السبت، 13 يوليو 2013

قصص قصيرة-بلقيس الدوسكي

3 قصص قصيرة

بلقيس الدوسكي
هي والقمر

    كان ليلا ً بلا نوافذ، والقمر يبحث عن وسادة بين النجوم يضع عليها رأسه المثقل بهموم النيازك التي كانت تنتحر بين حين وآخر وتتحول إلى شظايا على حافة الأرض. وكانت أميرة تقرأ سورة الكرسي بإيمان مطلق لأنها كانت تخشى ان تداهم صومعتها الأرواح الشريرة.
    أعواد البخور تعطر بأريجها أرجاء البيت، ومسبحة أمها لا تفارق صدرها، فهي قلادتها المفضلة. الكتب متناثرة هنا وهناك، وهي زادها اليومي.
   من يراها للوهلة الأولى يظنها عبثية متمردة على كل قيم الحياة، لكنها تحمل في أعماقها إنسانة أخرى. تبحث عن قمر ضائع في متاهات الوجود الذي وعدها برحلة في الفضاء البعيد.
   تجولت كثيرا ً فوق خارطة حياتها. أرهقها اللهاث وراء السراب وكاد الظمأ ان يقتلها. أضرمت النار في ثياب صبرها واغتالت حالة التراجع والخضوع إلى الأمر الواقع.
    ولكن عندما حاول الليل ان يكبح جموحها ويمتص حماستها امتشقت سيف جدها وقطفت رأس المستحيل وأضرمت النار في غابة الأوهام.
   ربما اعتبرها البعض لبوة شرسة لا تقيم وزنا ً حتى لطبيعة الغاب وشريعته، لكن من يقرأ سفرها يتأكد له بأنها الحمل الوديع الذي تعرض لأكثر من جرح من ذئب بشري.
 حاولت ان توصد الأبواب كلها بوجه الريح، لكنه كان يتسلل إليها من خلال الجدران لكي يحرمها من رؤيته القمر الذي توسد الظلام وأبكى نجومه.
    رفضت الاستكانة، وحكمت على الصبر بالإقامة الجبرية في دهليز الغضب وقررت ان تشق طريقها إلى ما وراء حدود المستحيل.
   إنها على موعد مع قمرها الذي فقد ضوءه في محيط الصمت والقلق وأبكى حتى نجمة الصباح التي تودع آخر فرصة للظلام.
     إنها تذرف الدموع السخية، وتحاور القلب بكل لغات يرضخ لمشيئتها.
    الليل مازال يرسم غيمة سوداء فوق أجفانها ليهزم أحلامها الوردية ذلك لأنه عدو النهار ولأن الورود كلها تعشق الشمس، وتمنح للنسيم شذاها. لكن أميرة كانت ولم تزل اصلب عودا ً وأكثر شجاعة من قراصنة الهموم جميعا ً، ومن لصوص الحب بلا استثناء. فهي رغم هذه التيارات المشاكسة ستبقى تبحث عن قمرها. 



وأنا في مهب العواصف


   كان الفجر مازال يرتدي معطف الليل والنجوم مازالت معلقة في عمق الفضاء وهي ترنو من بعيد إلى ما يدور على وجه الأرض. كانت الأبواب كلها مقفلة والمدينة تغط في نوم عميق عندما أيقظتني  هواجسي وأفقدتني لذّة الكرى، شعرت ان قافلة محملة بالصراخ تجوب في أروقة كياني وتنثر الصداع في راسي.
    ألقيت نظرة مضطربة إلى الشارع الطويل الممتد من نقطة الصفر إلى نقطة الفراغ فرأيت نفسي وهي تتسلق أعمدة الكهرباء لتسرق نقاط من الضوء لتبدد بها الزوايا المظلمة في أزقة الروح، إلا أنها تعرضت إلى صعقة كهربائية ألقت بها إلى الرصيف المقابل لرصيف الزمن.
    استطعت ان أسعفها في الوقت المناسب وأعيد لها الحياة لكنها ظلت تعاني من عقدة الخوف، وهي مازالت تخجل من مواجهة الروح التي وعدتها بومضات الضوء، لكن الروح مازالت حزينة على ما حدث للنفس.
   وعندما استيقظ الصباح من غفوته وتلاشت أحلامه الكثيرة راح يهرول على بساط الشمس بكل قواه، ثم رشق الروح بهالة من الضوء غمرت كل جوانبها فعانقته النفس لأنه جلب للروح من الضوء ما يعادل الملايين من ومضات ضوء أعمدة الكهرباء.
     جلس الصباح عند باب صومعتي بعد ان أتعبه الركض الطويل، فطلبت منه ان يدخل إلى صومعتي لكنه اعتذر ورفض بإصرار:
ـ لماذا يا سيدي الصباح الجميل، لماذا ترفض دعوتي..؟
ـ أنا لا ادخل إلى الأماكن الباكية التي تصرخ في أرجائها الهواجس ..
ـ إذا ً، ساعدني على إذابة جليدها بحرارة شمسك.
ـ ابحثي عمن له القدرة على إذابة هذا الجليد المزمن، وهذه المهمة ليست من واجبي، وإنما هي من واجباتكم انتم يا أبناء ادم وحواء، لأن جليد صومعتك ليس من صنع الشتاء وإنما هو من صنع الإنسان، ونادرة هي الوحيدة القادرة على إذابته.
ـ لكن الإنسان الذي تقصده مازال في ظهر الغيب.
ـ هذه مشكلتك أنت.
ـ وأين أجد الحل لهذه المشكلة..؟
ـ لا استطيع التنبؤ.
    ثم نهض الصباح وتلمس قدميه اللتين أخدرهما الجلوس الطويل، ثم التفت نحوي وقال:
ـ لقد انتهى زمني المحدد. وداعا ً والى لقاء آخر، فقد حان زمن المساء.
    ذهب الصباح الجميل، وحل مكانه المساء، مساء الهواجس والقلق والجليد، وبدأت النفس تعاني من جديد. والمسافة شاسعة بين النار والجليد، وأنا في مهب العواصف.





سفينة نوح


    على الجدران الخلفية يرتعش الضباب، والفرشاة أرهقها الصراع مع الألوان، وهناك عيون في زاوية أخرى، ظلت تقرأ سطورا ً مبهمة حتى داهمها النعاس ونامت في معطف الليل.
    تداخلت الأشياء بالأشياء. فامتدت يد من العتمة لتوقظ حصانا ً أعمى افقده اللهاث بصره، لكنه رفس الجدار الأول فانهار جسد الزمن الذي كان يبحث عن نفسه في تلك اللحظة الهاربة منه.
   وبدأ الضجيج، فاستيقظت العيون وبدأ المطر فاحدث طوفانا ً رهيبا ً في غابة الصمت، غرقت أشجار عملاقة ونجت من الغرق براعم صغيرة كانت تحبو في أحضان الغابة، وهناك، على المدى البعيد، كان الصدى لصوت ينطلق من وراء الأفق، يتردد في أعماق الأودية التي لم يغمرها الطوفان بعد..
   ينادي المتدثرون بالجليد، أضرموا النار في قمصانكم لكي تضيء لكم الدرب نحو بر الأمان واخرجوا من جلودكم المتهرئة التي لم تعد فيها مكان لذنوب أخرى، ثم ساد الصمت من جديد.  واقتربت الأعاصير على أجنحة من الطين القديم وهي تنذر بالقضاء على كل من يقف متحديا ً لها..
   رقصتن الأفاعي ظنا ً منها بان قرار الأعاصير لا يشملها. لكن الأعاصير كانت لا تعرف المساومة.
     وارتعش الضباب ثانية على الجدران الثلاثة بعد انهيار الجدار الرابع على جسد الزمن الذي كان يبحث عن اللحظة الهاربة التي كانت وراء هروب نفسه...
   وعلى اثر صرخة هزت الصمت ثانية، حفر البعض خندقا ً لنفسه في أعماقه، لكن هذا البعض لم يهيأ منفذا ً له، فالطوفان غطى كل العيون، وربما ساعدته على ارتفاع مناسيبه.
    كانت وراء الأفق البعيد، وعلى مسافة لا احد يعلم مداها، شجرة مازالت مورقة، ولكن، من أية فصيلة هذه الشجرة ..؟
    الوقت قد فقد مسافته، الليل لا يعرف انه ليل، والنهار لا يشبه نهاره القديم، ترى هل اقتربت النهاية..؟ لا وجود للأرض، فالطوفان يغطي الحياة برمتها. وسقط آخر الجدران بفعل الأمواج العاتية.
ثم جاءت حمامة بيضاء تحمل غصنا ً من شجرة الزيتون، ونزلت ورقة مقدسة من السماء تبشر من تبقى. ستعود الحياة من جديد. لقد غسل الطوفان ذنوب الأرض، وسترتفع الجدران من جديد، وتنمو البشرية..انظروا...انظروا جيدا ً...وابشروا لقد أقبلت سفينة نوح!


ليست هناك تعليقات: