لماذا سقطت الثورات الاشتراكية؟ - دوي القطيع الرأسمالي في آذان
الاشتراكيين
صائب خليل
13 حزيران 2018
“لا حقد في العالم يشبه الحقد الذي يحمله
النخبوي على من «سرق» منه، أو من جدّه، أملاكه وامتيازاته.”
تشرح مقالة عامر محسن"زفرة ماو الأخيرة: عن الثورة الثقافية في الصين"
في جزئيها الأول(1) والثاني (2)، والتي تعتمدها هذه المقالة
مصدراً، نقطة مهمة جدا في تفسير هزائم التجارب الاشتراكية في بلادنا وفي العالم،
وبشكل اكثر اقناعاً بكثير مما تفعل النظريات "الرغبوية" التي يحاول دعاة
الرأسمالية تأكيدها، بأن تلك الهزائم دليل على "خطأ" أو "فشل"
النظرية الماركسية، دون محاولة تقديم توضيح لتلك العلاقة بين تلك النظرية وفشل
التجربة، والتي تبرر ذلك التفسير.
في مقالته القيمة واقتباساته،
يشرح عامر محسن كيف تعود المشاعر الفردية الكامنة، والتي تأسست في المجتمع
الرأسمالي، إلى البروز بين الافراد، وخاصة بين كوادر الحزب الحاكم، وكيف تجد
مصلحتها في "الطريق الرأسمالي"، لتصبح تهديدا خطيرا للثورة، وكيف ان هذا
التهديد ربما يكون المسؤول الأول عن فشل تلك التجارب، وهو ما يجب ان تحسبه أية
ثورة قادمة، إن كتب لها النجاح باستلام السلطة. فـ " لا يكفي أن «تنتصر
الثورة» أو أن تقيم نظاماً اشتراكياً حتّى تتحقّق العدالة أو الاشتراكيّة على
الأرض. التناقضات والتباينات في المجتمع لا تنتهي بمجرّد وصول طاقم حكمٍ جديد،
يزعم تمثيل «الطبقة العاملة»، ولو جاء أصلاً من بين صفوفها ونفّذ سياسات تقدمية
لوهلة. «المجتمع القديم» - يظلّ موجوداً بأشكالٍ كثيرةٍ بعد أن «تنتصر الثورة»،
مهما كانت راديكالية، وموروثاته وتقاليده لن تزول من العقليات والمجتمع قبل عقودٍ
طويلة- وليام هنتون.
"وانت قد عشت
طويلا بين هذا القطيع، ولسوف يدوي صوته مليّاً في داخلك" – نيتشه: "هكذا
تكلم زرادشت"
«المجتمع القديم»، يشرح
هنتون، يظلّ موجوداً بأشكالٍ كثيرةٍ بعد أن «تنتصر الثورة»، مهما كانت راديكالية،
وموروثاته وتقاليده لن تزول من العقليات والمجتمع قبل عقودٍ طويلة. ستظلّ، حتى في
«المجتمع الاشتراكي»، تمايزاتٌ في الفرص والحياة.. وسوف تتشكل هذه بأشكال «عقدٍ»
للمصالح داخل المجتمع وتتحوّل الى حوافز لتشجّع الفرديّة والمنافسة والانتهازيّة،
فالجميع سيفضّل أن يكون على الجانب الرابح من المجتمع؛ ليعود نظام الامتيازات هذا فيقسم
المجتمع قسمة «طبقية»، معيداً إياه إلى ما يشبه ما كان عليه قبل «النّصر» عام
1949: طبقة عاملة، هي فعلياً حشود الناس الذين لا تملك الامتيازات، وأخرى تسيطر
على الدولة والحزب باسم تمثيل الطبقة العاملة. هذا ما حاول ماو منعه بـ
"ثورته الثقافية". فيجب أن نتذكّر أنّ المقياس الأساسي لنجاح أي «ثورة»
هو في تأسيس العدالة، وليس في رفع مستوى الإنتاج أو أرقام النموّ، وهذا ما يجب أن
يكون المعيار الأساسي لتطوّر الأمور، وأن التسابق على النموّ والإنتاج، يصبح هدفاً
«عاجلاً» ومركزياً لأي دولة أو حركة لأسباب الحرب والتنافس العسكريّ .....
ويرى آلان باديو أن
الثورة الثقافية الصينية كانت أهمّ حدث سياسي في العقود الأخيرة، والتي طمست
بشعارات وصراخ عن «التوتاليتارية الشيوعيّة» و «أرقام ضحايا» لتجهيل الناس وردعهم عن
مراجعتها والاستفادة من دروسها.
ونلاحظ هنا أن ليس المقصود بـ «ثقافية» انها
متعلقة بالآداب والفنون ومجالات المثقّفين والكتّاب، بل إنّ معناها في الأصل
الصّيني هو «حضاريّة»، تتعلق بالأيديولوجيا وتحويل العقليات الموروثة وأشكال
السّلطة في المجتمع.
أهم عوامل البقاء
على قيد الحياة للثّورة عند باديو، هو ما يسمّيه قدرتها على أنجاز «الابتكارات
السياسيّة» لتكوين هياكل ديمقراطية جديدة للسلطة البديلة الوليدة التي امتلكتها.
فحين قام ملك فرنسا،
خلال أزمة مؤتمر 1789، بمنع ممثّلي «الطّبقة الثالثة» من الدخول الى قاعات «فرساي»
والمشاركة في المؤتمر، سارع النوّاب الى ملعب تنسٍ في القصر، ليقرّروا بأنّهم
أصبحوا «مجلساً وطنيّاً» يمثّل الشّعب، وأنهم سيقرّون دستوراً، فهذا الفعل مثالٌ
على «ابتكارٍ سياسيّ». حين قام الثوريّون الفرنسيّون، بعدها بقليل، بتعيين عمدةٍ
لباريس (وهو منصبٌ لم يكن موجوداً أصلاً)، وكومونة في المدينة، وتأسيس «حرسٍ
وطنيّ» في العاصمة، واعتبار أنّهم يملكون مصدر شرعيّةٍ يتيح لهم خلق هذه المؤسسات
ومعها مفهومٌ جديدٌ عن السّياسة، فهذا مثالٌ على «الابتكار السياسي» الذي يأخذك من
طورٍ تاريخيّ الى طورٍ آخر. كذلك الأمر في تشكيل مجالس "السوفييت" من قبل القوى التقدمية
المختلفة التي وجدت نفسها تقود البلاد، ونشرها في كافة أنحاء روسيا بعد سقوط
القيصر في مارس سنة 1917. ويرى عامر محسن أن نظريّة ولاية الفقيه في إيران، أنتَجت هي الأخرى مفهوماً
جديداً بالكامل عن الشرعيّة والسياسة ومصدر السّلطة، هي تحديداً ما جعل تجربة
ايران «ثورة»، بالعكس تماماً عن سرديّة مثقّفي طهران التي تعتبر أن ولاية الفقيه
قد «سرقت» الثورة منهم.
وهكذا طلب ماو من
الطلّاب والعمّال أن يتنظّموا بأنفسهم، في جامعاتهم ومصانعهم ومراكز عملهم، ومن
خارج الإطار الحزبي، وأن ينشئوا منظّماتهم وينتخبوا ممثليهم بأنفسهم وينتزعوا
السّلطة إن لزم الأمر، وهو ما يذكرنا بمحاولات الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي
لتقليد هذا الاتجاه، كما فعل غيره، ربما بشكل غير ناضج.
أعلن ماو أنّ
التجربة الاشتراكية في خطر وأنّ تصحيحها لن يكون الّا بثورةٍ داخليّة «من تحت»، لا
تخاف من النقد والمواجهة، وأنّ هؤلاء الطلّاب والعمّال اليساريين هم وحدهم من
يمكنه أن يمنع سقوط الصّين في يد (أمثال)«أنور السّادات». : انتخبوا ممثّلين
ومجالس عبر تنظيمٍ عفويّ، انشأوا كومونات وسيطروا على مدنٍ وجامعات وبلديات عبر
«وضع اليد»؛ اختبر العمّال مفهوم «الادارة الذاتية» وأصبحت تنظيماتهم هي التي تقرّ
السياسات وشروط العمل، وليس الكادر الحزبي أو مدير المصنع أو التعاونية، الذي جرى
كشف فساده وقسوته أمام الجميع، وفضحه وتقريعه علناً من قبل العمّال، بل وإهانته
وضربه في كثير من الحالات (يقول باديو إنّ «طقس الإهانة» هذا لم يكن أمراً عابراً،
بل هو مستوحىً مما كان يفعله الشيوعيون خلال الحرب، حين كان يتمّ استعراض الاقطاعي
السابق أمام فلّاحيه، الذين يسردون مظالمه وجرائمه في حقّهم، ويجري إذلاله وهو
يتوسّل العفو، قبل أن يعود «مواطناً» مثل غيره. حالة الكادر الحزبي هي كحالة
الارستقراطي، يحاجج باديو، لا يمكن للصيني العادي بأن يتغلّب على رهبته منه، وأن
يشعر بأنّه قد صار فعلاً مساوياً له وخارج سلطته، لولا هذا «الطّقس»).
