رفشان !! *
ويواصل أبو رياض حديثه ؛
"بعد ان اضطررت إلى الهرب من العاصمة بغداد بعد أحداث عام 1963 ، استقر رأيي ان استوطن مدينة الحلة ، وهو نوع من التواري عن الأنظار ، بعد ان راجت في بغداد بضاعة كيل الاتهامات بين الناس آنذاك ، وعقب استقراري في مدينة الحلة الوادعة والمتفتحة فأني شرعت باستئناف ماكنت قد اعتدت عليه من رحلات الصيد ، وفي احد الأيام ذهبت بسيارتي الى قضاء الكفل الذي يتضمن قبر النبي (ذي الكفل) بالإضافة إلى قبور عدد من أنبياء اليهود منذ عهد نبوخذ نصر وحاخاماتهم ، وعلى ضفة نهر الفرات رميت بسنارتي ، وبعد حوالي الساعة شعرت بآن الخيط يسحبني بقوة غير مألوفة فاعتقدت آن ثمة حوتاً صغيراً عالق بسنارتي ، سحبت الخيط بقوة شديدة ، وذهلت عندما شاهدت (رفشاً) كبيراً عالقاً فيها ، سحبته الى صفة النهر ، ولم استطع السيطرة عليه إلا من خلال جره من أطرافه الخلفية ، وبعد جهد ومشقة استطعت ان أضعه في الخانة الخلفية من سيارتي التي كانت من نوع (موسكو فج ستيشن) ، وفي طريق عودتي ، شاهد الزوار العائدون من النجف هذا المخلوق الغريب الكبير الرابض بسيارتي فتملكهم الفضول لمعرفة ما يكون ، واخذوا يحاذون سيارتي ويسيرون خلفي لكي يمعنوا النظر إليه ، ويبدو ان (الرفش) قد استمرأ هذا الوضع ، حيث أصبح نجماً فأستعاد ذاته وانتصب على رجليه واخذ يلوّح للزائرين من خلال زجاج السيارة ، واستمر هذا الاستعراض الذي هو اقرب شبهاً بزفة عرس الى حين وصولي الى تقاطع الحلة / نجف في مدينة الحلة ، وأخيراً وصلت إلى داري الكائن في منطقة الماشطة وخلال إنزالي لهذا المخلوق احتشد جمهور كبير من الناس ، كباراً وصغاراً ، رجالاً ونساءً يدفعهم الفضول لرؤية مأثرة (ابو رياض) الجديدة ..
وأخيراً استطعت إنزاله وسحبته إلى وسط حديقة بيتي وربطته بسلسلة حديدية هناك ، وأوصيت زوجتي (أم رياض) بالاعتناء به طيلة فترة دوامي في مصلحة نقل الركاب التي كنت اعمل فيها سائقاً لإحدى حافلاتها ،على أمل ان أقدمه هدية إلى حديقة الزوراء في بغداد في وقت لاحق ، وفي احد الأيام جاء ابو رياض ثملاً الى البيت فتراءى له الرفش تحت جنح الظلام حصاناً ، فامتطاه ، فإذا به يمشي به ، وامسك بعصا قطرها نصف انج وقربها من فمه فإذا به يقطعها بأسنانه الحادة بأسرع من لمح البصر ، وما ان شاهدت أم رياض هذا المشهد المروع حتى صاحت بي ؛ " لو الرفش يبقى في البيت لو آني " وقررت المغادرة ، وفي حقيقة الأمر ، فإنها بعد ان رأت قوة أسنانه فإنها خافت على أولادنا من بطشه ، فوافقتها الرأي وهدأت من روعها وقلت لها اطمئني سوف اقتل هذا المخلوق ونتخلص منه ، وبالفعل أحضرت عصا غليظة وضربته على أم رأسه ، ولكنني سرعان ما ندمت على هذا التصرف الطائش الذي ينم عن جبن ، وقررت ان أعود به إلى النهر ، وهذا ما حصل .
احد الأطفال من منطقة مجاورة ممن شاهد الرفش حكى لأخيه الأصغر سناً ما شاهده ، فاخذ هذا يبكي في الليل مطالباً أمه وأباه بأن يذهبوا به لمشاهدة هذا الكائن الغريب ، " وقد علمت بعد ذهابي الى الدوام ، بأن أم الصبي جلبت إبنها معها في الصباح الباكر ، وأخيراً أوصلوها إلى بيتنا دقت المرأة الباب ، فخرجت أم رياض ، فسألتها ؛ عيني ، هذا بيت ابو رفش ؟! قالت لها زوجتي متبرمة ؛ عيني ، عندنا في البيت (رفشان) ، رفش ذهب الى دائرته ، والرفش الآخر ذهب إلى النهر فأي منهما تريدين ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
*الرفش هو ذكر السلحفاة حينما يصبح كبيرا في السن ، وقد أشيع في الموروث الشعبي العراقي عن قوته وقدرته على اغراق السباحين الماهرين أساطير كثيرة .
عاصمة البلابل *
تعد مدينة خانقين التي تبعد حوالي 150 كم إلى شمال شرق مدينة بغداد واحدة من أهم محطات الاستراحة والاستجمام في العراق ، نظراً لوفرة بساتين الفاكهة فيها والمناظر الخلابة واعتدال مناخها ، كما ان هذه المدينة هي عاصمة البلابل بامتياز أو هكذا كنت اسميها ، حيث كانت أعداد البلابل بالملايين ، أو هكذا خيل لي ، وكان تغريدها لا ينقطع وخاصة حين تبدأ أشعة الشمس تصافح وجه الحقول ، وكان نهر الوند يخترق هذه المدينة الوادعة من وسطها ، وقد عرف عن هذا النهر انه مليء بالأسماك ، وكنت اقضي أياماً طويلة في صيد الأسماك في هذا النهر الرائع وكان مصفى الوند والمدينة المصغرة المشيدة بالقرب منه قد أقامهما الانكليز في أربعينيات القرن الماضي ، وتم تخصيص عدد من الدور للموظفين والمهندسين الانكليز آنذاك ، وهناك كانت تسكن عائلة أخي ، حيث كنت أنام عندهم ، وغالباً ما يساورني شعور بآن هذا المكان هو الجنة أو على الأقل هو قطعة منها ، ذلك ان كافة بيوت ذلك الحي كانت مرتبة ومنظمة تنظيماً هندسياً ينم عن حضارة وذوق رفيع ، كان كل بيت مجهزاً بأنابيب الغاز وموقد للتدفئة وفق الطراز الانكليزي ، والغريب في الأمر ان هذه المدينة التي رحل عنها موظفوها الانكليز أبان ثورة 14 تموز عام 1958 تم هدمها بالكامل بعد الحرب العراقية الإيرانية التي اندلع أوارها في العام 1980 لتستمر لمدة ثماني سنوات احترق فيها الأخضر واليابس وأدت إلى تقهقر العراق في الميادين كافة ، في حين كانت الأمم الأخرى كتلك الواقعة في جنوب شرق آسيا تغذ الخطى في هذه المرحلة بالذات لبناء دول ذات طابع عصري ومنتجة صناعياً وبتكلفة اقل بكثير من تكلفة الحرب الباهظة ، وعلى آية حال وقع المحظور واصطدم الفأس بالرأس كما يقولون ، وقد ورد من السلطات العليا ببغداد أمر هدم هذه المدينة الصغيرة أو (الحلم) كما كنت أطلق عليها ، وتم تفكيك مصفى الوند الذي يقع بالقرب منها ، بحجة ان هذا المصفى واقع تحت مرمى المدافع الإيرانية وإذا كان هذا الكلام ينطبق على المصفى ، فما ذنب هذه المدينة ، ان يصار الى هدمها وتحويلها إلى أنقاض وقد تبين لنا فيما بعد ان إزالة هذه المدينة من الوجود كان أمراً قد دبر بليل ، وانه كان بدوافع سياسية ، إذ ان بعضاً من سكنتها كانت لديهم ميول عقائدية أخرى ، وقد توفرت لدي قرائن عديدة مماثلة ، أقدمت فيها السلطات على إزالة أماكن بعينها بحجج ما انزل الله بها من سلطان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يوجه أبو رياض نداءه الى كل من يعنيهم الأمر ( ونعني به إزالة المدينة النموذجية الملحقة بمصفى الوند بخانقين ) ومحوها من الوجود ، ممن تتوفر لديهم وثائق أو شهادات بهذا الصدد ، من اجل تقديمها إليه على أمل ان يصار الى إثارة الموضوع وفتح ملف هذه المدينة المنكوبة لدى الأوساط والمحافل الدولية والإنسانية . وهو يرجو من هؤلاء مراسلته على الايميل التالي alhilyahmed@yahoo.com
صائد مواد احتياطية !
