الى أكاديميتنا .. وكان الطلبة يرسمون الموس الشابة ذات الضحكة الرائقة كخرير جدول .. لم ترفض طلباً لأستاذ الرسم الذي كان يرغمها على الجلوس او الوقوف أربع ساعات يومياً .. كان طلبة الرسم يتملقونها كي يستطيعوا أن ينجزوا رسومهم , كل من زاويته هو .. مع خلفيات مختلفة , وألوان مختلفة , ومهارات متباينة , بالطبع .. بعد ذلك بعامين , اندلعت الحرب , كما تعرفين .. أمضيت ست سنوات في جبهات القتال .. ضاعت اخبار زملائي .. وفي مطلع التسعينات عندما جمعتني المصادفة مع زميل لي من احدى مدن الجنوب عرفت ان احد طلاب الرسم , وقع في هواها .. وسرعان ما تزوجها وفرا الى خارج البلد .. لم يكن قد اكمل دراسته .. كان في المرحلة الثانية , في الارجح , الا انه استطاع ان يهرب من قبضة السلطات .. انتِ تعرفين ان السفر كان محظوراً آنذاك .. لكنهما افلحا في مغادرة البلد .
بعد هذا الحديث الطويل , ساد بيننا صمت ثقيل .. كنت احاور ذاتي هل ينبغي لي ان ارسم جسد هذه الحسناء فقط .. ام يجب عليّ ان ارسم روحها الطاهرة , النقية . اليس جديراً بي ان اظهر الحوار المقدس بين الموديل وجسدها العاري .. واكشف كيف تعيش هذه المرأة مع جسدها كي افهم حقيقته وحقيقة روحها الطاهرة . كما لو كانت قدسية تمارس طقوسها بورع , ببراءة الانثى , وعفوية الطفل .. لابد لي أن أرسمها في لحظة توحدٍ صوفي مع جسدها .. لا بد لي أن أرسمها على وفق هذه الرؤية , متجنباً اثارة المتلفي – المشاهد .. كل ما عليّ أن أبرز طيبة هذه المرأة , دلالها الأنثوي , جمال روحها من خلال جمال جسدها وتناسقه .. هذه هي الرسالة التي ينبغي لي أن أوصلها الى المتلقي .. وانني حين ارسم هذه المرأة الفاتنة اليوم أو غداً او بعد اسبوع فانني اثق ثقة عمياء أو بالاحرى أؤمن أيماناً قاطعاً انه يوماً ما سيتوقف فيها كل شيء .. يكف القلب عن الخفقان , ويذبل الجسد الذي سحر الفنانين وغيرهم .. ويزول تورده الاخاذ , متخشباً ومكتسباً اصفرار الشمع .. هي ذي الحقيقة التي لابد أن أضعها نصب عيني .. وهي ذي الديدان تنتظر موتنا المؤجل كي كي تبدأ في نهشنا فهنيئاً للديدان !!
وانا افكر في هذا الامر صممت ان ارسم لوحةً فنيةً خالدةً , تبقى على مر الازمان والدهور , عملاً فنياً لا يأكله الدود .. تكونم هي بطلة العمل , أو الكائن الانساني الوحيد فيه .. اذاً لابد لي ان اجعل حياتي مذهلة , وان امتص نخاعها كل يوم , لا بل كل ساعة .. طالما ان الديدان آتية لامحالة في خاتمة المطاف .. وهكذا قررت ان ارسمها , ارسم فردوس , غادة الفنانين , واحولها الى لوحة خالدة شأنها شأن لوحات الرسامين الكلاسيكيين .. الذين تركوا لنا آثاراً فنية لا نجرؤ على نسيانها او تجاهلها مهما تقادمت الأعوام ..
وأخيراً قررت أن اكسر الصمت قائلاً وشفاي تكادان تلامسان عنقها الناعم ..
