الخميس، 15 أبريل 2010

يمامة الرسام -بقلم د علي عبد الامير صالح-رسوم د غالب المسعودي-القسم الخامس

الى أكاديميتنا .. وكان الطلبة يرسمون الموس الشابة ذات الضحكة الرائقة كخرير جدول .. لم ترفض طلباً لأستاذ الرسم الذي كان يرغمها على الجلوس او الوقوف أربع ساعات يومياً .. كان طلبة الرسم يتملقونها كي يستطيعوا أن ينجزوا رسومهم , كل من زاويته هو .. مع خلفيات مختلفة , وألوان مختلفة , ومهارات متباينة , بالطبع .. بعد ذلك بعامين , اندلعت الحرب , كما تعرفين .. أمضيت ست سنوات في جبهات القتال .. ضاعت اخبار زملائي .. وفي مطلع التسعينات عندما جمعتني المصادفة مع زميل لي من احدى مدن الجنوب عرفت ان احد طلاب الرسم , وقع في هواها .. وسرعان ما تزوجها وفرا الى خارج البلد .. لم يكن قد اكمل دراسته .. كان في المرحلة الثانية , في الارجح , الا انه استطاع ان يهرب من قبضة السلطات .. انتِ تعرفين ان السفر كان محظوراً آنذاك .. لكنهما افلحا في مغادرة البلد .


بعد هذا الحديث الطويل , ساد بيننا صمت ثقيل .. كنت احاور ذاتي هل ينبغي لي ان ارسم جسد هذه الحسناء فقط .. ام يجب عليّ ان ارسم روحها الطاهرة , النقية . اليس جديراً بي ان اظهر الحوار المقدس بين الموديل وجسدها العاري .. واكشف كيف تعيش هذه المرأة مع جسدها كي افهم حقيقته وحقيقة روحها الطاهرة . كما لو كانت قدسية تمارس طقوسها بورع , ببراءة الانثى , وعفوية الطفل .. لابد لي أن أرسمها في لحظة توحدٍ صوفي مع جسدها .. لا بد لي أن أرسمها على وفق هذه الرؤية , متجنباً اثارة المتلفي – المشاهد .. كل ما عليّ أن أبرز طيبة هذه المرأة , دلالها الأنثوي , جمال روحها من خلال جمال جسدها وتناسقه .. هذه هي الرسالة التي ينبغي لي أن أوصلها الى المتلقي .. وانني حين ارسم هذه المرأة الفاتنة اليوم أو غداً او بعد اسبوع فانني اثق ثقة عمياء أو بالاحرى أؤمن أيماناً قاطعاً انه يوماً ما سيتوقف فيها كل شيء .. يكف القلب عن الخفقان , ويذبل الجسد الذي سحر الفنانين وغيرهم .. ويزول تورده الاخاذ , متخشباً ومكتسباً اصفرار الشمع .. هي ذي الحقيقة التي لابد أن أضعها نصب عيني .. وهي ذي الديدان تنتظر موتنا المؤجل كي كي تبدأ في نهشنا فهنيئاً للديدان !!

وانا افكر في هذا الامر صممت ان ارسم لوحةً فنيةً خالدةً , تبقى على مر الازمان والدهور , عملاً فنياً لا يأكله الدود .. تكونم هي بطلة العمل , أو الكائن الانساني الوحيد فيه .. اذاً لابد لي ان اجعل حياتي مذهلة , وان امتص نخاعها كل يوم , لا بل كل ساعة .. طالما ان الديدان آتية لامحالة في خاتمة المطاف .. وهكذا قررت ان ارسمها , ارسم فردوس , غادة الفنانين , واحولها الى لوحة خالدة شأنها شأن لوحات الرسامين الكلاسيكيين .. الذين تركوا لنا آثاراً فنية لا نجرؤ على نسيانها او تجاهلها مهما تقادمت الأعوام ..

وأخيراً قررت أن اكسر الصمت قائلاً وشفاي تكادان تلامسان عنقها الناعم ..

- لابد انكِ جمعتِ معلومات كافية عني .. سيرتي الذاتية , كما يسمونها الآن .. اغرب , بلا زوجه ولا أولاد .. أخوتي وأخواني قلما يزورونني هنا .. أنا اصغر أشقائي وشقيقاتي .. هم يعانون من أمراض مزمنة .. وبعضهم أجرى عمليات جراحية في العيون والمرارة والرئتين .. أنا أخمن , انكِ تشعرين بحريتكِ هنا .. كما لو أنكِ في بيتكِ .. ما من زوجة غيور تراقبكِ ساخطةً غاضبةً بعينين مفتوحتين على وسعها .. وما من احد يسرق النظر اليكِ .. المكان دافئ ومريح .. هكذا اشعر به .. ربما يبدو لكِ خانقاً ورطباً لأنكِ لم تعتادي السكن في مكان ضيق كهذا .. وعلى أية حال , يستطيع المرء أن يقضي فيه بعض الوقت , كي يريح أعصابه .. غالباً أقصد متنزهاً قريباً في الصباح الباكر , وأتمشى بين الاشجار .. أشعر أن الأنسام الطرية تبكي بين الاغصان .. أدوس الورق الاصفر المتيبس تحت قدمي .. أتذكر قول شكسبير (( يا بلادي متى تستعيدين صفائكِ ؟ )) أشعر أن العالم من حولي يضحك ساخراً مني .. هل جاء هذا الرجل الخمسيني ليعيد النظر في ماضيه , هل نتحدث عن ماضينا بندم , باستعلاء .. هل نغلفه بغلالة من الحزن هل نعيشه ثانيةً بنوستالجيا مدمرة .. أشجار المتنزة الهرمة تشعر بروحي الميتة , وطاقتي المعطلة .. ومثلما نبكي على بلادنا التي شوهت ومسخت.. يبكي الشجر فتبلل عبارته المنهمرة الممرات الإسمنتية بين صفوف الاشجار.. وأنا أتمشى بين الاشجار الخريفية , أشعر بقلبي ينزف , أصغي لخشخشة الورق اليابس المنسحق تحت قدمي , استرجع سنوات العمر المنصرم ..ذكريات الناس الذين مروا في حياتي , أو مررت في حياتهم .. أحدث نفسي قائلاً : هو ذا مصيري .. أسير متوحداً في أحزاني ، اجوب ممرات المتنزه بخطوات متعبة ، اعب النسمات الطرية التي لم تتلوث بالدخان , ابذل قصارى جهدي كي احافظ على هدوئي .. وسلامي.. في بعض الاحيان اشعر ان الاشجار تهدهدني , تمنحني اصرارها على البقاء فبالرغم من الحرائق التي تندلع هنا وهناك , ما زالت تزين حدائقنا وبساتيننا ومتنزهاتنا.. هي ما زالت شامخة , باسقة , قاتمة الخضرة .. ومازالت تصر على بقائها وحيويتها رافضةً أن تتحول الى حطب .. حطب يابس يدفئ البردانين في ليالي الزمهرير .. وها انذا الآن أجلس في مشغلي ولصقي امرأة فريدة , طاهرة الروح والجسد .. ترتدي ثوباً اسود انيقاً , يشبه كثيراً ثوب كليوبترا , ذلك الثوب الذي رآها فيه انطنيو اول مرة .. قلت لكِ قبل قليل ان هذا الثوب يناسبكِ تماماًَ .. والآن اضيف قائلاً أنا أحبكِ في هذا الثوب .. تقويرته التي تكشف جيدك الابيض كالرخام .. انني احد الموسلين لأنه يلامس جسدكِ الابيض .. لا يذهب بكِ الظن انني سأطلب منكِ ان تكوني ملكاً لي .. انا لا اريد امتلاكك , ولا استعبادك .. ولا حتى الزواج منكِ .. اريد فقط ان تكوني بجواري , قبالتي , على مقربة مني .. الى يميني أو يساري أو حتى خلفي .. أنما دوماً في مخيلتي , وفؤادي . كوني ملهمتي , موزيتي .. امنحنيني الدفء والسكينة .. لاحظي ان كلينا يشعر ان الآخر يمنحه الحنان والطمأنينة .. هذه هي العلاقة الانسانية الحقيقية بين رجل وامرأة .. علاقة حميمة , نبيلة , أصيلة .. لا أريد أن أتغزل بجمالك طلعتك , وبريق عينيك اللوزيتين , أو نعومة جيدكِ الأبيض , أو لدانة خصركِ النحيل .. مع انكِ تملكين هذه الصفات كلها .. وربما تخفين ما هو أجمل وأبهى.. اريدكِ أن تبعثي في نسغ الحياة الذي شرع يضعف , ويتباطأ .. ويكاد يتوقف .. ربما أكون بالنسبة لكِ هو الرجل الذي سيغير حياتك .. حسن , ربما أكون كذلك .. لكنني أود ايضاً ان تكوني كذلك بالنسبة لي .. انا الذي اعيش غربةً داخليةً .. في مشغلي المنزوي هذا .. لا يخطر ببال امرىءٍ ان رساماً مولعاً بالحياة يمكن ان يتخذه مسكناً له ومكاناً لإبداعه .. في هذا المكان الذي ربما ينعته احدهم بكونه لا يصلح لسكنى البشر طرأت على بالي أجمل الاحلام , واعذب الرؤى , واحلى الامنيات .. غالباً افكر بابي العلاء المعري , رهين الحبسين .. كتب ابو العلاء ( رسالة الغفران ) ليهرب من محبسه .ز لكنه بعد ان طكاف في اقطار السماء عاد الى محبسه الارضي .. اما انا فاوشك ان احلق معكِ في دنيا الخيال .. نحلق معاً في السموات السبع .. ارسمك بثوبك الاسود نفسه مع جنحين صغيرين كأي ملاك .. تراودني رغبة ملحة ان ارسمك في الف لوحة ولوحة .. كي استبقيك اطول مدة زمنية .. سنتبادل الادوار , بعكس الحكاية الشهيرة .. سأكون أنا شهرزاد وتكونين أنتِ شهريار .. لن تهدينني بالقتل ولن اخترع القصص أو ألقيها كي أطيل مدة مكوثي بين الاحياء .. سنعقد صفقةً مشتركةً , انتِ القاتل وانا الضحية الت تتوجس خيفةً من الموت الذي يتربص بها كل ليلة .. الا انها تريد ان تؤجله في كل مرة .. وفي كل لقاء .. وفي كل لوحة .. سنعيش معاً , نأكل معاً, ننام معاً .. نعم , ننام في فراش واحد ونتدثر بدثار واحد .. وأذا ما إتسخت ثيابنا نغسلها وننشرها على حبل الغسيل .. قد نبقى ساعات عدة عاريين , بريئين , طاهرين .. لن نسمح لنزوات الجسد أن توقعنا في شباكها .. سنتخلص من نزوات المراهقين , ونزق الشباب .. وسنكتفي بالابداع .. لن أجعلكِ تتبرأ من أنوثتكِ .. ولن أسمح لكِ أن تنكرين جسدكِ البض , العاجي .. مع أن الجنس هو احد التابوات الثلاثة التي سجننا فيها المجتمع , الا اننا لن نتخلى عن كوننا انا رجل وانتِ امرأة .. فكلانا يعرف الممرات السرية للرغبة .. وكلانا يعرف كيف يستسلم لأحتياج شفتي الآخر .. وطالما ود كل منا أن يستسلم لشراسة العشق .. فالعشق هو الفعل الانساني .. ستتاملين رسومي ولوحاتي وتخطيطاتي الاولية .. وسأجعلكِ تتوضعين ألف مرة ومرة .. كل لوحة تختلف عن سابقتها .. سأرسمكِ بهيئة موناليزا , وبهيئة فينوس النائمة في لوحة جورجيوني , وبهيئة جالاتيا في لوحة رفاييل , وبهيئة الام في لوحة المهد لـ بيرتا موريسو .. او حتى كواحدة من راقصات البالية في لوحات ديغا .. سأرسمكِ بهيئة شهرزاد , أو شبعاد , أو إينانا .. سأرسمكِ عاريةً , وفي لباس البحر , وبريول المطبخ , وزي الممرضة , وبدلة المحاربة , وثوب الام المرضع .. وثوب الفلاحة , وجلباب قارئة الطالع .. أريد أن أخرج من محارة العزلة التي كادت تنغلق عليّ .. أريد أن أغادر عزلتي , عبر الابداع , عبر التخيل , عبر الرؤى والافكار والاحلام .. لا أريد أن أغادر مملكتي كما فعل ابو العلاء المعري .. فلست من هواة السفر ولا من مريدي الهجرة .. أريد أن تكون رسومي من الداخل .. من داخل البلاد المحتل , بين طفولة الامكنة وشيخوخة الزمن .. لا

أريد أن يصفني النقاد مع اولئك المثقفين الذين يرتجفون هلعاً من مناخ الحرية الجديد .. أريد أن أرسم على وفق ما أشتهي .. وأن أحيا حياتي على وفق ما أشتهي .. أليس هو تناقض لافت, أن تكون حرية المثقفين في بلدٍ محتل أكثر مما كانت عليه في ضل حكومة مجانين وعملاء في الوقت نفسه .. انها مفارقة مدهشة , أليس كذلك ؟

انه شيء , مؤلم حقاً أن يراق الدم في حفلة عرس .. أو حفلة تنكرية .. الشبان والشابات يرقصون بمرح .. أذرعهم تطوق أحدهم الآخر .. يهمسون لأحدهم الآخر بكلمات شاعرية , رومانسية . كما لو أنهم في حلم .. الموسيقى تصدح منبعثةً من مكان خفي .. هنا يكمن الرعب الأعظم والسحر الأعظم .. المحتفلون في نشوة الرقص وبهجة الحياة .. يتلذذون بالأضواء الوامضة والأجساد المتمايلة .. أما المجرمون فلا يطيب لهم , ولا يسكت عواء أرواحهم سوى صور الأشلاء البشرية المحترقة , المتفحمة .. تحوم حولها أسراب الذباب , وتغلفها سحب الدخان الاسود الكثيف .