انتشرت هذه الحركة
بسرعةٍ، بين 1966 و1967، من الجامعات الى المعامل (بعد أن كان الحزبيّون يأملون
بأن تظلّ حدثاً «طالبياً»، محصوراً في الحرم الجامعي)، ثمّ بدأت عمليّات
«الاستيلاء» على السّلطة والمصادمة، وهو ما توّجته الكومونة في شانغهاي. هنا، فهم
«المركز الحزبي» بأنّ لا أمل من احتواء الثورة وبدأ بمواجهتها. كانت للحزب ايضاً
قدرة تحشيدٍ كبيرة، بينما أنصار ماو لا يملكون سوى التنظيم الذاتي والحماسة. انشأ
جناح ليو ودِنغ ميليشيات لهم في الرّيف، وتنظيمات عمّاليّة مناصرة للقيادة
الحزبية؛ واجهوا الحرس الأحمر وقاموا ايضاً بـ«الاستيلاء» على مصالح ومدن، وقد وصل
التصعيد الى أقصاه خلال المواجهة في ووهان وغيرها، حين بدأ عدد الضحايا بالتصاعد
وأصبحت الحرب الأهلية احتمالاً قائماً.
كشفت الثّورة
الثقافيةً الصينية، فيما كشفت، عن صعوبة التصدّي لهيمنة فكرة «الطريق الرأسمالي»
بين النخب الحاكمة، حتّى في بلدٍ «اشتراكي». وفي الصين، تمكن الجانب المقابل من
احتواء انفجار الثورة بعد اقل من سنتين (1966 – 1968) وتحويلها إلى حرب خنادق
مستقرة بين الجانبين، لتستمر عقداً من السنين فيما يشبه الحرب الأهلية.
كان ماو يريد
لمؤيديه وللجماهير، عبر الثورة، أن يكسروا احتكار الحزب للسياسة، فأعطى الثوريين
إذناً بتشكيل تنظيمات (وسلطات سياسية) على نحوٍ حرّ طالما أنها ديمقراطية ومنتخبة.
ولكنه اشترط أن لا يكسروا الحزب نفسه، فاتّخذ اليمين «المركز الحزبي» متراساً،
وأوصل الثورة الى طريقٍ مسدود.
ووفق الباحث وليم
هِنتون، كان الحزب الشيوعي الصيني، فعلياً حزبان تكوّنا في وقتٍ متزامن: الأوّل،
ويتزعّمه ماو، كان الحزب «العلني» في المناطق المحرّرة، وكان يحكم أقاليم ويحشد
الفلّاحين، ويقيم سياسات اصلاح زراعي وتعاونيات وتصنيع (والكثير منها كان ناجحاً
للغاية)، وهذا الحزب كان له طابعٌ «بروليتاريّ». أما الحزب الثاني فهو حزب ليو
ودِنغ، فهو «الحزب السريّ» الذي يعمل بين المثقفين والناشطين المسيّسين خاصة في
المدن الكبرة كشانغهاي وكانتون.
ومع تحوّل الثّورة
الصينية الى سلطة، ومع تحوّل «الطليعة» الحزبية الى نخبة حاكمة، كان المسار
الطبيعي للأمور هو في أن يزداد حجم جناح دِنغ وليو ونفوذه تدريجياً، وأن يتحوّل
الماويّون الى أقليّة. الفاسدون وأصحاب الامتيازات يتكاثرون على طريقة الزومبي،
فكلّ فاسدٍ يحوّل خمسةً من حوله الى شيءٍ يشبهه، وهو ما لم يكن متاحاً للجانب
المقابل. هذه النّخب لا تكتفي بتعزيز مواقعها وصفوفها، بل تذهب الى حدّ تخريب أيّ
بديلٍ اشتراكيّ ومقاومته حتّى يبدو «الطريق الرأسمالي» هو الوحيد والمنطقي بالنسبة
الى العقلاء. ويلاحظ عامر أن هذا كان تحديداً، سلوك الكثير من النخب التي أشرفت
على هدم الاشتراكية في بلادنا: نشر الفساد ووقف الاستثمار في القطاع العام، حتى
تصبح الدولة والاشتراكية في أذهان الناس نظيراً للفشل والحرمان وانعدام الفعالية. وفي
النهاية، سأم أكثر الصينين من اضطرابات «الثورة»، فاستقبلوا ضرب اليساريين وتتويج
دِنغ من جديد وعودة الاستقرار، بارتياحٍ. وهكذا فأن الامبراطورية الصينية، بتراثها
البيروقراطي الممتدّ أكثر من عشرين قرناً، تمظهرت على شكل حزبٍ وانتصرت في نهاية
الأمر.
