الخميس، 2 مايو 2019

الفنان ماجد السنجري والرؤى التشكيلية المغايرة- للشاعر المبدع عبد الامير خليل مراد














في صحبة زوجتي خلال حفل توقيع كتاب الشاعر المبدع عبد الامير خليل مراد حول تجربة الفنان ماجد السنجري تخللها معرض للفنان الكبير ماجد السنجري حضره ثلة من مبدعي محافظة بابل من فنانين وشعراء , وكتاب زينتها تداخلات الحضور, واغناها الرد الشفاف من قبل المبدعين المؤلف والفنان.

الاثنين، 25 مارس 2019

عبّارة الموصل – أهلا بالعراق في نادي كوارث الخصخصة


عبّارة الموصل – أهلا بالعراق في نادي كوارث الخصخصة
صائب خليل
24  آذار 2019
البعض القى اللوم على دجلة .. والبعض الآخر اخترع قصة قطع "الكيبل"، وآخر تحدث عن "قضاء وقدر"  و "إرادة الله" وآخر القى الذنب على الإهمال وكثيرون تحدثوا عن الجشع والفساد الذي يسيطر على "بعض النفوس"..
لكنها ليست سوى قصة من قصص كوارث الخصخصة والاستثمار الخاص التي عرفها الآخرون قبلنا.
اقرب القصص اليها هو “حادث عبارة السلام” المصرية، قبل 13 عاماً، وكان القطاع الخاص قد اوغل في مصر السادات ثم مبارك. غرقت سفينة لم يعرف بالضبط سبب غرقها ولا سبب مقتل معظم ركابها غرقا – اكثر من 1300 انسان. ما نعرفه ان السفينة كانت مصنوعة لتسع 500 راكب، ثم تم توسيعها لتسع 1300.. أحد الأسباب التي طرحت انها حملت اكثر حتى من حمولتها الموسعة... هربوا الى الخارج، واستلموا التأمينات وأفلت الجميع من العقاب، الا ربان سفينة أخرى تقاعس في انقاذ الغرقى!(1)

المسؤولان المباشران عن الجريمة هما المستثمر في الجزيرة السياحية، والذي بدأ عمله فيها قبل بضعة سنوات، وصاحب العبارة، ولا مفر من معاقبتهما أشد العقاب، ولكن هل حقاً هما  المسؤولان الأهم؟
ينقل ماركس عن أحد النقابيين خبرته في أصحاب العمل بقوله: "رأس المال يتجنب المشاريع غير المربحة او ذات الربح الصغير، كما تكره الطبيعة الفراغ. وبوجود ربح كاف، يصبح رأس المال جريئاً. بربح 10% سيكون رأس المال مستعداً للعمل في أي مكان. 20% تثير فيه الحماس. 50% تجعل منه مغامراً. 100% تجعله مستعداً أن يدوس على كل القوانين الإنسانية. 300% ..عندها لن يكون هناك جريمة إلا وكان مستعداً لارتكابها، أو خطراً يهرب منه، حتى لو كان هناك احتمال ان يشنق بسببه!".(2)
احداث التاريخ تؤكد أن ما نقله ماركس عن النقابي، قد لا يكون مبالغة شديدة.

من وسّع "عبّارة السلام" لتسع 300% من الركاب، سيستطيع بيعها بأكثر من سعرها، حتى لو لم تكن أسسها امينة بما يكفي.. لأنه سيكون تحت تأثير الأرباح الإضافية التي قد تجعله "مستعداً أن يدوس على كل القوانين الإنسانية".

هذا لا يقتصر على شعوبنا وبلداننا طبعا. أنظروا ما يحدث عندما تكون ارباح الرأسمالي تعتمد على إطالة سجن القاصرين. (3)
ولاحظوا كيف يتسبب البحث عن زيادة الأرباح عن طريق التوفير في تكاليف الصيانة في شركة حكومية بعد خصخصتها بكارثة سقوط جسر في إيطاليا، وكيف انهم فكروا بإعادة تأميمها لعدم وجود حل آخر يضمن السلامة.(4)
وانظروا كيف تسبب تخفيض مماثل في كلفة إجراءات الأمان، في تسرب النفط في خليج المكسيك من قبل شركة "برتش بتروليوم" قبل اكثر من 8 سنوات، وما نتج عنه من كارثة بيئية هائلة.(5)

يقال ان الرأسمالية تطور الإنتاج والبلد من خلال التنافس، لكن التنافس ينتهي بكوارث ايضاً. انظروا كيف يتسبب التنافس الشديد بين شركات الطيران، والبحث عن اقصى ربح بأي ثمن، بخفض أجور الطيارين في أميركا إلى حد الجوع! بعضهم اضطروا أن  يبحثوا عن عمل ثان (مثل نادل في مقهى!) وآخرين يستجدون مساعدات الطعام من المؤسسات الخيرية، والبعض يبيع دمه ليأكل! أنه أمر لا يكاد يصدقه العقل، لكن هذا ما حدث ويحدث.. والنتيجة لهذه المعيشة غير الطبيعية، هي كالعادة: الكوارث!(6)

إذا كان ديدن الاستثمار الخاص هو التركيز على الإنتاجية العالية بأقل التكاليف دون النظر إلى العواقب على مستوى العالم، فما هو حقنا في ان نلوم صاحب العبّارة وصاحب الجزيرة؟
نعم، اعرف صديقاً رفض الأرباح وفضل الخسارة الكبيرة، حين علم انها قد تسمم الأطفال، لكن كم هي نسبة ذوي الاخلاق العالية جداً بين الناس في المجتمع؟ لماذا نلقي بالناس في تحد أخلاقي اكبر من طاقة الانسان الاعتيادي، ثم نعاقبهم ان لم يتصرفوا كقديسين؟

المستثمر في الجزيرة أو صاحب العبارة، حين ينقل ما يقارب 250 شخصاً في عبارة مصممة لـ 50، فأنه يرى ارباحاً اكبر بنسبة 500% مما لو التزم بالقانون! إنه يتعرض لحالة نفسية لا يكون عندها "هناك جريمة لن يكون مستعداً لارتكابها، أو خطراً يهرب منه، حتى لو كان هناك احتمال ان يشنق بسببه!". فمن هو المذنب ألأول؟ هل هو المذنب المباشر أم من يدفع به إلى الجريمة؟ أيحق لمن يدفع البلد الى نظام ينمي الجشع والفساد، ان يعاقب الناس إن لم يصمدوا في وجهها، ثم ينجو بنفسه؟
هل يجب ان يحاسب صاحب العبّارة اكثر، أم رئيس الحكومة الذي يهدد ويتوعد، وهو اشد المتحمسين لدفع البلد في اتجاه القروض والاستثمار الخاص والخصخصة ورأس المال ووصايا صندوق النقد الدولي.. وهو على علم تام بما يعني ذلك على أهل بلده؟ نعم يجب انزال العقوبة الأشد بالمجرم المباشر، لكننا سنكون منافقين ان تجاوزنا النظام المسبب للجريمة، والقائمين على ذلك النظام.

لقد قال احدهم: "إن كانت الظروف هي التي تصنع الإنسان.. فلنخلق ظروفاً إنسانية"!
وأقول: إن من يحول الإنسان الى وحش... هو المجرم الحقيقي الأساسي، وهو من يجب ان يحاسب ويوقف عند حده، وإلا فمرحباً بالعراق في نادي الكوارث الرأسمالية، وسنرى المزيد في القادم من الأيام.

رسومات اطغال الفنانة الطفلة حوراء علي

الثلاثاء، 19 مارس 2019

بين الإنسان والكاتربيلار.. تحد لم ينته!


بين الإنسان والكاتربيلار.. تحد لم ينته!
صائب خليل 
في مثل هذا اليوم, 16 آذار، 2003,
تقاطعت ارادتان جبارتان,
نظرتا الى بعضهما البعض بتحد وثبات
وقفت شابة امريكية في الثالثة والعشرين من العمر...
ووقفت أمامها جرافة اسرائيلية تتقدم لهدم بيت عائلة فلسطينية.

زمجرت الـ "كاتربيلار" ضاحكة من هذا الكائن الصغير الذي يقف امامها..
ولم تتراجع الشجاعة الإنسانية التي تسكن قلب تلك المرأة الشابة

لم يكن لها ان تصدق ان الجرافة ستستمر لتسحق جسدها...
فخلف مقود الجرافة انسان, اليس كذلك؟...
لكن الوحشية التي تقود الجرافة لم تتوقف..

فمثلما خجل الإنسان ان لا ينتصر للإنسان,
خجل الوحش ان يتراجع فيخذل الوحشية...

اراد الوحش ان يقول "أنا الأقوى"..
واراد الإنسان ان يقول “أنا الأسمى”...

فأصدم النقيضان اصطداماً تقشعر له الأبدان,
ما زال دويه في الوجدان ...يهدر ويكبر,
ومازال الوقت باكراً لتحديد المنتصر في هذا التحدي الكبير... الطويل
**********

الأحد، 3 فبراير 2019

لماذا يجب ان تهمنا فنزويلا؟


لماذا يجب ان تهمنا فنزويلا؟
صائب خليل
1 شباط 2019

ما يجري على فنزويلا يبدو ظالماً، لكن لماذا يجب ان يهمنا أي ظلم في العالم؟ لماذا لا نكتفي بالاهتمام ببلدنا ونرفع شعارات مثل: "العراق اولاً" أو "مصر أولاً" أو "لبنان أولا"؟.
دعونا ننظر كيف "يعمل" هذا العالم، ولنأخذ فنزويلا نفسها مثالاً أولا.
لنبدأ بالتأكد من أن فنزويلا تتعرض إلى ظلم حقيقي، فالتشويش من الشدة ان يطال أشد الأمور وضوحاً. الغرب يحاول ان يروج أن مادورو ليس رئيساً شرعياً للبلاد، وأن رئيس البرلمان هو الشخص الشرعي لهذا المنصب. لكن هناك بضعة حقائق أساسية لا يمكن لتشويش أن يطمسها، أولها أنه لا يوجد في الدستور الفنزويلي مثل هذه الطريقة لاختيار رئيس الجمهورية، والثانية هي أن الانتخابات التي انتخب فيها مادورو كانت قانونية وشفافة، وحسب وصف الرئيس الأمريكي السابق كارتر: "أفضل انتخابات من بين الـ 92 انتخابات قمت بمراقبتها". أما الثالثة فهي حقيقة ان مادورو قد حصل في تلك الانتخابات على ما يقارب الـ 68% من أصوات الشعب الفنزويلي! وهي نسبة أكبر بكثير من نسبة أي من الرؤساء الغربيين الذين يدعون عدم شرعيته!
إذن ما حدث في فنزويلا أمر غريب على التاريخ وخطير، حين يعلن عميل امريكي، بعد يوم واحد من اتصال احد المسؤولين الامريكان به، رئيسا لبلده، وبدون أية انتخابات، فتقوم الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الجنوبية بالاعتراف به رئيسا!

تكمن خطورة هذا الحدث في أنه يعني أن العالم دخل مرحلة أنه لا يستطيع الاحتفاظ برئيس انتخبه إن لم تكن أميركا راضية عنه، مهما كانت عملية انتخابه شفافة ومهما كانت نسبة الشعب الذي انتخبه. أي ان ما تريده اميركا للبلاد هو ما يقرر سياسة البلاد وليس ما يريده شعبها. والشعب الفنزويلي يذكر تاريخه ويعلم ما تريده له الولايات المتحدة من حكومات تابعة للشركات الأمريكية. ويذكر الشعب الفنزويلي أن تلك الشركات بقيت تستخرج النفط لأكثر من عقد من الزمان دون ان تعطي البلاد دولاراً واحداً!

يمكننا إذن أن نفهم انه صراع حياة أو موت بين الشركات والشعب الفنزويلي. وهو بلا شك مشابه لصراعات الشعوب الأخرى في القارة الجنوبية تجاه اميركا وشركاتها، لكن موقفاً بمثل هذه الجرأة والوقاحة لم يكن ممكن الحدوث لولا أن سبقه تحول للقارة الامريكية الجنوبية، من اليسار والحكومات الوطنية، إلى دول تابعة لأميركا تحطمها عصابات نازية مثل البرازيل اليوم.

لماذا لم يكن ممكنا؟ لأن البرازيل وغيرها كانت ستقف مع الرئيس الحقيقي وتجعل محاصرته مستحيلة، وسيتحول ذلك الانقلاب إلى مسخرة وفشل امريكي، مثل مؤامرة أميركا في خليج الخنازير في كوبا.
إذن فالشعب الفنزويلي يجب ان يعتبر سقوط البرازيل بيد الأمريكان، خطراً على حرية واستقلال فنزويلا ومثله كل الشعوب في كل دول اميركا الجنوبية! وبالتالي فلو هتف واحد من الفنزويليين، يوم سقوط البرازيل، بأن لا شأن لنا بها، و "فنزويلا أولاً"، فسيكون واهماً. ففي حالة العدوانية الأمريكية الشديدة في كل العالم، فان وجود ما يكفي من الخصوم في أية منطقة، أمر ضروري لاستقلال بلدانها جميعاً وحريتهم في اختيار طريقهم وسياستهم الاقتصادية ومواقفهم السياسية، ولو بشكل نسبي.
إن خلو المنطقة من خصوم اميركا يسهل عليها معاقبة اية دولة تخرج عن الخط الذي ترسمه لها، وبالتالي فهو يهدد سيادة جميع الدول على قرارها السياسي.