اللوحات ياعزيزتي فردوس , كالنصوص الأدبية كائنات مهاجرة .. مع أن مبدعيها غالباً ما يكونون من كارهي السفر والهجرة .. ثمة أمثلة كثيرة في بلادنا وفي أوربا وفي العالم كله .. أمنيتي أن يسافر أبداعي الى العالم كله .. وهذا يعني أن تسافر أحلامي .. أحلامي لا تختلف كثيراً عن أحلام المعري , أو هنري ردسو , أو توماس مور أو كالفينو .. فأنا من دونكِ لا أستطيع أن أفعل شيئاً البتة .. أنتِ التي ستطلقين أحلامي في الفضاء .. ستبعثين بها الى عالم الآخرين .. سيراكِ البشر في كل أصقاع الدنيا على شبكة الأنترنيت .. سيرون جسدكِ وروحكِ.. ويفهمون حزنكِ ويأسكِ وفرحكِ وهذيانكِ .. سيرون الخراب الذي حل بنا .. سيرون أجواء الف ليلة وليلة .. وسيرون الحيدر خانة .. وزقورة أور .. والجنائن المعلقة .. والاهوار التي عادت اليها الحياة .. ودجلة الذي تغزل به الجواهري . في بلدنا الذي يضيع فيه كل شيء لا أريد أن أفقد فني .. انها خسارة كبرى أن يضيع أبداعنا في هذه الفوضى .. لابد لنا أن نؤسس شيئاً ما يخلدنا .. يبقينا في ذاكرة الزمن .. أنتِ وأنا , يا عزيزتي , سنخوض هذه المغامرة الجريئة .. سنتحدى كل الظروف القاسية .. سنجوع , ونبرد , وتداهمنا الحمى .. الا اننا لن نستسلم .. سنردد مع ذلك الشاعر الروسي : (( عليك أن تبقى حياً , تبقى حياً فقط – والى النهاية ,)) مري بنا أن نجسد لوعتنا , وحرماناتنا , وحسراتنا , ومخاوفنا .. وفي المقام الاول حبنا النبيل .. لا بأس أن تتبلل فرشاتي بالدمع , وانا أرسم الحال السيء الذي آل اليه بلدنا والوضع المأساوي الذي يعيشه شعبنا .. لا تسيئي الضن بي , فتحسبين أنني لا أضمر لكِ الحب العميق , الجارف .. أن حبي لكِ اقوى من أن أطمع في وصالكِ .. سمه ما شئتِ , سمه وجداً صوفياً , حباً عذرياً , حباً افلاطونياً .. انه شيء بغيض ان ةنتخلى عن اطياف الوجد المقدسة , ونلهث راكضين خلف سراب الجسد المبهج للحواس . الذي سرعان ما يتحول الى كومة عظام نخرة .. اسمعي , عزيزتي , اليس عظمة اللسان تكمن في قدرته على الاحتفاظ بنقائه وطهره في كل الازمنة المضادة , في أزمنة الرشوة والفساد والخسة ؟ انا , يا عزيزي , اقسو على الحب إكراماً للخلف الفني .. لا أريد أن أقول لكِ أنني أشتهيكِ في مستان الموسلين عديم الاكمام هذا .. وان نهديك الصغيرين مثيرين وان المرء لا يستطيع أن يغمض عينه وهو يرى جيدكِ الرخامي .. لا , لست رجلاً ساذجاً كي اقول هذه الكلمات الرقيقة .ز لست عاشقاً مذنفاً أدرات له حبيبته راسه , وما عاج يعرف يمينه عن شماله , كما يقول الناس عندنا .. انا رجل مسكون بالأحلام , والرؤى , والفانتازيات .. بامكاني أن أرى حلماً في كل إغماضة عين .. وأتخيلكِ تلعبين دوراً ما كل دقيقة .. أقصد الهيئة التي تتخذينها .. دور الام , او الحبيبة , او الزاهدة , او الفلاحة , او عازفة الكمان , او الزوجة التي تنظر زوجها الذاهب الى الحرب .. لا أملك وقتاً كافياً لأبذره .. قماش ( الكنفا ) ينادي فرشادتي المغموسة باللون .. لابد لي أن اجترح طرائق شتى للرسم .. وأن أرسم بتقنيات مختلفة في كل مرة .. لاأريد أن أرسم موضوعاً واحداً , وبالطريقة ذاتها .. لابد لي أن أغير ألواني وموضوعاتي واحلامي .. لا أريد لألواني أن تكون مضجرة , ورتيبة , وباعثة على الغثيان شأنها شأن مسلسلات التلفاز الساذجة .

لا أعرف كيف أنتهى لقاؤنا الاول .

في يوم واحد , أنا وهي تلقينا دروساً عدة :

درساً في الحب .

ودرساً في الغواية .

ودرساً في الحياة .

ودرساً في الرومانس .

ودرساً في الرسم .

أتذكر أنني رافقتنها في سيارة اجرة اخذتنا معاً الى شقتها السكنية .. لم تكن تقيم في مكان قصي .. وصلنا بعد عشر دقائق تقريباً .. وحين اقتربنا من مسكنها طلبت من السائق ان يتوقف.. وقبل ان تودعني ببسمة طافحةٍ بالامل الا انها تشي بحزن شفيف , اشارت بسبابتها اليمنى الى ناحية الشرق قائلة : (( اسكن هناك .. في الاعالي ..)) كانت شقتها في الطبقة السابعة .. وحين شرعت تدوس بلاطات الرصيف رفعت يدها وحركت اصابعها الطويلة بتلك الحركة الرقيقة التي غالباً ما تقوم بها فتيات عصرنا .. حين يودعن زميلاتهن او أحباءهن ..

هكذا أنتهى لقائنا الاول .. كان لقاء فريداً , غريباً نادراً ما يجود القدر بمثيلٍ له ..

زارتني ثانية بعد ظهيرة يوم مشمس من أيام كانون الاول ( ديسمبر ) . لم تاتي بذلك الفستان الاسود عديم الكمين , كما توقفت انا اراها .ز بل بتنورة سوداء وتي شيرت اخضر داكن .. وهذه المرة ايضاً كان زيها مثيراً .. وكان اللون الاخضر الداكن يناسبها تماماً .. وبدت هي , الآن , وكما في اول زيارةٍ لها , غضة , طرية العود , نابضة بالحيوية ومثيرة ايضاً ..

وفي المرات التالية اكتشفت ان الالوان كلها كانت تناسبها تماماً .. وكانت ترتدي , في الاعم الاغلب , تنورات هفهافة تصل حتى الركبتين , وقمصان وبلوزات وتي شيرتات ضيقة تبرز نهديها الصغيرين .. الا انها بسبب ضيق القميص او البلوزة او التي شيرت يبدوان كبيرين.. وجذابين ..

في الزيارات اللاحقة , اكتشفت انها تعيش وحيدةً مع امها العجوز المصابة بداء السكري.. اما اشقاؤها فكانوا قد اثاروا الهجرة منذ عقد ونصف .. كانت تعيش هي وامها على الحوالات المصرفية التي يرسلها الابناء الذين ضاقت بهم مدن العالم فراحوا يتنقلون من مدينة الى مدينة ومن بلد الى آخر .

لم تكن فردوس ترفض لي طلباً .. كانت موديلاً ممتازاً , وشابة ذكية وطيعة وبسيطة وطيبة القلب .. لسوء الحظ لم تستطيع ان تكمل دراستها في علم الاجتماع .. بسبب الوضع الامني السيء .. كان قد بقى على تخرجها عام واحد .. ومع انها اجلت دراستها الا انها استمرت في مطالعة كتب علي الوردي .. وكانت تحفظ فقرات كاملة من كتابه ((مهزاة العقل البشري )).

كانت تطيعني لا كصديقة , ولا كزوجة بل كعبدة او جارية .. كانت تدلك عضلات ساقي اليسرى التي يصيبها الخدر من جراء العمل وقوفاً ..

يبدو انني سحرتها , او قل روضتها .. لانها كانت تلبي طلباتي كلها . كانت تخلع ثيابها الخارجية وتبقى بالكورسية والسروال الداخلي وغالباً بقميص النوم .. وغالباً تتعرى تماماً .. اذا تطلب الرسم ان تتوضع امامي هكذا .. لم أمسها ابداً .. ولم يكن بيننا سوى ذلك العناق الانساني الحميم والمصافحة الحارة اللذين نتبادلهما عندما نلتقي .. كانت قد اطمانت لي , وامنت جانبي لم أكن يوماً واحداً من اولئك الرجال النزقين الذين لاهم لهم سوى اشباع غرائزهم الحيوانية .. لايهمهم ما اذا كان انجازهم الفني جيداً او مقنعاً .. بل همهم الرئيس هو ارضاء حواسهم واطفاء ظماهم .

وفي الشهور التالية نذهب للتبضع ونختار ثياباً واكسسوارات وشالات من اجل رسم لوحات جديدة .. كانت ( فردوس )تحترم ذوقي كثيراً .. وانا لا اغالي اذا ماقلت ان ذوقينا كانا متشابهين , او متطابقين , في اغلب الاحيان .. كنا نختار التنورات والقمصان والفساتين والبلوزات الصوفية والمعاطف المكسوة بالفراء .. وحتى حمالات الصدر والسراويل الداخلية .. لم نكن ننتقي الفصالات المناسبة حسب بل حتى الالوان .. كانت فردوس تفضل الثياب الداخلية السوداء .. اما انا فكنت افضل تلك التي تشبه لو ن بشرتها البيضاء الشاحبة نوعاً الذي يبدو لي غالباً قريباً من لون الحمص , او البطاطا ..

ومع انني تعلقت بـ ( فردوس ) كثيراً لا لانها كانت موديلي المفضل طوال الشهور العشرة الماضية , وليس لأنها ساعدتني في انجاز ثلاثين لوحة في الاقل .. الا انني ندمت كثيراً لانني عاملتها بفظاظة غالباً , وربما بقسوة او وحشية اذا شئتم .. كانت فردوس ملهمتي .. ساحرتي .. فردوس هي المراة الوحيدة التي وقفت الى جانبي .. هبت لنجدتي .. بينما كان الريح تزمجر

وهاتان المهنتان , الانثوية والفن تهتمان نستحق عليها , في نظر السفاحين القتل والسباية في الخارج .. واتلانفجارات تتوالى .. وزجاج النوافذ يتكسر من جراء العصف .. ذلك انني ادركت من زمن بعيد ان الحب الحقيقي هو ذلك الذي ينمو ويترعرع على شفير الموت .. ومن لم يواجه الموت لا يستطيع ان يصمد امام الحب .. الموت والحب كلاهما حقيقة رهيبة , عبثية , غامضة .. لا نستطيع ان نفسرها , ولا ان نفك مغالبتهما .. اما فردوس فكانت المفتاح الذي فك كل مغاليق حياتي .. لم يعد يخيفني شيء .. لا القتل ولا الاختطاف .. ولا التعذيب ..

مرة ً او مرتين قضت ( فردوس ) ليلتها في مسكني .. نامت جالسةً على كرسي عتيق .. وفي الصباح ندمت على فعلتها تلك .. لانها عانت من تشنج عضلي في رقبتها ..

كانت تاتي الي , كدابها , ضاحكة , متهللة الاسارير .. ترمي حقيبتها الجلد على الطاولة المستديرة المبقعة باثار اقداح الشاي وتطلب من اطفىء سيجارتي لانها تكره رائحة التبغ .. اما انا فأترك عملي , وامسح بالقميص القطني المخطط , الذي يشبه كثيراً قميص بيكاسو , في صورةٍ ذائعة الصيت له .. امسح اصابعي بالقميص الملطخ ببقع الزيت والاصباغ .. اقترب منها .. اعانقها بحرارة .. ارفع الشال الحريري عن راسها .. اداعب خصلات شعرها القصير .ز نتحاور دقائق معدودات .. ثم استأنف عملي من جديد ..

كنت اوبخها بقسوة , وكنت اجلدها , اذا صح التعبير لانها لاتتخذ الوضع الذي اريده .. وغلباً تشكو من تشنج عضلي في عضلات ساقيها بسبب جلسة ما ..

والحق يقال , فردوس امراة نادرة .. وان مواضبتها على المجيء الى مشغلي في المواعيد المقررة شيء يبعث على الاحترام والتقدير .. لا ليس المجيء .. وحده , بل الاصرار على المجيء , او الالتزام بالمجيء .. لانه يندر ان ةتجد موديلاً من هذا الطراز من النساء المنشغلات دوماً بترشيق ابدانهن وتحسين مظاهرهن الخارجية ..

هي في الارجح فهمت الرسالة التي انوي ايصالها الى الملتقي – المشاهد .ز ليس هذا وحده , بل آمنت بها .. وراحت تدافع عنها .. لانها سمعت انتقادات عديدة عندما عرضت بعض لوحاتي في معرض اقامته رابطة الفنانين المشاكسين .. وهي رابطة تشكلت مؤخراً , تعرض اعمالاً فنية مثيرةً للجدل .. في المعرض التفتت نحوها الاعناق , وطاردتها نظرات فضولية واخرى شزرة من كل صوب .. كنا انا وفردوس نشهر سلاحينا في وجه القتلة ..

فردوس تشهر انوثتها .

وانا اشهر فني

الا ان تلك الانتقادات القاسية لم تستطيع ان ةتضعف حماسة ( فردوس ) للتوضع امامي .ز لا انا ولا هي كنا نكترث لمسألة الربح والخسارة .. لم تستطيع الكلمات الساخرة , والنابية غالباً , ان تحرف جسورنا .. او تمحوا اسمينا .ز اسمي واسم فردوس .. مع اننا كنا نبيع لوحاتنا لتاجر في ( الكرادة ) .ز الا ان وضعنا المادي ظل سيئاً .. وكنا نعيش غالباً عيشة الكفاف .. قررت مؤخراً , ان اترك التدخين بسبب تاثيراته السلبية على صحتي وبسبب وضعي المادي المتردي ..

انقطع التيار الكهربائي منذ يومين .. وشح الماء .. هي ذي فردوس كحمامة وديعة تهدل في مسكني .. كان من عادتها ان تترنم بالاغاني وهي تتمشى هنا وهناك حافية القدمين , آثرت ان تحتفظ بفتنتها الادبية , وعفويتها الخالدة وكشأنه , دوماً , مازال جسدها يحثني على المجيء .ز ما زال يرغمني على التورط العشقي الذي لم استطيع ان انجو منه .. كانتى تقودني دوماً , الى العشق , الى الحاضر .. اما انا فأقودها الى الفن , الى الابدية .. هي ذي .. تناديني من وراء الباب الحديد الصدىء .. فأملأ لها دلو الماء من الحنفية الوحيدة .. وحين تخرج من الحمام تكون (( كمنجلٍ صيغ من فضةٍ , يحصد من زهر الدجى نرجسا )) .. بالمناسبة كانت (فردوس) تتطلخ غالباً بعلب الصبغ بسبب ضيق المكان ..

اما انا فأقف , الآن , خلف الباب الصدىء , أحمل المنشفة التي ستلفها حول جسدها باذخ الأنوثة ..

أرجوكم , لا تتعجبوا , اذا رسمت فردوس واقفةً امام المرآة .. لا شيء يغطي جسدها سوى المنشفة البرتقالية .. اما شعرها فما زال سبللاً , كشأنه حين إلتقينا أول مرة في مساء جميل من يوم شتائي معتدل البرودة ..

هي ذي فردوس , الآن على غرار فينوس , أو عشتار ، أو اينانا , , تخصب الكون وهي تعصر شعرها الندي , شعرها الذي يتضوع منه عطر إلهي .. تتأمل صورتي المنعكسة في المرآة .. انا الذي شعرت دوماً أن لا أريد أنني أغادر عالمي .. وسأبقى دوماً في مشغلي , الذي تحول بمجيء هذه الحورية الجميلة , الندية دوماً , الى فردوس أرضي

يمامة الرسام -بقلم د علي عبد الامير صالح-رسوم د غالب المسعودي-القسم الرابع




لم أكن يوماً مهووسا بالنساء , أو الموديلات , اذا جاز التعبير . بل هن اللواتي كن يطاردنني , ويتملقنني , كي أرسمهن , ليس على وفق ما يشتهين هن .. بل على وفق ما أشتهي أنا .. الواقع , كنت أعد شروطاً أولية , وهذه الشروط يعقبها شروط أخرى قبيل البدء بالرسم , وغالباً أضيف شروطاً ثالثة خلال عملية الرسم .. في سبيل المثال أنا الذي أختار الزي الذي تتوضع به وحتى فصاله .. وأنا الذي أقترح تسريحة الشعر .. وحتى وضع الجلوس .. أو الوقوف , أو الانحناء , أو التكور , أو الاستلقاء .. وكذلك حركة اليدين والساقين .. وحركو الوجه وزاوية الرسم وما الى ذلك .. غالبيتهن , كن يقبلن بشروطي الأولى , وهي بسيطة على اية حال , الا أن بعضهن كن يرفضن شروطي التالية التي كن يحسبنها قاسية , ومجحفة , ولا شرعية .. على ان بعضهن كن ينعتنني بكلمات قاسية , فظة , وتارة يتهمنني بكوني رجلاً ظالماً , مستبداً .. على ان اكثر النعوت التي سمعتها رسوخاً في بالي هي انني رجل بارد جنسياً!!

لم أكن أتنازل عن شروطي البتة .. أبقى متماسكاً بها محتفظاً بآرائي ووجهات نظري الفنية .. أن وهم التفوق , ربما , هو الذي يجعلني صارماً , صعب المراس .. لم أضمر الضغينة لأي واحدةٍ منهن , ولم أكن أقصد الاساءة اليهن , أو أجرح كرامتهن , أو كبريائهن .. كنت أقدر عفويتهن , وبساطتهن , وجمالهن , وأنوثتهن , أناقتهن .. الا أنني من الناحية الاخرى صعب الإرضاء , دقيق في أختياراتي .. لهذا كنت أتمسك برأيي , واقترح زياً ما , أو وضعاً ما .. أو حتى الأداة المنزلية التي تمسكها الموديل , أو الآلة الموسيقية التي تعزف عليها.. أو المنشفة التي تلف بها شعرها بعد خروجها من الحمام .. أو حتى نوع الجواد الذي تركبه .. ولا عجب فإحدى موديلاتي , وهي طالبة جامعية تدرس اللغة الألمانية , كانت شابة تهوى ركوب الخيل , أقترحت عليّ أن أرسمها وهي تمتطي فرسها الأبيض زعلى رأسها قبعة عريضة الحافات أشبه بالقبعة المكسيكية التي يسمونها عادة بـ (( الصمبريرو )) .

وكي أنمي ذائقة موديلاتي وأسهل عملية إقناعهن كنت أحتفظ , دائماً , بكراسات وكتب عديدة في مرسمي تضم صوراً ملونة وأخرى بالأبيض والأسود للوحات عراقية وعربية .. رسوم لفنانين من مصر ولبنان والعراق .. حافظ الدروبي , وجواد سليم , وفائق حسن , وعدلي رزق الله , وكذلك لوحات فنية من القرون الوسطى .. لوحات لدافنشي , ورفاييل , ومايكل انجلو , ورامبرانت , وفرمير , وفيلاسكيس , وجوشوا رينولدز , وكلود لورين وغيرهم.. ناهيك عن لوحات المعاصرين امثال غويا , وبيكاسو , وماتيس , وفان كوخ .. وكانت زائراتي الفضوليات , وفي ما بعد موديلاتي , يتصفحن بطبيعة الحال , تلك الكتب والكراريس ويتأملن أوضاع الجلوس والوقوف والاستلقاء ويقترحن أن أرسمهن في أوضاع رومانسية , حالمة , أمومية , أو وهن يطالعن كتاباً أو يحلبن بقرة .. بالطبع , لم يكن بمستطاعي أن آتي ببقرة الى محترفي , كنت أرسم البقرة من مخيلتي .. أما فراولين مها (وفراولين بالألمانية هي الآنسة – أعني الآنسة مها ) فقد فقد أضطررت الى الذهاب الى قصر والدها كي أرسمها في أصطبل الفرس الكائن في مؤخرة البيت , وعلى ضفة دجلة .. والآن اذكر ان احداهن ارادت ان ارسمها على غرار تلك السيدة في لوحة (( الغادة ذات الوشاح )) لرافاييل .. واخرى آثرت ان ارسمها واقفةً تضع يدها فوق بطنها , الكف اليسرى تستقر فوق اليمنى على غرار موناليزا دافينشي . واذا كان لابد لي ان اعترف فانني اقول انة تلك الفتاة كانت على غرار الجوكندا غامضة وهادئة .. ذات ملامح هادئة وانوثة مسالمة .. على انني احسد دافنشي الآن لاننا نادراً ما نعثر على سيدات يمتلكن صفات الجوكيندا ..

آثرت أن أكسر الصمت , وأستدرجها .. فبادرت قائلاً :

- هذا الفستان الأنيق .. يناسبك تماماً .. كما لو انه خيط لكِ وحدكِ .. رسمت بسمةً صغيرةً على شفتيها , وردت بفنج انثوي :

- حقاً ؟

شعت عيناها اللوزيتان ببريق أخاذ .. الا انني واصلت حديثي قائلاً بحزن :

- دائماً نصل متأخرين الى احلامنا .. ام ان احلامن هي التي تتأخر في مجيئها .. احلامنا تتعرض الى التهديد , والنسف , والاختطاف , والاجهاض .. وهي في طريقها الينا .. وغلباً تنحرف عن السكة وتذهب بعيداً عن وجهتها وغايتها .

أصغت اليّ بانتباه .. بدا على وجهها الرضا والإرتياح .. لاح على وجهها تعبير ينم عن فهمها لما قلت .. كان في كلماتي إيحاءات واضحة راقتها .. فأردفت بعد قليل وهي تشبك أصابع يديها , ولأول مرة أنتبه الى أضافرها المطلية بلون أحمر قان :

قبل أن تسألني ، إسمي فردوس .. زميلادي في الكلية يطلقن عليّ لقب غادة الفنانين .. رداً على كلامك , أقوا هذه المرة , جاء أليك الحلم , ماشياً على قدميه , ملففاً بمعطف جلد , قافزاً فوق العبوات الناسفة , دائراً حول الاسلاك الشائكة .. ومتجاوزاً الحواجز الكونكريتية ..

في زمن عسير كزمننا , يشق علينا أن نكبت عواطفنا .. ثمة طراز من البشر لا يستطيعون الانتظار .. أنا واحد من هؤلاء .. ثمة خيول شرسة لا يمكن لجمها .. هذه الخيول تجري في دمي .. بوسعكِ أن تشبهينها بخيول فائق حسن .. انها خيول قوية , جامحة , جميلة المنظر .. رشيقة القوام .. لا سبيل الى كبحها ..

أجلس يوماً أمام شلشة التلفاز وأشاهد الانفجارات والمآسي التي لحقت بالأبرياء فأسأل نفسي عن الاسباب , والدوافع , التي جرتنا الى هذا الحضيض .. أهو الأحتلال , أهي الظروف القاسية , الحرمانات , الحروب التي سبقت الاحتلال .. هل هل منحتنا قوات التحالف الحرية فعلاً . من الذي تمتع بالحرية .. أهو الشعب البريء , المظلوم , أم الأرهابيون القساة ؟ أحاول أن أفهم ما حدث لنا تماماً .. أستعيد في ذاكرتي كل ما قاله السياسيون الا أنني لا أصل الى قناعة كاملة .. بدأ الشك يطاردني أينما حللت .. الهواجس تنتابني ليل نهار .. غالباً أقضي الليل كله مفتوحة العينين .. ليس بسبب أصوات الانفجارات ودوي المدافع حسب , بل لأنني شديدة القلق على مستقبل بلادنا .. ما زال المشهد ضبابياً .. ومع هذا أنا أؤمن بأن حياتنا ما زالت جميلة .. وما زال هناك أناس طيبون .. وأعتقد أننا معشر النساء ما نزال قادرات على تفجير الأحاسيس الجميلة في بعض الرجال طبعاً .. لأن بعضهم حجر أصم لا سبيل إلى تفتيته ..

أعجبني كلامها .. كانت تتكلم كأي امرأة واعية ومثقفة .. ومع أنها كانت ما تزال صغيرة السن , نوعاً , الا انها كانت تتحلى بإدراك عميق , وفطنة عالية .. قلت آنفاً , انني لم أستطع ان أخفي إنبهاري .. لابد انها لاحظت ذلك على ملامح وجهي .. وحين شرعت تتحدث سعدتُ أكثر .. لأن الجميلات غالباً ما يكن ضيقات الأفق , أو على قدر قليل من الذكاء , أو حتى شاردات الذهن .. وعلى أية حال , غدوتُ مبتهجاً , متورد الوجنتين .. شعرت بالدفء والحميمية التي منحتها هذه المرأة الفاتنة للجو البائس الذي كنت أعيش في كنفه .. هو ذا أنا في مواجهة الغواية .. هو ذا أنا مجرداً من الاسلحة كلها .. لاثقافتي تفيدني , ولا موهبتي تسعفني , ولا وقاري يهب لنجدتي .. ولا حتى سنواتي الخمسين التي سلختها في سنوات ملؤها الحرمان .. وفضلاً عن كل الهزائم التي تعرضتُ لها هي ذي امرأة ساحرة الجمال أقبلت لتمتحن كائناً ضعيفاً مسخته الحروب , وشوهته الحرمانات , مسلوب الارادة ؛ أو لعلها أقبلت وفي نيتها أن توقعه في شباكها من أول لحظة .. وربما لتضيف هزيمةً جديدةً الى هزائمه الكثيرة .. أو تضيف جرحاً ناغراً آخر الى جروح فؤاده الكسير .. فؤاده المفجوع .. الذي يختزن بداخله المرارات كلها , والفواجع كلها .

قرأت يوماً أن النساء عموماً يفضلن الرجل الذي كانت في حياته امرأة أخرى .. أما هذه المرأة فربما اختارتني انا تحديداً بعد ان جمعت معلومات كافية عني .. وانا في رأيها , ربما واحد من المهزومين المدمنين , أو المزمنين .. قلتُ ( المدمنين ) لأن الهزائم غالباً ما تلازم المرء فلا يستطيع فكاكاً منها .. أي انه لا يستطيع أن يتخلى عنها .. فتتثبت به كالإخطبوط ..

كان جو المشغل الصغير رطباً وخانقاً فآثرت صاحبة الفستان الأسود أن تخلع منديل رأسها الحريري .. باللون ألفسقي .. بعد ان خلعت معطفها الجلد حال دخولها وعلقته على المشجب كما ذكرت في مستهل قصتنا هذه .. ولأول مرة شعرت أن القدر منَّ عليَّ بامرأةِ فريدة , استثنائية .. وبدت في فستانها الموسليني عديم الكمين آية في الجمال والأنوثة والرقة .. وأنا أزعم أن أي امرئ يملك موهبة الرسم لن يستطيع أن يقاوم غواية الألوان وهو يرى امرأة جاءت لتزيل الرماد من فوق جمرات روحه التي أوشكت على الانطفاء ..