- لابد انكِ جمعتِ معلومات كافية عني .. سيرتي الذاتية , كما يسمونها الآن .. اغرب , بلا زوجه ولا أولاد .. أخوتي وأخواني قلما يزورونني هنا .. أنا اصغر أشقائي وشقيقاتي .. هم يعانون من أمراض مزمنة .. وبعضهم أجرى عمليات جراحية في العيون والمرارة والرئتين .. أنا أخمن , انكِ تشعرين بحريتكِ هنا .. كما لو أنكِ في بيتكِ .. ما من زوجة غيور تراقبكِ ساخطةً غاضبةً بعينين مفتوحتين على وسعها .. وما من احد يسرق النظر اليكِ .. المكان دافئ ومريح .. هكذا اشعر به .. ربما يبدو لكِ خانقاً ورطباً لأنكِ لم تعتادي السكن في مكان ضيق كهذا .. وعلى أية حال , يستطيع المرء أن يقضي فيه بعض الوقت , كي يريح أعصابه .. غالباً أقصد متنزهاً قريباً في الصباح الباكر , وأتمشى بين الاشجار .. أشعر أن الأنسام الطرية تبكي بين الاغصان .. أدوس الورق الاصفر المتيبس تحت قدمي .. أتذكر قول شكسبير (( يا بلادي متى تستعيدين صفائكِ ؟ )) أشعر أن العالم من حولي يضحك ساخراً مني .. هل جاء هذا الرجل الخمسيني ليعيد النظر في ماضيه , هل نتحدث عن ماضينا بندم , باستعلاء .. هل نغلفه بغلالة من الحزن هل نعيشه ثانيةً بنوستالجيا مدمرة .. أشجار المتنزة الهرمة تشعر بروحي الميتة , وطاقتي المعطلة .. ومثلما نبكي على بلادنا التي شوهت ومسخت.. يبكي الشجر فتبلل عبارته المنهمرة الممرات الإسمنتية بين صفوف الاشجار.. وأنا أتمشى بين الاشجار الخريفية , أشعر بقلبي ينزف , أصغي لخشخشة الورق اليابس المنسحق تحت قدمي , استرجع سنوات العمر المنصرم ..ذكريات الناس الذين مروا في حياتي , أو مررت في حياتهم .. أحدث نفسي قائلاً : هو ذا مصيري .. أسير متوحداً في أحزاني ، اجوب ممرات المتنزه بخطوات متعبة ، اعب النسمات الطرية التي لم تتلوث بالدخان , ابذل قصارى جهدي كي احافظ على هدوئي .. وسلامي.. في بعض الاحيان اشعر ان الاشجار تهدهدني , تمنحني اصرارها على البقاء فبالرغم من الحرائق التي تندلع هنا وهناك , ما زالت تزين حدائقنا وبساتيننا ومتنزهاتنا.. هي ما زالت شامخة , باسقة , قاتمة الخضرة .. ومازالت تصر على بقائها وحيويتها رافضةً أن تتحول الى حطب .. حطب يابس يدفئ البردانين في ليالي الزمهرير .. وها انذا الآن أجلس في مشغلي ولصقي امرأة فريدة , طاهرة الروح والجسد .. ترتدي ثوباً اسود انيقاً , يشبه كثيراً ثوب كليوبترا , ذلك الثوب الذي رآها فيه انطنيو اول مرة .. قلت لكِ قبل قليل ان هذا الثوب يناسبكِ تماماًَ .. والآن اضيف قائلاً أنا أحبكِ في هذا الثوب .. تقويرته التي تكشف جيدك الابيض كالرخام .. انني احد الموسلين لأنه يلامس جسدكِ الابيض .. لا يذهب بكِ الظن انني سأطلب منكِ ان تكوني ملكاً لي .. انا لا اريد امتلاكك , ولا استعبادك .. ولا حتى الزواج منكِ .. اريد فقط ان تكوني بجواري , قبالتي , على مقربة مني .. الى يميني أو يساري أو حتى خلفي .. أنما دوماً في مخيلتي , وفؤادي . كوني ملهمتي , موزيتي .. امنحنيني الدفء والسكينة .. لاحظي ان كلينا يشعر ان الآخر يمنحه الحنان والطمأنينة .. هذه هي العلاقة الانسانية الحقيقية بين رجل وامرأة .. علاقة حميمة , نبيلة , أصيلة .. لا أريد أن أتغزل بجمالك طلعتك , وبريق عينيك اللوزيتين , أو نعومة جيدكِ الأبيض , أو لدانة خصركِ النحيل .. مع انكِ تملكين هذه الصفات كلها .. وربما تخفين ما هو أجمل وأبهى.. اريدكِ أن تبعثي في نسغ الحياة الذي شرع يضعف , ويتباطأ .. ويكاد يتوقف .. ربما أكون بالنسبة لكِ هو الرجل الذي سيغير حياتك .. حسن , ربما أكون كذلك .. لكنني أود ايضاً ان تكوني كذلك بالنسبة لي .. انا الذي اعيش غربةً داخليةً .. في مشغلي المنزوي هذا .. لا يخطر ببال امرىءٍ ان رساماً مولعاً بالحياة يمكن ان يتخذه مسكناً له ومكاناً لإبداعه .. في هذا المكان الذي ربما ينعته احدهم بكونه لا يصلح لسكنى البشر طرأت على بالي أجمل الاحلام , واعذب الرؤى , واحلى الامنيات .. غالباً افكر بابي العلاء المعري , رهين الحبسين .. كتب ابو العلاء ( رسالة الغفران ) ليهرب من محبسه .