيس والتنوع (2000)..فضلاً عن انه قاص صدرت له مجاميع قصصية عديدة اهمها : صوت الغابة (1979) ، الضفاف البعيدة (1982) ،الضياء الآخر (1983) ذاكرة البحر ، اضافة الى كتاب الاوثان (2012) ... أكمل دراسته الفنية في معهد الفنون الجميلة ببغداد 1966 ، وفيما بعد في كلية الفنون الجميلة ببغداد 1977 . إنه مبدع وفنان ينتمي إلى سومر والى المعبد أو كما قال عنه الناقد د. زهير صاحب " ان المعبد استولى عليه ! " ، كما له تراكم معرفي وجمالي يسحبنا بقوة الى ذاكرة الكهف لكي نستنشق الثقافة عبر العصور .. التقيناه في بغداد وكان لنا معه هذا الحوار: 
* ما مدى تقييمك للمشهد التشكيلي والنقدي المعاصر في العراق الآن وهو يستنشق صراعات الآخر؟ وهل من الممكن أن يؤطره الإبداع ؟ 
ـ " في ذات مرة سالت الفنان جميل حمودي: كان لديك الكثير الذي تدوّنه حول تجارب جيلك، بصفتك أول من اصدر مجلة حملت عنوان "الفكر الحديث" فلماذا لم تفعل..؟ فقال بمرارة لاذعة: وما شأني بالأمر! وأنا لا أريد تكرار الإجابة ذاتها، عندما أصبح المشهد الفني أو الثقافي قد ارتد إلى ما قبل عصر جميل حمودي، وعندما لم يعد الفن حتى سلعة للتداول، فهل يحق لأي مشتغل في الفن أو في الكتابة الإدلاء برأيه، وكأنه العارف أو الخبير، مادامت العشوائية وحدها قد فرضت أنساقها بخلق (أوهام) واتجاهات تتوفر فيها أشياء كثيرة عدا الفن. وأنا ـ صراحة ـ لا أريد ان أكون صوتا ً مكملا ً فيها، ثم مع من ـ وعن ـ ماذا تتكلم، وهل ثمة جدوى لها نزاهة الصمت، أو الاعتزال، حتى لو أعلنت ان لهما ـ بعد عقد من الزمن ـ جدوى ما توازي إعادة القراءة، والتحليل، والاستنتاج، والتدشين..؟ فالمشهد يتدحرج نحو المصير ذاته للإنسان، وهو يستجدي الهواء، بعد ان فشل حتى في صناعة ضروريات الحياة اليومية. فالإنسان الذي راح يستورد مقومات الحياة لا يمتلك حتى ان يحلم أحلاما ً ذات مغزى. إنها حقبة تدهور، وارتداد، خاصة انك محاصر بصانعي الموت، وبصانعي فتن عفى عليها الزمن. مع ان هناك تجارب ربما تظهر عندما تختفي المفخخات، والعبوات، والأحزمة، والكاتم، الذي تراها تجر البلاد إلى المجهول. فأي فن بإمكاني ان أتحدث عنه، وأي فنان هذا الذي يستطيع ان يمتلك أدواته الموازية وهو يراقب شبح الموت طليقا ً، وهو الذي يتحكم بمصائرنا...؟ 
* وبوصفك ناقداً تشكيلياً عراقياً .. هل ثمة أسئلة نبيلة تزدهر في فنوننا المعاصرة ، تحتفل بالإنتاج على حساب الاستهلاك ؟ أم ان الحرب قد أبت ان تُظهر تلك الأسئلة ؟ 

ـ " الآن لا يمكن النظر إلى الفن العراقي بالحدود التي ولد فيها هذا الفن. فهناك المزيد من التجارب موزعة في قارات ومدن نائية، فضلا ً عن دول الجوار، وما تبقى، لا تكاد تعرف الكثير عنه، حتى لو كان أمامك! فالهوية لم تعد تنتمي الى مكوناتها، أو أهدافها، كي تبحث عن منجزات غير معدة للتداول ـ السوق. فالعالم بأسره تحكمه قوانين من الصعب التعامل معها وأنت تواجه، يوميا ً، الفوضى ذاتها التي لا تسمح لك بمعرفة ما الذي يحدث، فلا يكفي الحديث عن أفراد، كل منهم يعمل بمعزل عن الآخر، أو يوهم نفسه، بظهور تجارب لا تتوخى السوق. أما ما ينجز بعيدا ً عن الأضواء، والمكاسب الضيقة، فهو وحده سيدشن ما لا لم نتوقعه؛ من حذف وإضافات. فما فائدة إعادة نسج الاتجاهات ذاتها التي ظهرت في العقود الماضية، وهي، في اغلبها، محاكاة أدت دور الوسيط أو الجسور، للحداثات الأوربية، أما ما يخص ايكولوجيتها، على صعيد الهوية، فانه بانتظار القراءة، وتقديمه للمتلقي، كتجارب حملت ما تضمنته حقب ما قبل الفن، مثلما ظهرت عبر الحداثات. 
* تعددت حقولك المعرفية سواء أكانت في النقد التشكيلي أو القصة أو الرواية أو في الشعر.. هل أضافت لك هذه التعددية أم أزاحت بحدود منجزك التشكيلي (الرسم والنحت) ؟ وأيهما أكثر حضوراً لك في الساحة الفنية ؟ 
ـ " في التاريخ البشري، يمكنك ان تشخص مدى وضوح ـ وتداخل ـ الصراع بين العناصر المادية، القابلة للقياس، والمشاهدة، والإحصاء، والمقترنة بعوامل ظهورها، الى جانب ما هو مغاير لها، حد التناقض. فالمثنوية قديمة قدم العلامات الشبيهة بالفن ـ والشعر. فالإنسان لم يعش بالخبز حسب، على حد قول السيد المسيح، ولكن اية تصوّرات لا مادية ليس بإمكانها الظهور من غير مكان ـ وزمن. اعد قراءة تصوّرات الشعوب للحياة ما بعد الموت، لدى المصريين القدماء، او في حضارات وادي الرافدين، أو في الهند، أو في الصين، ومقارنتها بما سيحدث عبر العصور، وصولا ً إلى وجود مليار إنسان لا يمتلك وجهة نظر محددة، أي من غير: معتقد. لكن لو حذفنا توفر الشروط الإنسانية، والحقوق الأولية، بدءا بالعمل، وحرية التعبير، والتعددية، وعدم الإيذاء، ومسؤوليات الجميع عن المصير الكلي للنوع البشري ..الخ، فما جدوى ان يذهب نفر من الناس للاستمتاع بالأنهار، والنساء، والطعام، في العالم الآخر ..؟ حتى الفلسفة المصرية للفراعنة منحت الجسد ـ المادي ـ رمزيته بصفته ليس فائضا ً، لأن الروح، بعودتها، ستعيد للفرعون السلطة التي سلبت منه، بالموت. فالخلود، في هذا التصوّر، من صنع كيمياء الحياة الملغزة، ولا يمكن قراءتها كتمثلات قائمة في ذاتها، أو مستقلة، أو أحادية. وصراع البشر، منذ البدء، هو صراع: أدوات، أدوات صيد، والمنافسة، عامة، انحسرت بطلب الموارد: الغذاء، ووفرته، وديمومة الكائن ذاته بالإخصاب. فالشعوب التي تميزت بصناعة أدوات الإنتاج، لم تدع سواها إلا خاضعة لنفوذها. أما التصوّرات عن العالم الآخر، فلا يمكن عزلها عن هذه المنافسة: السلطة، لأن الأخيرة هي أقدم تراكم للجهد، وهو الملكية. وادم سميث ـ كما أتذكر ـ عرفها بصفتها: اغتصاب. صيد الحيوان، ونهب الطبيعة، أو الاعتداء عليها، وقتل الآخر. إذا ً ثمة تاريخ لإرادة لا تمتد أكثر من نصف إلى مليون سنة، شكلت تاريخ الصراع، وعلاماته. وسنجد ان كل مجموعة سكانية، لديها ما تدافع عنه، حد الموت، بما تراه صائبا ً، بل ومقدسا ً، في مواجهة الآخر. على ان الانتصارات، بحسب التاريخ، هي انتصار أدوات، وصولا ً إلى العقول الذكية ـ أو ذاتية التفكير. فإذا كانت الموجة الثالثة ـ بحسب توفلر ـ قد وجدت بالعولمة امتدادها وهيمنتها وفرض شروطها، فان نسبة كبيرة من البشر مازالت تعيش في عصر ما قبل الزراعة، وليس لديها إلا ان تناضل كي تبقى على قيد الحياة. لكنها، عمليا ً، تواجه انقراضها شبه الحتمي عبر ازدهار موجات العنف ـ وهو صناعة لا تخص المخيال بمعزل عن الأدوات، والتقنيات المتقدمة، بل صناعة تعيد جذور الاشتباك بقوانينه، واليات عمله. فالأكثر قدرة على تدمير الآخر، هو من يتحكم بالخطابات المعرفية ـ وتنوعها. هذه المقدمة توضح استحالة ان يمتلك (الفرد) إنتاج ذاته، بمعزل عن مجتمعات تحتضر. ولا أدل على هذا، عامة، انك ترى الملايين تمد يدها متضرعة للحصول على ركن أو زاوية صغيرة في العالم الآخر، ومن لا يؤمن بهذا الاختيار، فانه يكون قد عرض حياته للموت. فهذه المجتمعات التي لا تنتج خبزها، ولا أدواتها الأساسية، الضرورية، لا يحق لها ان تخدعنا بالحرية، أو بالعالم الآخر. ولكنك تدرك انك بلا آخر، عندما تنخفض نسبة القراءة لدى العربي إلى ست دقائق على مدار العام، فلا تجد حوارا ً حقيقيا ً أو موضوعيا ً كي نقلب أو ندحض أو نوقف المعادلة القائمة على: حرب الجميع ضد الجميع. وهنا يتشكل مبدأ الشك، الشك بكل ما رسخته عادات قرون من الرداءة ـ في الإنتاج، وفي احترام العقل، وفي حرية الابتكار ـ الدرس الأول، أي غيابه. فمن الصعب هدم أوهام تحولت إلى (ثوابت) والى (مقدسات) بعد خلط التراب بالنار، او خلط الأسفل بالأعلى، وخلط التاريخي بالأبدي. أي خلط ما يريده خالق هذا الكون بمعتقدات هؤلاء الذين فرضوا مواقفهم وسننهم بالاغتصاب، والاعتداء، والقوة، وليس بحتمية إننا جميعا ً من تراب. فغياب (الشك) سيدحض كل نزعة نقدية، وغياب (الحرية) ـ حرية الدحض/ حرية الشك ـ سيحول الناس إلى كائنات تكافح للبقاء حسب. تأمل القرن الأخير، في مجتمعنا العربي، يوضح مقدار الهدر الحاصل في: الأرواح، والممتلكات، وأخيرا ً: بالارتداد إلى دويلات المدن، والمحلات، والأزقة، والأقاليم، وبالحروب الطائفية، وبحملات منظمة لتهجير كل من يمتلك (هوية)، وتميزا ً معرفيا ً، ولا أدل على ذلك سوى أعداد الضحايا من العلماء، وأساتذة الجامعات، والأطباء، وكل من قاوم عصر التفكيك، وتقسيم المقسم، تارة بخلعهم من مجتمعاتهم، وتشتيتهم في المنافي، أو دفنهم وهم على قيد الحياة، فضلا ً موجات الاغتيال التي انتشرت في الوطن العربي، بلا استثناء، تارة ثانية. كيف تستطيع ان تمتلك أدوات التفكير، وأنت لا تمتلك حقك الشرعي بالخبز، وضروريات الحياة، كي تسال نفسك: من أنت ..؟ وأنت سوى هذا المحكوم بتاريخه الأرضي، وبتاريخ مجموعته الشمسية، وبتاريخ مجرته، من ثم، بالمطلق، أو بما هو خارج حافات الكون..؟ هل باستطاعة احد ان ينتج (حريته) وهو لا يمتلك حتى خيار دحضها ..؟! وبمعنى ما: هناك الأسباب التي يمكن عزلها عن نتائجها، وهناك النتائج التي تستدعي معالجات لا يمكن إغفال أسبابها. فالمجتمع ذاته قيد التشكل، بعد ان تعرض إلى ضربات متتالية بعد انهيار الدولة العثمانية، ونشوء جغرافية (اجتماعية/ ثقافية) لها خصوصيات مختلفة. فإذا كان من الصعب رؤية ما كان يجري، فان البحث عن هواء أنقى لن يكون ترفا ً. فثمة أزمة، وهي أزمة وجود في مواجهة الأسباب وفي مواجهة نتائجها. وهو الأمر الذي وجدته تلقائيا ً في ممارسة الرسم، وربما النحت منذ سن مبكرة جدا ً، من ثم ممارسة الكتابة، بحقولها المتنوعة، الأدبية والفكرية. 