- لا تتعجب من جرأتي .. لست زائرة فضولية جاءت لتتفرج على لوحاتك .. أنا امراة من عامة الناس , لكنني أتذوق الفن التشكيلي .. وأرتاد المعارض ومشاغل الرسامين ..

- اهلاً وسهلاً بكِ .. ومرحباً بجرأتكِ .. هل قلتِ ان أسمكِ فردوس .. نعم .. فردوس هو إسمكِ .. يبدو لي أنني رأيتكِ من قبل .. ربما التقيتك فعلاً في زمن مضى .. او لعلك عملتِ موديلاً لأحد زملائي ..

- لا .. لم ألتقِ بك من قبل .. لكنني شاهدت لوحاتك .. وبورتريهاتك .. عملتُ مدةً وجيزةً لأحد أصدقائك .. كان هو متزوجاً من سيدة نبيلة .. وبسبب كثرة زياراتي لمشغله أصبحت غيورة جداً وهددته بترك منزلها .. كنت اسمعها وهي تنعتني بصفات قبيحة .. بالمناسبة , كانت لا تفارق مشغله عندما يكون هو منشغلاً برسمي .. كانت تعتقد أنني سأسرق زوجها منها.. لم تكن تحبذ أن ينفرد زوجها بالموديل .. أي موديل .. هكذا أخبرني هو .. يومياً تأتينا بخاتون جديدة .. هكذا كانت تصف كل امرأة تأتي الى مشغله .. لم أشأ أن أقوض حياته الأسرية .. فآثرتُ الابتعاد عنه .. رسم لي خمس بورتريهات في اوضاع شتى .. احد البورتريهات كان قليل الاحتشام نوعاً .. فغضبت زوجته وكادت ان تتلف اللوحة .. قالت له : لا يجوز لك أن ترسمها هكذا .. حفاظاً على سمعة البنت وإحتراماً لمشاعري .. كانت تعتقد انه اطلع على مفاتني .. او أنه أختار أن يرسمني وأنا أقف أمام مرآة الزينة بقميص نوم شفاف يكشف جزاً من صدري وشيئاً من كتفي اليمنى .. لم تكن تعتقد ان بوسع الرسام أن يرسم من خياله .. من دون ان يعتمد على شكل الموديل .. في الاسبوع الذي أنجز فيه هذه اللوحة كانت زوجته تؤم مستشفى قريب لمعالجة مرفق ذراعها اليسرى .. كانت تشكو من المٍ مزمن فيه .. لهذا لم تكن حاضرةً خلال التوضع .. أنا لا ألومها بطبيعة الحال .. الانثى هي الانثى .. مع أن نوال السعداوي تقول ان الانثى هي الاصل .. لوكنت في مكانها لشعرت مثل ما شعرت به .. من مسؤولية الزوجة ان تحافظ على زوجها .. والا ( طفش ) معظم الازواج حالياً يتعرضون للغواية ..

سمعنا دوي انفجار قريب .. تلته ثلاث صليات من الرصاص .. انتفضت فردوس وتلفتت مذعورة .. اقتربت منها وطوقتها بذراعيّ .. لا مست أصابعي زندها الابيض العاري الذي يعلوه زغب اشقر ناعم .. وقلت لها مطمئناً :

- لا تخافي .. عزيزتي .. الانفجار بعيد .. الرصاص سرعان ما ينقطع .. من يعيش في بلادنا ينبغي له أن يعتاد كل شيء ..

كان وجهها قد أمفهر , غابت البسمة التي وسمته , وأمست شفتاها شاحبتين ولاح الخوف على ملامحها .. غير انها قالت متلعثمة وكانها ترد تهمةً – لـ .. لستُ خا .. خائفة .. انا جريئة .. الا ان جسدي يخذلني .. غا .. غالباً ما يكون الجسد ضعيفاً , هشاً .. اما الروح فتكون صلبة , قوية ..

الانفجار وأزيز الرصاص خطفانا من أفكارنا , وقطعا علينا حوارنا .. وضعت رأسها على صدري وداعبت خصلات شعرها الناعم الذي كان ما يزال ندياً ..

بعد قليل استعادت هدوءها ورباطة جأشها .. قومت جذعت وابتسمت بسمةً رقيقةً , شفافةً.. وكأنها تعتذر لي .

- انها مجازفة , لا ريب , أن آتي الى هنا .. لكنها مجازفة لابد منها . هل ينبغي لنا أن نبقى في منازلنا منتظرين ساعة موتنا .. يدخل علينا رجل بلثام أسود ويشهر سلاحه بوجهنا ويطلق علينا الرصاص من دون أن يسألنا عن هويتنا .. ومن دون أن نعرف لماذا سينقلنا الى عالم الاموات بمجرد ضغطة على الزناد .. قبل اسبوعين سمعت عن مقتل مذيعتين تعملان في محطة فضائية عراقية .. وقبل ثلاثة ايام اختطفوا مترجمة تعمل لصالح شركة اجنبية .. ما الذي فعلته هؤلاء النسوة كي يحل بهى هذا ؟ ما هو الجرم الذي اقترفته ؟ لا أحد يغفر لكَ إختلافكَ .. انهم يغفرون لك كل شيء الا اختلافك .. حريتي هي نوع من الاختلاف عن بنات جنسي .. لا أريد أن أبقى سجينة المطبخ الكثيب .. وفي المساء أتفرج على شاشة التلفاز وهي تعرض صور الجثث الممددة وسط برك الدم , وأنا في حالةٍ لم أعرفها منة قبل : مزيج من الحزن والذهول والذعر والغثيان ..

ضممتها بحنان الى صدري .. داعبت لحم ذراعها اليمنى .. مسدتُ شعيرات أنسدلت خلف أذنيها .. داعبت قرط اذنها اليمنى .. وسألتها عن الحجر الكريم الذي زينه .. كان من العقيق الاحمر .. أخبرتني انها اضاعت قرطين جميلين نفيسين في العام الماضي عندما شقت طريقها راكضة وسط الزحام على اثر انفجار سيارة مفخخة في سوق شعبي ..

قالت لي وكانها تعترف امام كاهن :

- أشعر بالمتعة وانت تضمني الى صدرك .. أنت لا تمنحني دفء رجولتك كي تعريني بعد قليل وتبدأ: في أشباع رغبتك .. أشعر , الآن , أنك عوضتني عن حنان رجال كثيرين كانوا ينظرون الى جسدي بطمع واشتهاء .. هذه أول مرة أشعر بمعنى السكينة .. وكأنني طفلة رضيعة اعادوها الى حضن امها .. اسمح لي ان اكون طفلتك , وامنحني فرصةً كافيةً كي اشعر بدفء رجولتك ..

- فردوس , اشعر أنكِ تفهمينني جيداً .. مع اننا لم نتحاور كثيراً .. الا انني احس انه لا بد للرسام ان يقيم علاقةً وديةً مع موديله قبل ان يرسمها .. ليس بالضرورة ان يشبعها تقبيلاً وعناقاً .. الشيء المهم ان يستبطن احاسيسها , ويفهم ماساتها , حزنها .. يشاركها فرحاً , زهدها , يأسها , خيبتها , أسرارها الدفينة .. يداوي جراحها .. لا بد للرسام وموديله ان يكونا توأماً .. ان يكونا صندين .. أن يفهما أحدهما الآخر .. أن يتقاسما الطمأنينة والسلام الداخلي وراحة البال .. أن يتجاورا من دون كلام .. أن تكون لهما قضية مشتركة .. ثمة موديلات يجلسن قبالتي لا يبالين بالرسم على الاطلاق .. لا ينظرن الى اللوحة , أو البورتريه , ولا يبدين رأيهن في الألوان والخطوط .. انهن يتطلعن فقط البى ساعة الحائط .. ويتأملن حركة عقاربها .. وحين ينتهي الوقت البمحدد للرسم يطالبن بالأجر .. فيعدلن ثيابهن ويسدين شعرهن وينصرفن . أنا لا أكشف لكي سراً اذا ما قلت لكِ كنت ارسم موحسات ( الميدان ) في سبعينيات القرن الماضي .. آنذاك كنت أستأجر غرفةً حقيرتاً في زقان من ازقة ( الحيدر خانة ) .. أنتِ تعرفين , بالطبع , انه يصعب على رسامٍ شابٍ مثلي أن يستبقي بائعة هوى ساعات طوال كي يرسمها .. بائعات الهوى , كما تعرفين , غير صبورات .. وغالباً سليطات اللسان .. وتتخلل أحاديثهن كلمات فاحشة .. لكن حدث أن استبقيت احداهن .. كانت شابة في العشرين .. سمراء ذات غمازتين في الخدين وضفيرة احادية .. كانت ضحكتها اجمل ضحكة سمعتها في حياتي كلها.. يبدو انها كانت حديثة العهد في مهنتها تلك .. الا انني استطعت ان اقنعها ان تتوضع لي نحو تسع ساعات .. ثلاث ساعات يومياً .. كنت آخذها الى سطح المنزل القديم ذي الشناشيل .. وأجلسها على كرسي خشب عتيق اشبه بكرسي فان كوخ .. وابدأ بالرسم .. كان الطقس معتدلاً.. أواخر آذار ( مارس ) أو مطلع نيسان ( أبريل ) , اذا لم تخني الذاكرة .. هذه الموس الشابة أسديتُ لها معروفاً .. وأنتشلها من الحضيض الذي انحدرت اليه .. تركت مهنتها الحقيرة.. وجعلتها تقتنع بالمجيء الى أكاديميتنا .. كي تتوضع أمام طلبة الرسم .. زملائي في المرحلة الاولى والثانية .. وهكذا واضبت على المجيء الى أكاديميتنا .. وكان الطلبة يرسمون الموس الشابة ذات الضحكة الرائقة كخرير جدول .. لم

الأربعاء، 14 أبريل 2010

جمال الصورة في رذاذ على جبين غزالة-حامد كعيد الجبوري-لوحات الفنان فيصل لعيبي


جمال الصور في

(رذاذ على جبين غزاله)

حامد كعيد الجبوري

جمعني ديوان (رذاذ على جبين غزاله) للشاعر (رياض النعماني) مع صديق مهتم بالثقافة عامة والشعر الشعبي خاصة ،وتحدثنا مطولاً عن القصائد التي أشتمل عليها الديوان ، وقورنت مع قصائد ديوانه السابق (إمام الورد) ، وخلصنا الى أن ديوان (رذاذ) جاء مكملاً ل (إمام الورد) ، مع فرق زمني واضح وأمكنة مختلفة عن بيئتنا العراقيه _مايسمونه اليوم الزمكانيه- ، ومحاولة جاده للخلاص من القيود (الفراهيديه) التي تؤطر جل القصائد الشعبية ، متجهاً صوب القصيدة النثرية الشعبية والتي تبنى (النعماني) وشعراء أخرون قلة أرساء قواعدها ،معتمدين على الموسيقى الداخلية للحروف المتجانسة لتشكل كلمة تتموسق مع المفردة ماقبلها وبعدها ، لتشكل جملة تتناغم مع الجملة السابقة واللاحقة ، وهذا مالا تدركه إلا الأذن المشبعة بموسيقى الحروف وقواها الحسابية الصوتية ونطقها ومخارجها ومثل ذلك (ح حرف حلقي ، ل حرف لساني ب حرف يخرج من الشفاه) ، والقصيدة النثرية المبدعة توهم قارئها ومستمعها ليحيلهاالى أنها قصيدة عروضية ولا يعني هذا أن قصائد ديوان (رذاذ على جبين غزاله) نحيلها كلها لقصائد نثرية ، وهذا غير منطقي ولا صحيح ، ففي الديوان نجد الموشح –الرمل- (عالي نهدك عالي وأعلى من المجد) ، ونجد التجليبه –الهزج- ( أنه الشفت الكحل نهرين فوك الخد / منو بجاك زعلت البنفسج والزعل راضاك / ياهو أوياك من غثك منو حاجاك) ، والنايل –البسيط- (مايل علي المطر جم ظل آنه مايل) .

