هل ينبغي لي أن أترك قلمي وفرشاتي كي أتأمل الخراب المحيط بي ؟ هل ينبغي لي أن أصمت أو أنتحر ... حزناً أو كمداً ؟ أم أن عليّ أن انتظر قتلي على أيدي أحد السيميريين .. المخدوعين ؟
هو ذا أنا , الآن , بالرغم من كل ما يحصل حولنا , من موت مباغت , وإغتيالات ملفقة , وإختطافات لا شرعية , وانتهاكات رهيبة .. هو ذا أن أمارس طقوسي كيفما أشاء , أحيا حياتي كيفما أشاء , أبحث عن فردوسي الأرض .. أبحث عن حقيقة جميلة , حقيقة رائعة ومهلكة في الوقت نفسه..
كيف نعد أنفسنا أحياءً أن لم نتنفس بحرية , ونصوغ الكلمة بحرية , ونرسم بحرية , ونرقص بحرية , ونغني ونصرخ ملء أفواهنا ؟
واذا جاز لي التعبير , فاننا ابناء السنوات الرهيبة ما زلنا نتشبث بما جبلنا عليه , ولم نسمح لخذلانات الحياة أن تصادر أحلامنا .. وتجهز على برائتنا .. وعنفواننا .. عضضنا على جراحنا , وتناسينا إنكساراتنا .. وقمنا من تحت أنقاض الأحلام ..
هو ذا أنا , أخيراً , إستطعت أن أروض حواسي , وهربت من تلك الهواجس القلقة التي كانت تطاردني على مدى شهور عدة .. أسائل نفسي : ما الذي حصل لنا ؟ كيف أستطاع الظلاميون أن ينقلوا عدواهم الى مواطنينا ؟ وكيف تحول أبناء هذه المدينة أو تلك الى مجرمين , لا يجيدون الا قطع الرؤوس , واغتصاب النساء ؟
وها انا ذا أستعيد رغبتي في الكتابة والرسم .. ما أن أستيقظ من نومي حتى تفاجئني رغبة ملحة في الإمساك بالفرشاة وتحريكها على قماش ( الكنفا ) .. رغبة متوحشة لا سبيل الى إسكاتها .. الا بوضع الالوان على قماش .. فمن دون الرسم ولا أقول الفرشاة , لأنني غالباً أرسم بالزيت , والباستيل , سيتعكر مزاجي .. ويتحطم هدوئي .. وتتبدد حيويتي .. ساعتي البايولوجية لن تنتظم مالم أمارس هوايتي المفضلة .. ولا بد لي اليوم , وغداً , وفي الاعوام المقبلبة , أن أستفيد من كل لحظة حرية وهدوء بال كي أظهر رغبتي في الحياة والبقاء .. وأردد ما قالته تلك المغنية : : I will survive .
لكن لنبدأ الحكاية من أولها .. وكما يقال عادةً . في مساء معتدل البرودة من مساء تشرين الثاني ( نوفمبر ) إهتدت الى مرسمي , او ربما اليّ .. انوثتها , في الارجح هي التي دلتها عليّ..
ما أن دخلت مشغلي الصغير الواقع في آخر الزقاق حتى رسمت بسمةً طفيفةً على شفتيها الحمراوين كالتوت قائلة : (( أتسمح لي بان أعلقه على المشجب ؟ )) كانت ترتدي معطفاً من الجلد الأسود الصقيل بياقة من فرو السنجاب .. كان الرذاذ قد بلل ياقته .. وحين أومأت بالموافقة , علقت معطفها الجلد على المشجب .. وراحت تعدل منديل رأسها الحريري الذي نال حصةً لا بأس بها من رذاذ المطر .. وقتئذ كنت أضع رغوة صابون الحلاقة على ذقني , وكانت شفرة الحلاقة ما تزال في يدي اليمنى .. قلت لها : (( تفضلي أجلسي .. لحظات حتى أنتهي من حلاقة ذقني .. ))
جلت على أريكة صغيرة من الحديد , وجعلت تتأمل الأثاث البسيط في مشغلي الصغير .. لوحات وعلب أصباغ وحاملات لوحات , وأقلام .. وعدد من الكتب والكراسات الخاصة بالرسم والنحت .. ومذكرات رسامين .. أو قل سيرهم الذاتية .. دافنيشي وبيكاسو وجواد سليم ..
كانت امرأةً من الطراز الاول . هيفاء القد , جميلة الملامح , مكتنزة الشفتين , ذات شعر قصير , متموج , ضارب الى الاحمرار ..
وبينما كنت أمر شفرة الحلاقة على ذقني المكسو بالرغوة البيضاء إنتبهت الى حركتها .. كانت لها طريقة شهوانية في خلع المعطف وتعديل منديل الرأس , بحيث أنني خمنت , أو حدست , مبتغاها ..