وربما بسبب ولعي بفهم أدق للعلاقة بين المقدمات ونتائجها، رحت أجد لذّة لسبر المناطق الأقل وضوحا ً. فانا لا اعرف لماذا انحزت الى المعري بدل المتنبي، والى جبران خليل جبران وليس سواه، والى نيتشه ـ وبعده كارل ماركس ـ وليس إلى تيارات فلسفية أخرى. كانت الروافد متنوعة، ومتاحة لي منذ العام الثالث، وصولا ً إلى إصراري في دراسة الفن، في معهد الفنون الجميلة، بالرغم من ولعي أو رغبتي بدراسة الطب، أو الطيران. أما إجابتي حول ما اذا كان أي اختيار قد جاء على حساب الآخر، أو العكس، فإنها تحيلني إلى ممارسة منح (العشوائية) مبدأ (التجريب)، فالذي لم يتحقق في أداة واحدة، لأن كل أداة تشترط الأداة الأخرى، فان التركيب سيتطلب ثقة اكبر بالممارسة، ومن غير ارتداد، أو أحادية. على ان المواجهة من الخارج، بحد ذاتها، سيكون لها أثرها، وقد أسهمت بتعزيز سياق التعددية، والتنوع، والحفر، بدل الاكتفاء بنوع أخير من الأنواع الأدبية، أو الفنية.." 
* بحدود تجاربك التشكيلية في الرسم والنحت بشكل عام وفي تجربتك الأخيرة (أختام عراقية) بشكل خاص .. هل تكتسب تكويناتك البصرية وجودها الجمالي في التجريد أم في التجريب أم في التعبير؟ وما مدى حضور الأسطورة في تجلي المعنى المثالي فيها ؟ 
ـ " ولأن الإنسان خلق من العناصر ذاتها القابلة للإحصاء، والمشاهدة: التراب، الماء، النار، الهواء، الزمن، وكل ما لا يخطر على بال خيال اخذ بالامتداد، فقد تركت حواسي ـ من اللمس إلى البصر، ومن الشم إلى التذوق، ومن الإصغاء إلى مصادر الأصوات النائية ...الخ ـ تؤدي دور (المنتج) وليس دور المستهلك. لقد تركت آثار سومر في ّ ظلمات مشغولة بالأسئلة: فقد كان لفترة طفولتي أثرها وأنا ادخل مقبرة الأميرة شبعاد، ومن ثم، قراءة ما حدث لها: الذهاب إلى العالم الذي لا رجعة منه، لا كنزهة، أو معاقبة، بل كغياب أو محو. على ان المدارس الحديثة أثرت، بحضورها، في اختيارات: الطبيعة، الجسد، وموضوعات الإنسان وهو يتعرض للانتهاك، والسحق، والتدمير. ولعل عودتي المباشرة إلى تأمل الأشكال، بعد أكثر من نصف قرن، تؤكد مدى التأثيرات البصرية ـ والسحرية ـ للمشاهد الأولى، خاصة إنها وحدها تعيد للأسئلة ديناميتها، مثل: ما الحياة ...وما الذي يعني ان نراها تتوارى يوميا ً، أو في كل جزء من أجزاء الثانية، وقد استحالت إلى رماد، ومخلفات، وأنقاض ؟ سمحت لي بالحفر في ذاكرتي ـ وفي طبقاتها السحيقة . فالأختام لا علاقة لها بالأساطير، إلا لأن الواقع لم يعد إلا ومضات ومشاهد تكاد تعيد دورتها الأولى: ديمومة هذا الذي مازال يتحدى زواله. فكانت جميع المجالات التي بدأت بها، تأخذ حضورها معي وأنا اقترب من السبعين. فكتبت: "عصر إنانا المستعاد" كرواية، بعد كتابة نص "الأوثان" و"عند جذر الوردة" و"ألفية الولد الخجول" و"الاصغاءات" و" كتاب رابعة" مع مجموعة كبيرة من القصص القصيرة جدا ً نشرتها جميعا ً، وهي بمثابة أختام تراكمت فيها الصور، والملامس، والأزمنة، والخسائر، والألغاز ..الخ، وجميعها تحفر في سر: البذرة. فما ـ هو ـ هذا الذي يذهب ابعد من الحياة ـ من حياتي ـ ومن الموت، أي: موتي..؟ ولأنني لم اشتغل للحصول على أكثر من أصابع غير خاملة، وبصر أتتبع وثباته، وقلب يومض باليات استحوذت على العقل، فان مد اليد، للاستجداء، قد بترت! ومع ان كل (ملكية) مهما بدت حصيلة جهد، إلا ان دافعا ً ما للاغتصاب ـ حد الهتك ـ سيدخل في تكوينها. وهذه معضلة آمل ان أضع خاتمة لها في نص لم يغادر: تحولات العناصر، من النار إلى الرماد، ومن الماء إلى العتمة، ومن اصلب المعادن إلى أثير، ومن العشق إلى العدم، وبالعكس، عبر تنويعات لا اعتقد ان هناك جنسا ً أخيرا ً بإمكانه ان يؤطرها، ويضع تعريفا ً أخيرا ً لها. وبمعنى أدق فان (التجريب) ليس أكثر من محاولة للتمسك بالعمل ـ وليس بنتائجه قبل الانجاز ـ ما دامت النتائج، نسبية، ومادام العمل قوة ديمومة. فهو محاولة لمقاومة الغياب، مادمت لا امتلك أي يقين يفند الشك، أو شكا ً يقودني إلى (المسلمات) أو البديهات. ثمة طاقة وجدت كي تتحرر في (التعبير)؛ فسلجيا ً، فكريا ً، وقد عملت على تشذيبها، حد اختزالها إلى علامات، والى رموز. العلامة تلخص منحى ما من الأفكار، فيما الرموز تغدو وحدات تلخص، وتكّون، وتمثل: الهوية. لكن عندما يغيب الثابت أو (المقدس)، بمعزل عن ضده، فان الضرورة تغدو سلسلة من التحولات، في مواجهة غياب لا يسمح لك بأكثر من حضور عابر، اسمه الحياة، وقد وجد في الفن سكنه، وخطابه، كجسر باتجاه الذي نراه لا يدوم أكثر من مسافة زواله. هل ثمة يقين لا يفند بيقين مضاد، وهل ثمة شك لا يدحض بما لا يحصى من الفتوحات، والشكوك ...؟ " 
* موضوعة الجسد وجدناها حاضرة وبقوة في أغلب تجاربك التشكيلية والأدبية .. فهل جاء الجسد بمثابة علامة وجودية أم أيقونة ملغزة أم هو وعي ثقافي أم يأتي ربما ملاذاً تسكنه الظلمات ؟ 
ـ " ليس الجسد ماكنة بالغة الاستجابة لقانون: إرادة الحياة، والبقاء للاكثر قدرة على مقاومة الغياب، الا إذا كان سؤال (المعنى) مفرغا ً من محتواه. وبمعنى ما فان (لغز) الحياة مكث ينتقل من جيل إلى جيل آخر، عبر المليون سنة الأخيرة بعد ظهور الآثار الشبيهة بالإنسان؛ أي تلك الومضة ـ بمعنى السر الكامن في دينامية الموجودات ـ وهي ترجعنا إلى زمن الحياة قبل نصف مليار عام أو أكثر ـ التي راح البشر يبحثون عن أسباب لها. لكن اللغز ليس من صنعنا، مثلما نحن لم نخترع العناصر، ولا مجالها، ولا مداها، ولا ما تمثله وتسعى إليه بوجودها. فالجسد وجد تحديا ً لعوامل اندثاره، كدرجات الحرارة في ارتفاعها او في انخفاضها. فالفكر الأسطوري ـ قبل ظهور الكتابة وتشريعات الكهنة والحكماء ـ لفت النظر إلى: الماء/ النار/ التراب/ الهواء ..الخ، وهي التي وجد منها الجسد، ثم حقبة التحولات من: الرحم إلى اليد، ومن اليد إلى الدماغ (الوعي). ومراجعة العصور السحيقة منذ المشاعيات التي امتدت طويلا ً، قياسا ًبعصر الأم ـ الرحم ـ ومن ثم التحول إلى سيطرة الذكر، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك ومنها الأسطورة البابلية التي شرعت للنظام الأبوي البطرريكي، بعد قتل (تيامة) وصعود مردوخ إلى كبير الآلهة، تحكي بلا مجال للشك، أو الجدل، بما يؤكد المنحى التطوري، من البسيط إلى المعقد، ومن الكم إلى النوع. بمعنى ان الجسد تكون بفعل تاريخ الأنواع، والنوع البشري أخيرا ً. كان الجسد، في الأصل، وجد لخدمة الآلهة. ولثلاثة آلاف عام، مازال معنى الحياة يحال إلى ما بعدها، وكأن (الجسد/ الحياة) معبرا ً أو جسرا ً. لكن الجسد، منذ ظهور المراكز الكبرى للحضارات ـ في مصر ووادي الرافدين وفي الهند والصين ..الخ ـ تمثل في النظام التراتبي للسلطة: المركز ـ أي الملك أو الإمبراطور أو العاهل أو الفرعون ..الخ ـ وصولا ً إلى القاعدة: العبيد/ الرعاع/ الأتباع/ الدهماء، أي الشعب بالمعنى المعاصر، في أداء دوره، المادي أو الرمزي. فالمركز ـ المنحدر من الآلهة والذب يمثلها فوق الأرض ـ وسرجون الاكدي مثال يفسر الدور ألذكوري القائم على القوى العليا ـ رتب الوجود وفق إلية ُتحكم بها الموجودات، تراتبيا ً كما ذكرت. فإذا كانت العصور البرية، تكونت بنظام: الصياد ـ الطريدة ( وهو ثنائية" الجلاد ـ الضحية) أي قبل عصر الإنتاج عندما كان الجسد ـ من الأقوى إلى الأكثر ضعفا ً ـ هو الذي يتحكم بالديمومة، فان النظام الذي أصبح بشريا ً خالصا ً، هو الآخر، حول (المركز) إلى قوة تتحكم بأجساد الآخرين، لسبب بسيط: ان الجسد هو وسيلة الإنتاج الأولى ـ الجسد الرحم ومن ثم الجسد الوعي ـ وهو، في الوقت نفسه: الضحية. وليس نظامنا: الإنتاج ـ التداول ـ الاندثار، أي النظام القائم على رأس المال/ القوة ـ إلا مرحلة متقدمة للتاريخ القديم. فهناك جسد (الحاكم) ـ أي الذي يمثل الإلهة ـ وهناك القطيع. وتستطيع ان تعيد قراءة الشعوب التي ترى إنها مختارة من الرب، للعمل بالقانون نفسه: السادة ـ العبيد. وهو مثال للتحكم بالموارد، واغتصابها، وحرمان الآخرين منها، إلا بحدود بقائهم محض مخلوقات قادرة على إدامة الحياة. فالحكيم القديم الذي امتلك مواصفات الراعي، اصبح علامة لقوة لا مرئية تتحكم بالمنتجين، وسلبهم حقوقهم، عدا حق حريتهم في اختيار الموت! وهنا لا مناص تمت إعادة صياغة قانون (الصياد ـ الطريدة) باقنعة مشفرة ورمزية كي يدوم الجسد؛ جسد الجلاد إزاء ما لا يحصى من أجساد الطرائد. فنظام السوق ـ وهو نظام الغاب ولكن بتعديلات بنيوية تتحكم بها التقنيات، وقد وثبت نحو العقول الالكترونية. ألا يبدو هذا ـ لي ـ مشهدا ً يستحق الحفر..؟ لأن الجسد ـ بتاريخه الطويل حمل مشفرات ديمومته، منذ تأسست بذرة الخلق: اغتصاب الآخر، ومن ثم، تأسيس أنظمة قائمة على القانون نفسه، ولكن بتأويلات ـ وتفسيرات ـ وتعديلات، تحّرم الانتحار، انتحار من يرى الجسد محض مثال لسيزيف، مهمته حددت برفع الصخرة إلى الأعلى، كي تسقط، ليعيد عمله إلى ما لانهاية. انه العبث. لكن نظام (الأجساد) ـ ونظام كل جسد ـ يدحض هذا الحكم ـ أي العبث، ويعيد للحياة لغزها بما تمتلكه الإرادة الملغزة التي سمحت لمسار معقد من التحولات، حيث لم يفقد الجسد، عبر هذا التاريخ الزاخر بالصراع، والافتراس، معناه كلغز، وليس كأداة أو ماكنة بالغة التعقيد. فالتأويل حتم ظهور التصوّرات، ومجالها المثالي، الخيالي، بحكم ان الجسد لم يولد فائضا ً، أو محض وجود مفرغ من المعنى، ما دام امتلك تحدياته ومكث يتشبث بانتصاراته، حتى لو كانت محكومة بالفناء. ولأن هذا السؤال ـ سيعاد ـ بوجود الجسد، فان، كما قال جان جاك روسو: " القوانين الجيدة تؤدي إلى وضع قوانين أفضل منها، في حين تخلق القوانين السيئة ما هو أسوء منها. وإذا ما بدأ أي فرد بالقول عن شؤون الدولة: وما شأني أنا ؟ حتى جاز القول ان الدولة قد ضاعت" فأجد، وأنا اتالم الوضع المزري للجسد، أمامي، ومن حولي، في عالمنا المعاصر، ان ما لم يكتشف، وما لم يدشن، وما لم يتحقق، يستحق القراءة النقدية، ولكن بأدوات لا ترجعنا إلى القاتل الأول، ولا إلى القطيع الذي يتندر ساخرا ً من الباحثين عن الحريات، والمثل، وهو يتحول إلى أداة لصناعة عالم يموت الناس فيه لإعلاء شأن زمر تتغذى على الأساطير، والأقنعة، بل بما اجهله تماما ً مادامت اليوتبيات القديمة، لم تخترع إلا كاستحالة صياغة معاني مغايرة لها! لكنني قطعا ً لا ابحث عن ديمومة لهذا الذي يزول ـ بحكم القوانين أو الحميات ـ بل ألا يكون موتنا شبيها ً بموت الحشرات، أو الكلاب السائبة، أو العبيد، أو كما تجري تصفية الأجساد في حروبنا الحديثة التي تشنها الدول العظمى ذات الأنظمة الديمقراطية، وعرضها عبر الفضائيات، وكأننا في عصر المشاعيات الأولى، أو ان ترمى أجساد الضحايا مع النفايات، إلى المزابل، درجة منع دفنها، فما الذي تبقى للوعي ان يستعين به، غير المجهول، بعد ان أنهك ومرّغ بتراب الأرض ؟ هل ثمة مقدس للجسد عدا هذا الذي يخترعه المخيال، وعدا ما تبقى من أوهام الذاكرة، ننبشها من الطبقات الغاطسة، والمخفية، في قاعها العميق