لم يقتصر ما كانت تخرجه سنارة (ابو رياض) من الماء على الأسماك والسلاحف وأفاعي الماء ، وانما تعدتها الى أشياء وحاجيات أخرى هي جزء من ذاكرة النهر وما يمور به من أسرار ففي إحدى المرات علق (الشص) بشيء ثقيل ، فاستخرجه بعد عناء فإذا به مكواة قديمة الطراز مما كان يعمل على الفحم ، وفي أعقاب غزو الكويت راحت السنارة تستخرج متعلقات الحرب كالبصاطيل وأقنعة الوقاية من الغازات الكيمياوية وفي إحدى المرات استخرجت هيكلاً كاملاً لرشاشة أحادية ، ولعل أطرف ما يتذكره ابو رياض أن سنارته علقت أبان فترة الحصار بـ(جاملغ) أيمن لسيارة نوع مسكوفج ، فركنه الى جانبه واستمر بعملية الصيد ، وبعد قليل توقف احد السائقين بسيارته ، سائلاً إياه عن الثمن الذي يطلبه لهذا (الجاملغ) ، فرد ابو رياض ضاحكاً ؛ خذه مجاناً ، فانا لست بائع أدوات احتياطية وبعد أسبوع تقريباً ، إذا بنفس السائق يتوقف مستفسراً عما إذا كان قد استخرج الجاملغ الأيسر !
طائر الدراج
يصف أبو رياض طائر (الدراج) بأنه طائر ذو لحم شهي إلا انه مراوغ ماكر وعصي على الاقتناص ومع ذلك فانهم فطنوا إلى نقاط ضعفه ، كالأوقات التي تتطارح فيها الغرام والتي تشغلها عما حولها من أخطار ، وكذلك انبهارها بضوء مصباح السيارة عندما يحل الظلام فيقترب منه ،وعند ذلك نستطيع الإمساك به بسهولة ، ويتحدث عن واقعة طريفة مع هذا الطائر ، ففي إحدى المرات أصابوا واحداً ببندقية صيد ، فأمسكوا به وأسرعوا إلى قطع رأسه خشية ان ينفق ، فأخذ جسده المقطوع الرأس يرفرف في الدغل القريب وحين جاؤوا لأخذه لم يجدوه ، وفتشوا عنه في الأمكنة القريبة ولكن دون جدوى ، ويعلق ابو رياض قائلاً ؛ ان هذا جزء من مهارة الروغان التي يتصف بها هذا الطائر !
مرسوم رئاسي
من بين الأمور التي اهتم بها ابو رياض ، تربية البلابل وما يزال يتذكر احدها والذي أعطاه اسماً هو (حيدر) فكان هذا البلبل ينتقل معه أينما ذهب ، وفي إحدى المرات غفل (حيدر) عن نفسه قليلاً فهجم عليه قط كان متربصاً به ، فحزن ابو رياض كثيراً لفقده وقرر منذ تلك اللحظة ان يقلع عن تربية البلابل ، إلاّ ان ذلك لم يمنعه من أن يقوم بتربية إحدى القطط الشامية ذات الفراء الناعم الجميل ، وأطلق عليه تسمية (ميسون) ، وكانت على درجة عالية من الكياسة والتهذيب واللياقة ، حتى انه كان يعتبرها جزءاً من أسرته ، إلا انه فوجئ ذات يوم ان مجلس قيادة الثورة يصدر مرسوما يقضي بإبادة القطط والكلاب السائبة ، وان على الذين لديهم حيوانات أليفة في بيوتهم ان يذهبوا بها الى دوائر البيطرة القريبة على أمل ان يتم حقنها بالمصل الخاص ضد انتشار الأوبئة ، وبدلاً من أن يعطوها المصل زرقوها بحقنة قاتلة ، الأمر الذي أدى ان يدخل ابو رياض في شجار عنيف مع موظفي الدائرة ، ليخرج بعدها حاملاً جثمان (ميسون) ، ثم ليقوم بدفنها وفق مراسيم خاصة .
نداء الأمومة
اعتاد الناس في العراق أبان فترة الحصار ان يبتدعوا وسائل وأساليب غير معهودة للصمود امام شبح الجوع وخواء المعدة الذي بات يتهدد حياة الملايين ، وازاء ذلك جلب ابو رياض في احد الأيام دجاجة ، وفي ذهنه مشروع لتربية الدواجن في حديقة منزله ، ليستفيد من بيضها ولحومها ، وبعد أن نفد بيض الدجاجة وأصبحت " كركه " حسب التعبير الدارج ، جلب لها عشر بيضات ملقحة من السوق ووضعها في كنها ، وما إن مضى الوقت اللازم لتفقيس البيض حتى أخذت الكتاكيت تطل برؤوسها الصغيرة ، إلا ان فرحة ابي رياض وعائلته لم تدم كثيراً ، فقد إلتهم الموت الفراخ واحداً تلو الآخر : واتى عليها جميعاً ، وتكرر الأمر في المرة الثانية والثالثة والرابعة وأخيراً قررت العائلة ان تنقل قفص الدجاجة إلى إحدى زوايا سطح الدار حتى لا تبصر أعينهم تكرار وقوع المأساة ، وبعد انقضاء المدة اعتادت العائلة على مشهد رؤية الأب وهو يصعد إلى السطح ثم لينزل وبيده واحد أو أثنان من الكتاكيت الميتة كان الجميع مدركين في التالي انه لم يتبق سوى بيضة واحدة يوشك كتكوتها ان يرى النور لفترة وجيزة ، صعد ابو رياض في اليوم التالي ونزل من دون ان تحمل يده أي شيء ، فأستفسروا منه هل رميته من فوق أجابهم ، كلا، فما يزال قرب أمه حياً ، ويساورني إحساس ان هذا الصغير سيعيش هذه المرة ، فاستفهموا منه وكيف عرفت ذلك ؟ أجابهم ؛ رأيت عجباً ، إذ أبصرت أمه وهي تذودني بشراسة عنه ، ثم رأيتها ترفع رأسها إلى السماء وتقوقي بطريقة غريبة لم أعهدها في الدواجن من قبل فهمت منها إنها تطلب من خالقها ان يستبقي لها هذا الكتكوت الأخير استجابة لنداء الأمومة التي يبدو إنها لم تذقها قط ، وبالفعل عاش الصغير .
كيس طحين
ما زال الحديث متواصلاً عن فترة الحصار ، حيث وجهت الدائرة الحكومية التي يعمل فيها ابو رياض بوصفه سائقاً وجهته للذهاب بسيارته (البيكب) إلى بلدة المحاويل الواقعة إلى الشمال من مدينة الحلة بحوالي 20 كم لجلب بعض المستلزمات من مخزنها هناك ، وفي طريق الذهاب استوقف احد الأشخاص الواقفين على قارعة الطريق أبا رياض ، فتوقف ، فطلب هذا منه أن يقطر له سيارته العاطلة إلى بلدة المحاويل ، ظاناً ان بيكب ابي رياض سيارة شخصية، وافق ابو رياض على قطر السيارة مقابل مبلغ (10) آلاف دينار ، وفي اليوم التالي ، فوجئ ابو رياض بمدير دائرته وهو يستدعيه على عجلة ليقول له بلهجة صارمة موبخة لقد رأيتك بالأمس وأنا ذاهب إلى بغداد وانت تقطر بسيارة الدائرة إحدى السيارات المدنية العاطلة : فأنكر ابو رياض ذلك مصراً على انه لم يسحب أي سيارة ، فأصر المدير ؛ ولكني رأيتك بأم عيني هاتين فأجاب ابو رياض بذات الاصرار مبيناً انه لم يكن يسحب سيارة وانما كيس طحين !
شكر ومحمود
اقترب فراش الدائرة من ابي رياض ، وسلمه مظروفاً ، وقال له افتحه ، وبعد ان فتحه ، وجد فيه كتاب شكر وتقدير موجه من مدير الدائرة إليه لحرصه وتفانيه في عمله رغم الظروف الصعبة والرواتب الشحيحة ، وبدلاً من ان يفرح ، اغتاظ ابو رياض كثيراً فتوجه من فوره إلى غرفة المدير ، ليلقي على طاولته كتاب الشكر ، قائلاً له ؛ انا لست في حاجة لكتاب الشكر هذا ، فقال له المدير ؛ ولم ذلك ؟ قال، بعد أن استخرج من جيبه هوية احواله المدنية ووضعها امام عينيه فوق طاولته ؛ تأمل جيداً في اسمي ابي وجدي ، إنهما شكر ومحمود ، فهم المدير المغزى ، فاستبدل كتاب الشكر بمكافأة مالية !
لوحة
أصيب أبو رياض في السنوات الأخيرة بضعف في بصره ، وبعد أن ذهب الى أحد أطباء العيون أخبره هذا بعد أن فحصه بعناية ، أن الأمر يتطلب إجراء عملية جراحية ، من أجل ( زرع عدسة) بحسب مسمياتهم .
وفي الموعد المحدد ذهب أبو رياض وتم إجراء العملية ، وخلال مكوثه في البيت وإنتظاراً لرفع الخيط ، إتصل هاتفياً بأحد أصدقائه من الفنانين التشكيليين ، وكلفه بتنفيذ لوحة وأعطاه فكرة تفصيلية عن المفردات التي يرغب في أن تتضمنها اللوحة ، وعندما حل موعد الذهاب الى عيادة الطبيب ، تأبط اللوحة بعد أن غلفها بعناية ، رحب به طبيبه وطلب منه أن يضطجع على الكرسي المخصص ، إلا أن أبا رياض قال له ؛ ليس قبل أن تشاهد هذه اللوحة ، و أخذا يرفعان عنها الغلاف ، ألقى الطبيب نظرة على موضوع اللوحة الذي لم يفهم منه شيئا للوهلة الأولى ؛ فقد رأى اللوحة مرسومة وفق الأسلوب التجريدي ، إلا أنه إستطاع أن يميز شكلاً على هيئة عين ولكن بجناحين يطيران في الفضاء الفسيح ، وثمة تحتهما أجزاء من الخيط المتساقط ، وأخيراً إستطاعت عيناه أن تقرءا عبارة مكتوبة بخط مموّه تقول ؛ فك الخيط يا دكتوري ، خلي يطير عصفوري ، فرح الطبيب بهذه الهدية النادرة وأسرع الى تعليقها في صدر عيادته .