إنه يشبه حالة عائلة فيها أخ كبير متسلط. فمن يريد الاحتفاظ باستقلاله من اخوته، سيرى في استسلام أي اخ أو اخت للأخ الكبير، خسارة لقضيته وفرصته في النجاة من ضغط الأخ الكبير.
والحقيقة أن نقص خصوم اميركا في العالم كله، تهديد لاستقلالية العالم كله، وليس في منطقة معينة فقط، ووجود خصوم "أقوياء" لها ضرورة لتحقيق نسبة من الحرية والاستقلالية في العالم! فحتى الدول الأوروبية، تشعر بالضغط الأمريكي اليوم، أكثر بكثير مما كانت تشعر به أيام الوجود السوفيتي. وقد توضح ذلك من خلال اجبار أوروبا على انتهاج سياسات اقتصادية اشد رأسمالية مما يناسب تلك الدول، ومما كانت اميركا تضغط به على حلفائها أيام وجود الاتحاد السوفيتي.

دعونا نأخذ مثالا آخر لنرى تطبيق هذا المبدأ على الاقتصاد. ولنأخذ أسعار النفط لأنها تهمنا وتهم فنزويلا بشكل خاص. ما الذي يحدث لسوق النفط عندما تسقط دولة نفطية جديدة (مثل فنزويلا) تحت سلطة اميركا؟
لكي نعرف ذلك لننظر إلى ما تريده اميركا بالنسبة لأسعار النفط. المسالة ليست صعبة: اميركا تريد أسعار نفط أخفض ما يمكن، كما عبر عنه ترامب اكثر من مرة، بشكل ضغوط على السعودية بشكل خاص لتزيد انتاجها من النفط وتغرق السوق وتخفض الاسعار. وهذا ليس غريباً، خاصة بعد ان ازدادت صادراتها عن وارداتها من النفط في العام الماضي. لكن السبب الرئيسي لهذا الحماس لإغراق الأسواق هو ان اميركا معنية بتحطيم معظم الدول المنتجة للنفط حاليا: روسيا، إيران، فنزويلا، والعراق أيضا.
وبالفعل استجابت السعودية فزادت الإنتاج وانخفضت أسعار النفط بشدة، رغم ان هذا ليس من مصلحة السعودية طبعا.
والسؤال هنا: ماذا سيحدث لو سقطت دولة نفطية أخرى تحت السلطة المباشرة لأميركا؟ المتوقع المزيد من زيادة ما يسمى بالإنتاج، واغراق السوق وانهيار جديد للأسعار! أي أن سقوط دولة أخرى تحت سلطة اميركا هو كارثة لكل الدول المصدرة للنفط! ولنلاحظ هنا، ان هذه الدول لا تحتاج ان تكون اشتراكية لتقف ضد اميركا في هذا، بل يكفي ان يكون لها حكومة تهتم بمصلحة بلدها، حتى لو كانت اشد رأسمالية من اميركا نفسها!
هذا سبب آخر لنقف مع فنزويلا مادورو ضد هذا التسلط الأمريكي الجديد.

لقد أوضحت في مقالة سابقة كيف ان وجود الاتحاد السوفيتي هو ما كان وراء منح أوروبا مساعدات مشروع مارشال الذي ساعد في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب الثانية، ووجود الشيوعية هو ما كان وراء تأسيس دولة الرفاه الاقتصادي الديمقراطية التي تعتمد الاقتصاد الكينزي، الذي سارع الرأسماليون بإزاحته واعتباره اشتراكيا، بمجرد انخفاض مستوى التهديد السوفيتي. فوجود خصم قوي للرأسمالية الامريكية يهدد بتحويل العالم إلى اشتراكي، اجبر أميركا على انتهاج سياسة الطف بكثير مما ترغب فيه لو كانت مطلقة الحرية في العالم، ليس فقط تجاه اعدائها وليس فقط تجاه خصومها، بل تجاه كل شعوب العالم، حتى شعوب الدول الحليفة وحتى تلك التي يحكمها عملاؤها، بل وحتى الشعب الأمريكي نفسه! فلا يمكن مقارنة قوة الشعب الأمريكي أيام ما سمي بـ "العقد الجديد" مع حاله اليوم وهو يصارع بشدة من أجل تحقيق التأمين الصحي الذي يتمتع بأفضل منه بكثير، كل الدول المتقدمة بلا استثناء، وبعض الدول الفقيرة أيضا.

من عالمنا العربي، عندما تم اغتيال عبد الناصر وسقطت مصر بيد اميركا وإسرائيل، استغلت إسرائيل الفرصة واجتاحت لبنان! ولم يكن ذلك بهذه البساطة لو لم تكن مصر قد سقطت. إذن من الطبيعي ان يقلق اللبناني عندما تسقط مصر في يد أميركا، ويكون احمقاً إن قال: وما لي انا ومصر؟ "لبنان أولاً". فمصلحة لبنان تقتضي وجود مصر كما اثبت التاريخ، ومن يرى بالفعل "لبنان اولاً" عليه ان يهتم بحالة بقية الدول. أما حين يستخدم البعض ذلك الشعار كدعوة انعزالية، فإن دولته ستكون أول الضحايا.
إن انتصار الثورة الإسلامية في ايران بالمقابل، هو ما جعل تحرير لبنان ممكناً، كما يقول محرروها انفسهم! وبالتالي فاللبناني يجب ان يشعر بالخطر إن تمكنت أميركا من إزالة الحكومة الإيرانية والإتيان بعملائها مكانهم. ومن يقول: مالنا نحن وايران.. "لبنان أولا"، هو مغفل في افضل الأحوال وبفرض حسن النية. ولهذا السبب بالذات نجد الضغط الإعلامي الأمريكي والإسرائيلي للترويج لهذه الشعارات ولتقديم ايران كعدو بديل للعرب، كما سبق ان قدمت لهم الشيوعية ليحاربوها بدل محاربة من يهدد مصالحهم وحياتهم.