ز لكنه بعد ان طكاف في اقطار السماء عاد الى محبسه الارضي .. اما انا فاوشك ان احلق معكِ في دنيا الخيال .. نحلق معاً في السموات السبع .. ارسمك بثوبك الاسود نفسه مع جنحين صغيرين كأي ملاك .. تراودني رغبة ملحة ان ارسمك في الف لوحة ولوحة .. كي استبقيك اطول مدة زمنية .. سنتبادل الادوار , بعكس الحكاية الشهيرة .. سأكون أنا شهرزاد وتكونين أنتِ شهريار .. لن تهدينني بالقتل ولن اخترع القصص أو ألقيها كي أطيل مدة مكوثي بين الاحياء .. سنعقد صفقةً مشتركةً , انتِ القاتل وانا الضحية الت تتوجس خيفةً من الموت الذي يتربص بها كل ليلة .. الا انها تريد ان تؤجله في كل مرة .. وفي كل لقاء .. وفي كل لوحة .. سنعيش معاً , نأكل معاً, ننام معاً .. نعم , ننام في فراش واحد ونتدثر بدثار واحد .. وأذا ما إتسخت ثيابنا نغسلها وننشرها على حبل الغسيل .. قد نبقى ساعات عدة عاريين , بريئين , طاهرين .. لن نسمح لنزوات الجسد أن توقعنا في شباكها .. سنتخلص من نزوات المراهقين , ونزق الشباب .. وسنكتفي بالابداع .. لن أجعلكِ تتبرأ من أنوثتكِ .. ولن أسمح لكِ أن تنكرين جسدكِ البض , العاجي .. مع أن الجنس هو احد التابوات الثلاثة التي سجننا فيها المجتمع , الا اننا لن نتخلى عن كوننا انا رجل وانتِ امرأة .. فكلانا يعرف الممرات السرية للرغبة .. وكلانا يعرف كيف يستسلم لأحتياج شفتي الآخر .. وطالما ود كل منا أن يستسلم لشراسة العشق .. فالعشق هو الفعل الانساني .. ستتاملين رسومي ولوحاتي وتخطيطاتي الاولية .. وسأجعلكِ تتوضعين ألف مرة ومرة .. كل لوحة تختلف عن سابقتها .. سأرسمكِ بهيئة موناليزا , وبهيئة فينوس النائمة في لوحة جورجيوني , وبهيئة جالاتيا في لوحة رفاييل , وبهيئة الام في لوحة المهد لـ بيرتا موريسو .. او حتى كواحدة من راقصات البالية في لوحات ديغا .. سأرسمكِ بهيئة شهرزاد , أو شبعاد , أو إينانا .. سأرسمكِ عاريةً , وفي لباس البحر , وبريول المطبخ , وزي الممرضة , وبدلة المحاربة , وثوب الام المرضع .. وثوب الفلاحة , وجلباب قارئة الطالع .. أريد أن أخرج من محارة العزلة التي كادت تنغلق عليّ .. أريد أن أغادر عزلتي , عبر الابداع , عبر التخيل , عبر الرؤى والافكار والاحلام .. لا أريد أن أغادر مملكتي كما فعل ابو العلاء المعري .. فلست من هواة السفر ولا من مريدي الهجرة .. أريد أن تكون رسومي من الداخل .. من داخل البلاد المحتل , بين طفولة الامكنة وشيخوخة الزمن .. لا
أريد أن يصفني النقاد مع اولئك المثقفين الذين يرتجفون هلعاً من مناخ الحرية الجديد .. أريد أن أرسم على وفق ما أشتهي .. وأن أحيا حياتي على وفق ما أشتهي .. أليس هو تناقض لافت, أن تكون حرية المثقفين في بلدٍ محتل أكثر مما كانت عليه في ضل حكومة مجانين وعملاء في الوقت نفسه .. انها مفارقة مدهشة , أليس كذلك ؟
انه شيء , مؤلم حقاً أن يراق الدم في حفلة عرس .. أو حفلة تنكرية .. الشبان والشابات يرقصون بمرح .. أذرعهم تطوق أحدهم الآخر .. يهمسون لأحدهم الآخر بكلمات شاعرية , رومانسية . كما لو أنهم في حلم .. الموسيقى تصدح منبعثةً من مكان خفي .. هنا يكمن الرعب الأعظم والسحر الأعظم .. المحتفلون في نشوة الرقص وبهجة الحياة .. يتلذذون بالأضواء الوامضة والأجساد المتمايلة .. أما المجرمون فلا يطيب لهم , ولا يسكت عواء أرواحهم سوى صور الأشلاء البشرية المحترقة , المتفحمة .. تحوم حولها أسراب الذباب , وتغلفها سحب الدخان الاسود الكثيف .