مأساة كلب
في رحلة تالية الى مدينة الشوملي ، التي طارت شهرتها من خلال الأغنية الذائعة ؛ عالشوملي الشوملي ، نارك ولا جنة هلي ، ابتعد ابو رياض كعادته عن أصحابه ليدخل في أدغال كثيفة ثم ليجد نفسه امام فضاء متسع وقبل ان يلتقط أنفاسه رأى كلباً ضخم الجثة يتوجه نحوه؛ " تلفتّ يميناً وشمالاً ، قال ، فلم أجد أحداً فعلمت بأني المستهدف بهجوم الكلب المباغت هذا ، وبأسرع من لمح البصر وبطريقة لا شعورية وجدت نفسي ارفع يديَّ مقلصاً أصابعي وأخذت ابحث برجلي في الأرض مثيراً نقيع الغبار من حولي محاولاً إيهام الكلب بأن الكائن الذي يستهدفه ليس من بني الإنسان ، وانما هو وحش كاسر مثله وربما يكون أكثر فتكاً منه ، وبعد ان صار الكلب قريباً مني وأبصر هذا المشهد المروع ارتد على أعقابه هارباً . "
وما يزال يتذكر انه وبعد مرور حوالي سنة على هذه الحادثة التي لم يجرؤ بالحديث عنها لأحد فان مجموعته قدمت الى المكان ذاته لاصطياد طيور الدراج كعادتهم ؛ " فإذا رجل بدوي يتوجه نحونا ، وبعد أن ألقى التحية ، استفسر منا ان كنا نحن نفسنا الذين قدمنا الى المكان ذاته في العام الماضي ، فقلت له : نعم ، فقال ، لقد شاهدت عن بعد هجوم كلبي عليك وارتداده السريع ، والغريب في الأمر ان هذا الكلب وبعد مرور ثلاثة أيام ، أحسسنا انه أصيب بصدمة ثم مات بعدها ، فأرجو منك ان تخبرني ماذا فعلت له ، فقد فحصنا جسده فلم نجد أثراً لضربة فقلت له سأخبرك ماذا فعلت معه ؛ فقمت على الفور بتمثيل الحركة والهيئة التي اتخذتها دفاعاً عن نفسي ، وكذلك الصوت المزمجر الذي أطلقته ، فأحس الراعي بالخوف وعراه الاضطراب وساورني إحساس في تلك اللحظة الخاطفة بأنه ينظر إلي على إنني مجنون ولأخفف عنه قليلاً قلت له ممازحاً ؛ إن كلبك مات مخروعاً يا ولدي !
حجّي مو مستر !!
بينما كان صاحبنا يسير بملابسه ذات الطابع الأوربي وقبعته البيضاء ، ببشرته البيضاء المشربة بالحمرة وعينيه الزرقاوين، عائدا من رحلة الصيد على الشاطيء الذي لم يظفر منه بطائل ، إذ لحق به احد الصبيان وامسك بردن قميصه صائحا به بوقاحة ؛ مستر .. كود فش ! فألتفت إليه بعد ان القي نظرة على الجهة التي قدم منها مبصرا عددا من صيادي السمك وأمامهم بضاعتهم وهم يترقبون عودة فتاهم بصيده السمين ، فزجره بشدة ؛ ولك شتريد مني ؟ تريدني افش لك بطنك ؟ فما كان من الصبي المتذاكي إلا ان تراجع قليلا والدهشة تعقد لسانه صائحا على جماعته ؛ ولكم هذا طلع حجّي مو مستر !!
الشهيد العائد
دخل أبو رياض بسيارته الخاصة من نوع موسكوفج في احد شوارع محلته الفرعية ، وعلى الرغم من ان الوقت كان ليلا إلا ان الشارع كان مضاءً بصورة كافية مكنته ان يرى شبح احد الأشخاص ،استغرب لأول وهلة وهو يراه يقترب من سيارته المتوقفة ، قال مع نفسه ؛ ربّاه انه هو بلحمه ودمه ،فرك عينيه وحدق بأتجاه الشبح المريب الذي اقترب من السيارة ، توقف ثم قال؛ اظنك عرفتني؟
- اجل ، اجل .. وكيف لي ان لااعرفك ، ولكن ...
- لاتكمل ، فأنا اعرف تتمة الحكاية ، فلأول وهلة خالجك شعور بأني شبح شخص ميت يتجول في دياره ، إلا انني لست كذلك ، وبأمكانك ان تلمسني لمس اليد ، لقد عرفت بل وتوقعت ان الجميع وكذلك أهلي يعتبرونني في عداد الأموات ، وقد اخبرني احدهم ان أهلي أقاموا لي مراسيم الفاتحة في مسجد المحلة باعتباري احد شهداء الحرب ، ولكن وكما ترى، فأنا لست شهيدا والحمد لله..
