الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

بمناسبة رحيل عدنان مبارك



عدنان المبارك
[1953 ـ 2016]
من السينما إلى مشفرات السر

عادل كامل

   لا في حياته، كان عدنان المبارك، بحاجة إلى (المدائح)، ولا هو بحاجة إلى الرثاء، بعد رحيله عن عالمنا أيضا ً. وكأني بهذه ـ الإشارة ـ اعزل حياته الشخصية عن دوره في الثقافة، وليس أن اعزز، فكرته المبكرة: رؤية العالم بأدوات الحداثة. فحياته ـ بسلاستها وبساطتها وشفافيتها ـ كرست للأدب، الفن، والمعرفة. فلم تكن حياته أكثر من تطابق مع ما كرسه للحفاظ على مبدأ: التأمل ـ لكن ليس نحو الذات ـ بل نحو العالم، محورا ً الانطولوجيا إلى: وجود يعمل على تحرير الذات، وليس على دفنها.
   خسارتنا لرحيل عدنان المبارك، إشارة لخسارة ثقافية عامة، في حقبة حل (العنف) ـ بأشكاله الأكثر همجية وجورا ً وانتهاكا ً للعقول والضمائر ـ ضد العقل، والمنطق، والبراءة، بديلا ً مروعا ً لمصائر غدت في العراء، مشردة، تائهة، وتستجدي البقاء على قيد الحياة، لا أكثر ولا اقل.
    فقد اجتمعت في المبارك خصال جيل الرواد: التنوع ـ والتخصص، الدقة والمثابرة، الصبر والكد، التجدد والابتكار، من غير قطع الجسور مع مكونات اللاوعي السحيق، والذاكرة المتحررة من مدافنها، وظلماتها، وخرافتها.
      فدرس علم الجمال، في الفنون الجميلة، متدربا ً على مهنة (التحليل) و (النقد) للسينما، بالدرجة الأولى، من ثم لإعادة قراءة المشهد المعرفي في عالمنا المعاصر. لكن (خلق) عدنان المبارك، لم تسمح له بأكثر من الاستزادة، حفرا ً، وبحثا ً، ليس في مشكلات العصر  (التقنية) أو (ما بعد الأيديولوجية) فحسب، بل في التطور المعقد والعام، ونتائجه، ومآزق الدفاع عن عالم تتحكم بحرياته انساق السوق، وما بعد الربح، والحروب الخالية من الرحمة.
  لن اقلل أبدا ً من مئات الكتب والمقالات والدراسات التي ترجمها المبارك، في مختلف الحقول المعرفية، لولا انه كرس، في قصصه، وفي رواياته، وفي لايومياته، الرسالة ذاتها التي نتعرف عليها عند فلاسفة سومر، وبابل؛ تلك التي حافظت على عدم جعل العالم مقبولا ً، بوصفه لا شرعيا ً، وغرائبيا ً في الأقل، أو محكوما ً بنظامه التراتبي، والمهدد بالزوال، في كل صدمة.  انه لم يتقمص دور بناة المدن الفاضلة، ولم ينشغل بالميتافيزيقا، ولم يشرد ذهنه عبر مشفرات الكلمات، ولا وعيها، بل راح يتمسك بالواقعية المتجددة، بكل ما تمتلكه من أبعاد نائية، ولا محدودة.
    ففي رواياته، وقصصه، ثمة محنة إنسان وجد انه متهما ً، كأيوب السومري،  قبل ظهور نموذج كافكا في القضية بستة آلاف عام، بالبراءة التي آمن بها، ليجد مصيره مجهولا ً، إزاء عالم بلا حافات، وقد قيد بأكثر أشكال القسوة، والعنف، بشرعيات ذات أصول مدمرة، وقائمة على الصراح، حد الإبادة، والمحو.
    ولقد اشتركت، في أكثر من (قصة) مع المبارك، برصد: مآزق تتجدد بتجدد القيود، في بلداننا ـ الأكثر تخلفا ً ـ أو في البلدان ـ الأكثر تطورا ً ـ ومصائر ملايين البشر تولد وتموت بوصفها مجموعات من النمل، أو البعوض، وليست كيانات وهبتها الآلهة نفسا ً من أنفاسها، بحسب أساطير وادي الرافدين، المبكرة.
     كانت محنة عدنان المبارك، غير قابلة للتسوية، ولكنه عوضها بالمزيد من العمل. ولأنه اختار (الكتابة) فانه سيمنح الكلمات الأنساق ذاتها لمفهوم الإنتاج: الوعي بوصفه مستحدثا ً، مخترعا ً، وليس هبة، أو مكرمة.
   فحتى آخر يوم في حياته (آخر رسالة وصلتني منه بتاريخ29/9/2016)*، حيث رحل في (5/10/2016)، لم يتخل عن تدوين إشارات تخص الفن، والأدب، رغم اشتداد المرض، بعد سنوات من المقاومة الباسلة، باختيار الثقافة، أداة لغاية تتحقق ـ عبرها ـ ما هو ابعد من الربح ـ والخسارة.
     ولا يمكن إغفال أن المتخصص بالنقد الجمالي، والترجمة، والسرد سيختار الرسم، والتصميم، والتشكيل بتقنيات الكومبيوتر، للإفصاح عن بلاغة (الصمت) بما يتضمنه من أصوات مكتومة. فالوجه الذي راح يراه من الجهات المتعددة، هو الوجه المحاصر للإنسان ـ كحال جلجامش الذي لم يكن يبحث عن الخلود بل لأنه ولد بقلب مضطرب كما اعترفت أمه بذلك في خطابها مع الآلهة ـ  وصولا ً إلى ملايين المنفيين، المهجرين، المخلوعين، المخصيين، والمحتضرين قسرا ً بأدوات حضارة العولمة، وما بعدها، انه وجهنا، الذي يحدق فينا، ونحدق فيه، كي تتكون المرايا التي تتلاشى فيها الأبعاد، ولنصبح، في نهاية المطاف، الفجوات والذرات والمديات لكون بلا حافات.
     ولقد انشغل كثيرا ً في الإشراف على موقع (القصة العراقية) الذي بتوقفه عن الصدور، أصاب المبارك بجرح عميق. فالموقع، غدا الموسوعة الشاملة لتاريخ القصة، والرواية، في العراق، إلى جانب مئات النصوص المترجمة، والملفات، في الفنون، والعلوم، والآداب، والثقافات...، وأنا ـ الآن ـ اجهل مصير هذا الجهد الاستثنائي، بوصفه إبداعا ً ثقافيا ُ، ومعرفيا ً، في عالم تتضاعف محنه، بحروب لا تترك خلفها سوى انبثاقها المخيف، وديمومتها العنيدة.
   ولأنني اكتب وفاء ً لصديق مازالت رسائله، ومنذ العام 2010، تشكل مادة لقراءة نقدية، فانا آمل، لو استعدت صحتي، بنشرها، بما تتضمنه من رؤى، وأفكار، وكفاح مبدع كرس حياته برمتها من اجل عالم اقل رداءة

*  نص آخر رسالة وصلتني من الراحل:
    [عزيزي عادل . أشكرك على الإهداء  لهذه القصص الجميلة. كنت أطول من أسبوع بعيدا عن الكومبيوتر. وأظنها نوعا  من المصادفات أن يصيب العطل حاسوبي  وأدخل نفقا مظلما لأحدى لعنات الصحة.
     نعم ،  الإنسان القاصر عقلا وشعورا لا يتصور السعادة التي تعقب اختفاء اللغة ! ولا أحد كان يقدّر الصمت مثل بيكيت رغم أن كل أبطاله من مواليد الثرثرة !
 أنتهز كل ساعة كي أكتب . وهل تعرف بأني أجهل وحتى عدد القصص التي كتبتها في الصيف الأخير !
       لا أعرف أين أنشر عدا ( أدب فن ). بالنسبة لموقع ( القصة العراقية ) لا أحد يكترث للحال. من طرفي أحاول وأحاول أن أجد مخرجا لكني فشلت لغاية الآن.
       شيء رائع أن مقاومتك للخارج تزداد صلابة. فيا عزيزي ليس أمامنا من أفق آخر ( تذكرت هنا  ما قاله الراحل نزار عباس لذاك الذي لعن بطل سارتر في ( دروب الحرية ) الذي كان " يقف على التل " : ( أخي. أنت لا تعرف هذا المسكين كي تريده أن ينحدر من التل ويطرق باب الآخرين في الجحيم. عفوا ، ليس هو بالمسكين بل المحظوظ إلى أكبر درجة ...).
محبتي وأصدق تمنياتي . 29/9/201