اللوحات ياعزيزتي فردوس , كالنصوص الأدبية كائنات مهاجرة .. مع أن مبدعيها غالباً ما يكونون من كارهي السفر والهجرة .. ثمة أمثلة كثيرة في بلادنا وفي أوربا وفي العالم كله .. أمنيتي أن يسافر أبداعي الى العالم كله .. وهذا يعني أن تسافر أحلامي .. أحلامي لا تختلف كثيراً عن أحلام المعري , أو هنري ردسو , أو توماس مور أو كالفينو .. فأنا من دونكِ لا أستطيع أن أفعل شيئاً البتة .. أنتِ التي ستطلقين أحلامي في الفضاء .. ستبعثين بها الى عالم الآخرين .. سيراكِ البشر في كل أصقاع الدنيا على شبكة الأنترنيت .. سيرون جسدكِ وروحكِ.. ويفهمون حزنكِ ويأسكِ وفرحكِ وهذيانكِ .. سيرون الخراب الذي حل بنا .. سيرون أجواء الف ليلة وليلة .. وسيرون الحيدر خانة .. وزقورة أور .. والجنائن المعلقة .. والاهوار التي عادت اليها الحياة .. ودجلة الذي تغزل به الجواهري . في بلدنا الذي يضيع فيه كل شيء لا أريد أن أفقد فني .. انها خسارة كبرى أن يضيع أبداعنا في هذه الفوضى .. لابد لنا أن نؤسس شيئاً ما يخلدنا .. يبقينا في ذاكرة الزمن .. أنتِ وأنا , يا عزيزتي , سنخوض هذه المغامرة الجريئة .. سنتحدى كل الظروف القاسية .. سنجوع , ونبرد , وتداهمنا الحمى .. الا اننا لن نستسلم .. سنردد مع ذلك الشاعر الروسي : (( عليك أن تبقى حياً , تبقى حياً فقط – والى النهاية ,)) مري بنا أن نجسد لوعتنا , وحرماناتنا , وحسراتنا , ومخاوفنا .. وفي المقام الاول حبنا النبيل .. لا بأس أن تتبلل فرشاتي بالدمع , وانا أرسم الحال السيء الذي آل اليه بلدنا والوضع المأساوي الذي يعيشه شعبنا .. لا تسيئي الضن بي , فتحسبين أنني لا أضمر لكِ الحب العميق , الجارف .. أن حبي لكِ اقوى من أن أطمع في وصالكِ .. سمه ما شئتِ , سمه وجداً صوفياً , حباً عذرياً , حباً افلاطونياً .. انه شيء بغيض ان ةنتخلى عن اطياف الوجد المقدسة , ونلهث راكضين خلف سراب الجسد المبهج للحواس . الذي سرعان ما يتحول الى كومة عظام نخرة .. اسمعي , عزيزتي , اليس عظمة اللسان تكمن في قدرته على الاحتفاظ بنقائه وطهره في كل الازمنة المضادة , في أزمنة الرشوة والفساد والخسة ؟ انا , يا عزيزي , اقسو على الحب إكراماً للخلف الفني .. لا أريد أن أقول لكِ أنني أشتهيكِ في مستان الموسلين عديم الاكمام هذا .. وان نهديك الصغيرين مثيرين وان المرء لا يستطيع أن يغمض عينه وهو يرى جيدكِ الرخامي .. لا , لست رجلاً ساذجاً كي اقول هذه الكلمات الرقيقة .