- ولكن ،الشخص الذي جاء احد جنود وحدتكم بجثته ، من تراه يكون ان لم يكن أنت ؟
ثم أردف قائلا ؛ ترى ، كيف تم تمرير هذا الأمر الخطير بمثل هذه السهولة ؟
- اعلم أيها العم ان الأمر عصيّ على الفهم حقا ،ولكن وكما تعلم، فأن وحدتنا قد تم تدميرها عدة مرات ، وانها بمجرد ان يعاد تنظيمها حتى يزج بها في اتون معركة جديدة ، وقد ضقت ذرعا من هذه الحرب المجنونة ، لذا اتخذت قراري بالهرب لبعض الوقت لانجو بجلدي و لالتقط انفاسى ، ولربما حالفني الحظ في اجتياز الحدود والهرب الى تركيا ومنها الى أوربا كما فعل ذلك بعض المحظوظين ، وسأروي لك مافعلت بالضبط ، ففي آخر معركة اشتركت بها وحدتنا ، فاني نزعت قرص التعريف الخاص بي عن عنقي وبحثت بين جثث قتلى المعركة الذين سقطوا في الليلة الماضية ، فعثرت على ضالتي ؛ جثة شبه متفحمة بوجه مموّه الملامح ، فأستخرجت قرص التعريف الخاص به ودسست مكانه قرص التعريف الخاص بي ، ثم إني اتخذت طريقي في المسالك الوعرة في الجبال وهربت ، وحصل الذي كنت أتوقعه ، فقد ذهبوا بالجثة المتفحمة الى أهلي بأعتباره أنا ، وها أنت ذا تراني أمامك ثانية بعد موتي ! تعجب أبو رياض من هذه الحكاية الغريبة ، وسأل الهارب العائد ؛ ولكن يبدو انك لم تطرق باب اهلك لحد الآن ..
- أخشى ذلك واتهيّبه !
فهم أبو رياض انه لايريد لامه وأبيه ان يتفاجآ بعودته ، لاسيما وانه ابنهما الوحيد ، كما ان الأب مصاب بجلطة دماغية والأم مصابة بمرض السكري منذ اللحظة التي جنّدوا فيها ابنها وساقوه الى الحرب عنوة ، وبعد تفكير قصير طلب الجندي من أبي رياض ان يذهب به الى بيت خالته في منطقة المسيب ، وان يطرق بابهم بمفرده في حين لايكون هو موجودا في لحظة اللقاء ، على ان يقوم بإفهامهم خلال ذلك سبب زيارته لهم وهو ان خبرا جاءه من احد الأشخاص يتعلق بابن خالتهم الذي يبدو انه مايزال حيا يرزق، وانه الآن موجود في مكان ما ،، وبهذه الطريقة يمهد لحضوره ، واغتبطت العائلة بالخبر بعد ان تأكد الأب من سلامة المخبر العقلية ، ثم انه ما لبث ان احضره لهم فعلت زغاريد الخالة وبناتها وهلهلن ابتهاجا بقدومه ، وشكروا أبا رياض على الطريقة الحاذقة التي أوصل بها الخبر إليهم ومن ثم إحضاره لابن خالتهم ، وأصروا عليه ان يبيت ليلته تلك في بيتهم لاسيما وانهم يعرفونه حق المعرفة ، وأثناء ذلك اتصل احد أفراد العائلة هاتفيا ببيت خالتهم لينقل إليهم الخبر السار الطازج ، ثم امسك المعني نفسه بالهاتف واخذ يتحدث مع ذويه بحديث ذي شجون ودموع.....