* في إحدى حواراتك أتذكر انك قلت لي يوما : بأنك في إحدى المرات قد حدّقت في النور طويلاً فوجدت بان الظلمات بلا حافات ! كيف ذلك ؟ وهل للظلمات حافات؟ 
ـ " فيزيائيا ً، في كل إشعاع من أشعة الشمس، كمية من السواد! ولعلي أعدت صياغة قانون الجدل ـ والمثنوية عامة ـ من غير تأويل. فالصراع، منذ كتبت نصوص الحكمة، لم تغفل هذا التداخل، حد التصادم، لكن معظم المعتقدات، بالطبع، لم تسمح للشر ان يكون منتصرا ً. فإذا كانت الحياة تنبثق من الموت، والأخير منها، فان العنقاء لن تخرج إلا من رمادها. والأمثلة لا تحصى. فهل حقا ً برمج (الوعي) كي يتشبث بما هو ابعد من دورته؛ الذاتية، أو الاجتماعية، أو التاريخية، كي تشكل إرادة الحياة ـ عامة ـ مسارها ابعد من النهايات، ليس على حساب الموجودات، بل لصالح ديمومتها.؟ تلك الظلمات لها حافة، من منظور الوعي ـ بحكم نسبيته ـ إلا ان هناك ما لا يحصى من الأبعاد للنور، وللظلمات، مادامت مجرتنا، في الكون، حبة رمل. فهناك ـ فيزيائيا ً ـ مجرات غير قابلة للإحصاء، والعد، وهي تنتج اضاءات وطاقات ومديات مغايرة للذي تنتجه شمسنا، في حدود المجرة. ولكن عندما لا يقع الإنسان بغواية أوهام ما، كقناعات تبلغ حد الثابت، فان آماله تتهدم أحيانا ً دفعة واحدة، فيتراجع الضوء، ويتهاوى، كمكونات، إلى أصله. ظلمات بلا حافات، أي أنني غير قادر على إدراك هذا الذي يقلب المعادلة. فإذا كانت الشمس ـ نجمنا بكتلته المتوسطة في درب التبانة ـ إحدى عوامل ظهور بذور الخلق الأولى، فان الضوء، هو الذي أنتج العفن! وسينتج أسطورة الإنسان، من الولادة إلى الموت، عبر تراكم الخبرات، وتنوعها. فالضوء ما هو ظلمات تحررت كي يبصرها الوعي، بما يمتلكه الرائي من أدوات، والظلمات، هي الأخرى، طاقة من الصعب معرفة كم من الشموس دفنت فيها! على ان المثنوية، بل والجدل ذاته، لن يسمح بسيادة طرف على حساب الآخر. فأنت تستطيع ان تقتل الإنسان، كما قال همنغواي، لكنك لا تستطيع ان تقهره. وأنت تستطيع ـ كما فعل عدد من طغاة الشعوب ـ من إخصاء الرجال، ومن ممارسة تعقيم الأرحام، لكن لغز الولادة يبقى مشفرا ً بالديمومة. أما ما قصدته، من: لا حافات العتمة، فربما لم اقصد أكثر من أنهما ـ النور والظلمات ـ كلاهما، يدخلان في تكوين هذا المدى، مهما اتسع، أو مهما تقلص، فانه لم يبح بأكثر من وعينا القائم على نسبيته، حد استحالة ان يكون لوعينا إلا زمن عبوره في هذا الفضاء، ولك ان تدعوه: العدم ـ أو الظلمات، أو محوك في كيان ليس الضوء وليس العتمة إلا عنصرا ً من عناصره. وبالمناسبة لم يستطع اينشتاين ان يوافق، بوجود: فراغ، أو مناطق غير مشغولة، بوجود وعينا، أو بعدم وجوده، فالعالم كتلة، لها تنويعاتها، ومدياتها، وألغازها إزاء محاولاتنا لتفكيك ما يواجهنا من حالات لا يمكن عزلها عن درجة وعينا لها. فالعدم قفا للوجود، يكمله، ولكنه ليس بديلا ً عنه. فالتوازن يذهب ابعد من قدرات وعينا لسبر عمل البرمجة الكلية لهذا الذي هو بلا ماض ٍ، والذي ليس له خاتمة وفق الحتميات، أو البديهة، أو التجريب، أو المنطق، مما منح النتائج تنوعها، واختلافها، وجدلها. 
* إجابتك حول الحافات قادتني إلى محنة الغياب .. حيث قلت لي يوما : بأنه مادام الموت سابق على الوجود فأننا نعيش تجربة موتنا كوحدة معقدة في زمن الغياب الممتد !! كيف ذلك؟ وما مدى مساحة هذا الامتداد على الساحة التشكيلية العراقية المعاصرة ؟ 
ـ " بدءا ً، هذا الكلام ـ وقد تحول إلى كتابة/ نص ـ غير موجه إلى مجتمعات كونتها وحدات أو ثيمات متماثلة، وضمنا ً، لا يعني أو يخص (الجماهير) أو (الفصائل/ المكونات/ المجموعات..الخ)، لأسباب في مقدمتها إننا ـ في الشرق وفي الوطن الناطق بالضاد ـ اليوم: مازلنا نرزح تحت مراكز تجاوزها زمن (الحداثة)؛ أي ان الأبعاد المكتشفة، بعد البعد الرابع، الزمن، وصولا ً إلى المناطق التي نجهلها، عملت ـ وتعمل ـ على تفكيك الوعي ـ ومكوناته: وظائفه، علاماته، وما يسعى له. فإذا نظرنا إلى (أنفسنا) برؤية ارتدادية، فلا أمل كي نضع وعينا في المسار (المستحدث) ولا أقول السليم أو الصائب. أي إننا مادمنا لا ننتج شيئا ً ما يكفي ضرورات (الجسد/ الدماغ) فإننا سنبقى ندور، ونتراجع، ولا نتقدم خطوة واحدة. نحن أسرى مدافن، من ناحية، وإذا كان هناك من يمتلك مغامرة التحدي، أي مغادرة حقبة أو عصر: الرحم ـ وعصر الاستبداد ـ فعليه ان يخلع ماضيه ـ هذا ـ وليس مساراته الدفينة ومشفراته واليات عمله العميقة ..الخ، لينتج، وهو في عصر نهاية العولمة، تدشيناته، من غير وصايا، وقيود، وظلمات، من ناحية ثانية. إذا ً علينا ان نراجع أقدم محاورة حملت عنوان: "العادل المعذّب" أو المعاقب، كي نستذكر الجدل حول مفهوم (العدم) ـ الصفر ـ والعدد، في الحضارة البابلية. في المحاورة، ثمة سؤال لا يخص العدالة حسب، بل جوهرها. فقد يتمكن الإنسان من العثور على تطبيقات للقوانين، كإجابة لا تخلو من ممارسة الديمقراطية؛ أي ممارسة الحرية مع أحرار، وليس وفق عدالة ما أفضى إليها النظام التراتبي ـ الهرم/ القاعة، وما بينهما من درجات، لكن الإجابات، وإن حاولت مغادرة حدود اللغة ـ تبقى بحدود أدوات الوعي ـ آليات عمل الدماغ ـ التي تحيلنا إلى ما هو خارج قدرات الجسد/ الوعي، لأنه صنع من الوحل. فالإنسان معاقب مهما قدم من أضاحي، ونذور، للآلهة. ويضرب مثلا ً بين الأسد الذي يفترس طريدته، وبين الطريدة التي وجدت الافتراس. بين العبد المصنوع من عناصر الأرض، والآلهة التي موقعها لا تدركه الأبصار. بمعنى: لا إجابة، إلا بحدود نظام عمل الهرم/ الزقورة/ أي المعبد، ومؤسساته. ففي العصر البابلي أثير موضوع معنى الوجود ـ ومعنى الموجودات، مع زمن الاحتلال اليوناني. فالسياق لم يخف مدى الأسى باستحالة العثور على إجابة، حتى لو كان العبد، هو أيوب، ما دام الأخير، بعد ان تعرض إلى سلسلة من الامتحانات، ولم يجدف/يكفر، يرفع رأسه ويقول للرب ـ على حد كلمة لعالم النفس يونغ ـ: من منا المريض؟! بمعنى تأويلي: عدم وجود إجابة تامة، شافية، عادلة، منطقية، تمتلك تبريرها، أو علتها. فلا يليق ـ والحديث يرجعنا إلى الآلف الخامس أو السادس ـ بالآلهة ان تخلق مخلوقات تطلب منها ان تدرك أو تؤكد أو تعرف كم هي عظيمة! وان ما هو أكثر إثارة للجدل ان تعذب الآلهة أكثر مخلوقاتها، انجازا ً للفرائض، والخشوع، والطاعة، فالمعنى يبقى بحدود اللغة، ولا يغادرها. لأنه يبقى في إطار: الصياد ـ الطريدة. وهو ما سيدخل في تكوين الفلسفات القديمة: اليونانية/ الهندية/ الصينية، بزمن أسيق منها بألفي عام في الأقل، حيث التبريرات برمتها تقود إلى: أن الآلهة خلقت، من الوحل، وفوق الأرض، وليس كما في التعديلات القادمة، الإنسان ليخدمها. وببساطة يتضح ان صانعي (القوانين/ المسلات/ الشرائع) هم الكهنة، وهم أكثر البشر، منذ تكونت مراكز الحضارة الأولى، خمولا ً، وعداء ً للعدالة، لأن ما يسلب من الناس، الفلاحين، لا يذهب إلى الآلهة، بل إلى العاطلين عن العمل. والمفارقة مكثت تعمل حتى يومنا هذا، في عصر العقول ذاتية التفكير، بعلامات قائمة على الأيديولوجيات (الأقنعة) يتستر على المفارقة المبنية على معطياتها الايكولوجية، والتي صاغت نظام: إرادة الحياة، والبقاء للأكثر دينامية، مكرا ً، أو قوة، أو تكيفا ً..الخ. فالآلهة إن كانت خلقت من الوحل، أي من الأسفل، كائنات تنفعها، وتطيعها، وتلبي أوامرها، فهذه ليست آلهة، بل رؤساء معابد/ سحرة: أي: قوى توفرت لديها السيطرة، وضمنا ً تراكمات ما تم اغتصابه، وعمله، من موارد أو من عبيد، وضعفاء، وصياغته تحت هيمنة (المقدس/ المثالي) المشيد على قانون العقاب والثواب. على ان سفر (الخروج) في العديد من الأساطير القديمة، شفر السياق، مستبعدا ً الخروج من (الرحم)، إلى الطرد أو النفي من الفردوس. فالرحم هو المكان الوحيد الآمن الذي لم يرتكب الإنسان فيه الآثام أو الخطيئة، لأنه المكان الوحيد الذي لا يعمل فيه الجنين. فهو العاطل عن العمل بالحتمية، وليس اختيرا ً، كما لدى السحرة، أو كبار رجال المعابد، بصفتهم طبقة أعلى، تتحكم بالمصائر، أو بصفتهم يمتلكون قدرات فوق طبيعية. لكن النزول من الأعلى إلى الأسفل، أي من الفردوس إلى ارض الشقاء، والكد، والخطر، يتطلب نظاما ً بنيويا ً محكما ً من العلاقات، وهو: نظام الأكثر قوة، مهارة، لباقة، عن الآخر: المستضعف، العبد، أو الذي وقع في الأسر، وغدا ملكا ً للآخر. فالبابلي، كالسومري، لم يعثر على إجابة عدا ان العدم هو الصفر كوجود بلغ ذروته: نهايته، إلا أنها نهاية ممتدة، كأنها مثال لفلم سينمائي تم إنتاجه قبل ان يتكون تتابع الليل والنهار، يتم عرضه، كي تؤدي فيه المخلوقات البشرية، والكائنات الحية، والأشياء، أدوارها. و(القدريون)، كما أتخّيل، استندوا إلى هذا التصوّر، وقد لا يختلفون كثيرا ً عن معتقدات من اجل الحكم إلى نهاية الدهر، فالرب هو وحده العارف بما يستحيل فهمه من لدن المخلوقات الفانية، ومنهم (الدهريين)، والمرتجئة، على سبيل المثال، وهو الذي من مسؤولية التلفيق، حد التزوير، والكذب، وخداع الآخرين. فالآلهة أعظم من ان تكون عظيمة. لأننا عمليا ً أسرى لغة، كلمات، وتصوّرات، فيما الحقيقة تبقى كامنة وراء الكلمات، والسطوح، وخارج الزمن، ومن ثم لا يستقيم المنطق، بأي منهج من المناهج، ان يمنح المحدود، الفاني، المصنوع من الوحل، الزبد، الطين، إمكانية تقييم غير المحدود، وغير الفاني، والذي هو نهاية في المطاف، تام العلة، أو من غير علة. فالعدم، بالتأويل، هو اللا معنى وقد غدا مندمجا ً بنسبية معناه، وحضوره في مواجهة الغياب، وهو الامتداد. فهو: صفر. لكن، في بابل، عندما احتلها الاسكندر المقدوني، كان ثمة فلاسفة من الهند، اجروا، بالحوار مع فلاسفة بابل، تعديلا ً شبيها ً بالإجابات في المحاورة السومرية. فالصفر، لا معنى له من غير وضع العدد، أمامه، كي يدخل في التطبيق، الممارسة، والحضور. وببساطة، ليس ثمة إمكانية (للوعي) ان يعّرف اللازمن، أو الصفر، أو العدم، من غير وجود تتابع، وتضاد، وحركة. وليس عليك إلا ان تعيد قراءة ما دوّن حول أسطورة (ادم وحواء) ـ كأقدم مشروع للإنتاج/ والتنمية ـ حيث تنتهي (الغواية) بالسكن في الأرض (غير الرحم الأول/ الفردوس رمزيا ً) كي يسكن ادم حواء، وتسكنه، لتعلمه الموت. والمفارقة هنا، مرة أخرى، شبيهة بالصفر الذي أعطاه العدد معنى، أو تراكما ً، حيث، عند الموت، تحافظ حواء (بالسومرية إنانا؛ أي: الحياة، أي وحدة الأضداد) على دحض الموت بديمومة الحياة: الامتداد. فالميت من الحي، والحي من الميت. فهل باستطاعة الوعي، المكّون من العناصر ذاتها التي كّونت أنظمة الكون ـ الأرض، والمجموعات، والمجرات، والأكوان، وصولا ً إلى استحالة وضع حافة أو خاتمة للاتساع ـ فأية عبارة، صنعت من هذه العناصر، دون إغفال لغز ديناميتها، أي وعيها بما يدور من حولها، إن كان من الأعلى بحسب التأويل، كفيض، أو لعلة ما، أو بفعل القوانين ذاتها التي راح الوعي يراقب مدى إتقانها الفائق ببرمجة شاملة على أبعاد لم يعرف الوعي (وعينا) إلا ما أفضى بنا إلى هذا الضيق، في الحكم، والتنظير، والجسارة، والى هذا الاختناق في الحركة، ومحدودية الامتداد في مساحة الوعي، والجسد، والمرئيات، وليس إلا الخسران أخيرا ً يجد حضوره في المحنة: البحث، والتراكم، ما دامت (العدالة)، قبل وجودنا، وبعد غيابنا، لا تسمح إلا بقليل من الومضات، وأقل منها من الضوء لإدراك ان ما تم إدراكه ليس إلا علامات كد، ووجع ولادة!" 
* هل تؤمن بان الثقافة الكولونيالية وما بعدها جاءت لترسيخ فكرة القطيعة مع الآخر الداخلي والخارجي بحدود مفهوم الهوية ؟ وهل مازال الفن العراقي والعربي يستنشق هذه الثقافة ما بعد الاستقلال ان كان هنالك استقلال ؟ 
ـ " بنيويا ً، هناك مسافات بين الأقوى (الصياد) وبين الأكثر ضعفا ً (الطريدة) لا تسمح لديمومتهما إلا بحدود امتلاك كل طرف، دفاعاته. فالأقوى قد يُدحر كي يؤدي دور الأضعف، والآخر يناضل كي يسترد موقع الأقوى. وهذا لا يتناقض مع مفهوم الصراع ـ وفق البرمجة الكلية ـ في المجتمع الواحد، أو في المجتمعات المتجاورة، ولا يتقاطع مع أي مفهوم مماثل لتوازن القوى، فالنجم الأكثر كثافة أو حجما ً في مساره يلتهم الأجسام غير القادرة على حماية كيانها ـ وجودها، كي يبلغ درجة من الاتساع لا يستطيع إلا ان يفقدها، ليتناثر، إلى أجزاء، ويغيب ..الخ والكولونيالية، من المفاهيم التي شاعت في مطلع القرن العشرين، فالاستعمار هو أعلى مرحلة في الرأسمالية، كما قال لينين، مما مهد لظهور أكثر من تطبيق للاشتراكية، في محاولة لخلق أنظمة متوازنة لا تسمح للتراكم ان يقود إلى التصادم، والتصدع، والذي يقود إلى التفكيك. لكن بنية الموجودات ـ في الوجود ـ أي آليات عملها اللاواعية ـ وسنجد تطبيقاتها في مجالات الإرادة الواعية ـ ستبرهن إنها تعمل بما هو ابعد من أي مفهوم للعدالة، ليس في تطبيقاتها، بل في ديمومة لغزها: لغز الحياة ذاته، وتجعل الاشتباك قائما ً. فما بعد الاستعمار، عمليا ً، هو إعادة صياغة لمراكز القوى (للتراكم في: الثروات/ الأسلحة/ والمعارف ..الخ) على نحو يعيد للموجودات النظام التراتبي ذاته. فالديمقراطية، بأي تعريف من تعريفاتها، لا تغدو أكثر من قناع، للعمل على ترسيخ بيروقراطية عنيدة يتحكم بها (الصياد) إزاء الطرائد. وأود ان استشهد بالنص التالي، لبلاغته في الرصد: " ما ان تؤسس البيروقراطية تأسيسا ً كاملا ً حتى تكون واحدة من بين تلك البنى الاجتماعية التي يصعب جدا ً تحطيمها. ان البيروقراطية هي الوسيلة التي تنقل "فعل الجماعة" إلى "فعل مجتمعي" منظم تنظيما ً عقلانيا ً. لهذا السبب، كانت البيروقراطية، بوصفها أداة لجعل علاقات القوة مجتمعية، ولا تزال أداة قوة من الطراز الأول بيد من يسيطر على الجهاز البيروقراطي" ويضيف ماكس فيبر: " في ظل ظروف أخرى مساوية، يكون "الفعل المجتمعي"، المنظم والمسيّر على نحو منهجي، أقوى من كل مقاومة "جماهيرية" أو حتى من أي "فعل جماعي". ويؤسس شكلا ً من أشكال علاقة القوة الذي يتعذر تمزيقه في النقطة التي تصلها عملية إخفاء الطابع البيروقراطي على الإدارة". مستنتجا ً: " وتتبنى "الديمقراطية" موقفا ً متكافئا ً في مواجهة الامتحانات المتخصصة، مثلما تقف في مواجهة كل ظواهر البيروقراطية ـ على الرغم من الديمقراطية نفسها تعزز هذه التطورات". فأكثر الدول زعما ً أو تزعما ً لها ـ وهذا ليس دفاعا ً عن الاستبداد طبعا ً ـ تجدها، وفق الإحصاء، سببت بمذابح بشرية يصعب تبريرها، بأي حجة من الحجج، عدا: منطق الأقوى الذي يتحكم بمسارات آليات التاريخ. فليس، كما في خرائط القرن العشرين (الحرب العالمية الأولى/ والثانية الأشد فتكا ً) وما أفضت إلى توزيعات جيوسياسية ظهرت، ثم لم تصمد طويلا ً، كي تواصل ـ بصيرورة تراكمات الجهد البشري برمته ـ الى خرائط معدلة ـ أو مستحدثة. فالصيرورة تتجاوز مفهوم المثنوية ـ والصراع المثنوي ـ لتتشعب تحت عناوين لا تحصى: دينية، قومية، ثقافية ..الخ، تجعل كوكبنا الأزرق الصغير رهن اشتباكات دورية، تتحكم بها مؤسسات (شركات) عابرة للقارات، ما هي إلا صياغة شاملة على خبرات الجنس البشري برمته، نحو عصر صنع: مليار إنسان يسحقه الجوع، ومليارات فقيرة، إزاء نخب تتحكم بالرائد/ النمل البشري على حد تعبير لدستويفسكي، وهم: الجماهير، الشعب، أو الضحايا. انه صراع أدوات، في نهاية المطاف. فالأكثر معرفة، وتحكما ً، في الإنتاج، هو من يؤدي دور المركز: الصياد وقد استحدث أقنعته، ليس بالسحر، بل بالتقنيات، وما بعدها. 
* وكيف تنظر إلى الهوية، في هذا المشهد..؟ 
ـ " إنها الهوية التي يتحكم بها صانع القرار. ففي زمن الإمبراطوريات القديمة ـ المصرية/ العراقية القديمة/ الفارسية/ اليونانية/ والرومانية ..الخ ـ مرورا ً بحروب القرون الوسطى، وفي مقدمتها الحروب الصليبية، وصولا ً إلى الاستعمار الحديث، لم تكن (الهويات) إلا نتيجة انتصار نظام إنتاجي على آخر، ومثل هذا الانتصار، لم يدم إلا بانتظار من يدمره، كي تتداخل (الهويات) وتتصارع، بحسب القوى ذاتها المتجددة في مساحة الاشتباك. فالمنتصر يفرض: معتقده/ عاداته/ علاماته/ ونظامه الأخلاقي ..الخ، ولكن الشعوب المغلوبة تتشبث بهويتها، ولا تتخلى عنها، وهذا له مغزاه: فالعملة الرديئة لديها قدرة الانتصار على طرد العملة الجيدة، كي تحافظ على كيانها، على انه ليس الكيان (المثالي) إزاء صعود حضارات تنتج أدوات الامتداد، والهيمنة. 
* ما الهوية..؟ 
ـ " إنها متنوعة، وشائكة، حد استحالة تعريفها، عندما تكون الصيرورة عاملة بالعبور من الكيان الأقل قدرة على البقاء، إلى الكيان الأكثر تقدما ً. على ان الطبيعة لديها ما تقوله: فهناك كائنات لم تدمرها لا عوامل الطبيعة، ولا كوارثها، ولا ظهور الإنسان، واستخدامه لأدوات الدمار، كائنات بعمر مليار عام، تعيش في مناطق شبيهة بكوكب المريخ. على ان هذه الرؤية لها خصوصيتها لدى النوع البشري، فثمة سلاسل لا تحصى من الانقراض: المعتقدات، اللغات، القوميات، الأعراف والعادات، الثقافات..الخ، تبعا ً لقانون تطور أدوات العمل، والتفكير (الوعي)، الذي لا يترك ـ في هذا المشهد المعقد ـ سوى الأثر! 
* لنتوقف عند الفن العربي الحديث ..؟ 
ـ " تقصد، في هذا السياق، حقبة ما بعد غزو نابليون لمصر(1789)، وتحديدا ً، ما بعد خرائط الحرب العالمية الأولى، وامتداد أوربا ـ بريطانيا/ فرنسا/ ايطاليا ـ في الوطن العربي، حيث بدأت تأثيرات الآخر، تأخذ تدشينات التيارات (الحديثة أو ظلها)، لأن التغيير لم يحدث من الداخل، بل جاء بفعل الامتداد الاستعماري ـ بأدواته، مخترعاته، مفاهيمه، مثله الأخلاقية، وخطابه الثقافي ـ الفني ..الخ ـ وفرض نسقه في التحولات، وأشكالها، وعلاماتها، عبر صراعات مازالت قائمة حتى يومنا هذا. فـ (الحديث) مكث يفرض هيمنته في نشوء: الدويلات العربية، الملكية، ومن ثم الجمهورية، عبر صراعات عشناها عمليا ً واكتوينا بنيرانها ولهبها، وقد تذوقنا رمادها مرارات حد الفجيعة. على ان مفهوم الهوية ـ الاستقلال ـ الخصوصية، هو الآخر، عبر تداخل أنماط الحضارات، ودرجات اختلافها في صناعة الأدوات/ المفاهيم، مر عبر اشتباكات بالغة التعقيد. فليس بداهة ان يستطيع (الآخر) ان يمحو (خصمه) مادامت الفيروسات، والأنواع البدائية المماثلة، بل والأكثر تطورا ً، امتلكت آليات مكنتها من الحفاظ على قدراتها على التكيف: في تأمين الغذاء، او في صناعته، وفي الحفاظ على وجودها، فان انقراض (الأشكال) و(استحداثها)، هو جزء لا يمكن عزله عن المواجهات الكبرى، لحضارة ما تعمل على احتواء الآخر، أو محوه، اجتثاثه، أو الإبقاء عليه كأثر..! فهل قارة أسيا ـ أو أفريقيا/ أمريكا اللاتينية ـ قادرة على الاكتفاء الذاتي، في إنتاج الغذاء وفي الوجود عامة، وهل باستطاعتها الحفاظ على: معتقداتها/ لغاتها/ ثقافاتها ..الخ، إزاء قوى عظمى استولت على مساحات كبرى منها، وعلى مصائر سكانها..؟ سؤال يسمح لنا بقراءة ما حدث ـ ويحدث ـ من مواجهات لا تدع التنبؤات لصالح البلدان ذات الاعتماد الكلي على الموارد الطبيعية، وفي مقدمتها البترول، تذهب ابعد من الشعور بالارتداد، وتذوق مراراته! 
* من خلال تمظهرات هذه القطيعة في عالمنا المعاصر والمُحاصر . كيف ترى الثقافة بعد مرحلة ما يُسمى بالربيع العربي ؟ وهل ثمة مرحلة لاحقة تؤطره ؟ 
ـ " هل ثمة مخفيات تحرك التصادم الحاصل، في الوطن العربي، وتحت عنوان: الربيع، اليوم، ليس بين (الداخل) و (الخارج)، وليس بين (المستضعفين/ الملايين) والأنظمة الأحادية، الاستبدادية، وليس بين فصائح الشعب ومكوناته نفسها: دينية/ قومية/ طائفية/ ثقافية/ واقتصادية ..، فحسب، بل الأمر سيتوغل إلى انقسامات، وانشطار الذات الواحدة، في عالم فرضت عليه هيمنة (العشوائية) وتفكيك (القوانين) و(الأعراف)، من اجل: حرب الجميع ضد الجميع، درجة ان على المنتصر ـ أيا ً كان، المستعين بالأجنبي، البعيد أو المجاور، أو الذي يتخبط بأقدار البشر ويتحكم بها، أو الذي انساق للكسب اللا شرعي ـ ان يمشي في جنازته، على حد مثل صيني قديم. فما حدث ـ ومازال يتقدم نحو ذروته ـ ليس صراعا ً ـ كما ذكر الأستاذ حسن العلوي ـ بين الإسلام، والإسلام السياسي، والأمثلة لا تحصى ـ لأن غالبية الشعب العربي منتسبة أو مؤمنة بالدين الإسلامي أصلا ً، ولكن ظهور التنظيمات والمشروعات بإعادة الخلافة، أو العودة إلى السلف الأول، أو إلى ولاية الفقيه ..الخ، غدا عاملا صريحا ً في المواجهات الدموية ـ فحسب، بل ثمة محركات تذهب ابعد من هذا التشخيص. فهناك: أولا ً: النزعة التدميرية الكامنة في الذات البشرية، تُكتم، أو تروض أو تستحدث، لعوامل خارجية: اقتصادية في الغالب، وقد وجدت لها علامات: أيديولوجية، شعارات، وصايا، مبادئ، وأعراف ..