ز لست عاشقاً مذنفاً أدرات له حبيبته راسه , وما عاج يعرف يمينه عن شماله , كما يقول الناس عندنا .. انا رجل مسكون بالأحلام , والرؤى , والفانتازيات .. بامكاني أن أرى حلماً في كل إغماضة عين .. وأتخيلكِ تلعبين دوراً ما كل دقيقة .. أقصد الهيئة التي تتخذينها .. دور الام , او الحبيبة , او الزاهدة , او الفلاحة , او عازفة الكمان , او الزوجة التي تنظر زوجها الذاهب الى الحرب .. لا أملك وقتاً كافياً لأبذره .. قماش ( الكنفا ) ينادي فرشادتي المغموسة باللون .. لابد لي أن اجترح طرائق شتى للرسم .. وأن أرسم بتقنيات مختلفة في كل مرة .. لاأريد أن أرسم موضوعاً واحداً , وبالطريقة ذاتها .. لابد لي أن أغير ألواني وموضوعاتي واحلامي .. لا أريد لألواني أن تكون مضجرة , ورتيبة , وباعثة على الغثيان شأنها شأن مسلسلات التلفاز الساذجة .
لا أعرف كيف أنتهى لقاؤنا الاول .
في يوم واحد , أنا وهي تلقينا دروساً عدة :
درساً في الحب .
ودرساً في الغواية .
ودرساً في الحياة .
ودرساً في الرومانس .
ودرساً في الرسم .
أتذكر أنني رافقتنها في سيارة اجرة اخذتنا معاً الى شقتها السكنية .. لم تكن تقيم في مكان قصي .. وصلنا بعد عشر دقائق تقريباً .. وحين اقتربنا من مسكنها طلبت من السائق ان يتوقف.. وقبل ان تودعني ببسمة طافحةٍ بالامل الا انها تشي بحزن شفيف , اشارت بسبابتها اليمنى الى ناحية الشرق قائلة : (( اسكن هناك .. في الاعالي ..)) كانت شقتها في الطبقة السابعة .. وحين شرعت تدوس بلاطات الرصيف رفعت يدها وحركت اصابعها الطويلة بتلك الحركة الرقيقة التي غالباً ما تقوم بها فتيات عصرنا .. حين يودعن زميلاتهن او أحباءهن ..
هكذا أنتهى لقائنا الاول .. كان لقاء فريداً , غريباً نادراً ما يجود القدر بمثيلٍ له ..
زارتني ثانية بعد ظهيرة يوم مشمس من أيام كانون الاول ( ديسمبر ) . لم تاتي بذلك الفستان الاسود عديم الكمين , كما توقفت انا اراها .ز بل بتنورة سوداء وتي شيرت اخضر داكن .. وهذه المرة ايضاً كان زيها مثيراً .. وكان اللون الاخضر الداكن يناسبها تماماً .. وبدت هي , الآن , وكما في اول زيارةٍ لها , غضة , طرية العود , نابضة بالحيوية ومثيرة ايضاً ..
وفي المرات التالية اكتشفت ان الالوان كلها كانت تناسبها تماماً .. وكانت ترتدي , في الاعم الاغلب , تنورات هفهافة تصل حتى الركبتين , وقمصان وبلوزات وتي شيرتات ضيقة تبرز نهديها الصغيرين .. الا انها بسبب ضيق القميص او البلوزة او التي شيرت يبدوان كبيرين.. وجذابين ..
في الزيارات اللاحقة , اكتشفت انها تعيش وحيدةً مع امها العجوز المصابة بداء السكري.. اما اشقاؤها فكانوا قد اثاروا الهجرة منذ عقد ونصف .. كانت تعيش هي وامها على الحوالات المصرفية التي يرسلها الابناء الذين ضاقت بهم مدن العالم فراحوا يتنقلون من مدينة الى مدينة ومن بلد الى آخر .
لم تكن فردوس ترفض لي طلباً .. كانت موديلاً ممتازاً , وشابة ذكية وطيعة وبسيطة وطيبة القلب .. لسوء الحظ لم تستطيع ان تكمل دراستها في علم الاجتماع .. بسبب الوضع الامني السيء .. كان قد بقى على تخرجها عام واحد .. ومع انها اجلت دراستها الا انها استمرت في مطالعة كتب علي الوردي .. وكانت تحفظ فقرات كاملة من كتابه ((مهزاة العقل البشري )).
