الأربعاء، 17 أبريل 2013

دقات قلبها في ساعة سورين-كاظم فنجان الحمامي



دقات قلبها في ساعة سورين



جريدة المستقبل العراقي


كاظم فنجان الحمامي

سوران متداخلان يحميان البصرة من عيون الحاسدين والمتسللين, سور رسمته المسطحات المائية بين ضفاف الأخوار والأهوار, وسور شيدته الكثبان الصحراوية بين أم قصر وأم الحوالي, لكن دقات قلبها ارتبطت روحيا وتراثيا وزمنياً بدقات ساعة سورين. .
كانت هذه الساعة الكبيرة تعلو البرج الحجري, الذي يتوج عتبة الجسر الخشبي المؤدي لسوق الصيادلة, أو سوق المغايز, أو سوق الهنود, ثلاث مسميات مختلفة للشريان المتفرع من برج الساعة, نكهة مميزة لا يفارق عطرها خلايا الذاكرة. .
انشغلت ساعة سورين منذ ولادتها عام 1906 بضبط إيقاعات سوق الهنود لستة عقود من المراحل الزمنية المتعاقبة, المزدهرة بالأنشطة التجارية, المرتبطة بالمرافئ العالمية البعيدة, فلم يحافظ عليها محافظ البصرة (محمد الحياني), الذي قرر إزالة البرج من قواعده عام 1965 بذريعة طمس اسمها الأرميني, الذي استمدته من اسم المصور الشمسي (سورين), ذلك الرجل البدين, الذي اتخذ من فتحة الجسر مكانا لكاميرته الخشبية البدائية, وأحبه الناس بابتسامته البريئة, ولهجته الهجينة الساخرة, فانهار البرج العتيد, وتوقفت عقارب الساعة عن الدوران, واختفى الهنود من السوق, واختفت معهم التوابل والمطاعم الجميلة, اما (محمد الحياني) فقد طاردته عفاريت الساعة وعقاربها في أجواء البصرة, وأسقطته من طائرته في ضواحي قرية (النشوة), بعد يومين من الإطاحة بالبرج التراثي وساعته التي حفظت خطوات الزمن على ضفاف نهر العشّار المتفرع من شط العرب. .
تباهت سواحل الإسكندرية بمنارتها الملاحية المطلة على البحر الأبيض المتوسط, وتباهت جنائن البصرة بمنارتها, التي حملت معها ساعة سورين بإطلالتها الخليجية, فكانت بالنسبة لروادها مثل ساعة (بيك بن) عند أهالي لندن. .
كانت الساعة تزين قمة البرج بوجوهها الرباعية المستديرة, ويحمل برجها فوق هامته مؤشراً ملاحياً كبيراً لتحديد اتجاهات الريح, وأربعة أسهم مكتوب على أطرافها الحرف الأول للاتجاهات باللغة الانجليزية, جنوب S)) , غرب W)) , شرق E)) , شمال ((N فتصدرت منذ تأسيسها نشرات أخبار (NEWS) التحضر.
تعمل ساعة سورين بنظام ميكانيكي دقيق, في الوقت الذي تعتمد فيه ماكينتها على ستة تروس مسننة فقط, بينما تعتمد الساعات الأخرى على ثلاثين ترساً مسنناً أو أكثر. .
ربما لا يعلم الناس إن صاحب المبنى كان تاجراً يهودياً من أصل روسي, وكان وكيلا لشركة ألمانية متخصصة بإنتاج المحركات الميكانيكية والأدوات الكهربائية, وكان هذا المبنى يضم مكاتب التاجر محمد الثنيان الغانم, ومحمد أحمد الغانم, واشتمل القاطع الخلفي من المبنى على مكتب عبد الله الصقر, وإخوانه, ومكتب خالد العبد اللطيف الحمد وإخوانه, قبل انتقالهم من البصرة واستقرارهم في الكويت. .
اما الجسر الخشبي الذي كان يربط سوق الهنود بسوق حنا الشيخ فقد بناه يهودي آخر يدعى (يامين), وكان يملك مطحنة كبيرة ومعملا للمياه الغازية, اما سينما روكسي, التي كانت قريبة من الجسر, فهي من دور العرض القديمة, وتعود ملكيتها ليهودي عراقي يدعى (عازار), وهو والد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق (بنيامين أليعازر), الذي ولد في البصرة عام 1936 وكان اسمه (فؤاد عازار), وأكمل فيها دراسته الابتدائية بهذا الاسم (فؤاد), ثم غادر البصرة إلى إسرائيل عام 1950 ليغير اسمه هناك إلى (بنيامين). .
لم تتوقف دقات ساعة سورين في قلوب أبناء البصرة, ولا في قلوب الذين غادروها نحو المحطات البعيدة, حتى جاء اليوم الذي خرج فيه أحد أحفادها ليعيد إلى الأذهان حكاية ساعة المدينة المسورة بسورين. .
كان رئيس المهندسين الأستاذ (علي خريبط) صاحب شركة (بصرة ماس) أول من تبنى فكرة النصب التذكاري للراحل (مزهر الشاوي), وهو الذي تحمل تكاليف تنفيذ النصب بالكامل على نفقته الخاصة, وأول من سعى بمشروعه المعماري لإحياء ساعة سورين وبرجها وبنايتها, وربما أراد من مشروعه هذا توثيق مراحل الازدهار والرخاء, لكي لا تختفي من الذاكرة إلى الأبد, فآفة التراث النسيان, وآفة الرأي الهوى, وآفة البصرة الإهمال. .
