الخميس، 26 أكتوبر 2017

تثنية الذات؛ حين يكتب الفنان-*محمد كريش










تثنية الذات؛ حين يكتب الفنان

خاص- ثقافات

*محمد كريش

– ورد هذا النص في كتالوغ معرض جماعي نظمته جمعية الفكر التشكيلي بدعم من وزارة الثقافة المغربية تحت شعار: ” تصاديات -ألوان وكلمات-“. وذلك برواق باب الكبير الرباط. بتاريخ 15 دجنبر 2015. كما يتضمن النص إضافات.

        في محاولتنا الحديث عن موضوع  “الفنان/الكاتب”، سنقتصر على مقاربة كتابة الفنان في المجال التشكيلي في بعده النقدي حصرا، ولن نتناول كتابته في الحقول الإبداعية الأخرى كالشعر والقصة والرواية،  إلى غير ذلك من أجناس الكتابة. كما أننا سنقتضب الحديث عن تجربتنا الشخصية المتواضعة في السياق نفسه.

         ولضيق ومحدودية المساحة الورقية المتاحة، وتعدد محاور المناقشة، لن نسهب  في تفصيل وتعميق الحيثيات المختلفة  للموضوع،  ولن نتوسع “فكريا” فيها وفي أبعادها المتنوعة، حيث يشكل هذا الأخير مجالا بحثيا شاسعا متشابكا  متعالق العناصر. وفي نفس المنحى، نعتقد أن البحث يستدعي الفنان- باعتباره منتجا وناقدا للتشكيل- للحديث عن كتابته عن نفسه (فنه) وعن فن غيره، إن الحديث عن الذات الإبستيمية (ذات الفنان  أو ذات غيره) في المجال التشكيلي وغيره من المجالات  الإبداعية الأخرى، سيفضي حتما إلى تعدد مستويات وزوايا المقاربة، حيث  تبقى مساراتها وطبيعتها  مرتبطة  بتموقع “المتكلم/الفنان” ضمن  تلك المقاربة، ومرتهنة بها بشكل حاسم، حيث ستتنوع طبيعتها وتختلف اتجاهاتها باختلاف “الموقع الجغرافي” للفنان ضمن تلك المقاربة. فرؤية الفنان (كمستقرئ ومستكشف منفصل) أي في وضعية تواجه وتقابل مع ‘المادة الموضوع’، بمعنى تقابل الذات الإبستيمية مع ذاتها كمادة بحثية، تكون مختلفة عن رؤيته وهو يشكل مع موضوعه  ‘وحدة عضوية’. حيث سيتكلم حينئذ عن الإبداع من جوف الإبداع، أي من قعر تجربته. وعليه؛ فاختلاف التموقع  يقتضي اختلافا في الأدوات المنهجية والإبستيمولوجية، وفي الجهاز المفاهيمي …إلخ. وفي حقيقة الأمر، هذا الطرح  يشكل موضوعة مرتبطة بالسوسيولوجا عامة، وبـ”سوسيولوجية الفن” خاصة[1]. ذلك أن العلم وبما فيه الفن التشكيلي ( ليس نسقا واحدا ووحيدا، بل هو ظاهرة اجتماعية متغيرة عبر التاريخ الإنساني، ويتدخل في هذا، العوامل الخارجية: الثقافية والحضارية والاجتماعية والأيديولوجية )[2].

          يشكل الفعل الفني كما الفلسفة، رابطين مباشرين  مع الأشياء والحياة،  يتحريان الإمساك بحقيقتها وماهيتها ومبهماتها عبر تجلياتها وتفاعلاتها الوجودية وتمظهراتها الصورية في الزمان والمكان، هنا، يتكفل الفنان والفيلسوف باستجلاء  تلك الحقيقة واستشفافها. فالفيلسوف، العقل  نوره  ومعوله الوحيد في تنقيبه عن تلك الحقيقة ، أما الفنان فيفوقه استلهاما ووجدانا وحدسا في ذلك. ولا غرابة أن يكون الفن أوثق المناطق وأغناها وأزخرها إلهاما وتحفيزا للفلسفة والفلاسفة ومنطلقا للتفكير وإطلاق التفلسف…

الفنان هو الماسك بالخيط التواصلي الدقيق واللامتناهي، بين الحياة وأشياءها من جهة، وبين ‘الإنسان العقل’ من جهة أخرى. حيث يتمكن المتلقي عبر ذاك الخيط من الانتقال والعبور من حيز الحجاب إلى حيز الرؤية المباشرة لعوالم الممكنات، عوالم “ما ورائيات ” المرئيات أو ‘الأعيان’ كما يسميها المتصوفة. ويحاور صورا وأفكارا مستشرفة لواقع جديد  ووضع أرحب وأجمل، يهبهما الفنان وحده.  وبالتالي ينتقل المتلقي من  ‘زمكانية  البصر’  إلى ‘زمكانية البصيرة والاستبصار” أي معاينة مخفيات ومتاحات الأشياء وممكناتها، باعتباره  مستكشف ومستقرئ  لمُستقْرَئِ الفنان ( أي رؤيته)، حيث هنا يبقى الفنان هو المتفرد   بتلك القدرة الحدسية على تجاوز دثر وحجب المظاهر المباشرة وسطحياتها، وهو الحامل كذلك للملكة والموهبة “الممتنعة” الفائقة في استشراف الممكنات الكامنة في خلفية الأشياء والحياة والأحداث، وذلك من خلال  إدراكاته الوجدانية والفكرية المستلهمة ، ليعيد  صياغتها من جديد (فنيا وتشكيليا)  عبر تمثلات تصويرية رؤيوية  مفعمة  بفيض  من الدلالات والإيحاءات التعبيرية،  معطاة للاستقراء البصري والذهني، باعتبارها نصا سرديا بصريا  تتواشج  في طياته بحور من  المعارف والعلوم  والأسرار والرموز…

       إن فعل التشكيل وإبداع المادة البصرية بتجلياتها المختلفة، يتبلوران ضمن دورة نسقية تفاعلية مغلقة، ويتأسسان انطلاقا من فلسفة “الهدم وإعادة البناء” على أساس تفكيك المركب وتركيب المفكك، وذلك حسب قولٍ جيل دولوز-Gilles Deleuze إزاء عملية الإبداع. فيكون فعل التشكيل إخراجا للبصري من حيز الذهني والفكري والمتخيل إلى عالم المُبْصَرات والحسيات. وعليه، يمكن القول أن البصري التشكيلي ينبثق  ويتفتق عن الفكري ويبقى تابعا له، ويتحدد فحواه ومضمونه به وعنه. وبالتالي  يمثل البصري تماثلا للفكري ومرآة له، وذلك عبر مصوغات  وتوليفات نسقية  أيقونية (أو غير أيقونية)  بوصفها مادة إبداعية  معطاة للمعاينة وللتفكير والتسامي الوجداني…

        وعلى هذا المنوال يعتبر الفنان ‘صائغا وحرفيا ‘،  يقوم  بتسجيل وجدانياته  واستنباطاته الفكرية والفلسفية ، وفي الوقت نفسه،  ينسج  ويحوك  تمثلاته الرؤيوية. حيث الشكل واللون والضوء، والخامات وأشياء أخرى، تشكل  المواد الأساسية في ذلك،. إذن؛ عملية التشكيل الفعلية باعتبارها ‘حدث تشييء وإنجاز وتشخيص’ لا تنفصل بتاتا عن حدثي التفكير فيها وتمثل معالمها ذهنيا. وفي هذا السياق، ليس هناك من منجز فني ومنتجة  يمكنها أن تسلك مسلك الاعتباطية وتتسم بالعشوائية إلا اعتقادا وظنا منا. والحقيقة، أن كل عمل إبداعي – أيا كان- لابد أن يجد  فحواه وجدواه ضمن بيئة اجتماعية سوسيوثقافية أو منظومة فنية معينة تؤهله للاحتواء والاعتبار والاستقطاب وبالأحرى بيئته. حيث أن قيم الجمال ومقوماته الفنية والفلسفية تختلف باختلاف البيئات التي أنتجتها وشكلتها وتبلورت في كنفها. وبالتالي لا مجال هنا لإصدار الأحكام القيمية. فكل تجربة جمالية وفنية إنسانية لها قيمتها وقدسيتها ضمن حيزها الجمالي المخصوص بها وضمن البعد التاريخي الإنساني.

          ولا شك في أن  دور الفنان يتمثل أساسا في كونه صائغا ومنتجا للمادة الجمالية، المفتوحة على  التفكير والتحليل،  وبالكاد هو الواضع الملهم  للمحفزات البصرية  لينخرط  العقل في تلقيها وسبر أغوارها واستجلاء مخفياتها، وفك شفراتها ورموزها ودلالاتها لإنتاج الفكر والمعرفة والنظريات… والنماذج الإرشادية الناظمة.