الخ، تضع التصادم في المقدمة، بدل المشاركة، والتكامل. ثانيا ً: نزعة المجتمع العربي، عبر قرون طويلة تدّرب على الخمول، وكراهية المعرفة، والكسل حد احتقار العمل، إلا بحدود البقاء على قيد الحياة، ولا مثال انصع من الألف عام الماضية، تبرهن على ذلك، بينما وجدت أوربا، منذ خمسة قرون، أمثلة مغايرة. فالعالم (أدسن) ـ على سبيل المثال ـ لديه ألف براعة اختراع. وما عليك إلا ان تذهب إلى الدكاكين، أو الأسواق العربية، اليوم، لتجد: ان 90% من السلع، والبضائع، بل ومن المواد الغذائية الأساسية، ومنها الخضار، والفواكه، والماء، مستورة! ثالثا ً: كراهية المعرفة، ليست متأصلة، أو متجّذرة، بل جاءت نتيجة أن الوطن العربي، مستعمرة كبيرة، وفاقدة للاستقلال، أو التحكم بمصيرها، حتى ان العربي الذي حكم مصر، جاء بعد ألفي عام، وهو الرئيس جمال عبد الناصر، وفي العراق، هناك 700 عام مضت حتى ظهور الزعيم الركن عبد الكريم قاسم (1258 ـ 1958) على سبيل المثال. فالتربية فرضت نسقا ً بنيويا ً دمرت خلاله أصول أو قواعد الحضارة. لأن الحضارات التي نشأت بين وادي النيل، ووادي الرافدين، تستدعي قراءة نقدية لا تتوقف عند عامل من العوامل، كالبيئة، أو فقدان السيادة، أو المعتقدات، أو غيرها، بل تتطلب إعادة تفكيك شاملة، وبمناهج متحررة من المحرمات، والممنوعات، والوصايا. رابعا ً: انه صراع يفضي إلى مجال آخر، وهو الحقل المسمى (حضارة). فإذا كان ابن خلدون ـ وعلي الوردي بعد ذلك ـ لفت النظر إلى التصادم بين أعراف البداوة وأعراف المدينة، والذي يرجعنا إلى قصة الصراع الذي حدث بين الأخوين: الراعي والفلاح ـ قابيل وهابيل في المعتقدات التي قلبت أو عدلت أو استحدثت نهاية مغايرة للحكاية السومرية حيث انتهى في الأولى إلى المصالحة وفي الثانية إلى القتل ـ فان الصراع سيتأسس على محركات دائمة تخمد فارة لتعاود الظهور، ضمن فترات، أو دورات، بين طبيعة المجتمعات الأكثر قدرة امتلاك أدوات الإنتاج، وأحدثها، وبين المجتمعات الخاملة، أو المستضعفة، ومنها ما حدث ما بين النيل والرافدين. انه صراع حضارات يتمثل في من يتقدم إلى الأمام لصناعة المستقبل، بكل الوسائل، والأدوات، وفي من يرتد أو لا يمتلك إلا ان يحفر لحاضره، ومستقبله، مدفنا ً، أو يبقى يدور في الصفر. وحتى لو رضخنا لأي مفهوم من مفاهيم نظرية (المؤامرة)، فان ما هو مباشر، لا يكمن في الإسلام السياسي، أو في الإسلام كرسالة قائمة على: المعرفة، والتعارف، والرحمة، بعد ان كف الإسلام من اختراع العدو، بعد ان جعل البشر شركاء ليس في الدين، بل الإنسانية، ـ وهي مستمدة من نصوص القران ـ وإنما في التطبيقات، من ناحية، وقائمة في حفريات فسرت إعادة إنتاج المسافة بين الأكثر قدرة على استحداث ما لم يدشن بعد، وبين من لا يمتلك إلا الرضوخ أو الخمول أو الاستسلام لنزعة قدرية، لا تحركها حريات الاختراع، ومنحاها التجريبي، العلمي، ولا نزعة المغامرة، والاكتشاف، ولا آفاق التحرر، بخلق عالم من الأحرار، بل على العكس. فكلما ازداد (الآخر) إبداعا ً، تقنية، ومعرفة، تزداد في مجتمعاتنا المحرمات، والممنوعات، والأجهزة الكاتمة لحريات التعبير، ولحقوق الإنسان، والتعددية، وفي مقدمتها: حرية التعليم، والعمل، والإبداع، بل، وحرية: ان نحلم! ولا اعتقد ان هناك مصيرا ً يكّونه الرماد، كالمصير الذي ينتظر هزيمة الجميع، بعد ان وجدنا أنفسنا نشارك في خلق حتمية: حرب الجميع ضد الجميع. ذلك لأن (الآخر) لم يعد يخلط بين المقدس (الأعلى/ المثالي) والمدنس (الأسفل/ الأرضي) وليس لديه إلا ان يمضي في تكملة الإشراف على إخراج فصول المسرحية المسماة: حضارة. فيما نحن (أي نحن الناطقين بالضاد) فعلينا ان نعدل البيت الشعري المعروف: اذا الشعب يوما ً أراد الحياة...فعليه أما ان يموت بالسيف، أو بالكاتم، أو أن يعيش عبدا ً، ذليلا ً، أو يبحث عن ركن لا يذبح فيه بسبب الاسم، أو المعتقد، أو الثقافة، أو حتى بسبب حلم.! على ان اختزال الصراع إلى: تصادم ـ أو إلى مصالحة، أي بالاشتباك، أو التداخل، أو احدهما يكمل الآخر، كي تتحكم تراكمات (الخبرة البشرية)، وتديرها، بصفتها لعبة، أو مسرحية، يختزل المعنى إلى عملية ميكانيكية، ويفقدها كل ما هو غائص، وفي الغالب، يمتد حيث يتوقف الإدراك، وكأننا لم نقل إلا ما هو بحدود: اللا معنى، أو العبث، أو ما لا يحق لنا ان نراه حقيقة، يفسد جهدنا، ويعيده إلى جذوره: من العدم إلى العدم! ولأن لكل كيان، زمنه، مقارنة بالكيانات الأخرى، المجاورة أو البعيدة أو المخفية، من الإلكترون إلى المجرة، ومن الذات الى البشرية بأسرها، ومن قطرة الماء الى المحيط...الخ، فان تنوع الصراع يعيد لأدوات (التفكير/والتطبيقات العملية) بأساليب هي جزء من خواصها، وصفاتها، وبنيتها: فالحضارات لا تتصادم من اجل شعارات زائفة ـ حتى لو كانت بالفعل وهمية ومراوغة ومخادعة ـ ولا تتصالح لأنها عثرت على مقاربات مشتركة، بالرغم من وجودها. فإذا كانت (التجارة) ـ أو أي تبادل للسلع ـ قد شكلت محورا ً للمسارات، والاتجاهات، فان إعادة تفكيك (الملكية) ـ من الأنا إلى الثروات القومية ـ قلل من شأن الإضافات التي تخلقها أو تبدعها التأملات؛ حتى تلك التي تبدو ضائعة، مهدورة، زائدة، وغير مثمرة. فالصراع الدرامي الحاصل على امتداد المساحة العربية، اليوم، بين الأقل كفاءة والأكثر قدرة على الاستحواذ ـ الاستثمار، هو عمليا ً جرى بين الأكثر تقدما ً مع الأقل قدرة على التقدم. لكن هذا للآسف ـ حتى اليوم ـ لم يجد من يعيد قراءته، بل قاد ـ بفعل برامج الآخر وأدارته للصراع ـ تفكيك أي عنوان، أو شعار للتوحد. فثمة قوانين تستحق البحث، لم ندرسها كما تستحق، فإذا كان الدين يدعو إلى الاعتصام، والتقارب، والتوحد، فان القرون الماضية قادتنا إلى خسائر باهظة وفي مقدمتها الإنسان, وقد نجد من يتحدث عن مكاسب العالم الآخر، عالم ما بعد الموت، فسنقول له، هذا تصوّر جيد، محتمل، ولكننا اليوم أصبحنا في قاع الحضارات. كارل ماركس رفع شعار: يا عمال العالم اتحدوا، غيره الزمن، وعدلته، ودحضه، نحو رأسمالية مخاتلة، وتوزيع متجدد لتراكمات رؤوس الأموال، إي نحو عمل (التراكم) بدينامية بعيدة عن أي شعار (ديني/ قومي) كي يواصل آليات الاشتباك، فهل الصراع ـ حقا ً ـ يقود إلى فجوة بين قلة لديها قدرات متقدمة، وأخرى تابعة، أو لا تمتلك إلا ان تولد وتموت…؟ لا إجابة إلا بحدود الكلمات، اللغة، فثمة تأويلات وبرامج عمل واقعية، كي تعيد قراءة ما هو خارج حدود اللغة/ الوعي، ترضخ إلى الفرضية القديمة: صراع من يصنع اللعبة، وآخر لا يؤدي فيها إلا الطاعة، أو إن تمرد، أو لم يستجب، فحكم الموت هو مصيره. سيقال: لماذا لا تمتلك الشعوب التي تتجاوز فيها نسبة الفقر فيها حدود المنطق، أو العدالة، قدرة كسر القيود، نقول إنها تعدينا إلى: إنها لا تمتلك أدواة التحطيم، كي تتحرر. ويمكنك ان تعيد قراءة القرن الماضي، ببرامج حكامها، ونخبها، وعبيدها، وما آل إليه المشهد من نهايات، في أيامنا من حروب أهلية، مخادعة، وجدل عقيم، قياسا ً بالشوب التي لا تمتلك شيئا ً يذكر بالموارد العربية، الطبيعية. كي نستنجد، عمليا ً: ان من لا ينتج حريته، كي يصنع مصيره، ليس لديه إلا ان يلقى حتفه، لكنه لا يفعل حتى ذلك إلا تضامنا مع الشعب، نحو القاع، ونحو الغياب. 
* في حدود التجربة الجمالية للمتلقي ما بعد حرب الاحتلال .كيف تجد التلقي اليوم وهو يتعايش على المحن المتراكمة ؟وهل هنالك حضور لهذه التجربة في المشهد الثقافي سواء لدى الفنان أو المتلقي أو الناقد ؟ 
ـ " لنقسم الإجابة بحسب التصنيف المعقول: فهناك من توقف تماما لا عن التفكير، بل عن العمل الفني، وعن الحياة. وهناك من تشتت وتوزع على مساحة الأرض برمتها، يصعب متابعة ما ينتج، ويبدع، ويجرب، بغياب المؤسسات الحقيقية القادرة على فهم كونية: الانشغال الجمالي، واثر ذلك في الاتجاهات وفي الأساليب. وهل ثمة مقاربة بين فنان يعيش في أمريكا وآخر في عمان، أو في روسيا، أو في السويد أو في باقي منافي العالم، أو في البلدان البديلة، أو المستحدثة ..الخ، وهل ثمة موضوعات إنسانية عابرة للقارات (للقوميات/ للمعتقدات/ للبيئات/ للثقافات ..الخ) بإمكانها ان تمتلك علاماتها، أم ان الكوني لا يدع للذات إلا ان تندمج، ضمن صيرورة كلية، فيما المجموعة الثالثة، مازالت متفرقة، لا تجد ما يوحدها، عمليا ً، داخل منافي البلد، إلا عبر نشاطات تقليدية، متفرقة، خجولة، فهي لا تجد دعما ً حقيقيا ً، لأنها لم تعد تمتلك وهما ً تعمل على تغذيته، أو حتى من اجله. إنها تعمل عمل الطريدة، المحاصرة، في غابة كونتها (بيروقراطيات) عنيدة، تمتد إلى أكثر من ألف عام، لتحافظ على ظلها في نهاية المطاف، ولا علاقة لها بالضوء!" 
* لم تترك لنا أملا ً...؟ 
ـ " بحسب الإحصاء، لا امتلك إلا مراقبة للمشهد التالي: لم أجد مجموعات سكانية تجعل الموت غاية، وشعارا ً لها، كي تكتب التاريخ، كالشعب الناطق بالضاد. فإذا كان العرب يستوردون أساسيات الحياة بنسبة تبلغ 90%، ولا يقرأون أكثر من 6 دقائق في العام الواحد، وجامعاتهم في القاع، مع تقدمهم المتميز في قمع حريات التعبير، والحد من حقوق الإنسان، والبيئة، والحيوان، والتنوع، وحصولهم على درجات عالية في الفساد، وإدارة دوامة الفتن الأهلية، وحروبها الوهمية، المخادعة ...الخ، فمع من يجدي الكلام...؟ مع المطلق، أم مع تلك الإمبراطوريات الديمقراطية التي أعادتنا إلى العصور (البرية) ـ أي إلى عصور ما قبل الزراعة ـ وغذت، هذه الإمبراطوريات بشعاراتها الشفافة، وبإدارتها للاشتباكات، أم تتكلم مع مجموعات راحت تنقسم، وتنقسم، وتجتهد في الانقسام، وببرامج القرون الوسطى، القائمة على الخرافات، والأساطير..؟ فهل حقا ً يكون الأمل قد بلغ ذروته، أم ان نهاية هذه الحقبة لديها ما تعمله ـ وتقوله ... ونحن في وسط دوامة النيران، والعشوائيات، والرماد ...؟ لا معنى ـ اليوم ـ للتهريج، والشعارات البراقة، والعناوين المراوغة، المخاتلة، والمطلوب هو ان نكون بعمق الكارثة، وليس ان نهرول خلف سرابها: والكارثة ما هي إلا نتيجة قرون من الدوران في الصفر: وهو العدم وقد أصبح وجودا ً! فإذا كنت كانسان لا أجد البيئة ـ واقصد الماء والهواء والأرض ـ الصالحة للسكن، والعيش، بسبب كميات الإشعاعات المدمرة التي احتلت خلايانا، فهل لدينا قدرة (طبيعية) على التفكير، مع حرمان مبرمج للإنسان كي لا ينتج إلا ظل ذاته، وكي لا يحافظ إلا على أعراف هؤلاء الذين أنتجوا: الكتابة ـ الملاحم، العجلة وصهر المعادن، الزراعة وأنظمة الرأي، الزمن وقوانين الكون، العرافة وأنظمة الطب، الأفكار والقدرات على المحاورة وسبر قضايا النفس، وإشكالية فهم جوهر العدالة وتطبيقاتها.. الخ، وهو ما انعكس على صناعة بشر غير منشغلين إلا بحماية مصائرهم، أو البحث عن ملاذ آمن لهم، حتى لو كان هذا الملاذ هو البلدان ذاتها التي كان لها الدور الكبير في إقصائهم عن إنسانيتهم، وأرضهم، وتاريخهم، ومستقبلهم ...؟ فعن أي أمل سأتحدث وفحوى الصراع لا علاقة له إلا: بمن يصنع مستقبله، وآخر يدفنه..؟" 
* بحدود معنى، الوطن .. هل لديك كلمة أخيرة تود ان تمنحها إلى الآخر لتأخذ صداها في الامتداد ؟ وهل ثمة مشاريع قادمة على المستوى الفني والنقدي والإنساني ؟ 
ـ " منذ كنت في الثالثة من عمري، شعرت ان مهمتي تتلخص في منح العمل لذّة روحية وجمالية، لا يمكن عزلها عن الآخر. ففي تلك السن المبكرة كنت أراقب مشهد النجوم كخرز قلائد تركت أثرها عميقا ً في ّ: الكون المولد، الأنثى الأبدية، وليس الكون الغائب. إنما ذقت، خلال العقود التالية، كل ما هو اشد مرارة من قتل الإنسان لأخيه الإنسان، وإذلاله، وسحقه، كي تمتد الحياة، مازجة سرابها برمالها، رمادها بغوايتها، عفنها بظلماتها، نجاستها بحفرها، عثراتها برحمتها العمياء..الخ، حيث الوطن هو كل هذا الذي لا حدود له، وغير المؤسس على الاستلاب، والعدوان، والحرمان، لأنه جزء من الإنسان الذي تراه يشارك الكائنات كافة احتفاءه بالوجود، بل ويشارك العناصر ذاتها التي صنع منها الجسد/ الوعي ...، مصيرها. فأنا لم اعد احلم كي أحقق ما لم أدشنه، وأنا سكنته. فرحت أتدّرب على اكتشاف كم أنا وحيد وسط عالم مازال الصياد ـ إن كان هو جاري أو المسؤول عن قصف بلدي بأسلحة الدمار، أو كان هو الحبيب الذي لم أره إلا ومضة بين عدمين، كومضات مجرات آفلة، أو ليس لدي إلا تأمل هذا اللاوعي العنيد للكائنات وهي لا تكترث لخسائرها، أقول: أتدّرب، أدب، أرفرف، أدوّن، وأمحو ...الخ، كي لا تزداد المسافة بين أدائي لدوري وكل ما اسمه: الدهر ـ أو القدر، أو الحتميات. فعندما لا اذهب ابعد من الدهشة، وابعد من الموت، فأكون آنذاك فقدت قدرة تتبع الدرب، فأموت وأنا أترنم بعزاء لا معنى له عدا أنني كنت، في حياتي كلها، قد عشت زمن هذا العدم الغريب، ولكن غير المنفصل عن غوايته، وآثامه العنيدة! 