كانت تطيعني لا كصديقة , ولا كزوجة بل كعبدة او جارية .. كانت تدلك عضلات ساقي اليسرى التي يصيبها الخدر من جراء العمل وقوفاً ..
يبدو انني سحرتها , او قل روضتها .. لانها كانت تلبي طلباتي كلها . كانت تخلع ثيابها الخارجية وتبقى بالكورسية والسروال الداخلي وغالباً بقميص النوم .. وغالباً تتعرى تماماً .. اذا تطلب الرسم ان تتوضع امامي هكذا .. لم أمسها ابداً .. ولم يكن بيننا سوى ذلك العناق الانساني الحميم والمصافحة الحارة اللذين نتبادلهما عندما نلتقي .. كانت قد اطمانت لي , وامنت جانبي لم أكن يوماً واحداً من اولئك الرجال النزقين الذين لاهم لهم سوى اشباع غرائزهم الحيوانية .. لايهمهم ما اذا كان انجازهم الفني جيداً او مقنعاً .. بل همهم الرئيس هو ارضاء حواسهم واطفاء ظماهم .
وفي الشهور التالية نذهب للتبضع ونختار ثياباً واكسسوارات وشالات من اجل رسم لوحات جديدة .. كانت ( فردوس )تحترم ذوقي كثيراً .. وانا لا اغالي اذا ماقلت ان ذوقينا كانا متشابهين , او متطابقين , في اغلب الاحيان .. كنا نختار التنورات والقمصان والفساتين والبلوزات الصوفية والمعاطف المكسوة بالفراء .. وحتى حمالات الصدر والسراويل الداخلية .. لم نكن ننتقي الفصالات المناسبة حسب بل حتى الالوان .. كانت فردوس تفضل الثياب الداخلية السوداء .. اما انا فكنت افضل تلك التي تشبه لو ن بشرتها البيضاء الشاحبة نوعاً الذي يبدو لي غالباً قريباً من لون الحمص , او البطاطا ..
ومع انني تعلقت بـ ( فردوس ) كثيراً لا لانها كانت موديلي المفضل طوال الشهور العشرة الماضية , وليس لأنها ساعدتني في انجاز ثلاثين لوحة في الاقل .. الا انني ندمت كثيراً لانني عاملتها بفظاظة غالباً , وربما بقسوة او وحشية اذا شئتم .. كانت فردوس ملهمتي .. ساحرتي .. فردوس هي المراة الوحيدة التي وقفت الى جانبي .. هبت لنجدتي .. بينما كان الريح تزمجر
وهاتان المهنتان , الانثوية والفن تهتمان نستحق عليها , في نظر السفاحين القتل والسباية في الخارج .. واتلانفجارات تتوالى .. وزجاج النوافذ يتكسر من جراء العصف .. ذلك انني ادركت من زمن بعيد ان الحب الحقيقي هو ذلك الذي ينمو ويترعرع على شفير الموت .. ومن لم يواجه الموت لا يستطيع ان يصمد امام الحب .. الموت والحب كلاهما حقيقة رهيبة , عبثية , غامضة .. لا نستطيع ان نفسرها , ولا ان نفك مغالبتهما .. اما فردوس فكانت المفتاح الذي فك كل مغاليق حياتي .. لم يعد يخيفني شيء .. لا القتل ولا الاختطاف .. ولا التعذيب ..
مرة ً او مرتين قضت ( فردوس ) ليلتها في مسكني .. نامت جالسةً على كرسي عتيق .. وفي الصباح ندمت على فعلتها تلك .. لانها عانت من تشنج عضلي في رقبتها ..
كانت تاتي الي , كدابها , ضاحكة , متهللة الاسارير .. ترمي حقيبتها الجلد على الطاولة المستديرة المبقعة باثار اقداح الشاي وتطلب من اطفىء سيجارتي لانها تكره رائحة التبغ .. اما انا فأترك عملي , وامسح بالقميص القطني المخطط , الذي يشبه كثيراً قميص بيكاسو , في صورةٍ ذائعة الصيت له .. امسح اصابعي بالقميص الملطخ ببقع الزيت والاصباغ .. اقترب منها .. اعانقها بحرارة .. ارفع الشال الحريري عن راسها .. اداعب خصلات شعرها القصير .ز نتحاور دقائق معدودات .. ثم استأنف عملي من جديد ..