مختارات

في العام 2014 نشرت كتابي [عدنان المبارك: من السرد إلى الصمت/ العلامة ومشفراتها] الكترونيا ً، أدناه مقتطفات ـ من الكتاب ـ  تلقي الضوء على تجربة المبدع الكبير
احتفاء ً بعدنان المبارك في عامه الـ 75
[ممرات الذات من قيود أنظمتها إلى تفكيك حرياتها ]


[1] مداخل لـ: إعادة القراءة

وإن كان لا أحد توقع عما سيحدث للإنسان بعد الموت، خارج احتمالات التأويل، والظن، والتصّور، فإن غالبية الآراء ستجعل عالم الموت، مغايرا ً ـ أو على الضد ـ من مفهوم الحياة. فالثنائيات تيسر عملية إجراء مقاربات، ومقارنات، لكنها، عمليا ً، لن تردم الفجوة بينهما، إن لم تعمل على تغذية انساق العلل، كي تدخل في مجال الوظائف، والمنافع (التداول ـ والاستهلاك)، دون فك طلسمات لغز كلما توسعنا في دراسته نأى وأستحال الى خارج حدود الوسائل، والمدركات.
انني عمليا ً وجدت نفسي في مرحلة نهاية ريادة الحقبة التاريخية لكل ما يُنسب الى (الحديث) في الشعر، أو في الرسم، أو في الرواية، أو الايديولوجيا، لا في التعرف على المنجز، ودراسته، والتعلم منه، ونقده فحسب، بل في التعرف على معظم من غامر في بناء هوية هذا التيار (الحديث)ـ بعد أن كانت الحداثة الاوروبية قد أخلت صخبها لما بعدها منذ عقدين أو أكثر ـ ومحاولة رصد حياة الرواد ـ في الزمن وفي الابداع معا ً ـ وكيف غامروا بخط دروب نجد أن التحدث عنها ـ اليوم 2010 ـ يضطرنا للبحث عن كوكب آخر ـ إنما، وكل في حقله، ناور للامساك بما كان (جلجامش)، أو أصحاب المعلقات وتحديدا طرفة بن العبد، أو (المعري) العظيم، فيما بعد، مع أسماء لا تقل أهمية لها حضورها في عقولنا، وذاكرتنا، وضمائرنا، كما في مدافننا، التوغل في مناطقه النائية، والعصية على الادراك.
أنا واحد من هؤلاء الذين كنت أعد حياتي لدراسة ماذا يعني أو يمثل مفهوم (الحديث) ـ داخل زمنه وخارجه ـ في كل جنس، ومن ثم دراسة العلاقة ما بين الشعر والفنون الجميلة، الى جانب النقد والرواية والمسرح والسياسة والسينما ..الخ كي أمسك بأسبقية أولى ألا وهي: الحرية/ وتحديدا ً بمعنى الحفاظ على استقلالية الهوية، لا إندماجها، أو دمجها. بمعنى: مقاومة محوها.
لقد سنحت للرواد ـ منذ ثلاثينيات القرن الماضي ـ عوامل سمحت لهم بالتعرف على كل ما هو (حديث) نشأ في شروطه التاريخية، ومن ثم، الشروع بمغامرة المحاكاة، والتحاور، والتنصيص، والتركيب، والتلصيق، والانبات في مكان ـ زمان، أخرين!
وأيا ً كانت العقبات التي واجهت أي رائد من هؤلاء الرواد، فانها لم تتحول الى جحيم، بل أصبحت محركا ً لتحديات منحت العديد منم قدرة أفضل على التواصل.
كانت (حرية) التفكير في إعادة قراءة الأسئلة الأزلية / والتاريخية، أتاحت لهم تلمس ما كان يقع وراء الواقع؛ حرية تصنعها الكائنات البشرية لم تعش بعد مآزق: حرب الجميع ضد الجميع، ولم تذق بعد مرارة: الموت الجمعي! فألانا ـ في الغالب ـ لم تعمل على حساب الآخر، ولا من أجل ان تدخل الفردوس لقطف الثمار، والتفاخر بالأوسمة، أو إشباع المكبوتات التاريخية، منفردة. فالمشروع (الحديث) لم يسمح لازدهار نسق: خلص نفسك! أو ليذهب الجميع الى جهنم! أو إلى: تدمير الآخر. ومن يعيد قراءة تأريخ مدن المشروع (الحديث) في العراق: بغداد أو البصرة، الموصل أو كركوك، النجف أو بابل..على سبيل المثال، يضطر أن يتجرع مرارة ان ما قبل (1958) نزولا ً إلى (1920)، ومقارنتها بالعقود التالية، فسيجد أن النظام الملكي، لم يسفك دما ً، كالذي سيتحول إلى حفلات أعراس ومناحات.
بمعنى أوضح كان (الأمن) الاجتماعي، حتى في ظل مناطق مازالت تخضع للإقطاع العراقي، قد سمح للأمن النفسي أن يحافظ على كرامة (ذات/ كينونة) المبدع، ربما باستثناء أيام قضاها الشاعر حسين مردان في التوقيف بسبب ديوان (قصائد عارية)!، فان هذا الجيل أيضا ً، لم يكن مضطرا ً أن يحول مهنة (الكاتب) إلى تابع، أو مؤجر، كي ينضوي تحت اتحادات وجمعيات للـ (الكتبة)! ومادمنا لا نجد مسوغا ً للحديث عن (المعجزات)، فإن الواقع ـ زمانه ومكانه وأرثه وأنظمته ـ لا يمكن أن يستبعد، في استكمال بناء مجتمع سينشغل، سنة بعد أخرى، وضمن الوقائع والإحصاءات والوثائق، بحفر هاويته