التأثير المذكور عابر للقارات. فعندما كانت فنزويلا والبرازيل والعديد من الدول الأمريكية الجنوبية الأخرى يسارية، كان بإمكان احمدي نجاد أن يتحرك ويعقد الصفقات والاتفاقات معهم ويشعر بالأمان أن من الصعب ان يحاصر أو يهاجم. كانت لديه فسحة اكبر ليختار بنفسه كممثل لشعبه، القرارات السيادية التي يراها مناسبة. لكنه لو عاد اليوم، لوجد الوضع اصعب، بسقوط معظم تلك الدول تحت القبضة الامريكية من جديد.
وجود الاتحاد السوفيتي أتاح للعراق ان يقوم بثورته في 1958 ولا يخشى الجيوش الغربية. ووجود منظومة اشتراكية أتاح له لاحقاً ان يتخذ قراراته بتأميم أراضيه غير المستغلة أولاً، وتأميم كل ثرواته النفطية لاحقاً، بمخاطرة أقل كثيراً مما لو جاءت تلك القرارات في عالم تسيطر عليه اميركا تماما. لذلك فوجود الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، كان امراً مهما للسيادة العراقية، ومغفل من يقول: وما لي أنا والدول الاشتراكية؟ "العراق أولا"!
لكن الأمور تحسنت كثيراً بالنسبة لأميركا في العالم، وهي تريد إعادة الوضع على ما كان عليه، وتكلف رجالها الذين يبدون أكثر جرأة في التصريح بنواياهم، مثل تصريح رئيس الحكومة المنصب بشكل غير دستوري على العراق، عادل عبد المهدي، باستهجانه القرارات الاقتصادية "الجائرة" (كما وصفها) لثورة العراق تلك، وهو ما يشي بأنه مكلف بإعادتها الى ما كانت عليه. ولم يكن قانون "شركة النفط الوطنية" الذي لعب عبد المهدي دور مهندسه، إلا خطوة كبيرة في هذا الاتجاه، لولا ان تمكن عدد من الشرفاء من التصدي له في آخر لحظة.

إن انفراد أميركا في العالم، يغير موازين الأمور فينعكس ذلك بتأثير سلبي حتى على عملائها وتوابعها واصدقائها، الذين تصوروا في غفلة منهم أن قوتها تعني قوة لهم بالضرورة. لقد كان صدام حسين أحد هؤلاء المغفلين، لأنه كان يعتبر الشيوعية عدواً وجودياً له، وأميركا حليفاً ثابتاً. لقد احتفل رسمياً بسقوط الاتحاد السوفيتي وزواله من خارطة العالم. لكنه ادرك كم كان مغفلا حين هجمت جيوش اميركا عليه في الكويت، ثم في عقر داره، وهو ما لم يكن ممكناً في الماضي. وشملت هذه الغفلة ليس فقط كل من احتفل بسقوط السوفييت في العالم، بل حتى من قال: مالي وللشيوعيين. بلادي أولاً.
واشد غفلة من هؤلاء من يقول اليوم في العالم العربي، وخاصة العراق: لا علي بإيران، أو لا علي بسوريا، "العراق أولاً". فمع تناقص الدول المستقلة عن القرار الأمريكي، واحساس البقية بالضعف تجاهها، أصبحت اية دولة باقية خارج تلك السلطة، ولو بدرجة نسبية، دولة مستهدفة بالنسبة لأميركا، وشيئا ثميناً لبقية الدول والشعوب التي تريد المحافظة على استقلال قرارها أو بعضه. فحتى لو لم تكن إيران أو سوريا مستعدة للمساعدة، فوجودها في المنطقة يمثل نوعا من الحماية بوجه تعاظم الابتزاز الأمريكي. وقد يستغرب الكثيرون من هذا القول، إلى ان يأتي اليوم الذي تسقط فيه ايران، ويلتفت الى العراق، ذلك الوحش المهول قائلا: ها قد صرتم وحيدين! النفط لي.. الآن! .. افتحوا سفارة إسرائيل.. الآن!
وقد يستغرب البعض حين أقول أن حتى السعودية وحتى حكامها، سوف يشعرون بحماقتهم لو سقطت الدولة الباقية في المنطقة بيد أميركا، رغم انهم يبذلون الأموال الهائلة لإسقاطها! فكل ما سيحدث هو انهم سيكونون أكثر عرضة للابتزاز الأمريكي الذي لم يوفرهم، كما يعلمون. فعندها لن يكون لرضاهم أو رأيهم أية أهمية، وسيلتحقون بالضحايا غير القادرة على التسبب بأي خدش مهما كان صغيراً لمن يمتص دمها، ولن يجد الامريكان والإسرائيليون أي سبب لإبقاء قطرة دم او نفط واحدة لهؤلاء.

نقطة أخيرة في قائمة الاضرار المتأتية عن انهيار فنزويلا للضغط الأمريكي، هي "تطبيع التسلط الأبشع" للقوة المهيمنة على العالم، وتعود قبول اعتداءاتها على الدول الأخرى دون ان يثير ذلك الاشمئزاز. إن الهجوم على فنزويلا اليوم يثير الكثير من الاستهجان والرفض والخوف، لأنه الأول من نوعه. لكن مروره بسلام، سيكون له تأثير "تطبيعي" لهذه العلاقة الخطرة بين اميركا ودول العالم، ولن يحتج أحد حين تهاجم الضحية الثانية كما يحتج الآن على الهجوم على فنزويلا. أي ان العالم سيكون في منظومة أخلاقية أكثر خطورة على الدول الأضعف، إضافة إلى ما ذكرنا سابقا.

لقد كان المرحوم كاسترو على خلافات كثيرة مع الاتحاد السوفيتي، لكنه كان يدرك الحقائق جيداً، فكان يقول: يكفي الاتحاد السوفيتي ان يكون موجودا لنكون له شاكرين! لذلك، فحتى لو لم ننظر للأمر من وجهة نظر إنسانية تأمل بالحق والكرامة للبشرية وتكره الظلم في كل مكان كما يفعل جيفارا، وحتى لو لم يهمنا سوى بلدنا وحياتنا، فيجب أن تهمنا إيران وتهمنا سوريا وتهمنا روسيا وتهمنا الصين وتهمنا كوبا.. وتهمنا فنزويلا، تهمنا حتى لو لم تكن لها وقفاتها المشرفة من فلسطين وكل القضايا العربية!
إنها ليست شعارات فقط، بل حقيقة واضحة: أن كل انتصار لمقاوم في هذا العالم، يعطي قضيتنا فرصة أكبر، وكل هزيمة له في أي مكان، يضيق علينا فرصتنا نحن. وكلما ازدادت الهزائم وازداد عدد الدول التي تسقط، ازدادت بالنسبة لنا، قيمة من بقي منها صامدا، وفنزويلا جزيرة للصامدين في بحر هائج يحيط بها.




الخميس، 3 يناير 2019

اترك كل ما بين يديك وابدأ عامك الجديد مع حمزتوف


اترك كل ما بين يديك وابدأ عامك الجديد مع حمزتوف
صائب خليل
1 كانون الثاني 2019
احتجت معرفة النص الدقيق لعبارة من كتاب رسول حمزتوف "داغستان بلدي"، فلم انتبه لنفسي إلا وقد طار نصف اليوم!
"داغستان بلدي" انشودة كرامة وحب وطن وأهل، مغلفة بنسمة هدوء وطمأنينة تتيح لهذه الكلمات أن تورق من جديد، بعد ان تعرضت لأشنع تمزيق وتشهير، بعضه متعمد وأكثره عارض.
إنه ترياق من الشجاعة المعطرة بالإنسانية، ضد سموم الدونية التي تملأ الجو حولنا، تنفخها وسائل اعلام يتحكم بها من يبغي الموت لهذه الأوطان. إنه إنعاش للقيم التي خنقها كتاب انتشروا ونموا بسرعة الأعشاب الضارة في ارض خصبة، وقد سيطرت المسكنة على أرواحهم فنذروا أنفسهم مبشرين بعظمة الاستسلام للقوي بحجة الواقعية. إنه مزيج بارع من دعوات القوة والرجولة إلى حد العنف الأقصى، بخنجر يوضع تحت وسادة الوليد وقد كتب على غلافه: "يد ابيك لم ترتجف وهي تحملني، فهل ستحملني يدك دون ان ترتجف؟"، مع أرق مشاعر الإنسان التي تنبهه أن يترفق بقبضته فـ "لا يخنق العشب"!
لا شيء يتردد في هذا الكتاب أكثر من الحديث عن الخناجر والسلاح والشجاعة والحصان الباسل سوى الحب والإنسان والشعر والأغنية، فكيف امتزج هذا بذاك، دون ان نجد بين يدينا خليطاً متنافراً؟
"داغستان بلدي" يكشف لنا السر! إن خير ما يدفع بالإنسان إلى الشجاعة والتضحية والدفاع عن الوطن، هو أن يكون الوطن جميلا رقيقاً مليئاً بالشعر والأغاني. واكثر دعوة قادرة على الإقناع بالتضحية من أجل القيم، هي أن يكون الصحب إنسانياً باسلاً يدعوك للفخر به والتضحية معه وله ومن أجله. أن يكون مجتمعاً يهمك رأيه بك، فلا تستطيع ان تخونه دون الإحساس بالوجع.
ولا يمكن الدعوة للتضحية والمثل ما لم تكن تلك قد نبتت في الإنسان مع حبه لوطنه منذ صغره. فلكي تكون لكلمة الوطن وقعها، يجب ان تمتزج برأس الإنسان وقلبه. وللقلب مكانة سامية في كتاب حمزتوف، لا يكاد يدانيه فيها أحد.

"هل يمكن ان نطلق في العالم كلمة لم تكن قد عاشت في القلب؟"

"أمس كنت اتسلل الى اعشاش الطيور، واغري أصدقائي بصعود الجبال.
وأتى الحب عنيفاً أزرق العينين، فجعلني دفعة واحدة، كبيراً...
أمس كنت احسبني كبيرا وراشداً، اشيباً وحكيماً حتى آخر أيامي
وأتى الحب وابتسم في بساطة.. فإذا انا ولد صغير!"

والطبيعة وجمالها جزء من وطن الانسان وانسانيته:
"ايتها العصافير، مالك صامتة منذ الفجر؟ - المطر يهطل... ونحن نستمع الى صوته..
ولماذا تصمتون انتم أيها الشعراء؟ - المطر يهطل... ونحن نستمع الى صوته! "

فعندما تتشبع الأرواح بجمال المحبوب والمكان، تجب التضحية وتجد مبررها ودافعها، ويصدق من يقول: "لا يجوز لأحد ان يكون صغيرا في المكان الذي نقف فيه". عندها سيبدو "اكثر المشاهد حقارة وشناعة"، مشهد "الرجل الذي يرتجف خوفاً".

"داغستان بلدي" هو نسغ تجربة داغستان في بناء هذا الإنسان لكي يستطيع الدفاع عن بلده الصغير ضد كل ما يحيط به من أخطار كبيرة، فنحن احوج إلى تجربتهم وأن نفهم كيف فعلوا ذلك. أن نعرف كيف بنى الداغستانيون "حصانهم الباسل الذي يمكنهم من اجتياز جميع الثنايا"، وليس الى تأمل المانيا واليابان اللتان يصر الذين امتلكهم الإحساس بالدونية بأن الاستسلام والقواعد العسكرية الأمريكية هي من بنى حضارتيهما وتقدمهما.

الكتاب مليء أولاً بالصور الأخاذة عن القرية – الوطن ومن يعيش فيه:
"التفت مرة أخرى لألقي نظرة على قريتي.. على سطح بيتنا أرى امي.. انها تقف منتصبة ووحيدة. ثم تتضاءل وتتضاءل لتصبح خطأً عمودياً صغيراً فوق الخطوط الافقية لأسطح المنازل"

وهناك الكثير من الحديث عن الأطفال في الكتاب، وتوجيههم بالأمثال والحكم، المنسوجة بمشاهد قراهم وحقولهم، ليبقى وطنهم ويبقوا:
"الأطفال الصغار يرون احلاماً كبيرة – كتابة على مهد"
"الصغير هنا يبكي ويضحك، ولا يستطيع ان ينطق بكلمة واحدة، ولكن سيأتي يوم يقول للناس جميعاً، من هو، ولماذا أتى الى هذا العالم"، ولن يستطيع ذلك ما لم يتربى على رؤية جمال وطنه ومحبته، فـ "على الانسان ان يحمل في قلبه أغاني شعبه"..
"الكذب ليس خطأً او هفوة. إنه عشب ضار في حقل روحك. إن لم ينتزع في الوقت المناسب، فيمكن ان يملأ الحقل كله".
"على كل انسان ان يفهم منذ صباه بأنه أتى إلى هذا العالم ليصبح ممثلا لشعبه، وعليه ان يكون مستعداً لتحمل أعباء هذه المهمة".

وللأغنية في "داغستان بلدي"، موقعها الخاص:
"آي داي دالالاي .. آي دولا لاي.. كلمات الأغنية مفاتيح صناديق اللغة المحرمة"

"الأغنيات ستغنيها له انت امه، وانت تهزين سريره. وبعد ذلك، فلتغن له الطيور والأنهار، وأيضاً السيوف والرصاص. أما اجمل الأغاني فلتغنها له عروسه".


ونلاحظ أن للشعر والشعراء مكانة كبيرة في تلك القصائد والحكم، كما هو الامر للشجاعة والشجعان، فـ "الشجعان والشعراء والمغنين.. أمناء على النار وهم حراسها". بل قد يتفوق الشعر على السلاح في قيمته:
"السلاح الذي قد تحتاجه مرة واحدة، تحتاج لحمله، العمر كله. وابيات الشعر نكتبها مرة واحدة، فتخدمنا العمر كله"

ولحكم القرية مكانة مميزة أيضا: "النسر الذي يقضي وقته بالرواح والمجيء بين الدجاجات في الحوش كسلا.. ليس نسراً"
"غن اذا حل الربيع.. واحك الحكايا إذا جاء الشتاء"

كنت قد قرأت هذا الكتاب واعجبت به كل الاعجاب قبل اكثر من ربع قرن، قرأته بانتباه، وسجلت الكثير من العبارات الرائعة فيه، لكني لما تصفحته اليوم وجدته أروع مما رأيته حينذاك! فالتجربة اختلفت والمشاكل التي في الراس اختلفت، وقوة الشوق الى الحياة الجميلة والكريمة ومعرفة طريقها، اختلفت كثيرا.  