(رياض النعماني) لا يهتم كثيراً بأنشاء قصيدته على بحر واحد فتراه متنقلاً بقصيدته لبحور متعددة مع ملا حظة التفاعيل المتقاربة عروضياً ، على أنه لا يغادر وحدة الموضوع رغم أستطراداته الزمكانيه ، وهذا متأتي من خزينه الثر وقراءاته المتنوعه ، سياسة ، أدب ،التاريخ قديمه وحديثه ، الديانات ونشأتها وتشعباتها ، صوفيه زرادشتيه ، صابئة ، الديانات الهندية ، ألخ ، وشخصانية (رياض) مكتسبة من تجواله القسري وهو لم يغادر جذور بيئته العراقية رغم أستيطانه الأوربي ومحطته الدائمة(دمشق الشام) ، فأضفت له كل هذه المحطات بجمالها لينثرها على متون قصائده مشبعة للقصيدة نكهة وما ألذها ، و(النعماني) كما أراه مهتم كثير الأهتمام بصوره ودقتها ، بمعنى أنه يلتقط أكثر من صورة لمشهد واحد ومن زوايا متعددة ويختار الأجمل منها معتمداً على ذوقه الحسي المرهف (يترك القداح لونه أبفي قميصك والسهر / يالسهر طولك وريحة هيل / خيمه وكهوه مره / والبدو شالوا خيمهم) ، ويؤطر (النعماني) صوره بمشاهدات حسية أختزالاً للسرد الغير محبب (عيني يا عيني اليشوف هلال خصرك) ، وميزة الهلال الذي تنتظر أشراقته العيون – هلال العيد – ولا يرى إلا بالبصر الحاد ، ناهيك عن دقته ونحوله ،موحياً لرقة خصر محبوبته وطراوته ، (أنت بين الستن والجرجف حرير) ، وخيوط قماش (الستن) تتجانس وصفياً مع الخيوط الحريرية الناعمة الملمس الطرية اللينه ، مجسداً لمعشوقته بأرق وألين من خيوط الحرير ، ومن الصور الجديدة الغير مطروقة على حد أطلاعي بموروثنا الشعبي الغزير لم أقرأ لأ حدهم وصفاً (للنهد) ب (الجمه) ، والكماة نبات بكتيري لذيذ طعمه أسفنجي ٌ ملمسه ، في حين نرى أن مبدعونا الشعراء وصفوا النهد ب (الرمان) ، وأخر يقول (حي حلو المراشف والنهد فنجان) ، ولا يكتفي (رياض) بهذا الوصف للنهد فيذهب لأكثر من ذلك ، (عالي نهدك عالي عالي وأعله من المجد) ، وعالي نهدك صورة قديمة رددها الكثير في وصف نهودة الثدي ، فهذه الفتاة الشابة تحاول أيصال رغبتها لوالدها عن طريق أمها لأنها أستحقت الزواج والوالد غير مكترث لذلك فتقول ، (يايمه خبري الأبو آنه أستحي منه / زمن أنهود الصدر للزيك شكنه) ، ويتبعها (النعماني) لأكمال صورته التي يرسمه للنهد ، (والحلمه فحل زعرور) ، وأجزم أن ( رياض ) لايريد ب (الحلمه فحل زعرور) لكبر ( الحلمة ) و أنتفاخها لأن ذلك سيأتي بصورة مشوهة للثدي ، ولكنه أراد القول بأن ( الحلمة ) نافرة ومتوثبة لرغبة حسية فطرية لأنوثة المرأة ورغبتها الجنسية ، ولأن المعشوقة أدركت وكما يقول المثل الشعبي (الممنوع مرغوب) لذلك ( تفتح على كد بوسه القميص ) لأجبار محبوبها على الأيغال بالنظر أليها وتتركه لتشاهد وقع جمالها فيه ، ( من تفتح أشويه من القميص أتحير بيه الروح ) ، ولأنشداد (النعماني) لأرضه – وهذا ملموس فيه – لذا يؤمن أن ريحة عنبر ( المشخاب ) أذكى من الزيزفون والنرجس الشامي ، ومن ( الكاردينيا ) الأوربية لذا ( من تفتح على كد بوسه القميص / وعنبر المشخاب كله أيفوح ) ، وفي باب آخر وصورة أخرى نتلمس شفافية ( النعماني ) قبالة غنج ودلا ل وتمنع محبوبته ، ( أبوردة رازقي ألمست الخدود / وشهكت وكالت يعابيك الله ) ، لماذا تجرح مجروحتك ، ويعود ثانية (رياض ) لرسم وأعطاء صورة أخرى للنهد دالاً على ( بشرة ) المحبوبة ( بلون الحنطه ريان النهد ) ، ولرب سائل يقول ماعلاقة ( الفلفل المسحون ) بالثدي الناهد ؟ ، و ( رياض ) كما أزعم لم يرد الفلفل على أنه نبات يؤكل ولكنه يؤكد على توقد رجولته مقترناً بالرغبة الحسية لدى المعشوقة كما نوهنا ، ولو أراد الفلفل لكونه فلفلاً لشوهت الصورة تماماً وأصبحت محض وجبة طعاميه ، مستخدما الصفة لهذا النبات للأيحاء بمكنونه ورغبته ورغبتها العارمتان ، ولربما يراها قارىء آخر حسب قرائته لها ويقال ( لولا أختلاف الأراء لبارت السلع ) ، والغيرة – من يغار – عند ( النعماني ) واضحة وجلية في أغلب نصوصه الغزلية وهذا لعمري حق مشروع ، فالشرقي عامة والعراقي خاصة جبلته هكذا ، بمعنى حب التملك الفطري للأشياء ومن ضمنها المعشوقة ، ( أموت آنه أمن أشوفن في ورد وازاك ) ، وأرى من خلال قرائتي المتمعنة ل ( الرذاذ ) أن ( النعماني ) أصيب بأكثر من خيبة أمل عشقية ، والصور التي رسمها (رياض ) في (الرذاذ ) لحبيبته كثيرة جداً ، ( أنت ألف بستان بالبستان ) ، و ( من حلاتك ياحبيبي أيغار كل قندون ) ، و ( محتار بيك أهواي / من يانبع غافي ياجرف فضه وعروس الصبه / لجلك جاوروا كل العمر ) ، وملاحظة ( الصبه ) – الصابئة المندائيين – وردت لأكثر من مرة في ( الرذاذ ) ومكررة أيضاً وكذلك أكثر من مرة في ديوان السابق ( أمام الورد ) ، ولربما يجد رياض في الطقوس الصابئية والتعمد في الماء للزوجين ليالي الزفاف الأولى أوحت له الكثير ، فالماء طهور وفطرة أكتشفها البشر لحظات التكوين الأولى للبشرية وأثَرت - بفتح الثاء - وأثرت - بسكون الثاء - لحياته لاحقاً ، وبقي يحملها صفة ملازمة له ( جنت أحلم .. أعيش الشجره من تكبر / تسوي العسل للناس وتقطر للزمان الجاي ) ، لذلك جعل رسالته الأنسانية ( آنه الحبيت كل دنياي / حبيت وخفت ماكفي / صرت أهواي ) .

( رذاذ على جبين غزاله ) يشتمل على نصوص غزلية غنائية كثيرة ، نجد فيها الصور الجميلة والمفردات الأحلى وعفوية الأسترسال ولربما سيتنبه لها الملحنون لاحقاً ، ودليلي لذلك هذا( النايل ) – البسيط – وأستمزاجه بتفعيلات عروضية أخرى تتقارب مع تفعيلة ( النايل ) – البحر البسيط – ( مستفعل فاعلن مستفعلن فاعلن ) ومن يقرأ النص بكامله يلحظ ذلك بوضوح ( قطر حياتك عسل / أشكر شهي وشفاف / بيه نهد ورد غرك / غركان بس ينشاف / للكاصده من بعد سبع أيام / ضاكك خمرنا وشهك الله ياخمره / يهلال فوك الخصر نايم وأبد مينام / ردنا ينام الهوى يفارعه ومانام ) ، ويختار ( النعماني ) من المفردات أرقها ، ومن الأزهار أذكاها ، ومن الأشجار أكثرها أختضاراً ، وحين أكتمال عناصر التصوير لديه من مسافة ووضوح يرسم صورته كما أسلفنا ، ( الندى فوك الكحل / وأكرنفلك حيران / نامت ريحة النعناع فوك أمرايتك / وأمخدتك ريحان ) ، ترى أي صياد ماهر يقتنص الصبايا ، وأين هي تلك الصبية التي ( جن سيف من ريحة بنفسج جارحه مثل النسيم / وشابعه حب ومطر ) ، و ( جارحه مثل النسيم ) ومن يصدق أن النسيم يجرح لذا عمد ( النعماني ) ل ( شابعه حب ومطر ) لتكون النسمة جارحة ببرودتها فعلا ً و برودة الحدائق عافية كما يقول فنانا ( سعدون جابر ) ،وصبية ( رياض ) كما يزعم ( التحارب عليها الليلو والياقوت / ياهو أيصير شامه أبعالي شفتها ).

بعد أنتهاء قرائتي ل ( رذاذ على جبين غزاله ) لأكثر من مرة ، وأكثر من مرة متأنية كمن ينقب عن ماس ، أو غواص ماهر ليصطاد لؤلؤة فريدة نادرة ، يتبادر لذهني سؤال مشروع ، لماذا يقتتل البشر ؟ أمن أجل مصالح مادية ضيقة زائله ؟ أم صراعات طائفية مذهبية مغذات من هنا وهناك ؟ أم من أجل كراسي خشبية منخورة بالأرضة أصلاً ؟ لماذا لا نقتتل ليس بالسيوف ولا بالقنابل النووية ! بل نقتتل بالجمال لنشيد صروحاً للأنسانية ، نتسارع أينا ينشأ حديقة غناء تتدلى أغصانها الفارعة لتخفي قبلات العشاق عن أعين المتلصصين ، هذا مايريده الحالم أبداً ( رياض ) ، ومانريده نحن عشاق الأنسانية للأننا نحمل قلوباً للشعراء بل قلوباً للأنبياء


الأحد، 11 أبريل 2010

شيء عن الحلة وهروب جسرها-بقلم حامد كعيد الجبوري


شيء عن الحلة وهروب جسرها


حامد كعيد الجبوري

وعينا على مدينة الحلة وهي عبارة عن عشرة (أطراف) ، سبعة منها تقع على الجانب الأيمن لنهر الحلة للقادم من بغداد ويسمى (الصوب الكبير) وهي (الجامعين ، الطاك ، جبران ، الجباويين ، التعيس ، الكراد ، المهديه)، وثلاثة في الجانب الذي يسمى (الصوب الصغير) ، ويقع يساراً للقادم من بغداد أيضاً وهي (الوردية ، الكلج ، كريطعه) ، وشط الحلةالمتفرع من نهر الفرات يقسمها لنصفين كما أسلفنا، وهناك أكثر من رأي قيل بسبب تسمية (الحلة) ، منهم من قال أنها سميت الحلة لحلول أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب ع فيها وهو عائد من واقعة النهروان ، ومنهم من أثبت تسميتها لحلول آل مزيد فيها كما يقول الباحث الشيخ يوسف كركوش رحمه الله في كتابه تاريخ الحلة، ويدعم هذا الراي الدكتور جواد أحمد علوش في كتابه (صفي الدين الحلي) ، وأول من مصر الحلة كما يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي سنة 495 هجرية ، ويقول ياقوت الحموي عن الحلة (هي أجُمة – غابة كثيفة – تأوي إليها السباع فنزل بها بأهله وعساكره وبنى فيها المساكن الجميلة والدور الفاخرة ) ، وقال عنها أبن بطوطة برحلته (مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات وهو شرقها ، ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات ، وهي كثيرة العمارة ، وحدائق النخيل منتظمة بها داخلاً وخارجاً ودورها بين الحدائق) ، ومن الطريف ذكره أن نهر الحلة المتشعب من الفرات الأم متعرج قبل وبعد دخوله لمدينة الحلة بمعنى أن المدينة أخذت شكل ذلك المجرى للنهر ، والطرافة التي أتحدث عنها أن منطقة تقع بشمال الحلة – المدينة - تسمى (الخصروية) وسبب تسميتها لكون نهر الحلة له أنحناءة تشبه الخاصرة لذا سميت (الخصروية) ، ويذكر أن الطاغية المقبور سأل عن أسم هذه المنطقة الجميلة فقيل له أسمها (الخصروية) ولم تعجبه التسمية لظنه الواهم أن التسمية غير عربية فأطلق عليها أسم (القادسية) .

في الثلاثينات من القرن المنصرم يربط جانبي الحلة بواسطة جسر عائم يقع منتصف مدينة الحلة ، وكان عائماً لأسباب شتى أولها أن الدولة ليس لها الأمكانيات المتاحة لبناء الجسور أولاً ، وثانياً أن نهر الحلة يستخدم كمسلك مائي يربط شمال الوطن بجنوبه ، وبموجب هذا وذاك أنشأ هذا الجسر العائم على مجموعة من المجنبات المائية (الدوب) المشدودة بحبال كتانية مصنوعة من مادة (الجنب) النباتية ، أضافة لسلاسل حديدية لربط الجسر العائم الى ضفاف النهر ، وهناك مجموعة كبيرة من العمال واجبها سحب هذه المجنبات العائمة للسماح بمرور السفن الشراعية المسحوبة من قبل رجال أشدا ء رأيتهم وأنا طفل لم أدخل المدرسة بعد وذلك بداية الخمسينات من القرن المنصرم ،والسفن تنقل المنتجات الصناعية والزراعية من شمال العراق لوسطه وجنوبه وبالعكس ، في أحايين كثيرة تحدثنا بها أمهاتنا وأباؤنا أن جسر الحلة قطع سلاسله الحديدية وحباله بسبب الأمواج القوية التي أحدثتها رياح شتائية عاتية فجرف التيار الجسر معه ، فيهرع أبناء الحلة ممن تعطلت أعمالهم بسبب أنقطاع السبل بهم للحاق بجسرهم الفار ، وكثيراً ما يعثروا عليه بعد قطع مسافة ميل أو ميلين ويجلبونه معهم مكتوفاً ومسحوباً بحباله وسلاسله تتقدمهم فرق شعبية تقرع الطبول والدفوف بأغاني حاولت جاهداً الحصول عليها فلم أفلح ، وقد أرشف هذه الصورة الجميلة شاعر الحلة الكبير موفق محمد فيقول

مكتئباً أسيان

شاخ على مهل جسر الحلة

طالت لحيته وأبيضت

فتعلق فيها الصبيان



الجمعة، 9 أبريل 2010

الفنان د غالب المسعودي-بقلم الرائد الراحل جميل حمودي من مقدمة المعرض الشخصي الثالث

الفنان الدكتور غالب المسعودي


عرفته خلال زيارته لدار اينانا للفنون,واغتنت علاقتنا الطيبة حين دعاني لافتتاح معرضه الذي اقيم في مقر اتحاد ادباء الحلة,وحيث وجدت في اعماله انه وجد المنطق التشكيلي الذي يوحد مسيرته الفنية ويرسم الطريق له في بحثه عن اسلوب

شخصي يدل عليه,ولعله وجد ذلك.لكني احس من خلال اعمله الاخيرة يريد اكثر من ذلك.يريد ان يستزبد من اغناء ابداعه

الفني مستهدفا الوصول الى افاق جديدة اكثر تجردا عبر المستوى الرفيع الذي يسعى اليه.مثل اي فنان يؤمن بمسعاه الابداعي.