أسس (علي) شركته الهندسية الجديدة قبيل هذا العام, وكانت تحمل اسم (سورين), تيمنا بهذه الأيقونة البصراوية الجميلة, فاختار لها مكاناً مميزاً بجوار الأرصفة الشمالية العتيقة لميناء المعقل, وعلى وجه التحديد بين شط العرب والمدرج المائي للطائرات القديمة (الشط المالح), على امتداد الطريق المؤدي إلى مطار البصرة القديم. .
ومن المفارقات الرائعة, التي رافقت ولادة هذه الشركة, إنها ضمت باقة صغيرة من المهندسات الواعدات, اللواتي تخرجن تواً في كلية الهندسة التابعة لجامعة البصرة, فتيات صغيرات لا عهد لهن بالتصاميم المعمارية المعقدة, ولا خبرة لهن بالمشاريع الكبرى التي ستغير وجه المدينة نحو الأفضل, لكنهن قطعن حتى الآن شوطا كبيرا في إكمال التصاميم النهائية لساعة سورين وملحقاتها المعمارية, فتفوقن على الذين سبقوهن في هذا الحقل الإبداعي. .
ثلاث مهندسات مبتدئات فقط: كوثر جمال شهاب الطلال, وأمنية إسحاق هاشم, وهبة عبد الجبار هادي, سرن على خطى المرأة الحديدية (زها حديد), ووجدن الرعاية الأبوية, وحصلن على الدعم المطلق, فتفجرت طاقاتهن الهندسية في مواجهة التحديات الصعبة, ونجحن في وضع اللمسات النهائية لمشروع (ساعة سورين). .
توفرت للمهندسة (كوثر) البيئة العائلية النموذجية, فوالدها من أكفأ أساتذة الفيزياء, ووالدتها من أكفأ أساتذة التاريخ, فجمعت (كوثر) بين المواهب العلمية الفذة والمشاهد التاريخية الخالدة, ثم صاغتها في قوالب مهاراتها الفنية بأبهى صورة, ووظفتها في انجاز النموذج المصغر للمشروع. .
باقة يانعة من المهندسات الموهوبات بحثن عن المعالم البصرية المفقودة, وفتشن في دفاترها القديمة, وسعين نحو ترسيخها في ذاكرة المدينة العريقة المهددة بخناجر الحواسم, في الوقت الذي تواصل فيه شركات النفط العملاقة تشويه تربتها وتلويث بيئتها بمشاريع الحفر والتثقيب والتقطيع, فتنفث سمومها في أجواء المدينة المصابة بالربو الحاد لتزيدها تلوثاً وألماً, ثم تطوقها بأنابيب الملوثات النفطية, فتلويها حول عنقها وخاصرتها, فترتفع سحب الدخان الأسود من فوهات الأبراج الملتهبة بنيران الغازات السامة المحترقة في الجو. .
ختاما نقول: عندما ترتبط المعالم القديمة بالمنجزات الهندسية الإبداعية تتعالى أصوات الناس فرحاً وابتهاجاً, وتتوحد مطالبهم نحو استعادة المشاهد المفقودة من ذاكرة مدينتهم الجميلة, فتعود عقارب الساعة إلى عهودها المزدهرة في زمن الرخاء والاستقرار والتعمير والبناء. .
نحن هنا نتحدث عن ساعة قديمة بسيطة, معلقة فوق برج صغير عند نهاية سوق شعبي أضاع باعته وفقد نكهته, في الوقت الذي تتفجر فيه المشاريع الهندسية التراثية الخارقة على رمال مدينة (دبي) وأخواتها, وعلى رمال الدوحة وأبو ظبي والشارقة وعجمان وأم القيوين. .
لقد أولت بلدية دبي اهتماما خاصا بالحفاظ على تراثها المعماري باعتباره يمثل أبعادها التاريخية والثقافية والتراثية والسياحية , ونجحت في ترميم (178) مبنى في غضون عشرين سنة, أشهرها (حي الشندغة), وقلعة (الفهيدي), والمدرسة (الأحمدية), وحي (الرأس), وقرية (حتا), وسعت لتسجيلها في لائحة التراث لدى منظمة اليونسكو, فالمدن الخليجية اليوم في حراك علمي وهندسي لتوثيق تراثها المعماري لما لهذا التراث من دور فاعل في تأصيل وترسيخ الهوية الوطنية, وفي تعميق التواصل مع ما تركه الأجداد من موروث مادي ومعنوي. .
لقد أصبح الموروث المعماري هدفاً أساسياً لعملية شاملة لتطوير المجتمعات المعاصرة لمتطلباتها ومستجداتها الحياتية, وتأكيد قيمها وانتمائها لهويتها الوطنية.
نحن الآن في أمس الحاجة إلى التوعية المجتمعية, والحفاظ على تراثنا المعماري واستعادته, ونشر مفاهيم الانتماء للأرض والمكان. .
فمن يا ترى سيؤازر مهندسات شركة سورين, ويساعدهن في تفعيل مشروعهن التراثي ويخرجه إلى النور ؟؟. . . أم ربما يكون من الأفضل أن نطرح مثل هذا السؤال بعد انتهاء الانتخابات المحلية ؟؟. . .


-- 

ليست هناك تعليقات: