الخميس، 26 أكتوبر 2017
تثنية الذات؛ حين يكتب الفنان-*محمد كريش
خاص- ثقافات
الكاتب والفنان مبدعان، يشكلان بامتياز صائغين للأثر، حيث تكتنزان ذاتاهما سر ديمومة الوجود وإعادة وتثبيت ذاكرة الأشياء وأحداثها يمدونها بقوة الخلود…
الأحد، 15 أكتوبر 2017
الألوان المائية خواصها المميزة جماليتها وصعوباتها-صائب خليل
الألوان
المائية خواصها المميزة جماليتها وصعوباتها
صائب خليل
13 ت1 2017
قالت احدى
الممثلات الغربيات يوما: "المرأة التي لم تعرف العديد من الرجال، لا تعرف أي
رجل". والفكرة من هذه العبارة التي تثير الابتسام بلا شك، هي ان من يعرف نوعا
واحداً من أي شيء، فإنه يفتقد فرصة "المقارنة". ومن هنا أريد ان أقول ان
الرسام الذي يرسم دائما بنوع واحد من الاصباغ يفتقد المقارنة بينها. وبما ان
المقارنة أداة أساسية لمعرفة الشيء، فمن لم يستعمل في حياته إلا نوعاً واحداً من
الأصباغ، فسوف يفوته الكثير من ميزات وخواص حتى النوع الذي تخصص به.
لم اعرف هذه
الحكمة إلا مؤخراً للأسف، وربما بالصدفة، وبعد سنوات (متقطعة) من استعمال الألوان
الزيتية دون غيرها، قررت تجربة الأكريلك، ثم قررت تجربة الألوان المائية، واكتشفت
من خلال هذه التجارب العديد من خواص الألوان الزيتية التي لم انتبه لها.
أريد هنا ان
اتحدث لكم عن الألوان المائية، ليس كخبير بها، بل كمجرب جديد يتلمس طريقه اليها عن
طريق التجربة والخطأ. فما هي الخواص المميزة لهذه الأصباغ؟ على أي شيء يجب ان
ينتبه الرسام الذي يستعملها، وعلى أية نقاط يجب ان ينتبه مشاهد اللوحة المائية؟
تتميز الألوان
المائية أولا بالشفافية الكبيرة مقارنة بغيرها. وتتميز أيضا بالحساسية الشديدة و
"عدم التسامح". لكنها بالمقابل، تقوم بنفسها برسم معظم اللوحة لك!
فبمجرد أن تضع فرشاتك على الورق وتسحبها يرسم الماء مساحة ألوان منتظمة الكثافة
نسبيا ومحددة بشكل دقيق ما لم تكن انت تريدها غير محددة. كما تمتزج الألوان بشكل
جميل (غالبا) سواء بخلطها بالفرشاة، أو حتى على الورق، لتعطي تنوعاً لونيا مدهشا
وشفافية تسر العين.
لكن كما قلنا،
فالمائية تريد منك مقابل هذا ألا تخطأ! فالألوان المائية هي الأقل تسامحا من بين
جميع الأصباغ. وفي الغالب فأنك لا تستطيع تصحيح ضربة فرشاة خاطئة. وهذا على العكس
من الزيت والأكريلك، حيث يمكنك ان تخطأ كما تشاء (تقريبا) ثم تصحح خطأك. فالماء في
الرسم المائي، يغير من طبيعة الورقة تحته، ولا تعود تتقبل الضربة التالية للفرشاة
بنفس الطريقة التي استقبلت بها أول ضربة. ومن هنا أيضا حساسية واهمية نوع الورق
المستعمل في الرسم المائي. ويجب على من يريد ان يبدأ تجربة الألوان المائية أن
يبحث في الانترنت عن الورق المناسب والطريقة المناسبة للتعامل معه لكيلا يتموج
بتأثير الماء وتضيع اللوحة.
ضربة الفرشاة في
المائية، ضربة واحدة غالباً، خاصة إن اردت رسم شيء محدد. الأوراق في هذا الرسم،
رسمت، او يفترض ان ترسم بضربة فرشاة واحدة لكل ورقة! ولتحقيق ذلك يجب ان تستخدم
فرشاة سميكة ذات رأس مدبب. توضع الفرشاة على الورقة ليرسم الجزء المدبب من
الفرشاة، راس الورقة، ثم تضغط الفرشاة وتسحب ليزداد سمك الورقة تدريجيا، ثم ترفع
الفرشاة تدريجيا أيضا لتتقلص الورقة إلى شكلها المميز!
في هذه اللوحة
الصغيرة جربت أكثر من نوع من الفرش، أحداها كانت مقصوصة بشكل مائل، واعطت نتائج
مرضية جدا، لكنها كانت حساسة جدا أيضا لأي خطأ.