د . عاصم عبد الأمير 


عادل كامل . مسرات الجسد ومواجعه 

عرفناهُ ناقداً ورساماً ونحاتاً وسارداً . فيما يضعنا مشروعه الثقافي في صلب السجال المعرفي منذ ستينيات القرن الماضي . قرأنا له الكثير ، بعدهِ صانع نصوص نقدية تسعى للزيغ عما هو متداول ، رؤيته النقدية والفنية تقدمه كعين هي الأكثر شبهاً بعين صقر بري ، يدرك مغزى انتمائه لشعاب الفكر الحداثي وللجمال في واقع ليس مدركاً بما يكفي ما للجمال من أثر في تلطيف دوامة القبح التي تلف حياتنا . عادل كامل ، مثقف وفنان وهو من بقايا مراحل الهزيمة ، والمحو والنكوص . كما أنهُ اسم لامع في تحويل الانكسار الثقافي الى مكاسب تترى . وحين يتحصن بمشروعه الثقافي إنما يوفر لنا جهداً جراء إشهار موقفه الوجودي إزاء ملفات الإنسان الممتحن بمراثيه . خطابه له نسق تكاملي ، مع حنكة سارد ونبل مؤرخ لأوجاع الإنسان ، ساح في الثقافات ولم يكن من بد فتح منافذ لأسئلة تتناسل من تلقاء نفسها وبلا انقطاع . ربما لهذا السبب تراه وجودياً تارةً وصوفياً في أخرى ، ذرائعياً مرة ، لائذاً بشكهِ في أخرى . عقلية جدلية كهذه كان لزاماً عليها إسقاط أحماله المعرفية على نصوصه الفنية في الرسم كما في النحت . وسيكون للجسد حضوراً لافتاً في اشتغالاته . يرجع ذلك الى تشبعه بالمفاهيم الفلسفية والأخلاقية والدينية التي وجدت مادة الهوية الإنسان سواء كان محجوباً أم بيئة للامتهان والانحطاط ، أم علاقة لتبيان الآفاق والكمال والإعجاز الإلهي . عادل كامل ، يجترح قراءات شتى للجسد دون أن تنعدم فيها نصرته لما يراه دليلاً على الإنسان وسخاءهُ معاً في بيئة مشرقية تعزل النظر عن الجسد من وجهة إصطفائية كخلق يسمو على مايرى من خلائق . ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)(سورة التين/ الآية 4) مكرسه نظرة أحادية ترى فيه دكان غرائز وفضاء للجرم المشهود !! كما عرفه العرب في ترسانتهم شعراً وحكايات ومرويات . تحمل مشغولات عادل كامل النحتية طاقة شعرية تزيح ماهو عابر وتلمح بما يمكن للغة البصرية من الاضطلاع بدور رمزي في إعلان مخابئ إنتاج اللذة الجمالية ، وبالمجمل ينقل الخطوط السارحة التي تقع عليها إتمام هندسية الجسد إلى ميدان النحت لتزداد فتنة ومتانة . لانهُ يدرك ان الرسم يضاعف من قوامه الفني حين يقترب من النحت ، اذ يأخذ الرسم من النحت ويهبه فيوض الارتجال والحدس اللحظي فيما النحت يمنحهُ هندسية الكتلة وثباتها في الفضاء المتاح . ان الخطوط الغائرة على سطوح الكتلة تثبت التعبير وتوفر سجالاً جمالياً أخاذاً . أجساده ليست ملفقة الاصول ..انها تقيم في متحفها الرمزي ، ومن هناك تبتكر وسائل الدفاع عن نفسها سواء كانت فاعلة أم مفعولة . إن محفوراته ومدوناته الجسدية تأخذ من طاقة الفن مايديم الشعور بسلطة لحظة التشكل التي يراد للخطاب أن يعلن عن نفسه من خلالها . دائماً ثمة مداخل تتسع لقراءة إمثولة الجسد وهو يظهر بوصفه ميداناً للغواية وللخصوبة وافتراس الفحولة والجمال والسامي . مداخل كهذه تفي بالغرض حين يعرف الفنان وجهتهُ في ترويض كثافة المحمول الدلالي وإطلاقه دون مشقة وباقتصاد غير مخل للخطوط الخارجية التي تحدد البعد الدلالي والجمالي .. صحيح أن عادل كامل لا يستعير من الكتلة كامل قواها المحركة للنص ، أي نادراً ما يذهب بأجساده الى النحت المدور بحيث تطمس هوية الرسم لصالح الكتلية . ثمة مسافة لايريد تخطيها الفنان ربما كي يأخذ الرسم مداه في إطار لعبة الحفر على سطوح خشنة ثنائية الأبعاد على الأرجح ، ما يمنح موتيفاته الجسدية تبادلية بين أن يكون الرسم منحوتاً أو النحت مرسوماً .. بحيث تبدو قوى الجذب ممكنة وقابلة على الانتشار الجمالي داخل فضاء التعبير . ان عادل كامل لايرى الجسد في حسيته ، ذلك ان نسقية الأداء كثيراً ما تستجيب لنزعة مفاهيمية تبعد الجسد من لذائذه الحسية وتضعه في مدار التأويل . من هنا نجد ان مساحة التعبير عبر الجسد تتمدد لتطال حدود الهندسة المثالية التي لاتنظر له بوصفه مسرحاً للمتعة المجردة . من هذه الزاوية يبدو شغفه بالجسد ضرباً من استدعاء قيم رفيعة ، في مقابل دحض النظرة التي تحقره وتنظر له بوصفه فضاءً للآثام . فيما تتسع وتضيق مساحة العلامية في نصوصه تبعاً للمحمولات النفسية والاجتماعية التي تتيح للجسد أن يتموضع في تبدلات لاتحصى منها انه وعاءً للرذائل ، وفي أخرى صورة الضائع في المسرات والأوجاع . 

علامية الجسد في مشغولات عادل كامل ذات بعد انشطاري على الأرجح ، ومع تكثّر الصور التي يتقمصها الجسد تصبح فكرة الرسم ميداناً لتحولات الفكر وأنماط التعبير الوجداني والاستعارات الدالة على حراك عقل فني يدرك مغزى جدل الرؤية في عالم تتحول فيه الصلادة الى سراب أو العكس . من هنا يتخذ آيروس الجسد شكل الهوية الباحثة عن لحظة ابداع تضعنا في مواجهة الصدع الوجودي . لهذا تبدو أجساده مرنة تتقبل المعاني بالطريقة التي تسهل للقاريء الانفتاح على تأويلات غير محددة ، من هذه الصيرورة يبدو ان الفنان ماضٍ في إجتراح وجود جديد يكون للفن فيه شأن التدليل على جوهره . ان الحضور الكثيف للجسد في أعماله اذا ما استطعنا مناجاته لما فعله البابليون في انجازاتهم النحتية التي دشنت بشكل مبكر طابعه الرمزي بادهاش كما في تمثال آلهة الماء الفوار في ماري الذي يختصر كل مادوِّن بشأن الجمال الأنثوي ، مع طائفة من الأجساد النسائية في لارسا وأشنونا . ومن قبل تماثيل الآلهة الأم . أقول : أن الجسد عند عادل كامل ليس حبيساً برمزيته المتعبة ، انما يشهره إسقاطياً لفشلنا في تمثل جوهر الجمال والعمل على تحميله دلالية تسمح بإثارة أسئلة متوالدة تبدأ بتجريمه بعدهِ أداة لما هو محضور أو إطلاق مكامنه بعيداً عن الوصائية الرادعة . عادل كامل يضع الجسد كردة فعل ضد الشفاعات التي ترتكب بحق الانسان مع اتساع مظاهر البطش والاغتراب التي غالباً مايكون الجسد ساحتها المغرية نفعياً ، أم تنكيلاً أم احتجاجاً . ربما لهذا السبب تبدو أجساده ليست احتفالية فارغة بالضرورة ، انما اشارات تحذيرية لما يتركه المجتمع من آثار على الجسدية ، بحيث يصبح الاخير مرآة بحق والمجتمع ان يرى نفسه فيها ، سواء في الرغبة لاكتشافه وإشهار جماله ضمن نسق ثقافي وسلوكي أو في الحط منه علانية وإجازة اللذائذية من خلاله سراً . مدوناته الجسدية على الجبس ، الورق ، القماش ليست الا تراتبية جمالية يراد لها اقتراح مداخل تدلنا على أسرار المجتمع وخفاياه ، منها التي توضح تهتك البنى القيمية الرابطة ، بحيث يصبح عُري الجسد معادلاً موضوعياً لعري المجتمع مع تعاظم مظاهر السحق للآخر حضوراً أم تخفياً ، دع عنك ما يتوافر عليه الجسد من حركية خصبة تفضح أسرار الذات الإنسانية وألوان الغواية التي يمثل الجسد بوابتها . 