كانت مفرطة الأناقة .. باذخة الأنوثة ..
لم تكن هي بحاجة الى رسام , مثلي , كي يرسمها على القماش .. كانت هي بحد ذاتها لوحة فنية , عمل فني , ولم تكن بي حاجة لإبراز مميزاتها الجسدية .. كان فستانها الأسود قد أبرز مفاتنها الجسدية بمهارة منقطعة النظير ..
لابد أنكم تقولون , الآن , أنها حتماً كانت ترتدي فستاناً فرنسي الطراز .. لأن الخياطين الفرنسيين هم أمهر الخياطين في العالم في منح الثياب النسائية الصفة الاردسية ؛ وان موهبتهم الفريدة التي لن تجد مثيلاً لها في بلدٍ آخر تتلخص في جعل الجسد , جسد الأنثى طبعاً , يعبر عن مفاتنه كلها من خلال الثياب .. كما يعبر الشاعر عن عواطفه من خلال الكلمات .. أنهم , باختصار , يعرفون كيف يرسمون الخطوط المحيطية للصدر , وكيف يجعلون طيات الثوب تتبع حركات الجسم .. أليست الباريسية هي الصفة التي تكاد تنفرد بها نساء باريس على خلاف نساء نيويورك أو لندن أو طكيو أو غيرها من مدن العالم . وان من يزور باريس لن تجذبه باريس بأنوارها الساطعة , أو ببرجها الشهير , بل تجذبه الباريسيات عبر اناقتهن اللافتة .. حتى وصفت الباريسية بكونها آلهة اغريقية ترتدي حلة عصرية .. جاذبية الروح وعفوية الانثى , هما الصفتان الرئيسيتان في شخصية كل باريسية , وهما الصفتان اللتان وجدتهما في زائرتي .
إستمتعت بدلالها الانثوي , غنجها , سعادتها , وفرحها الطاغي ..
ما إن دخلت هي , حتى اوقضت حواسي كلها , إستفزتها .. من الذي قال اننا نملك حواساً خمساً .. لا .. نحن نملك عشرات الحواس .. لا .. بل مئات .. كل ما نحتاجه هو أن يجيؤنا من يوقضها من سباتها , يكهربها .. نعم , سباتها .. لأن حواسنا تعطلت في السنوات الاخيرة , وراح الصدأ ينخرها شيئاً فشيئاً .. ذلك اننا اصبحنا نعيش على الذكريات , نتدفأ بنيرانها في ليالي الزمهرير ..
الحروب المستمرة , الحروب الطويلة , المتطاولة ابتلعت طفولتنا وشبابنا من دون رحمة.. سمحت حياتنا .. وما عادت جنازير الدبابات تتيح لنا أن نرهف السمع لهديل الحمام , أو ضحكات الصبايا .. ولم تمنحنا السيارات المفخخة مساحةً من الحرية كي نستمتع بعطر انثى تمر بجانبنا , فتلفنا بغمامة مسكها وتأسرنا بمشيتها المغناج , وإيماءاتها التي تشي بالإغراء .
ويالها من مصادفة سعيدة , أن يكون أسم زائرتي فردوس .. أنا الذي حلمت بفردوس ارضي , وطالما حلمت بالحدائق والجداول والزهور .. على غرار حافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي وخسرو الدهلوي .. ألا يحق لنا , أن نعدها رموزاً لملكوت الله , وجنات النعيم .
لم أستطع أن أخفي أنبهاري .. ولم تقدر هي ان تخفي بهجتها ..
لم أشأ أن أكسر الصمت .. بقيت أتأملها وأنا أمسد ذقني وأنشف الماء بمنشفة صغيرة .. جعلت أدرس حركتها الايروسية .. وكي أداري ارتباكي , واستفزازي , مضيت لأعد لها القهوة..
لم تكن بحاجة الى مزيد من السكر في كوب قهوتها .. كانت حلاوتها تكفي مائة كوب من القهوة .. أما أنا ما أحوجني الى السكر في أمسية معتدلة البرودة .. أمسية يقضيها رسام مثلي آثر العزلة والصمت والتأمل بعد أن توجب عليّ , وعلى عشرات من الرسامين والنحاتين مثلي , أن يبقوا في منازلهم أو مشاغلهم , معتمدين على الذكريات والانطباعات الماضية , كي يستنطقوها ويبعثون فيها الحياة من جديد .. ما من تجارب جديدة , وما من انطباعات حديثة .. ما من عشيقات , ولا أصدقاء .. نختر ذكريات الماضي , تجارب الماضي .. اصبحنا نختار موضوعاتنا مما أحتفظت به أفئدتنا من مشاعر جياشة , لوعات , غصات .. ومما أختزنته ذاكرتنا من أطياف نساء لم نحصد من جراء معاشرتهن سوى خيبات العشق ومرارة الافتراق .