وقد يقول قائل أن
ما حققته الصين اليوم، لا يبرر تشاؤم هنتون وباديو، وقد يكون لهذا الاتجاه في
التفكير بعض الحق، لكن الأمور أيضاً ليست كما تبدو من الخارج، فالفوارق الطبقية اليوم
شديدة في الصين، ومازالت تعتمد في اقتصادها إلى حد بعيد على انخفاض أجور عمالها،
كما أنها تبدو مشلولة أمام النزف المستمر لثرواتها بتحمل حصة كبيرة من نتائج طبع
الدولار، ولا تمتلك استقلالية مالية تقيها ضربات الازمات وتطمئنها على مستقبلها
وسيادتها.
يكتب عامر، أن الردّة
التي تنبّأ بها ماو، وحاول منعها في بلاده، قد جرت علينا واكتسحت نخبنا منذ زمنٍ
بعيد. دعك من الحكومات التّابعة، بحلول السبعينيات، وفي أغلب الأنظمة العربيّة
«الثورية» (أي مصر وسوريا والعراق)، كانت السلطة قد سقطت بشكلٍ محكم في أيدي نخبٍ
تشبه تماماً مثال ماو عن «أصحاب الطريق الرأسمالي»: ليبراليون اقتصادياً ومع
الإصلاح والانفتاح بدلاً من هدف بناء الاشتراكية، مقتنعون ــــــ على عكس جيل
الخمسينيات ــــــ بأنّ الاشتراكية الى هزيمة على مستوى العالم وأن الرأسمالية
ستنتصر، ويحاولون التقرّب من الحلف الغربي وفتح علاقاتٍ معه. هذه «الردّة»، التي
لم يكن هناك من صادٍّ لها، هي الجذر الحقيقي لأكبر هزائمنا ولتفكيك بلادنا
وتدميرها منذ ذلك الزمن، وإغلاق كوّة الأمل أمام الشعوب والفقراء على هذه الأرض.
كما في الصّين أيام الثورة الثقافية وما بعدها، هناك في بلادنا «أصحاب طريق
رأسمالي»، وطبقة تكنوقراط طفيلية، وأرستقراطية وأحفادها، وهؤلاء جميعاً يتوافقون
على كراهية من رفع راية الاشتراكية في وجههم يوماً ولا يكلّون عن تعميق قبرها، حتى
بعد عقودٍ على فشلها واندثارها.
السياسة السودانية..
ظلّت ــــــ لعقودٍ ــــــ مسكونةً بهاجس عودة الشيوعيين لأنهم وصلوا يوماً الى
الحكم وخلقوا عندهم «صدمة» وردّة فعلٍ عنيفة ضدّ اليسار. الكراهية المرضية التي
تكنّها النخب المصريّة لعبد الناصر وما يمثّله، والتي لا تموت أو تخفت مع الزمن،
ولا تجد مثيلاً لها تجاه السادات الذي أذلّ مصر وأفلسها، أو حتّى حاكم مصر الحالي....
"هنا في بلادنا، أنت لا تواجه (أمثال) ليو ودِنغ،
بل أحفادهم الفاسدين، الذين أصبحوا أكثر ثراءً وفوقيّة وشراسة، ولن تكفينا اليوم
ــــــ إن أردنا القيامة من حالتنا ــــــ «ثورةً ثقافيّة» على منهج ماو، ناهيك عن
«ثورة بورجوازيّة» على الطريقة الغربية، بل سنحتاج الى ما هو أشدّ وأعنف بكثير."-
عامر محسن.
إلى هذا يجب ان يضاف عامل "الاحتلال" الشديد الأهمية
في حالة العراق، فاليمين الفاسد يعيش تحت حمايته، وعلى اية "ثورة" أن
تحسب حسابه أولاً، فهو يقبع كعنكبوت هائل على البلد ويخترق كل المؤسسات السياسية والعسكرية
ومعظم الدينية، وبشكل خاص، الإعلام، الذي يقوم بنجاح بتوجيه بوصلة الشعب إلى
"الخطر الإيراني"! فما يصلح لتحليل الصراع في الصين أو في بلدان مستقلة
نسبياً، قد يساعدنا على فهم العالم والتاريخ والفرص الضائعة للشعوب، لكنه لا ينفع
كثيراً في فهم الحالة الحاضرة. ففي البلد المحتل، لا تعود المشكلة مشكلة دوي قطيع
"الرأسمالية" في إذن الثوري الاشتراكي، بل في واقع لا يجرؤ أي تيار فيه
بأن ينطق كلمة "إشتراكية".
(2) عامر محسن"زفرة ماو الأخيرة: عن الثورة الثقافية في الصين"،
الجزء الثاني