لحية رئاسية
في العام 1982 وفي ذروة الهزائم العسكرية التي تعرض لها جيش النظام في الحرب العراقية الإيرانية التي كان صدام يأمل منها تكريس اسمه وتسويقه على الأقل عربيا بوصفه قائدا عسكرياَ لايشق له غبار وبالتالي بطلا للتحرير القومي، هذه العبارة التي تم رفعها والترويج لها على نطاق واسع على طول جبهات القتال من زاخو الى الفاو وعبر وسائل الإعلام والأبواق المختلفة ، في هذا العام تم تجنيد أبي رياض في احد قواطع الجيش الشعبي ، وجرى ترحيلهم على الفور الى قاطع (ديرة لوك ) في محافظة دهوك ، واثناء ذهابه من ديرة لوك الى سرسنك بوصفه سائقا لاحدى سيارات التموين ، فشاهد قائد الفيلق وقد ترجل للتو من سيارته العسكرية وهو بصدد القيام بجولة تفتيشية للقاطع ، ولما علم الجنود والمراتب بالخبر ارتعبوا وأصيبوا بالهلع ، وتواروا عن الانظار كما لو انهم فئران مذعورة تهرب من مخالب قط لاترحم ، وبقي ابو رياض وحيدا في وسط الساحة ، الا انه لم يأبه للامر ، ووقعت عينا القائد عليه وهو يتمشى بحذاء (الكيوة ) الشعبي بطريقة لا ابالية وملتحيا بلحية طويلة مشذبة ، جن جنون القائد وصاح به ؛ يا انت !تعــــــال، فأدرك انه المقصود ، فمشى اليه وهو يقول في سرّه ؛ سأجعل منك ايها القائد العفريت اضحوكة وعبرة ! اقترب منه بطريقة بطيئة ليشعره بعدم مبالاته به وازدرائه له ، وبعد ان صار قريبا بما يكفي لم يؤدّ التحية العسكرية ، فطاش عقل القائد وصاح بهستيرية ؛ ماهذة اللحية ايها المقاتل ، فقال له على الفور ؛ هوّن عليك ايها القائد فأنا على ملاك وزارة الاوقاف ! فما كان منه الا ان انحنى امامه الى الارض قائلا بخشوع ؛ آسف ايها الشيخ المبجل ، لقد ازعجتك ، وارجو ان تصفح عني ! ذلك لانه يعلم علم اليقين ان الشيوخ الذين هم على ملاك وزارة الاوقاف والمنسّبين على القطعات العسكرية
هم في حقيقة الامر عناصر مجندون في جهاز المخابرات او الاستخبارات العسكرية وان لديهم رتباً عسكرية عالية ودرجات حزبية مرموقة ، وهم مرتبطون مباشرة بديوان رئاسة الجمهورية ، وكنوع من التكفير عن الذنب طلب منه القائد ان يذهب بمعيته في الجولة التفتيشية وان يعودا معا الى مقر قيادة الفيلق حيث سيولم له وليمة فاخرة ..
فقال له ابو رياض بحدّة ؛ ان الجنود ينتظرونه ليجلب لهم ارزاقهم ، فوجد القائد نفسه في موقف لا يُحسد عليه ، فقال ؛ بارك الله فيك ايها الشيخ الجليل ، واني لشاكرٌ لك موقفك النبيل هذا مع الجنود الذين هم بمعيتك ...
وبع عودته الى مقر القاطع دخل الى غرفة آمر القاطع والذي هو عامر الساعاتي ، فأخبره بما حدث له مع قائد الفيلق ، وطلب منه ، بحكم انه كانت تربطه به علاقة خاصة ، ان يخبر القائد اذا ما استفسر الاخير عنه ، ان يصادق على الكذبة التي جعلها تنطلي على القائد فصاح آمر القاطع ؛ استحلفك بالله ان تحلق لحيتك ، وان لاتوقعني في هذه المآزق التي يبدو انك تستمرئها وترتاح لها ، فقال ابو رياض بحدة ؛ اقسم بالله العظيم انني لن احلق لحيتي الا بعد ان يقوم عدي صدام حسين بحلاقة لحيته !!