ولأن المائية
"ضربة واحدة" فيجب ان تكون متأكداً ليس فقط من اللون المناسب، وإنما أيضا
كمية الصبغ التي ستكون في الفرشة والتي ستحدد قوة صبغة الضربة، وكذلك كمية الماء
التي تسحبها في فرشاتك. كمية الماء لا تحدد فقط كثافة الصبغة، وإنما ايضاً شكل
الحافة ومدى حدتها وتعرجها، وإن كانت هناك مساحات مجاورة لم تجف بعد، فسيكون هناك
امتزاج للألوان يجب ان تكون راغبا به.. الخ.
أما بالنسبة
للوردة نفسها، فالإشكاليات مختلفة قليلا، وأكثر صعوبة. فهنا، إضافة إلى الحافات
الحادة الضرورية، من المهم ان تترك الألوان تمتزج بشكل جميل ومنسق، باستخدام كمية أكبر
من الماء، وببعض الحرية، ولكن دون ان تخرج عن سيطرتك!
يجب ان لا يستنتج
من هذا ان رسم اللوحة المائية "فلم مرعب" لوحش يتربص الأخطاء، بل يجب،
وبعد كسب بعض الخبرة، أن نصل في النهاية الى الاستفادة من إمكانيات الألوان
المائية لرسم لوحاتها بنفسها، ليصبح الأمر أقرب الى اللعب مما هو إلى العمل الدقيق
الحريص والقلق. وفي كل الأحوال، لا مفر من ان تزخر كل لوحة ألوان مائية بالعديد من
المفاجآت السارة وغير السارة، والخبرة وحدها هي من سيزيد إمكانية الرسام من رسم
المفاجآت الجميلة وتقليل الأخطاء المزعجة.
من الطبيعي ان
هناك طرقاً مختلفة ومتباينة للرسم بالألوان المائية مثلما في بقية الألوان، لكن
الرسم الجيد في رأيي هو الرسم الذي يستفيد من الخواص المميزة للأصباغ التي
يستعملها الرسام، وأن تكون تلك الاصباغ هي الأنسب والأكثر ملاءمة وسهولة لتنفيذ
طريقته في الرسم، وليس لأنه لا يستعمل سوى نوع واحد من الأصباغ، او أنه تكاسل عن
استبدالها أو أي سبب اعتباطي آخر. فاللوحة المائية يجب ان تكون "مائية"
حقاً، لا يمكن رسمها بألوان أخرى دون ان تفقد الكثير من جمالها.
أترككم مع هذا
الرسم المائي التجريبي مع دعوة لاكتشاف الأخطاء التي حصلت، وبشكل خاص، أين كان
الرسام مضطرا إلى إعادة الضربة أكثر من مرة، وكيف تركت تلك المحاولة آثارها
السلبية على الرسم... وقتا ممتعا.
الاثنين، 2 أكتوبر 2017
الأحد، 1 أكتوبر 2017
الخميس، 21 سبتمبر 2017
السريالية… فلسفة الحرية-*هاشم صالح
السريالية… فلسفة الحرية
*هاشم صالح
ليس من السهل تبسيط النظريات الفلسفية المعقدة كالدادائية والسوريالية، ولكننا سنحاول ذلك. ومعلوم أنهما ظهرتا وراء بعضهما البعض في بدايات القرن العشرين، بل كانت الثانية بنت الأولى وامتداداً لها. فلا سريالية من دون دادائية. ولكن ما معنى هذه المصطلحات الهجينة والغريبة على الأذن العربية؟
لقد ظهرت الحركة الدادائية عام 1916 في مدينة زيوريخ بسويسرا على يد الكاتب تريستان تزارا. وكانت في البداية عبارة حركة عبثية فوضوية في مجال الفن والأدب عموما. وقد تشكلت بشكل عفوي أو عشوائي كرد فعل على مجازر الحرب العالمية الأولى. ومعلوم أنه سقط فيها ملايين البشر بين قتلى وجرحى ومعطوبين ومقعدين. ولذلك شعر الكتاب الأوروبيون بالغضب العارم تجاه هذه المذبحة الكبرى وقرروا الخروج على المألوف ومعارضة كل التقاليد الشائعة في المجتمع الأوروبي للتعبير عن غضبهم وتمردهم. فهذه التقاليد هي التي أدت إلى الكارثة في نظرهم. وبالتالي فيحق الخروج عليها. وهنا نلتقي بمشكلة العلاقة بين السياسة والثقافة. فكما أن المثقفين العرب هاجوا وماجوا بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) فإن مثقفي أوروبا جن جنونهم أيضا بعد مجزرة الحرب العالمية الأولى.