[2] من الرهافة إلى نظام الرؤية (ملامح المنهج)

يخيّل إليّ أن حياة الأستاذ عدنان المبارك، ببلورة هويته الفكرية، بدأت بقراءته لتاريخ عصر بواكير التجارب (الحديثة) في العراق، ومنجزها، لكن، بمنهج أتاح له أن لا يستبعد الفلسفة، وبمعنى ما، العقل النقدي، في عمليات التحليل، والتفكيك. وأعتقد أنه ـ ولأن ثمة رهافة ما لا يتمتع بها إلا الفنان كانت ستشكل رؤيته إلى: البشر، والحياة ـ أنحاز لصياغة الأسئلة التي امتدت، عبر العصور، ولم تجد ديمومتها إلا في الاستثناءات، فانه سيتمسك بالبحث (أو المشي في الدرب) بصفته غاية، أو كينونة، وليس تقانة أو وسيلة. فليس ثمة عزل، حتى لو حصل إرباك بين المحركات وأشكالها، أو بين النهايات ومقدماتها، فالغاية بحد ذاتها تنبني بطرائق الحفر، وجمالياته.
أنا شخصيا ً ذكرت هذه الإشارة في كتاب لي ـ قبل ثلاثين سنة ـ استنادا ً إلى ملاحظات عدنان المبارك، في رؤيته الديالكتيكية، وتعلمت منه أن التقنية ليست محض امتلاك (أدوات/ آلات) متقدمة، أو حتى مستحدثة، ومبتكرة، بل إنها تشترط صانعا ً أو صائغا ً يدرك كيف لا يقع في فخاخ غوايات (المستحدثات/ والحداثات)، بل ليجعلها، في الغاية أو في نهاية المطاف، ممهدة لتدشينات حرية قائمة على الدينامية، والتكامل. إن هذا هو ما لفت نظري ـ وأنا أتعثر في مآزق حقبة ما بعد الرواد في العراق ـ في كتبه، حول التكنيك وإشكاليات الفن، والتحولات الكبرى التي حصلت في القرن العشرين، والجماليات، ومتاهات الحاضر ...الخ يكون عدنان المبارك قد منح (الريادة) ما لم أكن قد قراءته عند أحد، بهذا الاتساع، والدقة، والترابط، فالانشغالات لم تعد في حدود (الأشكال)، بل جعلها منهجا ً له في الحفر في (العلل أو في العلل وعللها) كي لا تغدو (الظاهراتية) مثالية خالصة ـ كما بدت لي في الاقل ـ ولم تعد قضايا (الشكلانية) ـ التي تطرق إليها تروتسكي في حديث له مع الشكلانيين الروس المؤسسين لها في عام 1924ـ مضادة للديالكتيك، بل، عمليا ً، ثمرته. فالأستاذ عدنان المبارك، هنا، مكث يحفر (في حقل الكتابة/ ومن ثم الترجمة) في أكثر المناطق رهافة، وحساسية، إنما بالاستناد إلى إبداعات العقل، ومنطق العلوم المعاصرة: ما الذي يستحق أن يُنجز، كي لا يتقاطع مع جوهر الحداثة، بصفتها إنسانية، وليست في إطارها الأوروبي فحسب. انه ـ هنا ـ يجدد نزعة اكتشاف رواد التحديث، في الماضي، قبل أن تفقد بغداد مركزها في الإشعاع، وتتحول إلى أكوام من المخلفات، أي قبل معرفتها بما هو (حديث) بعد نشوء تحولات كبرى، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ودخول العراق في صراعات جديدة.
[3] مفارقات ـ التكرار والأمل