          ولكن يمكن لدور الفنان – من حيث هو حرفي- أن يمتد إلى آفاق الإبداع الفكري والفلسفي ويتحول فيه إلى مفكر وفيلسوف ( فيلسوف ينتج المفاهيم  الفنية التشكيلية و يبتكر الأنساق الفكرية الإبداعية ). كيف لا؟! والفنان الحقيقي الخالص – في واقع الأمر وبطبيعته المبدعة والمبتكرة- يمارس حتما  دونما انقطاع “فلسفة” الوجود والعدم، وإثارة أسئلة الحقيقة والإنسان، والوهم والخوف، والزمن والفضاء…إلخ، وذلك من خلال إعمال التأمل الفكري والجمالي، وإطلاق الخيال والحلم. كما التحليل والتفكيك وإعادة التركيب: أي صياغة وابتكار الجديد واللامألوف. فيتميز الفنان وحده ويتفرد دون غيره ب “فعل الإيجاد والاستحداث” واستخراج “اللامرئيات” إلى حيز الإبصار، كما يقوم ب” تشييئ” الأفكار والمعارف والوجدانيات وتأهيلها للمعاينة البصرية العامة والخاصة… بمعنى يبتكر آفاقا جديدة للحياة والحلم والأمل والمعرفة والتذوق الجمالي.

        الكتابة تقتضي وتستلزم القراءة، والقراءة يُسْتَجْلَبُ بها: العلم والمعرفة والإدراك المحيط، كما الوعي بسببية الأشياء … وما إلى ذلك. وعلى هذا المنوال، هو كذلك “الفنان الكاتب”. يتحرى فهم الأحداث والحياة والأشياء…

        قد يتخطى الفنان حيز إنتاج المادة البصرية إلى حيز القول عنها وفيها،  فيكتب في الفن وعنه، ويقارب أسئلته الكبرى الفكرية والفلسفية والفنية والتقنية والجمالية والقيمية… إلخ، فيخوض بشكل متواز ومتزامن  تجربتين وغنيتين- معرفيا وفنيا وفلسفيا وجماليا –  ترتبطان بقطبي معادلة التواصل وهما : “الإنتاج والتلقي” بمعنى ” الرسالة ما بين المرسل(المنتج) والمرسل إليه ( المتلقي/ المستقبل )”  عبر التفكر والتدبر والتمعن، وعبر القراءة الواعية في الفن ومعالجته منهجيا. وعبر سبر متاهات التبصر في ماهيته الفلسفية، ومآلاته الوجودية والمعرفية والحضارية، فيتعقب الفنان “الكاتب” بالبحث والتحليل والدراسة الإشكاليات والارتدادات الفكرية والجمالية بمستوياتها وبتجلياتها المختلفة، التي تتــفتق عـــن حــــدث الإبداع والخلق لدى الفنان، وينخرط كذلك ضمن قلق التنقيب عن أسرار ” الميكانيزمات الخفية و الماورائية” الفاعلة والمشكلة لجوهر فعل “الخلق” هذا( وليس للديني ولا للروحانيات دخل في كلامنا هذا كله)، والبحث عن حقيقة  الدوافع  الناظمة والكامنة خلف  ظاهرة فاقة الإنسان وحاجته الماسة للتعبير عن كينونته من خلال ديمومة ممارسة الإبداع : الفنون عامة والتشكيل خاصة.

         وحيثما  تمحور وتمركز اهتمام الفنان على مستوى المقاربة التشكيلية ( بمعنى: أكَتَب عن فنه أو عن فنون غيره) لا ينفك عن كون ذلك عملية  للتفكير والتحليل والكتابة عن الفن ، باعتباره  ظاهرة  إنسانية وجودية ومعرفية وسوسيوثقافية…إلخ. وتتبلور هذه الظاهرة ضمن التفاعل الارتدادي بين الفنان كفرد وكموضوع “إبستيمي”، حامل ومنتج  لقيم المعرفة الجمالية والتقنية، وبين بيئته كـ”جماعة” باعتبارها موطنا للاستقبال والاستقراء. وبالتالي، فإنهما يشكلان (الفنان وبيئته) الركائز الحيوية لـ”ماكينة إنتاج وتدوير الفن ومعرفة الفن”، في إطار دينامكيةِ وجدليةِ المفاعلة التراكمية بينهما، وذلك ضمن دورة نسقية تطورية  تتسم ب”اللانهائية” – في الزمان وفي المكان- وتستمد ديمومتها من تعاقبية الأحداث وتحصيلاتها المعرفية والفنية بشكل عام.

         فالكتابة عن الفن هو انخراط  في  “إبستمولوجيا الفن” باعتبارها نشاطا يتمحور حول البحث في الفن  كمادة معرفية وعلمية. وهي كذلك امتداد  لـ”ممارسة التشكيل”  بلغة وأدوات أخرى، غير تلك الموظفة في المراسم والمحترفات، فتستهدف التفكير والبحث  في منظومة التشكيل والإبداع  بغية  فهم مقوماتهما وحيثياتهما المتنوعة، حيث مؤدى ذلك كله  تشكيل القواعد والمرتكزات العلومية الضمنية للفن: كالتقنيات الإجرائية والعلميات والمنهجيات والنظريات الأدائية…إلخ، ومن جهة أخرى، ابتكار وصياغة رؤى ومفاهيم جديدة تتعلق بالشق المعرفي والفلسفي والسوسيوثقافي والسيكولوجي… لفعل الإبداع والفن.

وفي هذا الاتجاه – وعلى مستويات عدة – يكون الفنان هو الأوفر حظا وكفاءة، والمؤهل – بامتياز- للتحدث – في وعن – فنه، انطلاقا من كون المنتوجة  قائمة بفعله، ومن كونه كذلك، الناشئ  والمهندس لها والعارف بدقائقها، إضافة إلى كونه الأوحد، الذي له الإمكان بأن يقاربها من داخلها، متموقع في جوفها كظاهرة معرفية. وفي النهاية، يمكن الخلوص إلى القول بأن: “صانع الشيء، هو أكثرهم أهلية للكلام عنه. وقد  أشار إلى هذا المعنى  ‘جاك ديريدا’  في قولٍ له حول الترجمة و”جيل دولوز” في حديث له حول الفن التشكيلي … وحسبنا في التدليل على ما نقوله ما ورد عن فنانين كثر من أقوال وكتابات  تتضمن آراء وأفكارا حول أعمالهم وتجاربهم، وكثير ما شكل بعضها  مرجعيات ومبادئ مفاهيمية وفلسفية ترتبط بالفن ومنظومته. من أمثال الفنانين: أوجين دولاكروا. بول سيزان، فان كوخ، فاسيلي كاندانسكي، بابلو بيكاسو، مارسيل دوشان، أنطوني طابييس. فرانسيس بيكون.. وغيرهم.

وفي نفس السياق، واستنتاجا لما أوردناه، يمكن الجزم بأن الفنان- على المستوى التقني بالخصوص- يتبوَّأ الصدارة  في مقاربة وتحليل عمله الفني، والوقوف عند دقائق تمفصلاته، وبنائه الصباغي. حيث هنا، لن يتحدث الفنان عن منجزه – كالفيلسوف- متكئا على “الجهاز الفكري التجريدي، والافتراض والاستنباط…إلخ.” والذي تقوم عليه الفلسفة عامة. بل من حيث كونه حرفيا وصانعا، ممسكا بناصية عمله. عالما بماهيته المادية وبكل مراحل بناءه وجزئيات تكويناته، وكيفية تركيبه وتشكيله…إلخ، وذلك على مستوى اللون والشكل والضوء والحركية والنتوء والتواري الموادي… إلى غير ذلك.  وبالكاد، هنا تتدخل وتنشط المعارف والعلوم الفنية والتقنية، كما الدربة والتجربة الميدانية  المتوافرة  لدى الفنان دون غيره.. مما يؤدي به  في النهاية إلى الإحاطة المعرفية الشاملة بالمصوغة الفنية. ومفاد ذلك أن رؤية الفنان للوحة (على سبيل المثال لا الحصر) متميزة، حيث  تختلف تماما عن رؤيتها من غيره، وذلك لاختلاف شروط الرؤيتين. إذ أن حزمة من الشروط المعرفية والتقنية متوافرة  لدى الفنان، لكن منتفية عند غيره…  وكما سبق أن ذكرنا في أكثر من موضع، أن هناك مستويان لرؤية العمل الفني/التشكيلي: رؤية “عارفة” وهي رؤية الفنان، ورؤية “غير عارفة” وبالأحرى مستكشفة، وهي الرؤية الغيرية (هنا عارفة وغير عارفة بالمعنى التقني والتشكيلي الموضوعي).