د. محمد أبو خضير 



تجارب عادل كامل . من النصية الى الخطابية 


تتخطى نصوص الفنان (عادل كامل) رسمويتها لصياغة مجتمعها السيميائي والانشائي والتواصلي لتكون في تناص أجناسي وأنماط الفنون البصرية والفنية التي انفردت بكياناتها باشتراطات ذائقة نظريات تاريخ الفن والجمال في مباعدة بين الأجناس وتناسلاتها من الأنماط . فــ (الرسم) له تقيده من حيث الاداء والبناء والاستقبال التي تتضح في استضافة أنساق فنية ودلالات تخص الفضاء والعدة الانشائية ومديات الزمكنة وتتيح نصوص الفنان نزوعاً تجنيسياً في إيوائها لنصوص زخرفة/النحت/العمارة/ التصميم/الإشهار/ وفنون الحضارات القديمة ومنها العراقية مافتح بياضات نصية في قلب عادات القراءة والاستقبال لدى المتلقي حيال مفهوم التجنيس . وتتقدم مفاهيم / أداءات تناصية منجز الحضارة العراقية النحتوي ما خلق بعداً تغريبياً يتزاحم به الطرس الأول المنتدب بكل منظومة العلامية من الأجساد والاشارات والحركات وشكله النحتوي وتجسيدات أو أداءات فضائها البيئي والفيزيقي وترحل تلك الاشارات من بعد وترفيعه إلى فضاء مغرب . وتحفل نصوص عادل كامل بمشهدية أو مسرحة تتجاوز خارطة اللوحة (النص) في مسار الحضاري القديم وتواتر آلية السردية من حوادث ووقائع مريبة ومعارك ودرجها في صيغة السرد الصوري . ويأتي عادل كامل بفعل قراءاته لمعطيات المتحف البصري بآلية القلب البصري للأنساق النحتوية حين يذهب الى فتح أداءات شاقولية تصاعدية من تحتانيات النص / التاريخ الى واجهاته / الحاضرة بديلاً للمقروء البصري لـ(الطرس) العراقي الأول . وتحتفي النصوص بتنوع من حضور واشغال المشهد بعلامات انفراد الجسد ببعض أعضاءه مثل الرأس أو في حشد من الأجساد في أداءات أو أوضاع وإشارات وحركات مايتناص وأبعاد النسق الحر في نصوص النصب وملاحم القائمة على إقدامات وأوضاع تراتب ومشهدية تاريخية وأنساق توالي في حقب وتواريخ وارتهانها بحركة أو إشارة ثقافية أو طبيعية . وعند عادل كامل تنفلت الأجساد من ايقونيتها الحاكمة التي تصر بعنت على حضورها الجبري والحتمي من منطلق ان لكل جسد ايقوناته المشخصة والمبيئة لتكون محض إشارات الى ذات انسانية فإذا كان الفنان برانكوزي في أجساده قد أوقفها في حركة أو حجم أو شكل مستدق بهدف تمثيلها إنساني ، فان أجساد عادل كامل تتأسلب مغربة في حواضنها الفضائية وحيوزها القاطعة متهيكلة في شيئية وجودية في محو لخصائصها البيئوية تارة أو في وضعها في خطوط الشروع الوجودي الأول حيث الجسد الطبيعي . والفنان عادل كامل في إنشاءه متجاوز لركام الأشكال والبنى الموجهة الى تيارات فنية ومدارس جمالية وتمذهب ذوقي ، فالرسم/النحت/العمارة وعناصرها البنائية في حوارية بولفونية ومعينات إنشائية لهيكلة النص بكل هجنته النصية وتعزيز شعريته وانفلاتاته من ابوّة الشكل والمحتوى والتعبير. والنص لدى الفنان اركولوجي في الاشارات والامضاءات التاريخية فثمة تناص للشكل والانشاء بواسطة طبقات تغلق سطوح النصوص وواجهاتها ، فاللون في تجزئية ونشور فضائي ليمكن سطحاً أو قشرة لسطح كولاجي تالٍ من الكتل والأشكال ذات السمة النحتوية بكل امتيازاتها التجنيسية المؤلفة مع مجاوراتها من الأشكال . والنص وفق ذلك في طبقات يعزز ذاته من طبقات متوالية تعبيرية وتواصلية تتيح للمتلقي فعلاً تقشيرياً من الاستقبال والاستجابة وتومض نصوص الفنان بمداليل ما بعدية في ماهية الشكل والخطاب الفني ذاته وجدى الإنتاج ، فالمنجز البصري ذا تواصلية يومية مألوفة يمكن لنا وضعه وأشكال السطح والمنتجات الاشهارية التي شهدتها فنون مابعد الحداثة . فالأشكال مستعارة من وقائع وحياة وفضاءات مجتمع الاستهلاك والالتذاذ التسويقي السلعي ، ما يؤشر نفعوية النص وحراكه في واجهات التبضع اليومي من الاثاث والبضائع الاستعمالية فالنص الفني في مرحلة ما بعد الحداثة يتبارى في حضوره وركام السلع في تشكلها وتصميمها الصوري/الاشهاري وايقوناتها النفعوية / الادائية . فالشكل لدى عادل كامل شكلاً موفوراً في ألفته لدى المتلقي وذخيرته البصرية ليستقر في طيات التاريخ وآليات الاحتفال في أروقة متحفية ، بيد أنه في أسلبة لعبية وتغريب شكلي / ماهوي تتبرأ به النصوص من أروقتها التاريخية مانحة ذاتها أحقية حضورية من التعبير والاندهاش واللذة المستجدة . والبنية في انشطار ثنائي بين نظم التاريخ ومفصلة يومية ينزع الاول الى متون مؤسسة في ذاكرة الذات (الحضارة/المتحف/المهاد) ويقيم شطرها الثنائي في ديمومة التحولات اليومية وصناعة التشكلات المستحدثة في ذائقة رغوية زائلة شأن في ذلك وسلع الاداء اليومي القائمة على الاستعمال الاحادي ، وهو فعل أدائي يتفاعل بحركية النص بصيغه ومساراته الشاقولية/اللولبية حيث بداية التاريخ بكل سعة منتهية في مشهد الاختزالات التداولية اليومية ذات السمة اللعبية . فعلامات مثل (جسد امرأة/الثور/الاسد/الشمس/المثلث...) منظومة علاماتية ذات بعد استهلاكي لدوال وأنساق ثقافية منتجة في فضاءات وادي الرافدين ، ليصيرها مدونة بصرية حدودها حواف التاريخ ذاته . اما علامات التحيين فأنها الاكثر سعة في تراسلها ومبناها وبما تحمله من فعلية/ازاحة لسجلات التاريخ البصري ذاته ، وذلك لدينا منشأ الاداء التغريبي أو التبعيدي بين مرتكزات الايقونة التاريخية (المتحف) ورمزية الاداء المابعدي . فالمتلقي لا يمتلك رغم هالة المرونة البصرية التاريخية _ ان استجابته السايكولوجية لمتون المدخرات الحضارية لم يتح لذته إلا تخطي تلك المدونات ليستقر بأفعال الاداءات من الإزاحة/التشكيل/المفارقة/العزل ، أمام جولة استقبالية تعيد المدونات بعده الناجز البصري عبر مرويات التغريب والاسلبة . كما أسهمت الخامات بكل تنوعاتها التقنوية والطبيعية من قماش/حبال/علب... في إنشاء أسئلة وفعل بينية إزاء الطرس التاريخي والإنشاء الشكلي المهجن/المقترح/العرضي/الشأن الذي يوعز بفعل تداولي / أدائي. وتسجيل فعل التلقي تأسيساً على ذلك استعارات الفنان عادل كامل في مفهومه ورؤيته للعمل الفني ومقولات هيدجر إزاء الادب والفن والشعر ومقدراتها في البوح بالحقيقية قبالة مقارنة بأداء التاريخ والعلم والمنطق ؛ اذ يؤشر هيدجر ان الفنون والاداب لا تعتد بصراحة الحقيقية وتموضعها المتعالي تكون محض عرض/أداء ومراوحة في التزامها بحقائقها الافتراضية . لذا فان أدائية النص لدى عادل كامل في توقير للحقيقة التاريخية لحضارة العراق الا انها في تجاوز أوّالية ومقولات فلاسفة الرفض والتفكيك (دريدا/فوكو/دولوز/غولتاري) ونترسم ذلك المفهوم مالاداء في طرح دولوز لمفهوم الجسد دون أعضاء ويجسدهُ (دولوز) في استعاراته من مقولات (آرتو) بان الجسم بلا أعضاء جسماً مجرداً الاعضاء، اذاً بل هو جسم دون التحديد العضوي ، جسم بأعضاء في حالة الصيرورة . العضو بالنسبة لـ(دولوز) كما (برغسون) هو ضد الحياة ، هذا الشكل يحبس الجسم في تنظيم محدد يأسر حياته ، بحيث ان العضو هو ماتقاومه الحياة لتنحصر . وتبدو الاجساد وفق ذلك في عماء تجسيدي مفرغة من احالاتها الطبيعية أو البايولوجية . ويمهد ذلك عادل كامل بتقنية المحو والتدثير فالجسد في شاقوليته وتراصفه مع قرائنه لايضمر تستراً بعلامة بدلالة اللون لاخفاء بعده الاشهاري متخذاً دالاً صرفياً/تجريديا عبر بياض الدثار للاجساد والاشياء . ويخضع الجسد في حالة الانفراد الى تأطير بعلامات الهندسة الاجتماعية في رصد الآخر له ومراقبته وإحاطته بنواب المؤسسة السوسيولوجية المراقبة والمعاقبة ، فالجسد في توجس من حركة صوب فضاء ليبرالي لحضور حشد الموانع والمعترضات من العلامات والفضاءات المتوالية . فالفضاءات بتعدد الأطر المحيطة بالجسد/الذات هي فضاءات متغالفة بعضها البعض هادفة الى انحناءات الذات الجسدية التي تتحرك داخل (أفقية) ثنائية تاريخية/ماضوية/ وحاضر يتمأسس في وجوده الفعلي ويسترجع المتلقي انحباسات التراث في فضاء السجون والمنافي وأفعال تعليب الجسد في أغلفة الشر والربط بمعينات لدينة وايقاعية سائدة لتمركزات التاريخ أو السلطة . ويرشح من ذلك شحة الاستجابة الحسية ازاء علامة الجسد المجوهرة في أطر العقلنة والضبط السيمتري فالشكل أقرب الى الحزم الهندسي والادراكي دون مثبوتات حسية وربما يطرح الفنان علامة الجسد محملة بخرائطها الطبيعية سيما نصوص الحشود الجسدية التي تستتر في ذاتها اللائذة من المراقبة والعقاب وما ينوب عن الآخر الجمعي وتأتي الاجساد في عريها الطبيعي دون مكيجة لونية أو إثارة آيروتيكية رغم انكشافها الجسدي ، ما يؤشر سعة فضائها التعبيري الذي حملته معطيات الحياة الاولى للانسان في متسعات الحرية قبيل ظواهر التمأسس الحياتي يكل جورها على الذات الجسدية والاجساد في مشهدها الحضوري تتراسل مع ذات المتلقي بـ(طهرانية بروتانية) ذات مناسيب عالية في موضوعة الجسد وازالة وإطفاء شرره التذويت . 