على أن السنوات التي أعقبت قتل الملك فيصل الثاني وتصفية عائلته ـ 1958 ـ كأنها، بشكل ما من الاشكال، غذت لا وعيا ً يرجع الى أساطير دفن (ديمزي) (لأن النصوص الأقدم في رصد الصراع لم تبلغ ذروتها في التصادم بين الراعي والمزارع، لأن ذلك الخلاف انتهى بالصلح ما بينهما، وهو أقدم إشارة الى الرؤية الايكولوجية، فضلا ً عن جوهر الفلسفة السومرية برؤيتها للزمن المفتوح، واستحالة وضع نهاية للتاريخ، لكن إنانا، ستتطهر بإعادة ديموزي من عالم الاموات الى عالم الاحياء، ليرجع لغز الديمومة (الخصب)، كما في أساطير أخرى مماثلة)؛ بمعنى أن حقبة ما بعد 1958، التي كان عدنان المبارك عارفا ً ـ برهافة فنان أو حساسية متأمل ـ بمحركاتها، وقد صاغت سلاسل مروعة من الاشتباكات، والعنف. لقد حدث، للمرة الأولى، بعد ثورة العشرين، غيابا للأمن النفسي، أثر حصول تصدع في البناء الاجتماعي، فضلا ً عن الاضطراب الاقتصادي، بين الوفرة والفاقة، الامر الذي لم يسمح إلا كاستثناء، بالحفر في مشروعات (الحداثة) وتطبيقاتها.
كان جيل عدنان المبارك، منقسما ً حد التناحر في مفاهيم العلامة، والاشكال، وليس في الأسس، وربما كانت علاقتي بالشاعر فاضل العزاوي قد يسرت لي ليس قراءة نتاجات هؤلاء الاساتذة، بل التعرف على خفايا دوافعهم في اختيار مناهجهم، وفي حياتهم، وهو المناخ، والشخصيات، والآثار التي كان عدنان المبارك يراقبها، في مكان، لم يسمح لي بالتعرف عليه شخصيا ً، وإنما سمح لي بالتعرف على فجوات بالغة العمق بين كاتب أو فنان وآخر، فجوات تخص المنهج، والتكوين، والمفهوم (الانساني) للنصف الثاني من القرن العشرين، حيث نسق (الشركات) الكبرى ذهب أبعد من اية محاولة للإشارة إليه، عدا بعض الماركسيين، باشارات كان ماركس قد نثرها في رأس المال؛ إشارات لا تخص (الانخلاع) و (النفي) وتحول البشر الى سلع ـ وأشياء، فحسب، بل إلى مستقبل التصادم ذاته، وما ستؤول إليه بعيدا ً عن ادق مخيال متخصص بالأنظمة، حيث الحداثة أخلت مساحتها (في أوروبا وفي القارات التي مازالت مصائرها رهن الاستيراد ـ الاستهلاك/ بمعنى التي مازالت تتعثر في حسم قضايا كبرى كالتاريخ، والعقل، والحرية) لأنظمة مغايرة، ستلتقي بمشروعات النظام الدولي (الجديد/ بعد 1970) وجعل المجهول، بدل أن يكون مرآة تحدق فيه الاحداق (منذ نيتشه الى هيدجر) طيفا ً يعمل بالخيمياء في أبعد مفاصل الحياة اليومية ـ ومشاهدها المثيرة للقرف ـ والدوار.
كان وعي عدنان المبارك، ككاتب منشغل بالاسئلة الفلسفية، لا كنصوص إنشئت في الماضي، بل كآليات عمل على صعيد المنجز المعرفي، والفني، في (الحاضر/ الذي شغل هيدجر ومن ثم سارتر)، قد جعله يرى كم المسافات شاسعة بين الكائنات! الأمر الذي جعلني بقراءة منهجه النقدي ـ أن أقارن بين: مدن، وحدائق، ومعمار، وطرق، وفنون، وأزياء، وأخلاق، وأفكار، ومدافن، ومستحدثات مختلفة، ..الخ في عالم تتراكم فيه ما كان قد تراكم لدى الصياد الأول: أمير الغابة، أو سيد الجبل، وبين قارات ليس لدى سكانها إنشغالات، في هذه الحقول، إلا على جعل الهاوية بلا قرار! فأية (حرية) ستتيح لعدنان المبارك، أن يختارها، خارج القسر، أو بعيدا ً عن أوهام الاختيار..؟