         فكلما كتب الفنان عن تجربته الذاتية في التشكيل، ورام التوغل عميقا في مساراتها وحيثياتها ومنطلقاتها…إلخ، يجد نفسه مستدعيا لمقاربة حدثين متعالقين بشكل عضوي ووجودي تكاملي، حدثين  متوازيين يشكلان في حقيقة الأمر،  أُسَّ عملية الإبداع، هما: حدث التفكير في’ فعل الإبداع’ وحدث ‘فعل الإبداع عينه’، بمعنى عملية الإنجاز وإخراج المبدعة إلى الوجود. وبالتالي هناك ممارسة ذهنية تشمل التفكير في الإبداع  تحصل  قبل ومع عملية الإنجاز وموازية لها. فالحديث عن حدث التفكير يعني للفنان الحديث عن طريقته في بناء تصوراته المخيالية إزاء مبدعاته ومبتكراته، وكيفية مقاربتها فكريا وفلسفيا قبل الشروع  في إنجازها. ولا شك في  أن  الكتابة عن ذلك يشكل عاملا معرفيا إضافيا يصب بالتأكيد، في تسهيل فك شفرات عمله حين استقرائها عموما. مما  يوسع آفاق  إدراكها وفهمها وتذوقها لدى المتلقي…

وبممارسة الفنان الكتابة يكون، بلا شك، يمارس جنسا آخر ثان من التعبير والتواصل، جنس له مقوماته الذاتية ومرتكزاته الناظمة له والمخصوصة به. واللغة، ( كما هو معروف في العلوم اللسانية) المنطوقة منها (أي الكلام ) والمقروءة (المكتوبة)، على حد سواء، تتميز بقوة وطاقة لا حد لها من حيث  التعبيرية والتواصلية، والتوصيلية للأفكار والمعارف والمشاعر والصور…لا يوازيها في ذلك – باعتبار الفارق- غير الفن التشكيلي والموسيقى والمسرح والسينما والرقص… وتفوق بعضَها أحيانا، من حيث نجاعتها التبليغية وسلاستها، وفاعليتها التأثيرية وثراء معجمها الوظيفي…لكن مع ذلك، في حيز وعند حد ما ، تتقلص وتتلاشى المؤهلات التعبيرية للغة  وينكمش المدى التعبيري والتواصلي لديها  فتتوارى منكفئة  لتفسح المجال واسعا  للفن ليتكفل بالحدث التواصلي المعرفي والثقافي والتاريخي والرمزي… إلخ. فهناك حضارات غابرة تعرفنا عنها حصرا من خلال شيفراتها الفنية لا اللغوية.

 تنضاف، إذن، اللغة بكل طاقتها وبما لديها من قوة شحن الأفكار والمعارف، إلى “التعبيرية التشكيلية”، فيمتلك الفنان حينئذ وسيلتين لتوصيل “عوالمه ومحمولاته ومقاصده” وتأطيرها فكريا ومعرفيا وإعلاميا…إذ لا يجب إغفال حقيقة أن ‘الكتابة عن الفن’ توثيق وتأريخ للفن، وبالتالي تشكل – ضمن البعد التاريخي- مكونا من المكونات المرجعية المعرفية المخصوصة  بـ”أنثروبولوجية الفن”…

         هناك ثقافتان: ثقافة: ‘الذاكرة وتدوير المحتوى’، وهناك ثقافة: ‘التفكير والبحث’، أما الأولى  فتقوم على استعارة  المحتويات واستيرادها وإعادة إنتاجها واستنساخها، ولا تقيم بذلك مجتمعا علميا لأن ( المجتمع العلمي يكون موجودا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي وتقدم له الخصائص التي تميزه، وإذا انعدمت التقاليد الوطنية في البحوث لا يبقى سوى كمية من المعلمين وتجمع من التقنيين )[3]. أما الثانية  فعمادها التفكير والبحث في الأشياء مما يؤهلها  للاكتشاف والابتكار والإبداع، وبالتالي إنتاج العلم والمعرفة ، وهكذا؛ الأولى تتكلس وتتحجر، وتشيخ  وتضعف وتتقوقع،  أما الثانية،  فتتطور وتتوسع   وتتكثف وترحُب آفاقها… كذلك هو حال الفن، فن  يعتمد على التقليد واستنساخ  معالم  فنون غيره  لن تقوم له  قائمة، ولن  يعول عليه، و حقيقته أنه  ليس فنا وإنما جثة  فن. فالموت لا ولن ينتج الحياة، وفاقد الشيء لا يعطيه.  الفن الحقيقي، المفعم والنابض بالحياة والحيوية، هو ذاك الذي نتج  ذاتيا من رحم بيئته/مجتمعه حيث نبت وترعرع  في كنفه وحضنه، وتغذى منه وفيه. ويشكل جزءا ذاتيا منه … من خلال هذا الفن وفيه،  تجد الذات نفسها وهويتها فيتحقق معناها، وعبره ترتبط بالأشياء والحياة وبالوجود والتاريخ والمعرفة…. هو وعاء للحلم  والآمل والمشاعر، ومرآة  لآلام  وأحزان الناس. هو كذلك استشراف للمستقبل والممكنات والمتاحات، وهو الفن الذي  يقاوم العدم  ويتصدى للنسيان، يفتح آفاقا جديدة أكثر رحابة وامتدادا، وأزخر وأكثف فكرا ومعرفة… وخيالا.

         وكما أن الفن وجود، وكشف عن الحقائق والمعرفة والممكنات، والأسرار والمتعة و”الجمال” ، وعبور لآفاق الجديد…  يمكنه كذلك أن يشكل بوتقة  للمنافي  و دوامة  الاغتراب  وتغييبا ومحوا للذات واستنزافها، ومسرحا للوهم والألم. كلما كان فنا مصطنعا غير أصيل منتحَلا و منتحِلا هجينا. دخيلا على الذات وعلى الهوية والثقافة الأصلية…

         فليس هناك أعظم مأساة  قد تصيب حضارة أو ثقافة ما، من أن تلتمس ذاتها  في ذات غيرها وتبحث عنها في الآخر وعنده. وبالأحرى ذاتها الفنية. لأن الفن – كما سبق قولنا فيه –  هو هوية، والهوية لا تُسْتورد ولا تُسْتبدل،  إنما تكون أو لا تكون. وبذهابها  ترحل الذات الثقافية والحضارية،  ومعها  تاريخها وذاكرتها،  فتنقرض وتنتفي ليلتهمها في النهاية، العدم والنسيان…

– (نماذج من أعمال تشكيليين مغاربة. “من اليمين إلى اليسار”: عبد الكبير ربيع، محمد القاسمي، فريد بلكاهية، طلال شعيبية، محمد المليحي.)

        إذا ما حاولنا التحدث عن تجربتنا الشخصية بخصوص المزاوجة بين التشكيل والكتابة فيه. دون شك، لن تخرج عن السياق العام لما أسلفناه من قول ومن تحليل في الموضوع وتصب في صميمه. وذلك ضمن طاقم واسع  من المهتمين والباحثين في حقل التشكيل، حيث تتنوع مراجعهم وخلفياتهم   الفكرية والعلمية بتنوع مشاربهم. فالمنظومة التشكيلية العربية عامة، والتشكيل المغربي خاصة، يشكل لنا مجالا بكرا خصبا للبحث والتنقيب والتفكير ما زلنا نستقصي عن حقيقة  منطلقاته ومرتكزاته الفنية والثقافية وأصوله الحضارية والاجتماعية…، ونبحث في بواعثه ونواظمه الفكرية والنظرية، ضمن السياقات والمسارات العامة الحالية للثقافة والفن بالمغرب، (وبالأحرى في العالم العربي)، ومدى ارتباطاتها بالتراث الفني والجمالي المحليين من جهة، ومدى ارتباطاتها بالتراث الفني والجمالي الغيري و بالخصوص الغربي منه، من جهة أخرى. كما نتبين مدى تعالقهما مفاهيميا ونظريا وتقنيا وتأثريا…إلخ، استشرافا لأبعاده ومُتَاحاته، وأفاقة  ومآلاته في إطار العولمة وفي إطار فكرة القومية الإنسانية الكونية. وفي إطار العقيدة الفلسفية الفنية والمفاهيمية التي يقوم عليها الفن المعاصر…

           وما فتئنا نبحث كذلك في الإشكالات والإشكاليات المستعصية المرتبطة بسؤال الهوية بكل مقتضياتها وحيثياتها المتعددة. وبين التأصيل والاستيراد، وبين الإبداع (بمعنى الابتكار والاختراع) والتدوير والاستنساخ، وبين الاستقلال والمحاكاة والانتحال، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الأنا والآخر… وهي أسئلة  قديمة تطفوا من جديد – ملحة – ، مُشَكِّلَةً محور النقاشات الفلسفية والسوسيوثقافية والاجتماعية والسياسية المحتدمة عالميا، حول الذات والتبعية الثقافية، وحول الاستلاب، والثرات، والتاريخ، والاقتصاد… إلخ. وحسبنا  في الإشارة لبعض من تمظهرات ذلك، التطرفات الإيديولوجية الحادة والعقائدية والإثنية… التي يشهدها العالم حاليا في كل الميادين والمجالات الحيوية.