ولذلك قرروا الخروج على العقلانية الكلاسيكية في الأدب والفن لأن العقل لم يستطع أن يمنع اندلاع الحرب وقتل ملايين الشباب الأوروبي في معارك طاحنة وعبثية في آن معا. هذا هو الباعث الأول لتشكيل الحركة. وقد سموها «دادا» بشكل عشوائي أيضا لأنهم عندما كانوا مجتمعين في مقهى «فولتير» بزيوريخ فتحوا القاموس هكذا لا على التعيين فوقعوا على كلمة «دادا» فسموا حركتهم بها. وبالتالي فالعملية كلها اعتباطية أو عبثية من أولها إلى آخرها. ولكن العبثية تحتوي أحياناً على شحنات تحريرية هائلة. العبثية هنا تعني الفوضى المبدعة الخلاقة. وهذا ما كانوا يبتغونه. فليس بالعقل الصارم وحده يحيا الإنسان. العقل أحيانا قد يعني الاعتقال. ولذا فإن شطحات الخيال الجنونية أكثر ملاءمة للإبداع الأدبي من العقل الناشف أو العقلانية الضيقة. إنها وقود الشعر والنثر على حد سواء. ويوميا قد تحتاج لأن تعيش، ولو لثوان، لحظات سريالية، مرتفعا فوق سطح هذا الواقع الكئيب الباهت. شكراً إذن للشطحات الخيالية، شكرا للحظات السريالية.
المهم أن هؤلاء القوم قالوا في بيانهم التأسيسي إن الحركة الدادائية تهدف إلى التحرر من كل القيود المرهقة والأعراف الاجتماعية الامتثالية. إنها دعوة للانطلاق والحرية في الكتابة الأدبية أو الرسم التشكيلي أو أي تعبير آخر عن الواقع والوجود. وقالوا إن عبثية الحرب العالمية الأولى ينبغي أن تقابلها عبثية أخرى على صعيد الأدب والفن. والواقع أن الحركة الدادائية كانت عبارة عن رد فعل على قيم الحضارة الغربية بمجملها.
وهي قيم ترتكز على أساس العمل في المصانع من الصباح إلى المساء، وعلى النظام الصارم بل وشبه العسكري لهذا العمل بالذات. وقال مؤسسو الحركة إنهم قرروا الإضراب عن العمل والعيش بشكل هامشي والتسكع في الطرقات والدروب والعيش في الحانات. وهكذا ثاروا على المجتمع البورجوازي بكل قيمه الراسخة وأصبحوا يجدون الجميل قبيحا والقبيح جميلا على طريقة بودلير أو رامبو. ألم يقل رامبو في ديوانه الشهير فصل في الجحيم: «لقد أجلست الجمال على ركبتي ووجدته مريرا وشتمته»؟ ألم يعبر بودلير عن «أزهار الشر» أفضل تعبير؟ ألم ينزل إلى الطبقات السفلى للجحيم؟
وبالتالي فالحركة العبثية أو الفوضوية في الفن والشعر ظهرت قبل الدادائية وتجد جذورها عند رامبو المشهور بأنه كان أكبر متمرد وأزعر في التاريخ (هذا إذا ما استثنينا لوتريامون الذي فاقه جنونا وعبثية). وبالتالي فالحركة الدادائية هي في الأصل حركة تبحث عن الانعتاق والحرية. إنها مفعمة بالتمرد على كل شيء. ولكن هذه الحركة لم تدم طويلا، والشاعر الفرنسي أراغون يعتبر أنها انتهت بعد خمس سنوات من تأسيسها أي عام 1921 – 1922. ثم أردف قائلا إن قصائد تريستان تزارا أسكرتني وأنعشتني طيلة حياتي كلها.
وبعد موت الدادائية جاء دور السريالية التي كانت استمرارية لها مع بعض التوسيع والتنويع والتعميم. والواقع أن السريالية كانت هي الأقوى والأكثر رسوخاً وانتشاراً في العالم. فلا يزال هناك أدب سوريالي أو فن تشكيلي سوريالي حتى الآن. في حين أنه لم يعد هناك أدب دادائي.
لقد انتهى عهد ترستان تزارا وجاء عهد أندريه بريتون الذي أسس الحركة السريالية في باريس عام 1924: أي بعد موت الحركة الدادائية بسنتين فقط. فقد نشر في ذلك العام البيان السريالي الشهير الذي لا يقل خطورة عن البيان الشيوعي. وفيه يقول ما معناه إن السريالية تعتقد بوجود واقع يتجاوز الواقع الحالي الذي نراه ويتفوق عليه. إنه واقع ما فوق الواقع (وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية باللغات الأجنبية). إنه واقع الحلم والشرود الذهني والتوترات النفسية اللاواعية بذاتها.