كنت اوبخها بقسوة , وكنت اجلدها , اذا صح التعبير لانها لاتتخذ الوضع الذي اريده .. وغلباً تشكو من تشنج عضلي في عضلات ساقيها بسبب جلسة ما ..
والحق يقال , فردوس امراة نادرة .. وان مواضبتها على المجيء الى مشغلي في المواعيد المقررة شيء يبعث على الاحترام والتقدير .. لا ليس المجيء .. وحده , بل الاصرار على المجيء , او الالتزام بالمجيء .. لانه يندر ان ةتجد موديلاً من هذا الطراز من النساء المنشغلات دوماً بترشيق ابدانهن وتحسين مظاهرهن الخارجية ..
هي في الارجح فهمت الرسالة التي انوي ايصالها الى الملتقي – المشاهد .ز ليس هذا وحده , بل آمنت بها .. وراحت تدافع عنها .. لانها سمعت انتقادات عديدة عندما عرضت بعض لوحاتي في معرض اقامته رابطة الفنانين المشاكسين .. وهي رابطة تشكلت مؤخراً , تعرض اعمالاً فنية مثيرةً للجدل .. في المعرض التفتت نحوها الاعناق , وطاردتها نظرات فضولية واخرى شزرة من كل صوب .. كنا انا وفردوس نشهر سلاحينا في وجه القتلة ..
فردوس تشهر انوثتها .
الا ان تلك الانتقادات القاسية لم تستطيع ان ةتضعف حماسة ( فردوس ) للتوضع امامي .ز لا انا ولا هي كنا نكترث لمسألة الربح والخسارة .. لم تستطيع الكلمات الساخرة , والنابية غالباً , ان تحرف جسورنا .. او تمحوا اسمينا .ز اسمي واسم فردوس .. مع اننا كنا نبيع لوحاتنا لتاجر في ( الكرادة ) .ز الا ان وضعنا المادي ظل سيئاً .. وكنا نعيش غالباً عيشة الكفاف .. قررت مؤخراً , ان اترك التدخين بسبب تاثيراته السلبية على صحتي وبسبب وضعي المادي المتردي ..
انقطع التيار الكهربائي منذ يومين .. وشح الماء .. هي ذي فردوس كحمامة وديعة تهدل في مسكني .. كان من عادتها ان تترنم بالاغاني وهي تتمشى هنا وهناك حافية القدمين , آثرت ان تحتفظ بفتنتها الادبية , وعفويتها الخالدة وكشأنه , دوماً , مازال جسدها يحثني على المجيء .ز ما زال يرغمني على التورط العشقي الذي لم استطيع ان انجو منه .. كانتى تقودني دوماً , الى العشق , الى الحاضر .. اما انا فأقودها الى الفن , الى الابدية .. هي ذي .. تناديني من وراء الباب الحديد الصدىء .. فأملأ لها دلو الماء من الحنفية الوحيدة .. وحين تخرج من الحمام تكون (( كمنجلٍ صيغ من فضةٍ , يحصد من زهر الدجى نرجسا )) .. بالمناسبة كانت (فردوس) تتطلخ غالباً بعلب الصبغ بسبب ضيق المكان ..
اما انا فأقف , الآن , خلف الباب الصدىء , أحمل المنشفة التي ستلفها حول جسدها باذخ الأنوثة ..
أرجوكم , لا تتعجبوا , اذا رسمت فردوس واقفةً امام المرآة .. لا شيء يغطي جسدها سوى المنشفة البرتقالية .. اما شعرها فما زال سبللاً , كشأنه حين إلتقينا أول مرة في مساء جميل من يوم شتائي معتدل البرودة ..
هي ذي فردوس , الآن على غرار فينوس , أو عشتار ، أو اينانا , , تخصب الكون وهي تعصر شعرها الندي , شعرها الذي يتضوع منه عطر إلهي .. تتأمل صورتي المنعكسة في المرآة .. انا الذي شعرت دوماً أن لا أريد أنني أغادر عالمي .. وسأبقى دوماً في مشغلي , الذي تحول بمجيء هذه الحورية الجميلة , الندية دوماً , الى فردوس أرضي