                و نستعرض سؤال امتداد الأنا في الآخر وامتداد الآخر في الأنا، وسؤال الخصوصية الفنية للفعل التشكيلي المغربي في منظوره العام ، وسؤال قضية  الحقيقة  ومدى  الحضور أو الغياب للإنسان المغربي  في الفعل الفني التشكيلي الراهن،  وما الأثر الثقافي التشكيلي التراكمي في ترصيد الثقافة التشكيلية في المجتمع المغربي، وما قراءات المجتمع  للفن التي يعلنها في ثقافته التشكيلية وتشكل سلوكاته الجمالية والتي يتضمنها التشكيل المغربي نفسه؟ … أسئلة تؤرقنا جميعا نبحث فيها – كمنخرطين فعليين – عبر الكتابة عن الفن والمعاينة والتجريب والإنتاج.

إن الممارسة التشكيلية المحلية والعربية عامة، ما تزال تخوض مرحلة التأسيس والتقعيد في نظرنا رغم زخم الفعل لأن ذلك يتطلب عقودا  من الجهد والعمل الجاد والدءوب، (على غرار تاريخية الفنون الغربية كما أشار إلى ذلك   الفيلسوف برتراند روسل إزاء التشكل الطويل للعصر الحديث الغربي، في مؤلفه: حكمة الغرب)، لأن القضية ترتبط  أساسا بتشكيل ‘العقل/الفكر/العقيدة’  ولا  تكتفي ولا تنحصر فقط  في القشرة والمظاهر ، ذلك  إن على مستوى  الإنتاج أو على مستوى النقد والتنظير. حيث لن يتأتى ذاك  النضج المنشود وتكتمل هويته من دون نضج  واكتمال تلك المقومات الأساس ( أي الإنتاج والنقد والتنظير)، ونضجها  واكتمالها يقتضي بيئة عالمة  وواعية بالفعل الفني وقيمته.  فضلا عن ضرورة  توافر حزمة من العوامل والشروط  المرتبطة بما هو اقتصادي وسياسي و”لوجيستي”، وبما هو مؤسساتي وتربوي، وبما هو تنظيمي وإطاري…إلى غير ذلك. فالفن التشكيلي كما العلم ( غير قابل للاستيراد ولا ينطلق ويتوهج إلا في الإطار الحضاري المواتي )[4].

                 والحالة هذه، يبقى مجال التشكيل المغربي يستدعي الفنان كما الناقد – وبإلحاح شديد- للانخراط  فيه بالبحث والمقاربة العلمية والفلسفية، كما التفكير في إشكالياته الراهنة الملحة، والكتابة عن الفنانين وعن تجاربهم المتميزة وتوثيقها مما يساهم في بناء وإغناء فضاء فني  تفاعلي اجتماعي، يؤسس لذاكرة تاريخة فنية محلية على أساس العلمية والمنهجية البحثية.  ويمكن الإنسان المغربي،  من تشكيل ثقافة بصرية فنية وترسيخ الذوق والحس الجماليين ، استشرافا لتفاعل عارف مع التشكيل المغربي المعاصر…

                                                                                                     وتبقي الكتابة عن الفن  رافدا إبداعيا  لإفساح  المجال للذات المبدعة أن تقول كلمتها عن نفسها، وتفصح عن رأيها ومشاعرها إزاء منتجها باعتبارها ذات متلقية مستقلة، وكما تبحث عن وجودها في فعل التشكيل، وتطويه في متاهات اللوحة (مثلا) ، من جديد، تتلمسه وتبحث عنه في نفس المكان، غير أن المسارين مختلفان، والوجد وجدان،  كما أن أدوات التنقيب ليست نفسها: فمسار الفعل يستدعي اللون والرسم… ومسار الكتابة يستدعي غيرها: الحرف والكلمة.

            وممارسة الكتابة كالتشكيل، هي تصد  للعدم  ومقاومته بالأثر، وفي نفس الوقت، وعكس ذلك، هي تخليد لأثر النسيان والغياب والخوف. لأن الأثر (الصورة، العلامة…) تشي دائما  بحضور غائب، و تشي في نفس الآن، بغائب لحاضر. لكن،  الحضور والغياب  بعدان أنطولوجيان  يندرجان  في  ‘زمكانيتين’  مختلفتين، ويقرءان  بتوأمي النفي والإثبات الوجوديين.

وكما أن الفن وعي واستشراف، هو كذلك مواقف من الحياة والأشياء، والأحداث والناس، ومواقف من الفن نفسه، ومن الذات ، وهو كذلك مسؤولية أخلاقية إزاء التاريخ والمعرفة والإنسان…، كذلك هي الكتابة  عامة، وفي قمتها الكتابة عن الفن/النقد الفني، إن لم تكن كتابة مسؤولة تحمل همَّ التشكيل في أحشائها، ومنشغلة فعليا بشؤونه وإشكالياته الفنية والمعرفية والفلسفية…إلخ، وباحثة في اشتشراف متاحاته المستقبلية وممكنات تطويره وتحيين منطلقاته بما يؤهله للطلائعية والجدة والجودة. إنما هي كتابة غير مسؤولة مصابة بالعقم والعمى، وضرب من الاستيهام الثقافي،  لا تثمر ولا نتاج لها، وقد تكون وبالا عليه ومفسدة له،  تستنزفه بقدر ما تهدمه، وهكذا تشكل الكتابة عن التشكيل توأما له، تتأذى به كما يتأذى بها، وينضج ويتوهج  بتوهجها, هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة تختل مشروعيتها باختلال أحدهما…

              الحياة تستمد طاقتها وديمومتها من غريزة الخوف: الخوف من العدم. من آلة الموت… وبالتالي حقيقة الفنون/الإبداع هي مقاومة لحتمية الموت والفناء ، وتأكيد لحدثية  الكون والوجود… هناك حضور مادي  لحضارات ومعنوي وتاريخي لأناس،  يتسم  بأبدية الاستمرار، يخترق الزمن والمكان بفضل آثار فنونهم وإبداعاتهم. وأكيد كذلك، أن هناك أشخاصا وأقواما وُجدوا، عاشوا ثم رحلوا؛ وبالكاد لا، ولن نعرفهم كونهم لم  يتركوا أثرا يؤشر لوجودهم…

 إن الأثر وجود، وهو في الآن نفسه ضرب من أضراب الحياة، حياة مستمرة متصلة لا انقطاع يشوبها، حياة لا تكترث بحدود الأزمنة وأمكنتها تنساب ممتدة بامتداد التاريخ وذاكرته الغائرة…

الكاتب والفنان مبدعان،  يشكلان بامتياز صائغين للأثر، حيث تكتنزان  ذاتاهما سر ديمومة الوجود وإعادة وتثبيت  ذاكرة الأشياء وأحداثها يمدونها بقوة الخلود…
___________
*

     فنان تشكيلي من المغرب

[1] يمكن التوسع في هذا  الشأن رجوعا إلى نظريات العالم السوسيولوجي: ألان تورين  Alain Touraine  في دراسة الذات للذات عند خروجها عن الذات.

[2]  د. يمنى طريف الخولي، نحو توطين المنهجية العلمية في العالم الإسلامي … رؤية فلسفية، عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مج 43، العدد2، 2014، صص.: 119 ـ 178.

[3]  د. رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، العدد12، ص.ك 434.

[4]  د. يمنى طريف الخولي، نحو توطين المنهجية العلمية في العالم الإسلامي … رؤية فلسفية، مرجع سابق، صص.: 119 ـ 178.

الأحد، 15 أكتوبر 2017

الألوان المائية خواصها المميزة جماليتها وصعوباتها-صائب خليل

الألوان المائية خواصها المميزة جماليتها وصعوباتها
صائب خليل
13 ت1 2017
قالت احدى الممثلات الغربيات يوما: "المرأة التي لم تعرف العديد من الرجال، لا تعرف أي رجل". والفكرة من هذه العبارة التي تثير الابتسام بلا شك، هي ان من يعرف نوعا واحداً من أي شيء، فإنه يفتقد فرصة "المقارنة". ومن هنا أريد ان أقول ان الرسام الذي يرسم دائما بنوع واحد من الاصباغ يفتقد المقارنة بينها. وبما ان المقارنة أداة أساسية لمعرفة الشيء، فمن لم يستعمل في حياته إلا نوعاً واحداً من الأصباغ، فسوف يفوته الكثير من ميزات وخواص حتى النوع الذي تخصص به.
لم اعرف هذه الحكمة إلا مؤخراً للأسف، وربما بالصدفة، وبعد سنوات (متقطعة) من استعمال الألوان الزيتية دون غيرها، قررت تجربة الأكريلك، ثم قررت تجربة الألوان المائية، واكتشفت من خلال هذه التجارب العديد من خواص الألوان الزيتية التي لم انتبه لها.

أريد هنا ان اتحدث لكم عن الألوان المائية، ليس كخبير بها، بل كمجرب جديد يتلمس طريقه اليها عن طريق التجربة والخطأ. فما هي الخواص المميزة لهذه الأصباغ؟ على أي شيء يجب ان ينتبه الرسام الذي يستعملها، وعلى أية نقاط يجب ان ينتبه مشاهد اللوحة المائية؟

تتميز الألوان المائية أولا بالشفافية الكبيرة مقارنة بغيرها. وتتميز أيضا بالحساسية الشديدة و "عدم التسامح". لكنها بالمقابل، تقوم بنفسها برسم معظم اللوحة لك! فبمجرد أن تضع فرشاتك على الورق وتسحبها يرسم الماء مساحة ألوان منتظمة الكثافة نسبيا ومحددة بشكل دقيق ما لم تكن انت تريدها غير محددة. كما تمتزج الألوان بشكل جميل (غالبا) سواء بخلطها بالفرشاة، أو حتى على الورق، لتعطي تنوعاً لونيا مدهشا وشفافية تسر العين.
لكن كما قلنا، فالمائية تريد منك مقابل هذا ألا تخطأ! فالألوان المائية هي الأقل تسامحا من بين جميع الأصباغ. وفي الغالب فأنك لا تستطيع تصحيح ضربة فرشاة خاطئة. وهذا على العكس من الزيت والأكريلك، حيث يمكنك ان تخطأ كما تشاء (تقريبا) ثم تصحح خطأك. فالماء في الرسم المائي، يغير من طبيعة الورقة تحته، ولا تعود تتقبل الضربة التالية للفرشاة بنفس الطريقة التي استقبلت بها أول ضربة. ومن هنا أيضا حساسية واهمية نوع الورق المستعمل في الرسم المائي. ويجب على من يريد ان يبدأ تجربة الألوان المائية أن يبحث في الانترنت عن الورق المناسب والطريقة المناسبة للتعامل معه لكيلا يتموج بتأثير الماء وتضيع اللوحة.
ضربة الفرشاة في المائية، ضربة واحدة غالباً، خاصة إن اردت رسم شيء محدد. الأوراق في هذا الرسم، رسمت، او يفترض ان ترسم بضربة فرشاة واحدة لكل ورقة! ولتحقيق ذلك يجب ان تستخدم فرشاة سميكة ذات رأس مدبب. توضع الفرشاة على الورقة ليرسم الجزء المدبب من الفرشاة، راس الورقة، ثم تضغط الفرشاة وتسحب ليزداد سمك الورقة تدريجيا، ثم ترفع الفرشاة تدريجيا أيضا لتتقلص الورقة إلى شكلها المميز!
في هذه اللوحة الصغيرة جربت أكثر من نوع من الفرش، أحداها كانت مقصوصة بشكل مائل، واعطت نتائج مرضية جدا، لكنها كانت حساسة جدا أيضا لأي خطأ.
ولأن المائية "ضربة واحدة" فيجب ان تكون متأكداً ليس فقط من اللون المناسب، وإنما أيضا كمية الصبغ التي ستكون في الفرشة والتي ستحدد قوة صبغة الضربة، وكذلك كمية الماء التي تسحبها في فرشاتك. كمية الماء لا تحدد فقط كثافة الصبغة، وإنما ايضاً شكل الحافة ومدى حدتها وتعرجها، وإن كانت هناك مساحات مجاورة لم تجف بعد، فسيكون هناك امتزاج للألوان يجب ان تكون راغبا به.. الخ.
أما بالنسبة للوردة نفسها، فالإشكاليات مختلفة قليلا، وأكثر صعوبة. فهنا، إضافة إلى الحافات الحادة الضرورية، من المهم ان تترك الألوان تمتزج بشكل جميل ومنسق، باستخدام كمية أكبر من الماء، وببعض الحرية، ولكن دون ان تخرج عن سيطرتك!

يجب ان لا يستنتج من هذا ان رسم اللوحة المائية "فلم مرعب" لوحش يتربص الأخطاء، بل يجب، وبعد كسب بعض الخبرة، أن نصل في النهاية الى الاستفادة من إمكانيات الألوان المائية لرسم لوحاتها بنفسها، ليصبح الأمر أقرب الى اللعب مما هو إلى العمل الدقيق الحريص والقلق. وفي كل الأحوال، لا مفر من ان تزخر كل لوحة ألوان مائية بالعديد من المفاجآت السارة وغير السارة، والخبرة وحدها هي من سيزيد إمكانية الرسام من رسم المفاجآت الجميلة وتقليل الأخطاء المزعجة.

من الطبيعي ان هناك طرقاً مختلفة ومتباينة للرسم بالألوان المائية مثلما في بقية الألوان، لكن الرسم الجيد في رأيي هو الرسم الذي يستفيد من الخواص المميزة للأصباغ التي يستعملها الرسام، وأن تكون تلك الاصباغ هي الأنسب والأكثر ملاءمة وسهولة لتنفيذ طريقته في الرسم، وليس لأنه لا يستعمل سوى نوع واحد من الأصباغ، او أنه تكاسل عن استبدالها أو أي سبب اعتباطي آخر. فاللوحة المائية يجب ان تكون "مائية" حقاً، لا يمكن رسمها بألوان أخرى دون ان تفقد الكثير من جمالها.

أترككم مع هذا الرسم المائي التجريبي مع دعوة لاكتشاف الأخطاء التي حصلت، وبشكل خاص، أين كان الرسام مضطرا إلى إعادة الضربة أكثر من مرة، وكيف تركت تلك المحاولة آثارها السلبية على الرسم... وقتا ممتعا.



الأحد، 1 أكتوبر 2017

اعمال جديدة للفنان غالب المسعودي










اعمال جديدة للفنان غالب المسعودي مستوحيات من كلاص اللبن حليب مبستر وكامل الدسم ومدخن بعد اشتر دون وساخت ان كوزمو بوليتان