داغستان بلدي كتاب للتأمل، والهضم لكي يبقى اثره في الروح، وليس لقراءة سريعة : "عندما تستيقظ من نومك، لا تقفز  من سريرك كأن أحدا عضك.. فكر قبل كل شيء بما حلمت به"
لماذا تكون "الروح" ضرورية لبقاء بلد صغير على قيد الحياة؟ لماذا يكون الشعر والأغنية والحب والجمال ضرورات لبقاء الوطن؟ لأن بدون الروح والأغنية، ستتحول الطرق العزيزة بالذكريات، إلى تراب وجدران طينية مهدمة، لا تستحق الاهتمام، كما يصفها أحد الناعقون بضرورة الاستسلام والواقعية. عندها، إن تمكن هذا السم منا فلن نجد شيئا يستحق الدفاع عنه.  لماذا تكون قصص الشجاعة وقيمها سلاحاً للدفاع عنه ولا أمل له ولأهله بدونها؟ لأنها الجسر لعبور حاجز الخوف والاحساس بالقلة أمام عدو اكبر واكثر عدداً..
وهكذا فأن "الشجعان والشعراء والمغنين والرواة .. أمناء على النار وحراسها"..
نحن بحاجة إلى ان نقرأ "داغستان بلدي" بقلوبنا ونحفظه في صدورنا، وأن نصنع مثله لأنفسنا ولأجيالنا لنعود اليه وقت ضيقنا ويأسنا، وقبل أن يتمكن اليأس منا.





الأحد، 23 ديسمبر 2018

الرأسمالية قصة عشق – وثائقي من انتاج مايكل مور




الرأسمالية قصة عشق – وثائقي من انتاج مايكل مور
صائب خليل
20 كانون الأول 2018
يبدأ مايكل مور فلمه الوثائقي المتميز بعرض تشابه بين نهايات الامبراطورية الرومانية والوضع الأمريكي الحالي، خاصة بذخ الخاصة وعوز الفقراء الشديد، ولجوء الأثرياء والطبقة الحاكمة الى "اللهو" و "الترفيه" وإشاعة السخف، لإلهاء الفقراء عن مصائبهم والإبقاء عليها، وكيف انهار الوضع السياسي من سلطة نواب منتخبين الى سلطة غاشمة مركزة، وتسبب ذلك في انهيار روما في النهاية.
يعرض الوثائقي أيضا تحذير بعض القادة من الاتجاه الذي يتطور اليه الوضع الأمريكي، وكيفية استلام التافهين السلطة ومن يقف وراءهم ويوجههم.
ويبين مايكل مور كيف ان الشركات كانت تقدم ضرائب تصل الى 90% من أرباحها، ورغم ذلك كان أصحابها في منتهى الثراء، وكانت الطبقة الوسطى في حالة جيدة ويكفيها راتب معيل واحد.. وكل هذا تغير..
بعد ذلك يعرض مايكل مور ظواهر مرعبة للرأسمالية مثل نوع من خصخصة السجون، وما ينتج عنه من فضائع لا يستطيع العقل تحملها مثل الحكم بالسجن على شباب لأسباب تافهة جدا ويتم تمديد فترات سجنهم لأن سجنهم يزيد من ثروة شركة تستلم مبالغ باهظة عن كل سجين شاب ولطول فترة سجنه.
وكذلك يظهر كيف ان الطيارين بسبب المنافسة بين الشركات تم تخفيض رواتبهم بشكل شديد ويسلط الضوء على حالة سقطت فيها طيارة كان الطياران فيها يتحدثان عن سوء احوالهما المعيشية. وقد دفع ذلك بعضهم إلى أن يعملوا عملاً ثانيا تافها مثل توزيع العصير، أو يستجدوا الطعام من مؤسسات الصدقات، كما قام البعض الآخر بالتبرع بدمهم مقابل المال ليعيشوا!
ويكشف مور ان العديد من رجال الدين المسيحي يقفون بالضد من الرأسمالية ويعتبرونها وحشية لا إنسانية ومناقضة لمبادئ المسيح.
ويلفت مور النظر الى تجارب صناعية واعمال يقوم العاملون فيها بتأسيسها بأنفسهم ويتشاركون فيها، كبديل للرأسمالية. ورغم ان ذلك لن يكون بالفعل بديل حقيقي للرأسمالية (حيث ان حصة الشخص لا تعتمد على عمله فقط بل على نسبة مشاركته رأس المال أيضا) إلا انها بالتأكيد تجارب تستحق الوقوف عندها.
ثم يتحدث الفيديو عن الألاعيب الاقتصادية التي أوقعت الناس في الورط المالية التي كلفتهم املاكهم في النهاية. وينبه أيضا الى حقيقة ان أكثر من 500 من المحققين في الجرائم المالية قد تم نقلهم بعد 11 سبتمبر 2001 الى اقسام "محاربة الإرهاب"، وهكذا تخلص منهم رجال المال والاعمال، وازدادت الجرائم المالية بشكل وصف بأنه "وبائي".

بعد ذلك يسلط مور الضوء على الكارثة المالية – او بالأحرى الفضيحة المالية – للعام 2008 والتي سببت انهيارا للنظام المالي، فقامت الحكومات ومنها الامريكية بإنقاذ البنوك بدفع مبالغ هائلة من أموال دافعي الضرائب اليهم. ويبين الفيديو لماذا يكون من صالح هذه المؤسسات تشغيل الفاشلين والمتسببين بالكوارث، فهم تحت تصرفهم ولا يرفضون أي أمر.
يلاحظ هنا ان هذا لم يجر بلا مقاومة وان الناس تمكنت من إيصال صوتها الى الكونغرس، لكن البنوك كانت في النهاية هي الأقوى.
وقام روزفلت قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل وفاته بسنة واحدة، بمحاولة لضمان حياة كريمة لكل امريكي بضمان مجموعة من "الحقوق" مثل التعليم الجيد ومسكن وعمل مناسب وتأمين صحي الخ، ولم يتحقق من تلك أي شيء للأمريكان، لكن الأوروبيين واليابانيين تمكنوا من تحقيق الكثير منها، لأنهم لم يتعرضوا الى الحرب المباشرة من الشركات الامريكية.
الفيلم الوثائقي للمخرج الأمريكي مايكل مور بعنوان" الرأسمالية: قصة عشق " من إنتاج عام 2009 ترجمة: مايا سليمان
من اختيار صفحة: فيديوات لفهم العالم