وهذا الواقع الذي يتجاوز الواقع هو ما كان السابقون قد تجاهلوه وأهملوه. وبالتالي فإننا نكتشفه من جديد ونعيد إليه الاعتبار. والكتابة ناتجة عن هذا الواقع العُلوي، واقع الحلم والهيجانات النفسية وليس الواقع العقلاني الذي نراه أو نصطدم به كل يوم. بمعنى آخر فإن السريالية تعبر عن الوعي الباطني العميق لا الوعي الظاهري السطحي.
لهذا السبب خلع أندريه بريتون المشروعية على الكتابة الأتوماتيكية التي تسرح وتمرح، لا رادع لها ولا وازع. وهي كتابة حرة، منفلشة، تسير على هواها من دون قيود أو حدود. إنها الكتابة التي تفلت من سيطرة العقل الواعي الذي يشبه الشرطي المسلط فوق رأسك من حيث المراقبة والقمع. والعقل الواعي الجمعي هو العقل الامتثالي السائد. إنه العقل الإرهابي للمجتمع الذي جنن فان غوخ ودفعه إلى الانتحار دفعا. انظروا لكتاب أنطونين آرتو: «فان غوخ، منحور المجتمع». ومعلوم أن آرتو ذاته جننه المجتمع أيضا. بل وجنن عباقرة آخرين عديدين. المجتمع أحيانا قاس لا يرحم.
على هذا النحو راحت الحركة السريالية تشق طريقها وتسيطر على الأجواء الأدبية والفنية الباريسية طيلة العشرينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي. بل وأصبحت موضة دارجة لا يخلو منها أي عمل فني أو ديوان شعري أو كتابة أدبية أيا تكن. فبيكاسو في مجال الفن التشكيلي كان سرياليا أيضا أو قل مر بالمرحلة السوريالية قبل أن يتجاوزها إلى مدارس أخرى. وقل الأمر نفسه عن سلفادور دالي الذي كان يجسد الجنون الكامل في الرسم والفن. وقد أطلق لمواهبه وبواعثه الدفينة العنان وأنتج لوحات سريالية رائعة لا تزال تدهشنا حتى الآن.
والواقع أن السريالية تعني في أحد معانيها تحرير الطاقات الدفينة الكامنة في أعماقنا والمقموعة من قبل المجتمع الذي نعيش فيه. وهذا هو أجمل معنى للسريالية. فالمجتمع يمنعنا من الانطلاق، من التعبير الحر عن كل ما يجول في خاطرنا بحجة أنه نجس أو شاذ أو مجنون أو غير طاهر أو لا أخلاقي، الخ. السريالية تقول لنا: تحرروا من كل ذلك، عبروا عن أنفسكم، انطلقوا، لا تترددوا في كتابة حتى الأشياء المخجلة التي قد تخطر على ذهنكم حتى ولو صدمت المجتمع. نعم إن الموقف السريالي هو موقف تحد تجاه المجتمع. نعم إنه يهدف إلى تحرير الطاقات المخزونة والتعبير عن أشياء ما كان أحد يتجرأ على البوح بها سابقا وفي طليعتها الأشياء الجنسية.
هذا وقد اعتمد السرياليون على مرجعيات أدبية وشعرية كبرى تعود إلى القرن التاسع عشر من أجل تدعيم حركتهم الفنية الجديدة. ومن أهم هذه المرجعيات الشاعر جيرار دونيرفال الذي مات مجنونا بل ومنتحرا في عز شبابه. شنق نفسه على عمود كهرباء في ساحة شاتليه وسط العاصمة الفرنسية. ومعلوم أنه خلّف وراءه كتابات رائعة يختلط فيها الحلم، بالذكرى الوهمية، بالجنون. وربما كان هو أول من اخترع مصطلح السريالية أو بالأحرى ما فوق الطبيعية. فقد كان يعتقد بوجود عالم آخر غير هذا العالم الطبيعي الواقعي الذي نعيش فيه. إنه عالم ما فوق طبيعي أو ما فوق واقعي. إنه عالم يقف وراء هذا العالم مباشرة. ثم تبنى السرياليون أيضا شاعرا منبوذا جدا هو: لوتريامون.