الخميس، 21 سبتمبر 2017

السريالية… فلسفة الحرية-*هاشم صالح

السريالية… فلسفة الحرية

*هاشم صالح

ليس من السهل تبسيط النظريات الفلسفية المعقدة كالدادائية والسوريالية، ولكننا سنحاول ذلك. ومعلوم أنهما ظهرتا وراء بعضهما البعض في بدايات القرن العشرين، بل كانت الثانية بنت الأولى وامتداداً لها. فلا سريالية من دون دادائية. ولكن ما معنى هذه المصطلحات الهجينة والغريبة على الأذن العربية؟
لقد ظهرت الحركة الدادائية عام 1916 في مدينة زيوريخ بسويسرا على يد الكاتب تريستان تزارا. وكانت في البداية عبارة حركة عبثية فوضوية في مجال الفن والأدب عموما. وقد تشكلت بشكل عفوي أو عشوائي كرد فعل على مجازر الحرب العالمية الأولى. ومعلوم أنه سقط فيها ملايين البشر بين قتلى وجرحى ومعطوبين ومقعدين. ولذلك شعر الكتاب الأوروبيون بالغضب العارم تجاه هذه المذبحة الكبرى وقرروا الخروج على المألوف ومعارضة كل التقاليد الشائعة في المجتمع الأوروبي للتعبير عن غضبهم وتمردهم. فهذه التقاليد هي التي أدت إلى الكارثة في نظرهم. وبالتالي فيحق الخروج عليها. وهنا نلتقي بمشكلة العلاقة بين السياسة والثقافة. فكما أن المثقفين العرب هاجوا وماجوا بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) فإن مثقفي أوروبا جن جنونهم أيضا بعد مجزرة الحرب العالمية الأولى.
ولذلك قرروا الخروج على العقلانية الكلاسيكية في الأدب والفن لأن العقل لم يستطع أن يمنع اندلاع الحرب وقتل ملايين الشباب الأوروبي في معارك طاحنة وعبثية في آن معا. هذا هو الباعث الأول لتشكيل الحركة. وقد سموها «دادا» بشكل عشوائي أيضا لأنهم عندما كانوا مجتمعين في مقهى «فولتير» بزيوريخ فتحوا القاموس هكذا لا على التعيين فوقعوا على كلمة «دادا» فسموا حركتهم بها. وبالتالي فالعملية كلها اعتباطية أو عبثية من أولها إلى آخرها. ولكن العبثية تحتوي أحياناً على شحنات تحريرية هائلة. العبثية هنا تعني الفوضى المبدعة الخلاقة. وهذا ما كانوا يبتغونه. فليس بالعقل الصارم وحده يحيا الإنسان. العقل أحيانا قد يعني الاعتقال. ولذا فإن شطحات الخيال الجنونية أكثر ملاءمة للإبداع الأدبي من العقل الناشف أو العقلانية الضيقة. إنها وقود الشعر والنثر على حد سواء. ويوميا قد تحتاج لأن تعيش، ولو لثوان، لحظات سريالية، مرتفعا فوق سطح هذا الواقع الكئيب الباهت. شكراً إذن للشطحات الخيالية، شكرا للحظات السريالية.
المهم أن هؤلاء القوم قالوا في بيانهم التأسيسي إن الحركة الدادائية تهدف إلى التحرر من كل القيود المرهقة والأعراف الاجتماعية الامتثالية. إنها دعوة للانطلاق والحرية في الكتابة الأدبية أو الرسم التشكيلي أو أي تعبير آخر عن الواقع والوجود. وقالوا إن عبثية الحرب العالمية الأولى ينبغي أن تقابلها عبثية أخرى على صعيد الأدب والفن. والواقع أن الحركة الدادائية كانت عبارة عن رد فعل على قيم الحضارة الغربية بمجملها.
وهي قيم ترتكز على أساس العمل في المصانع من الصباح إلى المساء، وعلى النظام الصارم بل وشبه العسكري لهذا العمل بالذات. وقال مؤسسو الحركة إنهم قرروا الإضراب عن العمل والعيش بشكل هامشي والتسكع في الطرقات والدروب والعيش في الحانات. وهكذا ثاروا على المجتمع البورجوازي بكل قيمه الراسخة وأصبحوا يجدون الجميل قبيحا والقبيح جميلا على طريقة بودلير أو رامبو. ألم يقل رامبو في ديوانه الشهير فصل في الجحيم: «لقد أجلست الجمال على ركبتي ووجدته مريرا وشتمته»؟ ألم يعبر بودلير عن «أزهار الشر» أفضل تعبير؟ ألم ينزل إلى الطبقات السفلى للجحيم؟
وبالتالي فالحركة العبثية أو الفوضوية في الفن والشعر ظهرت قبل الدادائية وتجد جذورها عند رامبو المشهور بأنه كان أكبر متمرد وأزعر في التاريخ (هذا إذا ما استثنينا لوتريامون الذي فاقه جنونا وعبثية). وبالتالي فالحركة الدادائية هي في الأصل حركة تبحث عن الانعتاق والحرية. إنها مفعمة بالتمرد على كل شيء. ولكن هذه الحركة لم تدم طويلا، والشاعر الفرنسي أراغون يعتبر أنها انتهت بعد خمس سنوات من تأسيسها أي عام 1921 – 1922. ثم أردف قائلا إن قصائد تريستان تزارا أسكرتني وأنعشتني طيلة حياتي كلها.
وبعد موت الدادائية جاء دور السريالية التي كانت استمرارية لها مع بعض التوسيع والتنويع والتعميم. والواقع أن السريالية كانت هي الأقوى والأكثر رسوخاً وانتشاراً في العالم. فلا يزال هناك أدب سوريالي أو فن تشكيلي سوريالي حتى الآن. في حين أنه لم يعد هناك أدب دادائي.
لقد انتهى عهد ترستان تزارا وجاء عهد أندريه بريتون الذي أسس الحركة السريالية في باريس عام 1924: أي بعد موت الحركة الدادائية بسنتين فقط. فقد نشر في ذلك العام البيان السريالي الشهير الذي لا يقل خطورة عن البيان الشيوعي. وفيه يقول ما معناه إن السريالية تعتقد بوجود واقع يتجاوز الواقع الحالي الذي نراه ويتفوق عليه. إنه واقع ما فوق الواقع (وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية باللغات الأجنبية). إنه واقع الحلم والشرود الذهني والتوترات النفسية اللاواعية بذاتها.
وهذا الواقع الذي يتجاوز الواقع هو ما كان السابقون قد تجاهلوه وأهملوه. وبالتالي فإننا نكتشفه من جديد ونعيد إليه الاعتبار. والكتابة ناتجة عن هذا الواقع العُلوي، واقع الحلم والهيجانات النفسية وليس الواقع العقلاني الذي نراه أو نصطدم به كل يوم. بمعنى آخر فإن السريالية تعبر عن الوعي الباطني العميق لا الوعي الظاهري السطحي.
لهذا السبب خلع أندريه بريتون المشروعية على الكتابة الأتوماتيكية التي تسرح وتمرح، لا رادع لها ولا وازع. وهي كتابة حرة، منفلشة، تسير على هواها من دون قيود أو حدود. إنها الكتابة التي تفلت من سيطرة العقل الواعي الذي يشبه الشرطي المسلط فوق رأسك من حيث المراقبة والقمع. والعقل الواعي الجمعي هو العقل الامتثالي السائد. إنه العقل الإرهابي للمجتمع الذي جنن فان غوخ ودفعه إلى الانتحار دفعا. انظروا لكتاب أنطونين آرتو: «فان غوخ، منحور المجتمع». ومعلوم أن آرتو ذاته جننه المجتمع أيضا. بل وجنن عباقرة آخرين عديدين. المجتمع أحيانا قاس لا يرحم.
على هذا النحو راحت الحركة السريالية تشق طريقها وتسيطر على الأجواء الأدبية والفنية الباريسية طيلة العشرينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي. بل وأصبحت موضة دارجة لا يخلو منها أي عمل فني أو ديوان شعري أو كتابة أدبية أيا تكن. فبيكاسو في مجال الفن التشكيلي كان سرياليا أيضا أو قل مر بالمرحلة السوريالية قبل أن يتجاوزها إلى مدارس أخرى. وقل الأمر نفسه عن سلفادور دالي الذي كان يجسد الجنون الكامل في الرسم والفن. وقد أطلق لمواهبه وبواعثه الدفينة العنان وأنتج لوحات سريالية رائعة لا تزال تدهشنا حتى الآن.
والواقع أن السريالية تعني في أحد معانيها تحرير الطاقات الدفينة الكامنة في أعماقنا والمقموعة من قبل المجتمع الذي نعيش فيه. وهذا هو أجمل معنى للسريالية. فالمجتمع يمنعنا من الانطلاق، من التعبير الحر عن كل ما يجول في خاطرنا بحجة أنه نجس أو شاذ أو مجنون أو غير طاهر أو لا أخلاقي، الخ. السريالية تقول لنا: تحرروا من كل ذلك، عبروا عن أنفسكم، انطلقوا، لا تترددوا في كتابة حتى الأشياء المخجلة التي قد تخطر على ذهنكم حتى ولو صدمت المجتمع. نعم إن الموقف السريالي هو موقف تحد تجاه المجتمع. نعم إنه يهدف إلى تحرير الطاقات المخزونة والتعبير عن أشياء ما كان أحد يتجرأ على البوح بها سابقا وفي طليعتها الأشياء الجنسية.
هذا وقد اعتمد السرياليون على مرجعيات أدبية وشعرية كبرى تعود إلى القرن التاسع عشر من أجل تدعيم حركتهم الفنية الجديدة. ومن أهم هذه المرجعيات الشاعر جيرار دونيرفال الذي مات مجنونا بل ومنتحرا في عز شبابه. شنق نفسه على عمود كهرباء في ساحة شاتليه وسط العاصمة الفرنسية. ومعلوم أنه خلّف وراءه كتابات رائعة يختلط فيها الحلم، بالذكرى الوهمية، بالجنون. وربما كان هو أول من اخترع مصطلح السريالية أو بالأحرى ما فوق الطبيعية. فقد كان يعتقد بوجود عالم آخر غير هذا العالم الطبيعي الواقعي الذي نعيش فيه. إنه عالم ما فوق طبيعي أو ما فوق واقعي. إنه عالم يقف وراء هذا العالم مباشرة. ثم تبنى السرياليون أيضا شاعرا منبوذا جدا هو: لوتريامون.
ومن مرجعيات السرياليين أيضا الشاعر الكبير آرثر رامبو الذي دعا إلى تغيير الحياة. ومعلوم أن ديوانه المدعو «بالإشراقات» مليء بالأشعار الغامضة والصور المتفككة التي تعبر عن اختلاجات الوعي الباطني والتي تخرج على منطق المعنى المتماسك كليا. بمعنى آخر فإنه ديوان لا معنى له أو يصعب أن تعثر فيه على معنى متماسك. من هنا جاذبيته التي لا تضاهى.
ومن مرجعياتهم أيضا فرويد بالطبع لأنه اكتشف منطقة اللاوعي: أي تلك القارة السحيقة والمظلمة من أعماق الإنسان. بل ومن مرجعياتهم كارل ماركس الذي قال: «من قديم الزمان والفلاسفة مشغولون بتفسير العالم، وقد آن الأوان لتغييره». وبالتالي فالحركة السريالية هي حركة ثورية راديكالية على كل الأصعدة والمستويات: أي على صعيد التعبير الشكلي، واللغة، والأسلوب، والفن التشكيلي.
كما أنها ثورية على مستوى الأفكار والمضامين. ولهذا السبب جذبت إليها شعراء كبارا ليس أقلهم رينيه شار، وأراغون، وبول ايلوار، وسواهم عديدين. بل وحتى السينما أصبحت سريالية.
ثم انتقلت الحركة الباريسية إلى شتى أنحاء العالم. فهناك سريالية فرنسية وألمانية وروسية بل وحتى عربية… الخ. هذا وقد عشنا لحظات سريالية كثيرة في باريس أيام زمان. وساعدنا ذلك على التحرر من القمع الشرقي الرهيب الذي كان يلاحقنا ويمنعنا من الانطلاق والانعتاق. تحررنا من تربية ذلك الشيخ المتزمت المظلم الذي كان عبقرياً في فن القمع والكبت والإرهاب. هل سنمضي عمرنا كله في محاولة التخلص منه؟
____
*الشرق الأوسط