مايكل مور فيلم الرأسمالية: قصة عشق - YouTube


السبت، 8 ديسمبر 2018

حسونة ذهبت الى سامراء وحلفت عبيد الوركاء وجمدتهم كتماثيل في الزقورة-صائب خليل


حسونة ذهبت الى سامراء وحلفت عبيد الوركاء وجمدتهم كتماثيل في الزقورة
صائب خليل
7 كانون الأول 2018
كيف نحفظ أسماء الأشياء؟ هذه الحيرة مرت علي وأنا اقرأ بداية كتاب الأستاذ طه باقر ""، الرائع والمفقود من السوق لسبب لا يعلمه الا الله والراسخون في المكتبات..
يشير طه باقر إلى بداية الحضارة في العراق، وكيف انها ابتدأت بعد نهاية العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث، حيث سميت تلك الحقبة التي بدأ في منتصفها استعمال المعادن في العراق، بالعصر الحجري – المعدني والذي بدأ في منتصف الالف السادس قبل الميلاد (5500 قبل الميلاد) واستمر لألفي عام. وفي هذا العصر تحققت العديد من الإنجازات كتطور الزراعة والري ونشوء أوائل المدن وظهور أنظمة الحكم والمعابد، وسجلت بداية ظهور الاختراعات الأساسية التي مهدت للحضارة الراقية لبلاد ما بين النهرين التي ستظهر في بداية الألف الثالث قبل الميلاد.
هذا كله منطقي وسهل الحفظ نسبيا، حتى جاء في  النص، تعداد الأدوار التي توالت في هذا العصر وسميت الأدوار حسب مناطق اكتشافها، وتبتدئ حسب قدمها بدور "حسونة" نسبة الى تل حسونة في الموصل و دور "سامراء" ودور "حلف" ودور "العُبيد" الذي بدأ استيطان الإنسان العراقي السهول الرسوبية في وسط العراق وجنوبه.
ثم ظهر "العصر الشبيه بالكتابي" عندما بدأت اشكال الكتابة المبسطة (الصورية) فيه بالظهور، حيث انها من البساطة مما يصعب اعتبارها "كتابة"، فلا يمكنك ان تعتبر رسماً مبسطاً لبقرة مثلا على انه كتابة بكل معنى الكلمة، حتى ان كان القصد منه التدوين. لكنها كانت ولادة الكتابة في ما بين النهرين وكانت بحدود 3500 قبل الميلاد، ويشمل هذا دور "الوركاء" و دور "جمدة نصر" الذي شهد تطورات حضارية مهمة مثل فن النحت والاختام الاسطوانية التي اختصت بها حضارة وادي الرافدين وتطور بناء المعابد لتظهر أوائل الأبراج التي تسمى "الزقورات" التي مازلنا نشاهدها حتى اليوم!
إذن، كانت الفترة المقدسة بين بدء الحضارة في العراق، وحتى بناء الزقورة.. ألا تستحق ان نحفظ تسلسلها وأسماء أدوارها؟

الحقيقة اننا نقصف بكم هائل ومتزايد من المعلومات التي يجب ان نتعامل معها. وليس الأمر فقط بسبب التطور العلمي والتكنولوجي والمعرفي بشكل عام، فهذا ربما يمكن تدبيره. إنما السبب  الأكبر في التسونامي المعلوماتي الذي يجب علينا هضمه، هو أننا نعيش في عالم معادي للإنسان! لقد ادخلتنا الرأسمالية وكل تداعياتها ونتائجها الطبيعية من فردية  في حالة حرب دائماً وتهديد مستمر لحياة ورفاه وحرية الإنسان، ابتداءاً بالشعوب المتخلفة وليس انتهاءاً بها. وصار لزاماً على كل انسان ان يتحصن بوعي اكبر بكثير مما كان يكفي في الماضي لدرء استغلاله ونهب ثروته وتحطيم مصالحه وحياته.
ومما يزيد الطين بلة، ان الرأسمالية استولت ايضاً على وسائل الإعلام وحولتها إلى وسائل تضليل وإيهام، وهذا زاد بشكل كبير من كمية الوعي الضرورية للبقاء على قيد الحياة. وكمية الوعي تعتمد على الجهد الذهني والقراءة والتذكر ايضاً. فالذاكرة مهمة بشكل خاص لمن يريد الدفاع عن الحقيقة بوجه الإعلام التضليلي بشكل خاص. وهكذا سلط على الذاكرة حمل لم تخلق لحمله. ولذلك توجب ابتكار التقنيات الضرورية التي تسهل الحفظ، لتكون المعلومة جاهزة حين نحتاجها.

الأرقام والاسماء صعبة الحفظ بطبيعتها ما لم نجد لها ارتباطا ما بما نعرفه. وإن لم نجد، فحتى لو كان ارتباطا اعتباطيا. أنا احفظ تاريخ الثورة الفرنسية مثلا بأنه 1789 لأن 789 متسلسلة (والألف طبعا سهلة). لكن للأسف ليست كل الأرقام بهذه الطواعية للقواعد.
وعندما كنت طالباً في الابتدائية كنت اخطأ بمكان الـ "w" في كلمة "two"، وكثيراً ما يتبادل مع "o" المكان، فحفظته بتذكر ان "دبل يو" تعني "اثنين يو"، وتسلسله هو 2 ايضاً في حروف الكلمة!  
ومثل عنوان هذه المقالة، اخترعت قصة صغيرة لا تحتوي من كلمات "الضاد والظاء" إلا تلك التي تستعمل الظاء، وكل كلمات الظاء. فكنت عند كتابة كل كلمة أحاول ان أتذكر فيما اذا كانت تلك الكلمة موجودة في تلك القصة أم لا.

عودة إلى عنوان مقالتنا، أقول أن الأسماء بشكل عام قد لا تعني شيئا كثيراً، لكنها ايضاً قد تعطي هيكلا لمعارفنا يحدد أماكن الأشياء في ذاكرتنا وعلاقتها ببعضها، زمنياً وغير زمني. مفيد ان نعرف لو رأينا حجراً كتب عليه انه من دور "حلف" ان نفهم أنه كان في وسط الفترة بين "حسونة" و الوركاء.. أن جمدة نصر هي التي اطلقت الاختام الاسطوانية مثلا.. فإن وجدنا ختما مدوراً مثلا يعود إلى دور "سامراء" نقول : أها، يبدو انهم كانوا يستعملون الاختام المدورة او البسيطة قبل ان يخترعوا الاختام الاسطوانية لاحقا قريبا من عصر الوركاء!  
أو إن عرفنا ان اليونانيين قد عرفوا الكتابة فقط قبل الف عام من الميلاد او اقل ، نعلم اننا عرفناها في "الوركاء" 3500 عام قبل الميلاد، ونحاول ان نتخيل كم هو الفرق بين الف عام و 3500 عام!
إعطاء التاريخ شكلا وهيكلا، عملية تتطلب بعض الجهد، لكنها توفر الكثير لاحقاً. وأنا حين قرأت "حسونة" تذكرت اسم اختي، فركبت الجملة التي هي عنوان هذا المنشور، لأحفظ التسلسل، ولكل معارفه وخزينه الذي له ان ينهل منه ما يساعد ذاكرته.
.
الصورة لفخارية من تل حسونة مزينة برسوم فنية تدل على اهتمام عراقيين ذلك العصر بالجمال، وذوقهم الرفيع فيه:


الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟-صائب خليل


كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟
صائب خليل
18 تشرين الأول 2018
لكي نفهم لماذا تتراجع دولة الرفاه التي تعودنا رؤيتها في الغرب، علينا ان نفهم كيف نشأت، وهل تغيرت الظروف التي أدت إلى ولادتها وأمنت معيشتها أم أنها دورة حياة لنظام اقتصادي كغيره من الأنظمة الحية، ينشأ ويكبر ثم يشيخ ويموت؟
ظهرت دولة الرفاه في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، لكن بدايتها تعود في الحقيقة الى فترة الكساد الكبير الذي شمل الغرب قبل ذلك بعقد ونصف من الزمان. فقد ضرب ما يسمى "الكساد العظيم" الدول الصناعية الغربية ابتداءاً من عام 1929 وامتد ليشمل بدرجة أو بأخرى بقية انحاء العالم، وبخاصة تلك التي كانت تعتمد على الغرب في اقتصادها. واستمر الكساد لمعظم فترة الثلاثينات، ووصل الحال ببعض الأسر الامريكية الى عرض أولادها للبيع! وفي تلك الفترة العصيبة كانت ولادة دولة الرفاه.
تسبب الكساد في فقدان ثقة الشعب بالحكومات الغربية ورفض تصديق تبريرات منظري الاقتصاد الرأسمالي. وعلى العكس من ذلك بدأت الأفكار اليسارية تلقى القبول من الناس. وقد أدى هذا الوضع إلى انضمام الملايين من العمال في اميركا إلى نقابات العمال واتحادها (CIO وكذلك انضم مئات الآلاف إلى حزبين اشتراكيين وإلى الحزب الشيوعي الأمريكي.
وفي هذه الاثناء تم انتخاب الرئيس الديمقراطي روزفلت لرئاسة الحكومة. فذهب وفد من نقابات العمال والأحزاب اليسارية اليه وحذروه بلهجة تشبه التهديد، بأنه قد اصبح رئيسا بفضل أصواتهم، وانه ان أراد ان يفوز بالانتخابات التالية فعليه ان يساعدهم في وضعهم الاقتصادي المتدهور. ابلغوه بأنهم يعلمون ان الحكومة لا تملك المال والبلد في وضع اقتصادي صعب جداً، لكن هناك اثرياء وشركات كبرى في البلد، وعليه ان يسحب جزءأً من أموالها لدعمهم. واخبروه أيضا بأنه ان لم يفعل فأن الامر قد يتجاوز عدم انتخابه، ليصل الى حد اسقاط النظام الرأسمالي.
قام روزفلت بالاجتماع برجال الاعمال والأثرياء وأخبرهم بما حدث في الاجتماع، ونصحهم بالتعاون معه وإلا فقد تكون هناك ثورة ويخسرون كل شيء! فحصل روزفلت على موافقة هؤلاء ودعمهم إضافة دعم اليسار، فتمكن من تحقيق برنامج شديد الطموح لم تعرفه أميركا من قبل، وموله من رفع الضرائب المفروضة على أرباح الشركات، وممتلكات الأثرياء بشكل كبير.
وكان نتيجة ذلك ان تمكن الشعب الأمريكي من الحصول على مكاسب مدهشة. فتم انشاء شبكة الضمان الاجتماعي، ومن ضمنها ضمان رواتب البطالة، وتم تحديد الحد الأدنى للأجور، وتم تشغيل 50 مليون عاطل عن العمل بتوفير العمل عن طريق مشاريع الحكومة وبشكل مباشر.
وفي الفترة اللاحقة بعد الحرب العالمية الثانية، كان التهديد اليساري مازال قوياً، فسمحت اميركا لتوابعها في أوروبا (الغرب الأوروبي) وحتى في آسيا (اليابان وكوريا مثلا) باتباع نهج اقتصادي مخطط وحكومي وحمائي الى حد بعيد، والابتعاد عن اقتصاد حرية السوق، رغم ان ذلك بعيد عن المبادئ الرأسمالية، خشية ان يفوز الشيوعيين في تلك الدول، إن أصابها الضرر الاقتصادي.
هكذا ولدت دولة الرفاه في الغرب والشرق، ويمكننا ان نلاحظ أن السبب في الحالتين كان في إعادة توزيع الثروات بشكل اقل ظلما، وان الرأسمالية لم تلجأ إلى ذلك بسبب العطف او التفهم أو حب المواطنين او صالح البلاد، بل بسبب شعورها بالتهديد بأنها قد تخسر كل شيء!
ولنلاحظ أيضا أن هذا يبرهن أن من خلق دولة الرفاه بميزاتها المعروفة اليوم، هو ذلك “الرعب” الذي تمكن الفقراء من اثارته في الأثرياء، خاصة بوجود الاتحاد السوفيتي، وأجبروهم على تقاسم اقل ظلماً لثروة العالم. وقد اختفى هذا الرعب اليوم او انخفض بشكل كبير، فأطلق الأثرياء لأطماعهم العنان.
وشمل الهجوم على الضمان الاجتماعي والقطاع العام واللجوء الى الخصخصة، مختلف بلدان أوروبا الغربية، وعادت البطالة وانخفض الدعم العام للسلع وازدادت نسبة الفقراء ومن يعيش على الهامش في كل البلدان، رغم ارتفاع إنتاجية الفرد. فالظرف الذي أنشأ دولة الرفاه قد زال، فبدأت بالانهيار، خاصة في زمن ريغان وترمب في اميركا. ولم تحافظ على حالة الرفاه إلا الدول التي امتنعت بفضل وعي شعوبها، عن السماح للأحزاب التي تروج لحرية السوق والخصخصة بحرية القرارات، مثل الدول الاسكندنافية وهولندا على سبيل المثال.

 وفي خارج المنظومة الغربية، انتهى ايضاُ عصر "الدلال" الاقتصادي لنفس السبب، وتتعرض البدان الأضعف إلى الضغط باستخدام أسلحة مالية فعالة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذان كانا يقدمان القروض بعقود تشترط خفض الضمان الاجتماعي وبشكل مخطط لتحطيم تلك البلدان واجبارها على خصخصة ثرواتها وبيعها لهم بأسعار زهيدة، ومنع أي احتمال لخلق دولة الرفاه فيها.
هذا التاريخ، سواء كان في أميركا أو أوروبا أو العالم الثالث، يدل على ان الضغط الشعبي والقدرة على إثارة قالق ورعب الرأسمال، اهم لرفاه الشعب حتى من رفع الإنتاجية وانتعاش الاقتصاد!