ومن مرجعيات السرياليين أيضا الشاعر الكبير آرثر رامبو الذي دعا إلى تغيير الحياة. ومعلوم أن ديوانه المدعو «بالإشراقات» مليء بالأشعار الغامضة والصور المتفككة التي تعبر عن اختلاجات الوعي الباطني والتي تخرج على منطق المعنى المتماسك كليا. بمعنى آخر فإنه ديوان لا معنى له أو يصعب أن تعثر فيه على معنى متماسك. من هنا جاذبيته التي لا تضاهى.
ومن مرجعياتهم أيضا فرويد بالطبع لأنه اكتشف منطقة اللاوعي: أي تلك القارة السحيقة والمظلمة من أعماق الإنسان. بل ومن مرجعياتهم كارل ماركس الذي قال: «من قديم الزمان والفلاسفة مشغولون بتفسير العالم، وقد آن الأوان لتغييره». وبالتالي فالحركة السريالية هي حركة ثورية راديكالية على كل الأصعدة والمستويات: أي على صعيد التعبير الشكلي، واللغة، والأسلوب، والفن التشكيلي.
كما أنها ثورية على مستوى الأفكار والمضامين. ولهذا السبب جذبت إليها شعراء كبارا ليس أقلهم رينيه شار، وأراغون، وبول ايلوار، وسواهم عديدين. بل وحتى السينما أصبحت سريالية.
ثم انتقلت الحركة الباريسية إلى شتى أنحاء العالم. فهناك سريالية فرنسية وألمانية وروسية بل وحتى عربية… الخ. هذا وقد عشنا لحظات سريالية كثيرة في باريس أيام زمان. وساعدنا ذلك على التحرر من القمع الشرقي الرهيب الذي كان يلاحقنا ويمنعنا من الانطلاق والانعتاق. تحررنا من تربية ذلك الشيخ المتزمت المظلم الذي كان عبقرياً في فن القمع والكبت والإرهاب. هل سنمضي عمرنا كله في محاولة التخلص منه؟
____
*الشرق الأوسط
____
*الشرق الأوسط
السبت، 16 سبتمبر 2017
الاثنين، 11 سبتمبر 2017
كيف تقف بوجه قوة أكبر منك؟ 1- مبدأ الشطرنج الثلاثي-صائب خليل
كيف تقف بوجه قوة أكبر منك؟ 1- مبدأ الشطرنج
الثلاثي
صائب خليل
10 أيلول 2017
كيف يحمي كلب الراعي قطيع الغنم، من الذئب؟ يوما سألت
أبي:
-
بابا هل الكلب اقوى من الذئب؟
-
لا بابا.. الذئب اقوى بكثير.
-
إذن كيف يحمي كلب واحد قطيعا من الخراف من الذئب؟
-
الذئب يستطيع ان يقتل الكلب بسهولة، لكنه يخشى ان يعضه الكلب ويجرحه قبل ان
يستطيع قتله. فالذئب يعلم ان جماعته سيقتلونه ويأكلونه إن رأوه مجروحا.
لقد حفظت "الدهشة"، هذه المحادثة في ذاكرتي لنصف
قرن، لكني أتساءل اليوم: كيف نصف "الاستراتيجية" التي يتبعها هذا الكلب
في موقفه الشجاع والمحسوب في نفس الوقت؟
تعرفون جميعا لعبة الشطرنج، لكن ربما لم تسمعوا بـ
"لعبة الشطرنج الثلاثية" حيث يتصارع ثلاثة لاعبون، يحاول كل منهم أن
يقضي على رسيليه. فما الذي يضيفه وجود اللاعب الثالث من تأثير على الصراع بين الطرفين
الآخرين؟ ما هو الفرق الاستراتيجي للعب الذي يجب ان نبقيه في بالنا عندما ننتقل من
لعبة الشطرنج الاعتيادية إلى الثلاثية؟
في لعبة الشطرنج المعتادة نحافظ على قطعنا سالمة قدر
الإمكان ونضرب قطع رسيلنا. ونحن نقبل بسرور أن نضحي بقطعة من قطعنا مقابل قطعة
للرسيل، إن كانت قطعة الرسيل اقوى. فأنا كلاعب الشطرنج يسعدني أن أضحي بفيل (قيمته
3 نقاط) إن كان ذلك سيتيح لي أن "أكل" رخ رسيلي (قيمته 5 نقاط)، لأني
سأخرج متفوقا بفارق نقطتين.
لكن وجود لاعب ثالث، سيخرب هذا المبدأ الأساسي، لأن اللاعب
الثالث “المتفرج” الذي لم يمس جيشه بأذى، صار بفضل هذه المضاربة، اقوى منا نحن الاثنين:
صار أقوى مني بثلاث نقاط لأن جيشي نقص فيلاً، وأقوى من رسيلنا الآخر الذي خسر
رخاً، بخمس نقاط!