ويعجبني في هذا الفنان انه مثقف يمتزج عنده الفن بالعلم حيث انه طبيب ومتمرس بالشؤن الجراحية لهذا الفن العلمي.

وليس هذا فحسب انه شديد الاهتمام بالثقافة وخصوصا مايتعلق بالحضارات العراقية القديمة والتاريخ وليس ادل من ذلك

انه خصص مطبوعا كتب فيه ما اسماه>خواطر حب الى ايساكيلا< وايساكيلا هو المعبد الكبير في بابل وكانت الزقورة العظيمة والمشهورة قد شيدت في وسطه.

وفي هذا المطبوع يكتشف القارىء كل الهواجس الرمزية والحضارية التي ظلت تجتذب غالب المسعودي وتضعه متطلعا

على سلالم الزقورة الثقافية التي منحته امكانية ممارسة العلم والفن معا.فيعبر باللون عما يوحيه اليه العلم والحياة.

ويحقق بالتقنية عما يتعايش في نفسه من انفعالات واحاسيس فنية.هذا هو الفنان الطبيب غالب المسعودي الذي اقدمه لكم اليوم في قصائد تشكيلية ترتل من فوق تلال بابل ليتردد صداها جميلا في دار اينانا للفنون في بغداد

جميل حمودي

الأربعاء، 7 أبريل 2010

الجسر-----الخورنق والجنائن المعلقة-بقلم حامد كعيد الجبوري



الجسر ...الخورنق والجنائن المعلقة!!!!

حامد كعيد الجبوري

يتحدث التأريخ أن أحد ملوك بابل تزوج من إمرأة ليست من دياره البابلية فأصيبت بمرض الكآبة حنينا لديارها السابقة ، وبما أن ديارها السابقة جبلية تشتمل على حدائق غناء وجبال عالية مكسوة بالخضرة ، لذا أمر ببناء قصر على مساحة كبيرة من الأرض ببيئة تشابه بيئة أهل زوجته ، فعمل المهندسون جبالاً عالية وزرعوها بالأشجار وواجهتهم مشكلة إيصال المياه إليه ، نادى منادي داخل المدينة لمن يستطع إيصال الماء فله هدية مجزية سنية ، وفعلاً تقدم أحدهم بمشروع ناجح وأوصل المياه لهذه الأشجار فبسقت مناطحة للسماء ،وسرت الزوجة بقصرها المنيف الذي أشبه ديارها السابقة ، وأطلق الملك على قصره ( الجنائن المعلقة) وهو غير بعيد عن مركز مدينة بابل ، والملك البابلي هو الملك نبو خذ نصر ، وسلطان آخر حدث له ماحدث لنبو خذ نصر فأبتنى قصر الخورنق مستعيناً بمهندس زمانه (سنّمار) ، وأكمل المهندس المسكين القصر على أجمل مايكون ، شرفات تطل على حدائق ومسابح ، غرفا تبرد صيفاً ومعتدلة الحرارة شتاءاً دون وجود ما يبردها أو يدفئها -حيث لم تبتكر نعمة الكهرباء التي حرمنا منها منذ أمد بعيد وستصبح منجزاً أو فتحاً لا يباريه شئ لمن سيعيدها لحالها السابق- ، حينما أستلم السلطان القصر من مهندسه (سنمار) وطافا بأرجائه المعمورة بُهر السلطان بهذا المنجز وسأل المهندس ، هل يمكن أن تبني قصراً أفضل منه لاحقاً ؟ وهل أن للقصر هذا عيوب داخلية أكتشفها المهندس قبل نهاية بناءه له ؟ أجاب المسكين (سنمار) ، نعم مولاي يمكن أن أبني أجمل وأفضل منه لو تيسرت السيولة المالية لذلك ، وأضاف المهندس لسلطانه قائلاً ، هناك آجره وضعتها بمكان ما من القصر لو تحركت من مكانها لتهدم القصر بكامله ، أصيب السلطان بخوف شديد وحدث نفسه قائلاً ، ماذا سيحدث لو أخبر المهندس أحداً بذلك ، ثم ماذا سيحدث أن أختلف السلطان مع هذا المهندس ، أنها معادلة صعبة ستجعل حياة السلطان بخطر كامن









دائم ، وفكر السلطان كثيراً بذلك وسأل ( سنمار ) قائلاً ، هل عرف أحد بمكان هذه الآجرة ياسنمار ؟ أجاب المسكين قائلاً كيف أفعل ذلك يامولاي ، أبتسم السلطان إبتسامة عريضة وقال لسنمار دلني على هذه الآجرة أيها المهندس الأمين ، وبعد أن عرف بمكان الآجرة قال السلطان أني أجد في أحد شرفات القصر عيباً أريد منك أن تصلحه ، قال ( سنمار ) على الرحب والسعة مولاي ، وما أن وصلا لتلك الشرفة وكان السلطان مستعد لتنفيذ مخططه ، وضع السلطان يديه بظهر (سنمار) وبكافة طاقته الإجرامية دفع (سنمار) من ذلك المكان الشاهق وسقط للأرض جثة هامدة ودُفن سر الآجرة معه .

كل هذه المقدمة بسبب جسر تقاطع (الطهمازية ) في محافظة بابل المحروسة الذي بني بكلفة (17) مليار دينار عراقي بناه أحد المهندسين حفدة المهندس (سنمار) والمهندس الذي بنى الجنائن المعلقة ، كل الذي يمكنني قوله أنه جسر (يخرب من الضحك) وشر البلية مايضحك ، فالقادم من الديوانية أو النجف متجها صوب العاصمة أو كربلاء سيجد أن للشارع العام مسارا غير مسار الصاعد لهذا الجسر وما على سائق السيارة إلا أن يحول مقود سيارته ربع دورة يسارا تقريباً لكي يسلك طريق الجسر ، أنه السنمار الجديد و لا نعرف مكان الآجرة التي وضعت في الخورنق العتيد لأصطياد السيارات وهذا ما لا نتمناه ...للأضاءة .... فقط .

يمامة الرسام -بقلم د علي عبد الامير صالح-رسوم د غالب المسعودي-القسم الثالث

.


نعم , فالحاضر يجود علينا يومياً بالمآسي والكوارث والفواجع .. والكوابيس .. وتعذر عليّ في الشهور التسعة التي أعقبت الحرب أن أغادر محترفي .. الواقع كان محترفي ومسكني في آن , وربما يجدر بي ان اقول صومعتي , مختلاي , مأواي .. غالباً ما أمضي فيه أياماً معدودات من دون أن أغادر .. اشتري حاجتي من الطعام , والتبغ , ومواد الرسم .. وأبقى أمارس طقوس حياتي اليومية التي تشبه , ربما , طقوس الحياة اليومية لملايين العراقيين , الذين يعيشون مثلي على شفير اليأس , والاحباط , بلا ماء ولا كهرباء , ويستنشقون مثلي , ايضاً , دخان العجلات المحترقة , وروائح الاجساد المتفحمة في السيارات , الفنادق , المدارس , مطاعم الاكلات الشعبية ..

نعم , مرتين فقط , اذا لم تخني الذاكرة , حضرت افتتاح معرضين تشكيليين لرسامين شبان توهجت فهيم الحماسة , باعوا اغلى ما يملكونه واشتروا مستلزمات الرسم ورسموا ما تعذر عليهم ان يرسموه في السنين الخوالي .

وحتى زيارتي للمعرضين , اللذان كانت إقامتهما , في ظروف معقدة كظروفنا , مغامرة جريئة , لا بل قل بطولة فذة , لم ألتق بامرة أو فتاة تشعل فيّ حريقاً لذيذاً , توقظ حواسي المعطلة .. على نحو ما فعلت هذه المرأة التي حدست ان عمرها يتراوح بين الخامسة والعشرين والثلاثين .. شاء القدر ان تزورني في وقتٍ كنتُ فيه اهفو الى انثى حقيقية , انثى اطوقها من الخلف , واستنشق عبير شعرها , شعرها البليل .. وامرر شفتيّ , شفتيّ الظمآنتين الى ريق امرأة على خطوط عنقها , شرايين واوردة العنق , واشمن عطرها الأخاذ الذي تضوع من رقبتها , ترقويتها , ابطيها , نهديها .. امرأة تقاسمني عذابي , ألمي , عزلتي , توحدي , لوعتي , يأسي , مرارتي .. وحتى غضبي .. غضبي ونكدي .. وكراهيتي لكل اولئك الظلاميين الذين يريقون الدم من دون وزع ..

سيطر عليّ فضول لمعرفة اسم المرأة , وعنوانها .. من أين جاءت هذه السيدة ذات للاناقة الباريسية , والى اين ستغادر بعد زيارتها لي .. وأولاَ وقبل كل شيء : لماذا جاءت اليّ .. ولماذا اختارتني من بين عشرات الرسامين الذين انزووا وورشاتهم الكئيبة , نصف المعتمة .. بعد ان كان بعضهم يرتاد المقاهي ويرسم على الرصيف او في الساحات العامة .. يرسمون منظرهم الطبيعية , لوحاتهم السوريالية , التعبيرية , الانطباعية الرومانسية .. او ما شاء لهم من الرسوم .. والتخطيطات .. وربما اتفقوا مع موديلات لهم كي يرسموهن على وفق ما يشتهون هم , او على وفق ما يرغبن .. او ربما على وفق ما يشتهي الإثنان .. لأننا , معشر الرسامين والنحاتين , نعرف ما هو الشكل الاجمل للبورتريه , او الوضع الافضل الذي ينبغي ان تتخذه الموديل اثناء وقفها او جلوسها .. هل تسند ذقنها براحة يدها الكأسية , ام تبقيها في حضنها على نحو ما تفعل , عادة , معظم الموديلات .. هل تضع وردةً خلف اذنها , وهل تمسك بمروحة يدوية .. الى ذلك نقول , ان بعض الموديلات يتوضعن لقاء اجر بسيط يتفقن بشانه مع الرسام , وغالباً لا يتقاضين غير وجبة طعام بسيطة مع قبلة على الخد او مصافحة باليدين .

نسيت ان اقول ما ان شربت قهوتي حتى وقعت تحت اغراء رسمها عارية . عارية تماماً .

لا أدري لماذا خطرت ببالي هذه الفكرة . ابسبب جاذبيتها الانثوية , غنجها , ام بسبب حركتها الايروسية ؟

والحق يقال انني قلما طلبت من احدى موديلاتي ان تخلع قطعةً من ثيابها .. لم اجرؤ على طلب ذلك , ولا حتى التلميح به .. كانت الموديل نفسها هي التي تخلع بلوزتها او ترفع ذيل تنورتها وهي تلف ساقاً على ساق .. ولابد ان انوه هنا ان بعض تلك الموديلات كن فتيات بائسات الا انهن لعوبات .

شربنا كوبينا صامتين .. كانت العيون تتكلم أما الرسام وزائرته فكانا يلوذان بالصمت .. كل منا أراد أن يفتح الآخر نافذة الكلام . وبقيت أتأمل جمالها الأخاذ , نعومة بشرتها , أصابعها الطويلة , الممتلئة نوعاً ؛ اماهي فراحت تتفحص لوحاتي المعلقة على الجدران وتلك الموضوعة على البلاط والمركونة على حائطين متجاورين تقشر كلسهما من جراء الرطوبة ..

بقينا صامتين على مدى لحظات .. تبادلنا النظرات المتواطئة , مكتفين بمتعة الصمت وبلاغته .. هل كانت تنقصني الشجاعة ؟ وهل كانت تنقصها الجرأة ؟ ان لم تكن جريئة وواثقة من نفسها فكيف استطاعت المجيء الى مشغلي , وغامرت بالخروج من مسكنها في طقس ممطر , وفي ساعة , مع انه لم يمض على مغيب الشمس سوى وقت قصير , كانت الشوارع والطرقات تخلو فيها من المارة وأغلق اصحاب المحال التجارية مخازنهم . الا تخشى هذه الحورية الجميلة ان يتم اختطافها ؟ ام ان اصرارها وعزمها هما اللذان جاءا بها الى هنا متناسيةً الوضع الامني السيء ؟

يبدو ان زائرتي الباريسية مشت نحو قدرها .. من دون ان تكترث لأي شيء .