السبت، 16 سبتمبر 2017

كتاب علمي جديد للدكتور غالب المسعودي اخصائي جراحة الوجه والفكين

عن دار الصواف بابل –دمشق القاهرة- سيصدر كتاب علمي جديد يتناول كسور الانف ومركباته وهو جزء من رسالة الدكتوراه في هذا المجال, يأتي الكتاب بواقع 120 صفحة ارت معززا بالصور للعمليات التي اجريتها والى ما توصل اليه البحث الجراحي الحديث من حلول لبعض التحديات التي يواجها الجراح معززا بروسم بيانية.

الاثنين، 11 سبتمبر 2017

كيف تقف بوجه قوة أكبر منك؟ 1- مبدأ الشطرنج الثلاثي-صائب خليل

كيف تقف بوجه قوة أكبر منك؟ 1- مبدأ الشطرنج الثلاثي
صائب خليل
10 أيلول 2017

كيف يحمي كلب الراعي قطيع الغنم، من الذئب؟ يوما سألت أبي:
-        بابا هل الكلب اقوى من الذئب؟
-        لا بابا.. الذئب اقوى بكثير.
-        إذن كيف يحمي كلب واحد قطيعا من الخراف من الذئب؟
-        الذئب يستطيع ان يقتل الكلب بسهولة، لكنه يخشى ان يعضه الكلب ويجرحه قبل ان يستطيع قتله. فالذئب يعلم ان جماعته سيقتلونه ويأكلونه إن رأوه مجروحا.
لقد حفظت "الدهشة"، هذه المحادثة في ذاكرتي لنصف قرن، لكني أتساءل اليوم: كيف نصف "الاستراتيجية" التي يتبعها هذا الكلب في موقفه الشجاع والمحسوب في نفس الوقت؟

تعرفون جميعا لعبة الشطرنج، لكن ربما لم تسمعوا بـ "لعبة الشطرنج الثلاثية" حيث يتصارع ثلاثة لاعبون، يحاول كل منهم أن يقضي على رسيليه. فما الذي يضيفه وجود اللاعب الثالث من تأثير على الصراع بين الطرفين الآخرين؟ ما هو الفرق الاستراتيجي للعب الذي يجب ان نبقيه في بالنا عندما ننتقل من لعبة الشطرنج الاعتيادية إلى الثلاثية؟
في لعبة الشطرنج المعتادة نحافظ على قطعنا سالمة قدر الإمكان ونضرب قطع رسيلنا. ونحن نقبل بسرور أن نضحي بقطعة من قطعنا مقابل قطعة للرسيل، إن كانت قطعة الرسيل اقوى. فأنا كلاعب الشطرنج يسعدني أن أضحي بفيل (قيمته 3 نقاط) إن كان ذلك سيتيح لي أن "أكل" رخ رسيلي (قيمته 5 نقاط)، لأني سأخرج متفوقا بفارق نقطتين.
لكن وجود لاعب ثالث، سيخرب هذا المبدأ الأساسي، لأن اللاعب الثالث “المتفرج” الذي لم يمس جيشه بأذى، صار بفضل هذه المضاربة، اقوى منا نحن الاثنين: صار أقوى مني بثلاث نقاط لأن جيشي نقص فيلاً، وأقوى من رسيلنا الآخر الذي خسر رخاً، بخمس نقاط!


ما هي الاستراتيجية السليمة إذن في الشطرنج الثلاثي؟: أن تترك اللاعبين الآخرين يتقاتلان وأن تكون "اللاعب المتفرج"! فمهما كانت نتيجة الصراع فستكون انت الرابح الحقيقي! الجميل في هذه اللعبة أنها الأكثر شبها بالحياة، حيث يشمل الصراع في الحياة أكثر من طرفين دائما. ولا شك انكم ستكتشفون سريعا، امثلة تاريخية عديدة لتطبيق مثل هذه القاعدة في السياسة الدولية. فصعود الولايات المتحدة إلى قمة السيادة في العالم قد تم بـ "دستين" من الشطرنج الثلاثي، كان الدست الأول هو الحرب العالمية الأولى، والدست الثاني هو الحرب العالمية الثانية. وفي كلا الدستين، تركت الولايات المتحدة الأطراف الأوروبية تطحن بعضها البعض، بل قامت بدعم الطرفين احياناً، ولم تدخل أي من الحربين إلا بعد ان تم ذلك وصار ضروريا لها ان تدخل لتكون مشاركة مباشرة في المكاسب، بأقل الخسائر الممكنة.

لقد تصور الحلفاء، أنهم ربحوا الحربين، لأنهم انتصروا على المانيا. ولو كانوا يلعبون الشطرنج الاعتيادي لكان تصورهم صحيحاً، لكنهم لم ينتبهوا لوجود "اللاعب الثالث" المتفرج، الذي كان يضحك في سره من ذلك الانتصار الفارغ. فقد خرج لوحده بجيش سليم واقتصاد سليم، وكان يملك أكثر من نصف المنتوج الصناعي العالمي واكثر من نصف رأس المال في العالم، وفرض شروطه على الجميع بمن فيهم "حلفاؤه" فاجبر اكبرهم على التخلي له عن نصف حصصه النفطية الأجنبية والآخر عنها كلها تقريبا، إضافة إلى شروط أخرى على المهزومين و "المنتصرين"، جعلت منه سيد العالم بلا منازع.

وقد نجحت الولايات المتحدة في ان تكون "اللاعب الثالث"- المتفرج المنتصر- في مرات أخرى عديدة حين استفادت من الخلاف الصيني السوفيتي فيما بعد. ولم يقتصر ذلك على منافسيها في السلطة على العالم بل استعملت ذات السياسة حين دعمت صدام حينا وإيران حينا آخر، لإدامة الحرب بينهما أطول فترة ممكنة وإنزال اشد الضرر بكليهما.

"اللاعب" النبيه، لا يكتفي إذن بحساب مكاسبه وخسائره أمام الطرف المقابل فقط، بل يراقب تأثيرها على توازن قوته امام اللاعبين الآخرين غير المشاركين في الصراع! وهذا يدفعه إلى التزام استراتيجية "تجنب الصراع" قدر الإمكان، حتى مع من هو أضعف منه.


كيف يمكن للاعب الأضعف ان يستفيد من هذه الحقائق؟ هذه هي النقطة المركزية لهذه المقالة: أن اللاعب الأضعف حين يدرك أن الاستراتيجية الصحيحة للأقوى هي "تجنب الصراع"، فإنه يستطيع ان يستغل تلك الورقة لصالحه في دفاعه عن مصالحه!
تلك الورقة، هي ما يستخدمه كلب الراعي حين يواجه الذئب ويمنعه من الهجوم على الخراف. الذئب يكشر عن انيابه مهدداً، لكن الكلب لا يرتعب بل يرد بالتكشير عن انيابه أيضاً، ولسان حاله يقول: "أعلم أن انيابك اشد وأنك قادر على قتلي، لكن أنظر أيضاً إلى انيابي فهي تكفي لإصابتك بجرح. انت تعلم جيدا أن قتلي لا يعني انتصارك إن جرحت. لا مصلحة لك في هذا، وخير لك ان "تتجنب الصراع" وتذهب جائعا من ان تذهب جريحاً".