ما هي الاستراتيجية السليمة إذن في الشطرنج الثلاثي؟: أن
تترك اللاعبين الآخرين يتقاتلان وأن تكون "اللاعب المتفرج"! فمهما كانت
نتيجة الصراع فستكون انت الرابح الحقيقي! الجميل في هذه اللعبة أنها الأكثر شبها
بالحياة، حيث يشمل الصراع في الحياة أكثر من طرفين دائما. ولا شك انكم ستكتشفون
سريعا، امثلة تاريخية عديدة لتطبيق مثل هذه القاعدة في السياسة الدولية. فصعود
الولايات المتحدة إلى قمة السيادة في العالم قد تم بـ "دستين" من
الشطرنج الثلاثي، كان الدست الأول هو الحرب العالمية الأولى، والدست الثاني هو
الحرب العالمية الثانية. وفي كلا الدستين، تركت الولايات المتحدة الأطراف
الأوروبية تطحن بعضها البعض، بل قامت بدعم الطرفين احياناً، ولم تدخل أي من
الحربين إلا بعد ان تم ذلك وصار ضروريا لها ان تدخل لتكون مشاركة مباشرة في
المكاسب، بأقل الخسائر الممكنة.
لقد تصور الحلفاء، أنهم ربحوا الحربين، لأنهم انتصروا
على المانيا. ولو كانوا يلعبون الشطرنج الاعتيادي لكان تصورهم صحيحاً، لكنهم لم
ينتبهوا لوجود "اللاعب الثالث" المتفرج، الذي كان يضحك في سره من ذلك
الانتصار الفارغ. فقد خرج لوحده بجيش سليم واقتصاد سليم، وكان يملك أكثر من نصف
المنتوج الصناعي العالمي واكثر من نصف رأس المال في العالم، وفرض شروطه على الجميع
بمن فيهم "حلفاؤه" فاجبر اكبرهم على التخلي له عن نصف حصصه النفطية الأجنبية
والآخر عنها كلها تقريبا، إضافة إلى شروط أخرى على المهزومين و
"المنتصرين"، جعلت منه سيد العالم بلا منازع.
وقد نجحت الولايات المتحدة في ان تكون "اللاعب
الثالث"- المتفرج المنتصر- في مرات أخرى عديدة حين استفادت من الخلاف الصيني السوفيتي
فيما بعد. ولم يقتصر ذلك على منافسيها في السلطة على العالم بل استعملت ذات
السياسة حين دعمت صدام حينا وإيران حينا آخر، لإدامة الحرب بينهما أطول فترة ممكنة
وإنزال اشد الضرر بكليهما.
"اللاعب" النبيه، لا يكتفي إذن بحساب مكاسبه وخسائره
أمام الطرف المقابل فقط، بل يراقب تأثيرها على توازن قوته امام اللاعبين الآخرين
غير المشاركين في الصراع! وهذا يدفعه إلى التزام استراتيجية "تجنب الصراع"
قدر الإمكان، حتى مع من هو أضعف منه.
كيف يمكن للاعب الأضعف ان يستفيد من هذه الحقائق؟ هذه هي
النقطة المركزية لهذه المقالة: أن اللاعب الأضعف حين يدرك أن الاستراتيجية الصحيحة
للأقوى هي "تجنب الصراع"، فإنه يستطيع ان يستغل تلك الورقة لصالحه في
دفاعه عن مصالحه!
تلك الورقة، هي ما يستخدمه كلب الراعي حين يواجه الذئب
ويمنعه من الهجوم على الخراف. الذئب يكشر عن انيابه مهدداً، لكن الكلب لا يرتعب بل
يرد بالتكشير عن انيابه أيضاً، ولسان حاله يقول: "أعلم أن انيابك اشد وأنك
قادر على قتلي، لكن أنظر أيضاً إلى انيابي فهي تكفي لإصابتك بجرح. انت تعلم جيدا
أن قتلي لا يعني انتصارك إن جرحت. لا مصلحة لك في هذا، وخير لك ان "تتجنب
الصراع" وتذهب جائعا من ان تذهب جريحاً".
إنها محادثة يفهمها الذئب تماما، كما يفهمها الكلب،
ويفهم كل منهما أن الآخر يفهمها، فالعلاقة بينهما تمتد لملايين السنين من التجارب
والتفاهم. لذلك فغالباً ما تنتهي المواجهة بانسحاب الذئب، مؤجلا حلمه بالطعام إلى
فرصة أخرى مع قطيع راع ليس لديه كلب يفهم اللعبة.