هل جاءت لتتحرش بي عبر دلالها الانثوي , وجسدها المبهج للحواس ؟

هل جاءت لتستفز حواسي المعطلة ؟

هل جاءت لتحرك في الرغبة في رسمها عارية , مع انني رسمت عشرات الموديلات من دون ان يطرأ على بالي يوماً , او تحدوني الرغبة , في رسم احداهن مجردة من الثياب , ولا حتى نصف عارية ؟

هل جاءت لتشعل نار التحدي كي احرق كل لوحاتي المحتشمة وابدأ مرحلةً جديدةً من حياتي الفنية , من خلال رسم النساء عاريات تماماً ؟

هل جاءت لتعبث بي , لتدمرني , لتستفز شوقي المؤجل , ذكورتي , موهبتي الفنية , بحضورها الانثوي الطاغي , جاذبيتها , حضورها الجسدي والروحي ؟

هل جاءت لتقضي على احزاني السرية , وتبدد قنوطي الذي شرعت غمامته السوداء تغلف فؤادي الكسير ؟

هل جاءت لتزرع فيّ بذرة حب جديد , بعد ان منيتُ بخيبات امل مريرة من جراء مشاريع الحب الفاشلة ؟

هذه الاسئلة خطرت ببالي وهي تجلس قبالتي على اريكة عتيقة لا تبعد عن مقعدي سوى مترين لا غير .. أريكة حديد تآكل تنجيدها من طرفيه .. ثم لفت زائرتي ساقاً على ساق فرأيت جوربيها الاسودين , المخرمين .. ذلك النوع من الجوارب المزخرفة , المليئة بالثقوب التي ربما ابدعتها , ايضاً , مخيلة مصمم ملابس فرنسي .. ولم لا تكون مصممة ؟ نعم .. ربما تكون السيدة شانيل نفسها التي كانت تنصح المرأة بأن تغادر كل يوم بيتها وهي بكل أناقتها , وكأنها ستلتقي ذلك اليوم بالرجل الذي سيغير حياتها !!

خطر ببالي , آنذاك , ان أرسمها عاريةً تماماً الا من الجوربين الأسودين .. اغلب الظن ستكون لوحة رائعة لأن بشرة زائرتي البيضاء ستبدو أكثر سطوعاً وأكثر جاذبية ؟

هل فكرت يومئذ براسبوتين , ذلك الراهب الروسي الذي كان يجرد عشيقاته من ثيابهن ويبقي جواربهن السود فقط ؟

فكرت في قرار نفسي : من تكون هذه المرأة المشبوهة ؟ ما إسمها ؟ ما إسم عطرها ؟ هل ينبغي لي أن أسألها اولاً عن إسمها , ومن ثم عطرها أم العكس ؟ هل جاءت لتتوضع قبالتي ؟ هل عملت موديلاً لرسام غيري ؟ هل تعرت أمام رجل : زوج , عشيق , رسام , نحات , طبيب, ممثل سينمائي ؟ ام انها جاءت لتمتحن رجولتي , شجاعتي , نزقي , موهبتي الفنية ؟ هل جاءت لتطلق رصاصة عليّ من مسدس كاتم الصوت تخبؤه في جيب معطفها الجلد أو في حقيبتها اليدوية السوداء أيضاً ؟

هل كان مجيئها نوعاً من المجازفة أم ضرباً من الجنون ؟

هل كان مجيئها غوايةً تقوم به امرأة لعوب كي تطلق عليّ النار أخيراً ؟

هل تعطلت قدراتها العقلية , لتنوب عنها حواسها , غرائزها .. وهي التي تشي حركاتها الايروسية بشبق قل نظيره ؟ لا أعرف الى أي محطة نائية قادني قطار الأسئلة .. ف (( الأجوبة عمياء .. وحدها الأسئلة ترى . ))

كان واضحاً انها تعرفني حق المعرفة , وتعرف عنوان مشغلي .. وحين نهضت من الأريكة وجعلت تتجول في محترفي متأملة لوحاتي ومشيرةً بسبابتها الى هذا الشكل أو ذالك , شعرت انها زائرة مزمنة لمعارضي الفنية العديدة التي اقمتها خلال العقود الثلاثة المنصرمة . وأنا أقصد المعارض الشخصية , ناهيك عن المعارض المشتركة مع رسامين آخرين في مناسبات كثيرة .. لا بل خطر ببالي أنها عرفت عدداً من موديلاتي من الفتيات والسيدات اللواتي كن يواظبن على المجيء الى مشغلي كي أرسمهن لقاء أجور زهيدة .. الواقع هؤلاء النسوة لم يكن يأتين طمعاً بالنقود الشحيحة التي كنت أعطيها لهن لقاء الجلوس أمامي أياماً معدودات .. بل لأنهن لا يجدن ما يشغلن به وقت فراغهن , وكن يبددن ضجرهن ويتظاهرن بالتخلص من أحزانهن خلال مجيئهن .. ويسعدن بالتعرف الى فنان يخلدهن في لوحةٍ تصبح علامةً بارزةً في تاريخي الفني ويصورها المصورون الفوتوغرافيون بكاميراتهم العادية , أو الفيديوية , أو حتى كامرات الدجيتال أو أجهزة ( الموبايلات ) .. على أن بعضهن كن يصرن على عدم تقاضي أي مبلغ من المال , بل يلححن على إقتناء اللوحة ( أو نسخة منها في الأقل ) فور انتهاء المعرض.. وهكذا أكون مضطراً للصق كلمتي (( ليست للبيع )) في الزاوية السفلى اليسرى للوحة .. مع أنني عرفتُ , ذات يوم , أن أحداهن أضطرت ذات يوم الى بيع لوحةٍ لها الى تاجر أعمال فنية في ( الكرادة ) كي تشتري فيستاناً انيقاً كي تلاقي الرجل الذي سيغير حياتها , كما نصحت السيدة شانيل بنات جنسها , لأن ذلك سيحدث حتماً في يوم تكون فيه المرأة قد أهملت هيأتها !!

اذاً , كانت بعض تلك الموديلات يحببن الرسم , وتستبد بهن رغبة قوية في أن يرسمهن واحد من الرسامين المشهورين , وحين يعلقن ذلك ( البورتريه ) في حجرات نومهن يشعرن برضا ألذات , والاكتفاء , وحتى بالتفوق وعبادة الذات .. لأن بعضهن كن مغرورات ونرجسيات.. على أنني عرفت ان أحداهن ظلت أعواماً طويلة تتأمل بورتريها أكثر مما تتأمل صورتها في المرآة . ولهذا كانت تتأمل هيأتها .. ظناً منها أنها ستبقى تلك المرأة الفتنة التي رسمها بالزيت فنان عراقي شاب آثر الغربة , ومشروع يحصد الجوائز الفنية في مدن عديدة بأوربا .


الاثنين، 5 أبريل 2010

قراءة في صحيفة المتلمس-قاسم عبد الامير عجام


قراءة في مجموعة (صحيفة المتلمس)




قاسم عبد الأمير عجام



حين يمتليء الشاعر ثقة بالقصيدة ، يحملها ما يعز عليه من أمنيات وافكار ، واذ يفعل ذلك فلان الشعر والشاعر كائنان فاعلان مؤثران ولذا يحضران في نشوة بناء القصيدة ليتخذها الشاعر معابر او رموزا لقضيته او نولا ينسج عليه فكر قصيدته . وهذا ماتجده جليا في العديد – ان لم نقل ، في اغلب- قصائد الشاعر عبد الأمير خليل مراد التي ضمتها مجموعته الموسومة (صحيفة المتلمس 1999) وإذ يمنح الشعر والشاعر المبدع كثيرا من الثقة طالما حفل بالهم الانساني ويمنحها من الحب ما يجعله يستبطن معاناة الشعر المسؤول والشاعر المبدع لينفذ من خلالها الى معاناة مجتمعه والناس في بلاده لم تجد ذلك في القصيدة التي عنوانها (الشاعر) فقط وانما اكثر من قصيدة ، ففي قصيدة (الشاعر) تلك تجد تمثيلا واعيا لاحزان الانسان العامة والانسان الذي ادركته حرفة الشعر بخاصة 00 ولذا جاءت حشد من الصور والافتراضات اقرب للتمنيات ، وتساؤلات عما سياتي او سيكون وكلها تتساند في تشكيل بنية حزن مهيب لانسان رققته المعاناة واستحال الحلم .

(( عاشق كالذبالة اذتستطيل

وكالنهر في الواحة الوارفة

وزعته المواسم في بيدر الحلم نايا

ودثره الحزن بالامنيات)) ص46

وفي قصيدة ( قطاف) حيث يكثف شاعرنا موجات من الحزن يفتتح نشيده كمن يتخنى بالقصيدة كي تستوعبه او كأنه يخشى عليها الا تستوعب حزنا بتلك الكثافة والعمق . ( باي فم ستقول القصيدة) ويختمها بالتاسي على ان ما يبقى حفنة من تراب هي مزيج من أفضل ما لدى الانسان وان القصائد والرواية هما من بين الافضل الباقي مع (الحروف الهاربة من الأصابع) وحكمة الأب ان ذلك الحضور للقصيدة كفعل للتأثير وللشاعر كمؤثر، في قصائد هذه المجموعة يفسر سر امتلائها بالصور والامال والخيبات التي تقلبنا بينها جميعا في حقول الشوك فجاءت القصائد جدائل من الشعر ان شابتها فضة الحزن فلكي يزيدها بهاء ، هو بهاء الجمر في موقد الصبر المكابر ولطالما قرن الشاعر مجموعته .

هذا الشعر / القصيدة بالجمر الذي يطرز عمرا هو (اقصر من شهقة) .. وحتى حين ينتهي عمر الشاعر فانه يخلي (القصائد سيلا على الطرقات) فالشعر كما يقول في قصيدته المهمة (تقاسيم الناي الاول) ص34-43 (يدرز روحي بناياته – ويوزع في جانحي – هتاف البراءة والامنيات) ولذلك يرى في الشعر القدرة على فهم مأساة الانسان المحاصر بالحرمان والظلم والتعبير عنها لذا ينادي في قصيدته (صوت آخر) (ايها الشعراء انصتوا للرياح التي – تصرخ الان في هيكلي – وتلم المزامير في شفتي الذابلة) ص22 .

وكجزء مما يحتشد به الشاعر من احساس بالمسؤولية ازاء الكلمة ومحنة الانسان المتشعبة ، لم يكتف الشاعر بالنص على استدعاء الشعر كفعل وانما احالنا في العديد من قصائده الى مرجعيات سامية كان للانسان وخلاصة فيها القدح المعلى ، يتقدمها القرآن الكريم وتتصادى فيها أبيات من شعر المتنبي والمعري ومواقف للنفري وغيرهم .. احالنا أليه بالتضمين او بالنسج على منوال ما يحيل اليه او استحضار صورة او دلالة مما صورته قصائدهم ، فكأنه لا يكتفي بما في شعره الحافل بالحركة من قدرة على بث طموحاته والبوح بمعاناته بل يصرح من خلال تلك الاحالات بالحاجة الى الحكمة المستخلصة من آلام الانسان نفسه ومن تلك المرجعيات .

اكثر من ذلك انه لاهتمامه بالمرجعيات تلك استقى من بعضها ما يمكن اعتباره موجها "قرائيا" افتتح به مجموعته فعرفنا بالملتمس وصحيفته الذي تمرد على مضمونها بعد ان هتك سرها ، فكأنه يدعونا للتقليب في الاوراق المطوية والتردد على ما يراد بنا من سوء المصير . وان شعره ليدعونا فعلا لنقطة تستوعب الظاهر والمخفي . ثم يضع لصحيفته مفتاحا هو ثماني مختارات من (النفري) وبيتا من شعر المتنبي يكفي وحده للإشارة الى ما وراء قصائد الشاعر او الى البؤر التي فجرت تيار شعره . فالحق ان بعض تلك المختارات كان كافيا للتنبيه الى رسالته ففي اختياره قول النفري (يا عبدي اخرج من همك تخرج من جدك) او (اذا تكلمت فتكلم واذا صمت فاصمت) حشد للانتباه وكان له فيه غنى عن غيرها .

نقول ذلك مع ثقتنا بقدرة شعره على ابلاغ رسالته دون تلك الموجهات مع أولى قصائد المجموعة (احتمالات) .. التي بدت حشدا من أحلام حراقة وتطلع مضن الى آت لا يأتي إذ هي شهقة (حلم لم ينته) ما دامت المعاناة لم تتجدد ، فتتجدد عبر مقاطعها العشر قيمة المعاناة مع الإصرار على الحلم بلغة عاشق يعلن عشقه وعذاب صبره من خلال استعارات وكنايات لا ترسم ذلك العشق فقط وإنما تحيل الى مفردات عذابه إذ يقفز القلب (الذي تدوسه حوافر العنقاء) من الصدر (كالقطط المسعورة) واذ يصبح الإعلان عن العشق / انتظار الآتي جنونا يباركه الحالم المأخوذ به .

والحق ان ثنائية الحلم والانتظار ومكابدتهما معا لا تنتهي بالشكل الذي حفلت به قصيدة (احتمالات) فالمجموعة تكاد ان تكون صورا لتلك الثنائية / المكابدة لكن الشاعر لفرط ما اصطلى بها قلبها على جوانبها المعرفية والوجودية فراح يستبطن النفس التي تتشظى بينهما فلا تخذله المخيلة ولا تعجزه الصور . ولذا عمقت قصائده التالية قضية الشاعر تلك بأكثر من اسلوب من خلال مناجاة رسم جزء من لوحته متنقلا بين ضمير المخاطب وأنا المتكلم عبر الوصف كما في قصيدة (مسافة) وبالسرد بجمل فعلية يحركها الفعل المضارع او يعيدنا اليها فعل ماض ، وبجمل اخرى اسمية يرسم أجزاء أخرى . ودائما يقودنا الى لوحته عبر استعارات وتكوينات تنبذ المباشرة والتقرير واضعا القارئ على جناح الشعر . يستعير عطش الطائر ، مثلا ليقنع به لهفة النفس الى ما يوالف ما بين الجمرة والانداء (قصيدة أكمه) وفي قصيدة (ايماءات بعيدة) صار الخوف يرتدى وللحلم أرجوحة يتفيأها العاشق ، (والرمل يستسقي ناي مواجعنا) – قصيدة الأرجوحة .