وينصب الفنان هيمنة لنصوص انثوية بكل دلالاتها الكشفية/المنكسفة وهو دال نراه ذا مشاعية في ذخيرة المتلقي الحياتية ازاء نصوص مغلقة الدلالات ، الا ان الفنان يوغل حد المغالاة مستزيداً من اشهارية النص الانثوي دون مسوغ تعبيري بإضافة علامة مثل المثلث ليختم بها أجساد مكشوفة . وتنهض قيم وأشكال اللاتجنيس بمحايثات مسرحية تكفل عمارة الفضاء والشخوص ودلالته السينغرافية ، فالصورة/اللوحة ذا سمة دراجة تصارعية وفي حراك أدائي تنشد فيه الاجساد النافرة خلاصاً من صرامة وجفوة الفضاء السلطوي الذي أخذ وفق صرامة الجغرافية مكانية خالصة دون مرشد ودال تاريخي أو بيئة شاخصة ماصير من الدالة الزمانية أفقاً متواتراً لا يمكن ترسمه إلا في محمولات وإمضاءات العلامات المحمولة في خارطة الجسد . ان السمة الصراعية / التصادمية لدى عادل كامل وما تحمله الجموع الجسدية من أفعال حركة وتزاحم وأحوال وأوضاع وإشارات الجسد يوفر أفقاً لتجسيدات الخطاب واستلزاماته من حضور ثنائية المرسل والمرسل اليه من حاضنة واقعه المتلقي ، فرغم ان النص التشكيلي خطاب غير محبر لدى (بارت) فكان النص في طريقته الادائية صوب عدة الخطاب المسرحي خاتماً بالمشهدية الركحية خطاباً يؤسسه المرسل رغم غيابه/محوه إزاء فعل الاستجابة لدى المتلقي ، ان النص مشروعاً لتعابر اتجاه صيرورة خطاب عماده الحركة/الفعل/الإنسان/الفضاء/الشخوص العاملة . ان انشغالات الفنان عادل كامل بعلاقة الجسد و/أو جعلها علامة مركزية من منجزه يتأتى الى امتيازات تلك العلامة بعدها علامة مفتوحة وحيوية وحاضرة في الوجود الانساني وتاريخه ، فهي لدى (بارت) قرينة النسق اللغوي بانه من أقوى الانساق لانه يعمل في مجمل وأصعب الظروف وتظل طاقة مستمرة . ونؤشر في نتاج الحضور الفعلي والحركي والادائي من متن المنجز البصري بُعداً أدائياً لتفعيل المنجز البصري/الرسموي الى مدى/فعل/أداء وهي إشارة الى الحاق خطاب الفنان بتمرحلات نصوص/خطابات ما بعد الحداثة . 


د. جواد الزيدي 



مقولات الكم والكيف لتكريس الرؤية في تجربة عادل كامل 

يترحل الفنان عادل كامل من رماد الأسئلة الفلسفية وحوار الأجيال ورفقته الطويلة لسرب الإبداع من منتجي الثقافة العراقية ، يشغله سؤال دائم حول إنتاج مايمكن تبنيه في الخطاب البصري ، وهل يمكن أن يكون هذا الخطاب إشارة لمعنى الوجود الفعلي أو الفلسفي ، أو أنه يشتغل على تلك المفاهيم التي تغذي مجساته البصرية التي لا تتوقف عند جنس معين ، فهو خارج التجنيس ، يمزج بين الرسم والنحت والشعر بالرسم لأنه العارف بلعبة الأجناس الفنية خارج التشكيل . فالفلسفة والشعر والرواية والقص والنقد و ما يرتبط بها من مشارب تصب كلها في خدمة مشروعه الحياتي وليس خدمة الجنس الفني الذي ينتمي إليه ، لأنه لا ينتمي إلى المحدد والمؤطر ، أنه يشيع كل ما يديم علاقته بالواقع وأهميته ومابعد الواقع وصحته ، وهل يمكن أن يكون الماورائي هاجس لفعل المرئي وانجازه وتصيره . أعتقد أنه كذلك ، حيث أنه يمنح كل هذا جهدا يوازي الآخر ويخلص له في لحظة الاشتغال بقدر إخلاصه لمعنى السؤال الأكبر وليس بقدر إخلاصه للحياة نفسها ضمن قوانين الواقع المعيش واليومي ، كونه متصوف أدار ظهره للواقع اليومي منشغلا بما وراء الحجب محاولا الاختراق من خلال البصيرة النافذة المسلحة بالمعرفة الخالصة ، حتى وأن أشعل قناديله لكي تضيء المناطق غير المأهولة ، الا أن أعماقه محاطة بالعتمة الأبدية أزاء اللاجدوى التي يشعر بها بتجميل صورة الكون أو تغيير الواقع بما يجب أن يكون عليه ،على الرغم من النوازع الكثيرة التي تشغله بهذا الصدد . كتب في الأجناس الفنية جميعها وكتب عنها في مجال النقد وما ترشح عن هذه الرحلة القيمة عن مساجلات وتواريخ لأحداث ومماحكات مع السائد في الشأن الثقافي بشكل عام ، بيد أن أهم ما يشير الى نشاطه النقدي تجلياته في النقد التشكيلي ومراقبته الدقيقة لحركة التشكيل العراقي منذ بداياته في النصف الأول من القرن العشرين وحتى هذه اللحظة رصدا وتوثيقا وأسئلة تلامس غمار التجربة وتطلعات القائمين عليها ليصبح هذا المدون مرجعا مهما للاستدلال على طبيعة حركية التشكيل العراقي عبر الزمن سواء كان ذلك وثائقيا يلامس حركة الأجيال والجماعات الفنية وطبيعة المنجز الفني الجمعي ، أو التجربة المنفردة وتسليط الضوء على خصائصها الفنية ضمن دراسات وبحوث أغنت المشهد النقدي وأغنت الدرس الأكاديمي والبحثي من خلال المعايشة اليومية وتتبع التحول الذي مرت به تلك التجارب وكشف المسكوت عنه فيها ، تلك الخصائص التي يدركها أزاء جلسات الحوار سواء كانت شفاهية أو مدونة التي أصبحت فيما بعد وثائق مهمة لمعرفة أسباب التحولات المهمة في خضم التجربة التشكيلية بخلاف ما يشاع فيها أو يروى عنها ، لأنها ناتجة من الفعل اليومي المشترك والجمعي وحركية التأريخ الفني . ولذلك ما أنجزه ( عادل كامل ) بهذا الخصوص يوازي انجاز مؤسسة كاملة تعنى بالتوثيق والأرشفة والكتابة النقدية ، اذ أصدر عشرات الأصدرات عن التشكيل العراقي ، فضلا عما أصدره في الدوريات والصحف المحلية والعربية عن الموضوع نفسه ، لذلك أصبحت مدوناته وثائق مهمة وكاملة عن حركة التشكيل العراقي يمكن أن يكشف عن ملامح لمجمل الخطاب البصري العراقي وطبيعة الاشتغال وجوهره والرؤى الساندة المرافقة للعياني منه ، فضلا عن ما أنجزه في الحقول الإبداعية الأخرى مثل القصة والرواية والشعر. لذلك فتح الأبواب مشرعة في خطابه المعرفي والعياني يقع في مقدمته ، محاولا الجمع بين الأجناس التشكيلية المختلفة ، اذ كانت هياكله الممثلة للجسد الإنساني أو الأنثوي هي القاسم المشترك يحدوه هاجس التكرار الذي وضعه في خانة الزخرفي من حيث المبدأ في صياغة هذا الهيكل بأوضاع شتى مماثلة أو مختلفة الهيأة تتوالد بأستمرار لانتاج ايقاعية العمل وفكرته أيضا تعامل مع جوهر الفكرة رامزا الى المكانية التي يتموضع عندها الجسد الإنساني ، بوصفه مركز الكون وتلتقي عنده كل الأفكار نازعا الى ذلك باستخدام تقنياته التي تفرضها الجنوسة الفنية . تتم بطريقة الحفر على الجبس أو البلاستك أومواد أخرى أو بطريقة الرسم ، حيث اشتغل على الموضوع باختلاف التقنيات ليعكس قيمة اللون في حقل الرسم والظل والضوء الذي يظهره النحت ، الا أن وحداته التي تحوي أشكاله الانسانية لا تختفي أبدا ، بل تتضح فيها الخطوط الفاصلة بين الوحدات المكررة . 

وبهذا التوصيف نزوع نحو توالدية الشكل بمفهومه الدلالي المتسق مع تكرار الأشياء والمواسم والفصول التي تمر على الفنان وهو تعبيرعن نمطية الحياة وسكونها وفكرة الزمن والتأريخ المعادين على الدوام وصداهما الذي يتردد داخل الفنان وتجلياتهما على خطابه البصري ، الا أن تجاربه الأخيرة تكرست بشكل ملفت للنظر لترسيخ رؤيته من خلال مقولتي ( الكم والكيف ) في تأسيس ملمح لتجربة قصد فيها خيارات تختلف بعض الشيء عن توصلاته السابقة ، تمثلت في سعيه إلى حبس أشكاله المجردة و تماهي ملامحها تماما داخل ممرات مغلقة من الداخل تصطف فيها هياكل طولية مكررة إحداها أمام الأخرى أو خلفها بصيغة نحتية خالصة تنتصب وسط فضاءات داخلية تحكمها مداخل وبوابات ودوائر وأقبية تحتفظ بدلالتها الدينية .الأشكال مغربة الصفات والملامح وأصبحت أرقاما فقط في سياق الممنوع والمحظور الذي يمارس قسرا لاحتوائها بالقوة والهيمنة الغاشمة ، اذ لم يعد سبيلا للخروج منه أو من هذا الفضاء أو النفق الضيق الذي جردها من خصائصها الإنسانية ، اذ تبدأ حركتها من الخارج الى الداخل تنظر الى عمق الممر الذي لايرى منه سوى العتمة وقد أسدلت على الوجوه أردية وحجابات تلونت بالبياض ليمنحها قدسية مزيفة وهو على قناعة بأنه يمارس مسخه لتفاصيل الهياكل والأجساد وتحطيم وجودها الانساني في ضوء الاستدراك الواقعي أو الاعلان عن عجزه ككائن على زحزحة الحتميات التأريخية . أن الفنان والناقد عادل كامل يفاجئنا نحن المشتغلين بهذا الوسط ومن ثم القراء بأهدافه السامية والمتحركة على الدوام من خلال حركية المعرفة لديه ، المتصلة بالحديث والجديد وآخره وضرورة مراجعة قناعاته المستمرة ، تعاطيا مع ما يفرضه الواقع بمعطياته الكبرى التي تزحزح حتما كل قناعة سابقة وتطيح بها . وهذا التواصل والمثابرة جعلت تجربته تتسم بالمغايرة وكاسرة لأفق التوقع المنتظر منه بفضل اعتكافه الطويل الذي يقضيه بالتأمل والمراجعة والإطاحة بكبريات الأفكار السائدة والمألوفة وهذا يتجلى في مشروعه النقدي أو التنظيري أو حين يحاكم تلك الأفكار بطرائق التعبير المرئي فتولد الفكرة مهما كان نوع ظهورها . 



د. محمد علي علوان 

أركيولوجيا الأثر في رسوم عادل كامل 

تتصل تجربة الفنان والناقد عادل كامل بضرورات البحث الفكري عن قيمة الأثر السايكولوجي المحمول على طبيعة النتاجات الفنية على تنوع خاماتها وتقنياتها ، أثراً يستحدث إشتراطات الرؤية التي تتبلور بفعل الازاحات النسقية للأشكال والصور والرموز ؛ فلا بد من طرح مستوى بنائي تتمايز من خلاله طاقة التشكُّل البصري للفكرة والموضوع وهو ما يعمل عليه الفنان لتحقيق نمط من الاستجابة الفكرية ، ضمن حيّز إشتغالي يعتمد على التعبير كدلالة تعمق الصلة بالموجودات المدركة ذهنياً وتحيلها وفقاً لرؤيته الأسلوبية الى مؤشرات وجدانية ، تحفر في ذاكرة الإنسان وجسده وتاريخه أفقاً جديداً وغير مألوف ، يقدمهُ عادل كامل كحلقة وصل بين السابق واللاحق ويأخذ من المعاني المخبوءة في بنية الجسد الإنساني إرثاً تتنافذ فيه مستويات الخطاب الجمالي ، وما يحققه من تسامي وتكثيف لسلسلة الدوال الحضورية الخاصة بالوحدات الجزئية البصرية . 

ان فعل الحركة في رسوم عادل كامل هو افصاح حقيقي عن ضرورات الاختزال والرغبة في تفكيك التسلسل الحركي للاجساد المتخيلة وإعطاء بنية الجسد خصوصية التأثير الحركي للخطوط فضلاً عن التقاطعات التي تحدثها طبيعة التشكيل والتراكب العمودي والأفقي للفضاء مع تلك الأشكال وعلاقة ذلك بفكرة التجريد التي تفرز من هيمنة الربط المرئي للوحدات الشكلية وتحليلها وبالتالي إستحضار الدلالة القصدية لفكرة الانزياح الشكلي لصورة الجسد . من هنا كان الفنان عادل كامل يمارس نوعاً من التضمين الدلالي للأثر المفاهيمي في نصوصه التشكيلية والتي تنزع إلى كينونات سردية تتعاقب فيها إفتراضات المشهد السردي الذي يضفي تواشجاً مثالياً بين الصورة والأثر ويكشف بذات الوقت عن طبيعة حوارية بين الأجساد الإنسانية التي تستنطق جدل الصراع والتوحّد وبين تمظهر بنية المكان المفترض جمالياً . لذلك يغدو الحفر الدلالي في أعماله التشكيلية بمثابة واقعاً اركيولوجياً يدرس من خلاله – عادل كامل – الآثار المندثرة التي تتصل بماضي الإنسان وتاريخه وعملية استعادة تلك الصور وفقاً لأزمنة جديدة متخيلة وهي علاقة جدلية تزيد من صيرورة الارتباط بين الشكل والمضمون في أغلب تجاربه التشكيلية وتعطي إنطباعاً عن عمق التواصل الإنساني في الفن ، وهو ما مثل مادة بحثية ، صاغ معطياتها من خلال الأسلوب البنائي والصياغة الفنية والاهتمام بخاصية الإظهار التقني والبحث في جماليات الملمس وتنوع الخامات والأساليب الكرافيكية والطباعية .