في المرة القادمة عندما ترى حيوانا أكبر ينسحب أمام
حيوان أصغر، لا تتصور دائما ان الأكبر كان جباناً. إنه يفكر بالمدى البعيد ويعمل
باستراتيجية "تجنب الصراع". والأصغر يدرك ذلك ويستغله. إن كل قط محاصر
يكشر عن انيابه ويقلص ظهره أمام الكلب الذي يحاصره، إنما يفعل ذلك بالضبط.
إنها أيضا ذات المحاورة بين أميركا وكوريا الشمالية
اليوم، والتي قد نتعجب من جرأتها على التحدي، كما نتعجب من تردد اميركا بضربها.
لكن كل من أميركا وكوريا الشمالية تفهمان لغة الشطرنج الثلاثي حيث تقول الأخيرة
لها كما قال الكلب للذئب: "تستطيعون إفناءنا.. لكننا سنصيبكم قبل ذلك بجرح سيكلفكم
كثيراً ويخفض فرصكم لسيادة العالم. ستقضون علينا، لكنكم ستكونون أضعف أمام الصين
وروسيا وربما أوروبا واليابان، فماذا استفدتم؟". إنه ببساطة "الردع
النووي" الذي جاعت كوريا من أجل الحصول عليه وتحملت إيران نجاد الحصار من
أجله، لأنه يقفز بخسائر "المنتصر" الى رقم كبير يفوق اية مكاسب محتملة
من تلك الحرب. ولهذا السبب بالذات تعمل اميركا وإسرائيل المستحيل لكيلا يتاح لدولة
عربية او إسلامية أو أية دولة تنتهج نهجاً مستقلا، أن تحصل على السلاح النووي. ليس
خشية ان تستعمله هذه الدولة في هجوم عليهما، فهما يستطيعان القضاء عليها فوراً،
إنما خشية أن يستخدم للردع بالتأثير على حسابات الربح والخسارة. فأميركا وإسرائيل
إنما يهدفان إلى حماية "حريتهما في العدوان" على اية دولة قد يرغبان في احتلالها
او اخضاعها مستقبلا.
كيف نفسر دخول أميركا بعض الحروب إذن؟ في الشطرنج لا
تستطيع إضافة قطع الرسيل التي تضربها إلى قطعك، أما في الحروب فهذا ممكن، لذلك
يمكن ان تكون الحروب "مربحة" للمنتصر، بشرط إن يكون الفارق بين
المتصارعين كبيرا جداً. وتساؤل القوي الذي يفكر أن يبدأ حرباً، ليس "هل
سأنتصر في الحرب أم لا" وإنما هو: "هل سأربح شيئا من هذه الحرب أم اخسر؟".
وفي الوقت الذي كانت استراتيجية الشطرنج الثلاثي دائما،
هي "تجنب الصراع" فأن استراتيجية الحياة هي "تجنب الصراع مالم يضف
شيئا إلى قوتي". وهذا هو بالضبط ما يدل الجانب الأضعف، على استراتيجيته
المناسبة. فالأضعف حين يعي تساؤل الأقوى وما يخشاه، فسوف يصحح السؤال الخطأ الشائع:
"هل أستطيع الانتصار عليه؟" وهو سؤال تعجيزي لا يؤدي إلا الى الاستسلام،
ويتحول إلى السؤال الصحيح: "هل أستطيع أن اجعل خسائره أكبر من أرباحه؟".
وهي مهمة أبسط كثيراً من الانتصار على القوي. فكل ما على الضعيف ليردع القوي، هو
ان يسعى لجعل محصوله من الحرب سالباً.
يبدأ المدافع بدراسة ما ينتظره العدو من مكاسب من
الاعتداء عليه، ويبحث عن الطرق الممكنة لإلغائها أو لتقليلها. ثم دراسة ما يمكنه
أن يسبب للمعتدي من خسائر، وطرق زيادتها، وهكذا حتى يجد الخطة التي تؤمن له زيادة
خسائر المعتدي على مكاسبه. وبعد ذلك عليه ان يقنع هذا القوي، بأنه (أي الضعيف)
ينوي بالفعل الدفاع عن نفسه وعن مصالحه، وأن خسائر القوي في هذا الصراع ستكون أكثر
مما سيكسب، وبالتالي فمن الأفضل له أن يترك الصراع ويذهب!
هكذا بدأ غاندي صراعه ضد الاحتلال الإنكليزي بالطلب من
الهنود أن يمتنعوا عن شراء الاقمشة الإنكليزية وأن ينسجوا ملابسهم بأنفسهم، وقام
بنفسه بنسج ملابسه ليكون لهم قدوة! فاقتدى الهنود بالملايين به، وعانت صناعة
النسيج خسائر كبيرة، وقلل من دوافعهم لإبقاء الاحتلال. ثم بعد ذلك كانت التظاهرات
وحدثت الاشتباكات وسقط الضحايا، وأخيراً حسب الإنكليز أن خسائرهم بدأت تزيد عن
مكاسبهم، فانسحبوا وتحررت الهند.