على ان الحلم الذي يشكل بنية اغلب قصائد المجموعة لا يأتينا مجرد مكابرة في وجه الرداءة وانما نستشفه من خلال تقليب الشاعر في أشواك تلك الرداءة التي تثير في المتلقي حزنا هو بعض الحزن الذي يتخذ صورة مهيبة وهو يتنقل بين مسببات الحزن والوانه فتنعقد القصائد أو بعض مقاطعها مرثيات أو ألحانا حزينة كذلك الحزن الشفيف في قصيدة الشاعر وبذا تأتي (صحيفة المتلمس) .

هذه صوتا صافيا لعبد الأمير مراد بين ضوضاء الكتابات الغارقة في دروب العتمة واللاتعيين واستعراض اللعب اللفظي ونؤكد أن امتلاء الشاعر / الشعر بقضايا مجتمعة لا يمنع أبدا قصيدة جميلة تضج بالحركة وتتصادى بين ثناياها عواطف ومعان تدعو المتلقي ليتواصل معها ، فيتواصل ولا تخيبه القصيدة .

ولعلها لذلك .. ولكل ما فيها من جماليات بنائية أخرى هي التي أغرت فنانا مبدعا هو الرسام الطيب غالب المسعودي بأن يزين المجموعة أو يشارك في متنها بعدد من لوحاته التي ألصقت صورها الفوتوغرافية بين ثنايا الديوان . وهي لوحات تشكل مجموعها اشتغالا فنيا لا يستبطن معاني القصائد ودلالاتها فحسب وانما تنفتح كل لوحة منها على آفاق انسانية فكرية تحتفل بها لذاتها وتصلح لبثها حتى لو عرضت لوحدها . وهي أيضا تمثل مرحلة جديدة في تطور هذا الفنان المثابر بعد المرحلة التي رأينا تجلياتها في معرضه الفني الأول الذي رافق الحلقة الدراسية التي أقامها اتحاد أدباء وكتاب بابل (7-9 مايس 1999) في الحلة لدراسة عطاء الناقد الراحل عبد الجبار عباس إذ اصبح لكل لوحات المرحلة الجديدة سمتها الخاصة – موضوعها وسمة عامة تجمعهم بلوحات المرحلة وهي سمة تمنحها نكهة عراقية لا من خلال النوافذ الملونة المقوسة فقط وانما ايضا من خلال لوحة صغيرة أشبه بالختم داخل اللوحة هي كتابة عربية بالحرف المسماري وهي جزء من مشروع آخر للفنان غالب نفسه يوظف الرسم المسماري في الكتابة العربية بشكل جديد .. واذ تعيد تلك الأختام كتابة بعض سطور القصيدة فإنما لتجعل اللوحة بمجملها اعادة لدلالات القصيدة بلغة التشكيل بعد أن أقامها الشعر بالكلمة موسيقى التفاعيل .

يرى المتأمل لهذه اللوحات أنها جميعا عبارة عن هيكل بشري مجرد من كل سواه لكنه متحرك بما يستبطن من دلالة القصيدة ، ودائما بجناحين .. مجسدا ثنائية الحلم / الانتظار بطريقة تجعل ذلك الهيكل الناحل اختزالا للجوهر الإنساني في اغترابه ومعاناته خاصة وان يأتي بكل حالاته (منطويا ، متحفزا ، قائما) شفافا وكأنه بلا لون بينما تمثل اللوحة (الأزرق – الأحمر – الأخضر بمختلف درجاتها وتداخلاتها) خلفية له تجسد غربته هي لوحات – معرض فني تستحق كتابة قائمة بذاتها .. أما وقد جاءت تشارك المتن الشعري فقد وضعتنا في لحظة عناق بين القلم والريشة وتؤكد عناقا آخر بين العلم والفن تشكيلا وشعرا في صنعة الشاعر والطبيب الرسام لتكون ثمرة أخرى من ثمار هذه المجموعة الشعرية الحافلة بشفافية الحزن الإنساني وهيبته المستمدة من مكابرة إنسان يرفض أن يكسره قهر الرداءة والحرمان .

الأحد، 4 أبريل 2010

قاعة ود للفنون في الحلة

افتتحت في مدينة الحلة قاعة ود للفنون بادارة الفنان الدكتور باسم العسماوي التدريسي في كلية الفنون الجميلة -جامعة بابل
وتضم القاعة اضافة الى قاعة العرض التشكيلي ملحقات اخرى المكملة كقاعة للعروض السمعية والبصرية وقاعة محاضرات وجناح لعرض المستلزمات الفنية الخاصة-القاعة كائنة في مدينة الحلة شارع40 -حي شبر

السبت، 3 أبريل 2010

الحلة واعياد ايام زمان-بقلم حامد كعيد الجبوري

الحلة الفيحاء


وأعياد أيام زمان

حامد كعيد الجبوري

باجر عيد

باجر جم ألف حبه

باجر جم كصيبه التكرص الركبه

مراجيح التغني العيد ...

هلهوله وألف لعبه

لا أعرف من قال هذه الأبيات من الشعر الشعبي ، منهم من نسبها للرمز العراقي الكبير النواب ، ومنهم من قال أنها للشاعر كاظم اٍسماعيل الكاطع ، وأخر يقول أنها للشاعر عريان السيد خلف ، وليكن من قالها أي واحد منهم فهي أبيات جميلة علقت بذاكرتي منذ أمد بعيد ، قبل ليلة العيد سواء لعيد الفطر أم عيد الأضحى ، تنشغل العوائل وبالتحديد أمهاتنا لأعداد (الكليجة) ، مع ملاحظة هذه (الكليجة) وجودتها نوعياً كل حسب أمكانياته المادية ، وكثير من العوائل الفقيرة – وأنا منهم – لا يعملون هذا المنتوج ولا يعيرون له أهمية لعدم توفر السيولة النقدية لعوائلنا الفقيرة ،ويبقى نظام التكافل الأجتماعي الفطري هو الحاكم والمهيمن على عوائل أيام زمان ، فكانت تأتينا حصتنا من (الكليجة) من أكثر من جار لنا ، ولربما يكون لدينا أكثر من الجيران الذين عملوها وهي متفاوتة الجوده بحسب الحالة المعاشية للجار المُهدي ، العوائل المترفة تذهب بنتاجها من (الكليجة) الى الأفران المتواضعة - على قلتها - وهي أفران حجرية أشبه ماتكون بالبدائية ،والعوائل المتوسطة والقريبة من الفقر وخطه تستخدم التنور لأنضاج منتوجها من (الكليجه) ، وما ألذ تلك المحشاة بالسمسم وأنت ترى دهنه قد فاض وأخترق المسامات ليصل لسطح (الكليجة) مضفياً عليها نكهة وطعماً يختلف عن تلك المحشوة من مادة أخرى كالتمر واللوز والجوز و(الحلقوم) ، والغريب أن أمهاتنا آنذاك يحتفظن بنصف من (الكليجة) للعيد القادم عيد الأضحى ، والأن أدركت لماذا كان يصيبنا الغثيان حد القيء ونحن نأكل ذلك المنتوج المخزون دون مراعاة لشروط الخزن ، حيث غالبية العوائل لا تمتلك نعمة الكهرباء – كما الأن - .

والحديث عن ملابس العيد تثير في داخلي أكثر من مكمن للحزن ، فعوائلنا فقيرة لا تملك أيّ مدخر مالي لشراء مايسمى ملابس العيد الجديدة (دشداشة أمقلمه ، حذاء كتاني أبيض) ، قبل ليالي كثيرة من مقدم العيد نتوسل لدى أمهاتنا ليتوسطن لدى الأباء لشراء أحتياجاتنا من ملابس العيد ، وببراءة طفولتنا لا ندرك حجم معاناة آبائنا ومعاناتهم لأنهم لا يملكون مايرفهون به عن فلذات أكبادهم ، ونصر بدموعنا البريئة على آبائنا لجلب أحتياجاتنا ، وأن لم يتيسر له ذلك نعود لملابسنا -(الدشداشات)- القديمه وتضعها أمهاتنا في قدر كبير بعد أن تضع فيها صبغ (النيل) ويبقينها مدة طويلة وهي تغلي لتكتسب لوناً جديداً ، ولكم أن تتصورواً أجسامنا الغضة الطرية وقد أصطبغت بصبغة (النيلي) ، أما أحذية الكتان صناعة (باتا) البيضاء فنجلب لها من مدارسنا ما يتساقط من الطبشور – الأتربة والمتبقي القليل من الطبشور – ونضع هذا المسحوق في آنبة صغيرة ونسكب عليها الماء ثم نطلي به احذيتنا الكتانية المتهرئة ، وفي الساعات الأولى ليوم العيد يتطاير هذا المسحوق غير المتجانس وتعود أحذيتنا لسابق حالها من القدم ، ولكننا لا نيأس فنعود الكرة نفسها لليوم التالي والذي يليه وهكذا ،ولنقل أن آبائنا أستطاعو أن يتدبروا اليسير من المال المقترض وحينها يقتادوننا نحو الخياطين أو الخياطات لأنجاز مهمة (الدشاديش) ، وبما أن هؤلاء الخياطون والخياطات لا يملكون ما يسمى (الأولجه) وهي مقياس متري يستعمله الخياطون ، وبما أنهم أميون فينظر الخياط للقادم اليه بطرف عينه معتمداً على فراسته في تقدير الطول والعرض وأطوال (الردانات) الأكمام وتسمى هذه الطريقة في الخياطة (راسها أبعبها)، ومن يملك الحظ الوافر تأتي (دشداشته) متطابقة مع تقدير الخياط ، وأن كانت أطول من مرتديها قليلاً فتعمد الأمهات لتلافي أخطاء الخياطون ، ومن كان حظه عاثراً تأتي (دشداشته) أقصر مما يتصوره الخياط ، ومع ذلك فهي منجز بل فتح طفولي لا يوصف ، وقد أرشفت لهذه الحالة بأبيات أقول فيها

معاميل الحزن فصل علينه أهدوم ماماخذ قياس وراسها أبعبه

أذا ثوب الحزن يطلع طويل أكصير تبادل ويّ أخوك وبالك أتذبه

نصحه أمن الصبر نلكه الحزن عالنار نغمسه أعله الهظم عالظيم ونشربه

وأيام العيد في الحلة الفيحاء قسمت لا أرادياً وأصبحت عرفاً يمارسه أبناء الحلة الكرام ، اليوم الأول لمغتسل نبي الله أيوب الذي يزعم الحليون أن الله أوحى لنبيه أيوب أن يمزج من ماء هاذين البئرين ويغتسل بمائهما فتعود صحته كما كانت ، وأقول يزعم لأن هناك الكثير من يدعي أن هذان البئران يقعان في مدنهم كالأردن واليمن مثلاً ، واليوم الثاني من أيام العيد يذهب المعيدون الى مرقد الأمام (عمران بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام) قرب مدينة أثار بابل التأريخية ، ورواية مدفن (عمران) ينقلها (أبن أبي الحديد المعتزلي) فيقول أن (عمران) جرح في واقعة (النهروان) وتوفي أثناء عودة (علي( ع) لمدينة (الكوفة) فدفن قرب آثار بابل ،واليوم الثالث لمنطقة (مشهد الشمس) ، وسبب تسميته مشهد الشمس الرواية التي ينقلها المؤرخون عن أن أمير المؤمنين علي (رض) فاتته صلاة العصر بعد تجهيز جنازة ولده (عمران) فأومأ لقرص الشمس بالعودة ليؤدي صلاته واٍستجاب له ربه في ردها عليه ، ولعدم أستيعاب هذا المكان للمعيدين فقد أستحدث مكاناً أخراً في منطقة (العتايج) نسبة للأمام العتائقي الملقب بأبي الخير ، في هذه المواضع التي ذكرتها تنصب المراجيح ودواليب الهواء ويسرج أصحاب الخيل والحمير حيواناتهم لتؤجر من قبل من يملك العيدية المجزية وليس نحن الفقراء الذين نذهب سيراً على الأقدام لهذه المناطق المعيدة والبعيدة ، وينتقل الباعة بعرباتهم صوب هذه المناطق طلباً للرزق الحلال وتلبية لرغبات المتبضعين (باقلاء ، لبلبي ، حامض حلو ، كركري ، ...... الملك ، وغيرها ) ، وما أجمل ذلك الصوت (شعر بنات وين أولي أوين أبات) ، وتأخذ امهاتنا معهن مايسد رمق أولادهن ، الأغنياء يجلبون (خبز اللحم ، الدولمه ) ، وامهات الفقراء يجلبن معهن (خبز العباس) وهو عبارة عن رغيف من الخبز توضع بداخله الخضروات الطازجه ، وما أصدق تلك (الجوكات) وهي تـَرقص (الجوبي) يتوسطهم رئيس (الجوكه) وهو يصدر أصواتاً شجية من (مطبكه) المعمول من قصب البردي والمغني يردد أغنيته (عالجوبي الجوبي الجوبي والحنه لا خت ثوبي) ، وينشأً لأبيات متقاربة بتفعيلتها مع هذا المستهل ، نهاية اليوم الثالث لعيد الفطر والرابع لعيد الأضحى أستن الناس لهم يوماً أخراً ليضاف لأيام أفراحهم سميً بيوم (الكسلة) ومكانه الساحة المجاورة لمرقد العلامة (أبن طاووس (رض) ، وهناك تمارس نفس ممارسات الأيام السايقة .

نهاية يوم الكسلة ولربما اليوم الأخيرللعيد تجردنا أمهاتنا من ملابس العيد الجديدة أو المصبوغة وتحفظ في (صرر) معدة كي نرتديها العيد القادم ، وفي اليوم التالي يردد الصبيان والصبيات أنشودة تقول (راح العيد وهلاله وكلمن رد على أجلاله) .