إنها محادثة يفهمها الذئب تماما، كما يفهمها الكلب، ويفهم كل منهما أن الآخر يفهمها، فالعلاقة بينهما تمتد لملايين السنين من التجارب والتفاهم. لذلك فغالباً ما تنتهي المواجهة بانسحاب الذئب، مؤجلا حلمه بالطعام إلى فرصة أخرى مع قطيع راع ليس لديه كلب يفهم اللعبة.
في المرة القادمة عندما ترى حيوانا أكبر ينسحب أمام حيوان أصغر، لا تتصور دائما ان الأكبر كان جباناً. إنه يفكر بالمدى البعيد ويعمل باستراتيجية "تجنب الصراع". والأصغر يدرك ذلك ويستغله. إن كل قط محاصر يكشر عن انيابه ويقلص ظهره أمام الكلب الذي يحاصره، إنما يفعل ذلك بالضبط.
إنها أيضا ذات المحاورة بين أميركا وكوريا الشمالية اليوم، والتي قد نتعجب من جرأتها على التحدي، كما نتعجب من تردد اميركا بضربها. لكن كل من أميركا وكوريا الشمالية تفهمان لغة الشطرنج الثلاثي حيث تقول الأخيرة لها كما قال الكلب للذئب: "تستطيعون إفناءنا.. لكننا سنصيبكم قبل ذلك بجرح سيكلفكم كثيراً ويخفض فرصكم لسيادة العالم. ستقضون علينا، لكنكم ستكونون أضعف أمام الصين وروسيا وربما أوروبا واليابان، فماذا استفدتم؟". إنه ببساطة "الردع النووي" الذي جاعت كوريا من أجل الحصول عليه وتحملت إيران نجاد الحصار من أجله، لأنه يقفز بخسائر "المنتصر" الى رقم كبير يفوق اية مكاسب محتملة من تلك الحرب. ولهذا السبب بالذات تعمل اميركا وإسرائيل المستحيل لكيلا يتاح لدولة عربية او إسلامية أو أية دولة تنتهج نهجاً مستقلا، أن تحصل على السلاح النووي. ليس خشية ان تستعمله هذه الدولة في هجوم عليهما، فهما يستطيعان القضاء عليها فوراً، إنما خشية أن يستخدم للردع بالتأثير على حسابات الربح والخسارة. فأميركا وإسرائيل إنما يهدفان إلى حماية "حريتهما في العدوان" على اية دولة قد يرغبان في احتلالها او اخضاعها مستقبلا.
كيف نفسر دخول أميركا بعض الحروب إذن؟ في الشطرنج لا تستطيع إضافة قطع الرسيل التي تضربها إلى قطعك، أما في الحروب فهذا ممكن، لذلك يمكن ان تكون الحروب "مربحة" للمنتصر، بشرط إن يكون الفارق بين المتصارعين كبيرا جداً. وتساؤل القوي الذي يفكر أن يبدأ حرباً، ليس "هل سأنتصر في الحرب أم لا" وإنما هو: "هل سأربح شيئا من هذه الحرب أم اخسر؟".
وفي الوقت الذي كانت استراتيجية الشطرنج الثلاثي دائما، هي "تجنب الصراع" فأن استراتيجية الحياة هي "تجنب الصراع مالم يضف شيئا إلى قوتي". وهذا هو بالضبط ما يدل الجانب الأضعف، على استراتيجيته المناسبة. فالأضعف حين يعي تساؤل الأقوى وما يخشاه، فسوف يصحح السؤال الخطأ الشائع: "هل أستطيع الانتصار عليه؟" وهو سؤال تعجيزي لا يؤدي إلا الى الاستسلام، ويتحول إلى السؤال الصحيح: "هل أستطيع أن اجعل خسائره أكبر من أرباحه؟". وهي مهمة أبسط كثيراً من الانتصار على القوي. فكل ما على الضعيف ليردع القوي، هو ان يسعى لجعل محصوله من الحرب سالباً.

يبدأ المدافع بدراسة ما ينتظره العدو من مكاسب من الاعتداء عليه، ويبحث عن الطرق الممكنة لإلغائها أو لتقليلها. ثم دراسة ما يمكنه أن يسبب للمعتدي من خسائر، وطرق زيادتها، وهكذا حتى يجد الخطة التي تؤمن له زيادة خسائر المعتدي على مكاسبه. وبعد ذلك عليه ان يقنع هذا القوي، بأنه (أي الضعيف) ينوي بالفعل الدفاع عن نفسه وعن مصالحه، وأن خسائر القوي في هذا الصراع ستكون أكثر مما سيكسب، وبالتالي فمن الأفضل له أن يترك الصراع ويذهب!
هكذا بدأ غاندي صراعه ضد الاحتلال الإنكليزي بالطلب من الهنود أن يمتنعوا عن شراء الاقمشة الإنكليزية وأن ينسجوا ملابسهم بأنفسهم، وقام بنفسه بنسج ملابسه ليكون لهم قدوة! فاقتدى الهنود بالملايين به، وعانت صناعة النسيج خسائر كبيرة، وقلل من دوافعهم لإبقاء الاحتلال. ثم بعد ذلك كانت التظاهرات وحدثت الاشتباكات وسقط الضحايا، وأخيراً حسب الإنكليز أن خسائرهم بدأت تزيد عن مكاسبهم، فانسحبوا وتحررت الهند.

طبيعي أن الجانب الأقوى لا يريد أن يرى الجانب الأضعف هذه الاستراتيجية الفعالة، لذلك فهو يسعى لتوجيهه نحو السؤال الخطأ المؤدي الى الاستسلام، وهو يستخدم إعلامه من أجل ذلك. فعندما يئس أحد أبواق الاحتلال الأمريكي للعراق، من محاولاته بإقناع العراقيين بأن اميركا ستجعلهم ينافسون المانيا واليابان، قام بتحويل خطابه إلى الخط التالي: "صحيح أن أميركا ليست موضع ثقة، لكن هل نستطيع أن نهزم اميركا؟ بما أن هذا مستحيل، فلا بد لنا من صداقتها بدلا من أن نتعرض للدمار التام" (يقصد "الاستسلام لها"، فالصداقة لا علاقة لها بالتفوق). وهو هنا يضع العراقيين أمام السؤال الخطأ والخيارات الخطأ. السؤال الخطأ: “هل نستطيع ان نهزم أميركا؟” والذي يجاب بالنفي بالتأكيد، فليس هناك من يتخيل الجيش العراقي وهو يدخل واشنطن ويحتلها!
لكنه سؤال خبيث، طرح بدلا من السؤال الصحيح: “هل نستطيع أن نجعل احتلالها يكلفها أكثر مما تربح منه؟” وهو أمر أسهل كثيرا وممكن بالتأكيد لأي شعب، إن توفرت فيه الإرادة. فالقضية من الجانب الأمريكي ليست قضية حياة او موت لتقرر ان تحاربنا وتسبب "الدمار الشامل"، بل قضية حساب.
فإسرائيل كانت قادرة من الناحية النظرية أن "تنتصر" في حرب 2006 أمام حزب الله وتسبب له "الدمار الشامل" بقنبلة ذرية! لكن المقاومة كانت تعلم، وإسرائيل تعلم، وتعلم ان المقاومة تعلم، أن ذلك "الدمار الشامل" يكلفها أكثر مما تربح، ويعني هزيمة لها على المدى البعيد، وبالتالي فهو سلاح غير وارد ولا حاجة للمقاومة ان تخشاه. وبنفس الطريقة خسرت أميركا حرب فيتنام دون ان تستخدم تلك القنبلة أيضا، ولنفس السبب، رغم ان بعض الأصوات الأمريكية المجنونة كانت تدعو إلى ذلك. ففي الحالتين كان المدافع الأضعف واعياً لحسابات الصراع، وله الجرأة والاستعداد لتقديم التضحية اللازمة للثبات الذي تتطلبه الخطة الصحيحة.

فعندما يتحدث اللبنانيون عن “هزيمة إسرائيل” أو يتحدث الفيتناميون أو الإيرانيون عن "هزيمة اميركا"، فهو ليس خطاباً "عنتريا" كما يحلو للبعض ان يصفه، بل استراتيجية محسوبة بدقة، تقصد إجبار المعتدي على التخلي عن عدوانه، لا أكثر. ولو راجعنا كل حروب التحرر والثورات على الاحتلال الأجنبي، لوجدنا انها كانت تطبيقاً لهذه القاعدة.

لذلك فعلينا أولا وقبل كل شيء، ان نجعل شعبنا يدرك طبيعة الصراع هذه بينه وبين خصمه العملاق، ثم دراسة دوافع ومكاسب الأمريكان من إبقاء قواتهم في البلد، ثم دراسة الطرق التي يمكننا من خلالها جعل كلفة ذلك البقاء أكبر من مكاسبه، وأخيراً أن نقنع الأمريكان، بأية طريقة كانت، بأننا قادرون ومصممون على جعل ميزان خسائرهم أكبر من مكاسبهم.

ماهي تلك المكاسب التي يجب تخفيضها والخسائر التي يجب علينا زيادتها؟ سنفكر بهذا الأمر حتى الحلقة القادمة، وندعوكم للتفكير معنا والكتابة والنشر والمتابعة، حتى يتخلص هذا البلد الكريم من هذا الفك القاتل وينسحبوا. لقد فعلنا ذلك حين اضطررناهم لسحب قواتهم في المرة الأولى، ولا يوجد ما يمنع أن تكون الثانية مثلها وأفضل، لكي يخطو البلد خطوته المباركة الأولى نحو الحياة.