طبيعي أن الجانب الأقوى لا يريد أن يرى الجانب الأضعف
هذه الاستراتيجية الفعالة، لذلك فهو يسعى لتوجيهه نحو السؤال الخطأ المؤدي الى
الاستسلام، وهو يستخدم إعلامه من أجل ذلك. فعندما يئس أحد أبواق الاحتلال الأمريكي
للعراق، من محاولاته بإقناع العراقيين بأن اميركا ستجعلهم ينافسون المانيا
واليابان، قام بتحويل خطابه إلى الخط التالي: "صحيح أن أميركا ليست موضع ثقة،
لكن هل نستطيع أن نهزم اميركا؟ بما أن هذا مستحيل، فلا بد لنا من صداقتها بدلا من
أن نتعرض للدمار التام" (يقصد "الاستسلام لها"، فالصداقة لا علاقة
لها بالتفوق). وهو هنا يضع العراقيين أمام السؤال الخطأ والخيارات الخطأ. السؤال
الخطأ: “هل نستطيع ان نهزم أميركا؟” والذي يجاب بالنفي بالتأكيد، فليس هناك من
يتخيل الجيش العراقي وهو يدخل واشنطن ويحتلها!
لكنه سؤال خبيث، طرح بدلا من السؤال الصحيح: “هل نستطيع
أن نجعل احتلالها يكلفها أكثر مما تربح منه؟” وهو أمر أسهل كثيرا وممكن بالتأكيد
لأي شعب، إن توفرت فيه الإرادة. فالقضية من الجانب الأمريكي ليست قضية حياة او موت
لتقرر ان تحاربنا وتسبب "الدمار الشامل"، بل قضية حساب.
فإسرائيل كانت قادرة من الناحية النظرية أن "تنتصر"
في حرب 2006 أمام حزب الله وتسبب له "الدمار الشامل" بقنبلة ذرية! لكن
المقاومة كانت تعلم، وإسرائيل تعلم، وتعلم ان المقاومة تعلم، أن ذلك "الدمار
الشامل" يكلفها أكثر مما تربح، ويعني هزيمة لها على المدى البعيد، وبالتالي
فهو سلاح غير وارد ولا حاجة للمقاومة ان تخشاه. وبنفس الطريقة خسرت أميركا حرب
فيتنام دون ان تستخدم تلك القنبلة أيضا، ولنفس السبب، رغم ان بعض الأصوات الأمريكية
المجنونة كانت تدعو إلى ذلك. ففي الحالتين كان المدافع الأضعف واعياً لحسابات
الصراع، وله الجرأة والاستعداد لتقديم التضحية اللازمة للثبات الذي تتطلبه الخطة
الصحيحة.
فعندما يتحدث اللبنانيون عن “هزيمة إسرائيل” أو يتحدث
الفيتناميون أو الإيرانيون عن "هزيمة اميركا"، فهو ليس خطاباً
"عنتريا" كما يحلو للبعض ان يصفه، بل استراتيجية محسوبة بدقة، تقصد
إجبار المعتدي على التخلي عن عدوانه، لا أكثر. ولو راجعنا كل حروب التحرر والثورات
على الاحتلال الأجنبي، لوجدنا انها كانت تطبيقاً لهذه القاعدة.
لذلك فعلينا أولا وقبل كل شيء، ان نجعل شعبنا يدرك طبيعة
الصراع هذه بينه وبين خصمه العملاق، ثم دراسة دوافع ومكاسب الأمريكان من إبقاء
قواتهم في البلد، ثم دراسة الطرق التي يمكننا من خلالها جعل كلفة ذلك البقاء أكبر
من مكاسبه، وأخيراً أن نقنع الأمريكان، بأية طريقة كانت، بأننا قادرون ومصممون على
جعل ميزان خسائرهم أكبر من مكاسبهم.
ماهي تلك المكاسب التي يجب تخفيضها والخسائر التي يجب
علينا زيادتها؟ سنفكر بهذا الأمر حتى الحلقة القادمة، وندعوكم للتفكير معنا
والكتابة والنشر والمتابعة، حتى يتخلص هذا البلد الكريم من هذا الفك القاتل وينسحبوا.
لقد فعلنا ذلك حين اضطررناهم لسحب قواتهم في المرة الأولى، ولا يوجد ما يمنع أن
تكون الثانية مثلها وأفضل، لكي يخطو البلد خطوته المباركة الأولى نحو الحياة.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)