[4] الذات ـ الحرية وإشكالاتها
"حرية"جد مقننة، منضبطة، وقد صقلها في محاولة أن يمنحها حقيقة أن الذات بالغة الدقة بين قيودها وتحررها منها؛ علاقة الذات مع الواقع، ومع الإرث، ومع المخيال الاجتماعي، الأمر الذي دفعه لاستكمال دراسته العليا لتاريخ الفن ـ دون إهمال فلسفته ومشفراته الجمالية ـ في جامعة وارشو. فبين التاريخ وفلسفته مسافة كالتي سمحت له أن لا يجد شيئا ً يقارن بين محاكاة، واستعارات، وظلال حداثات في المنجز الريادي المحلي، وبين مآزق كبرى لم تهملها حقبة ما بعد الحداثة، خاصة أن الحرب الباردة، في أوروبا، كانت تمهد لعولمة كانت تفرض نظامها على نحو غير مباشر. فالتقدم التكنولوجي ـ ما بعد الصناعي وما بعد المعلوماتي ـ كوثبات، لم يحصل بدافع حب المعرفة، أو بنزعة إنسانية يمكن أن تقترن بماضيها، في عصر النهضة، ولا بالمعتقدات التي كان لها أثرها في القرن العشرين، كالماركسية والوجودية ـ ولم يكن التطرف ظاهرة معلنة كما ستأخذ دورها بعد عقدين ـ كان وعي مبارك (للحرية) قد ولدّته حياته ذاتها بين بلده الغارق في العشوائيات، وبين أوروبا وهي تبلغ ذروة حداثتها ـ وشيخوختها. فالذات لم تتعثر بسبب هذه العوامل (المحلية/ العالمية) كبديهية فحسب، بل باستحالة أن تجد في (اللاحدود) ماهيتها أو إنسانيتها.
لكن ماذا لو كان عدنان المبارك قد أختار استكمال حياته في بلده...؟ أكان سيؤدي دوره كرائد في إعادة صياغة مفهومات متعددة وبرامج متنوعة للتحديث ـ وصولا ً الى العولمة، وهو الذي سيقوم به عبر الكتابة، أم ليحقق آلية ما لا واعية لإشكالية الإنخلاع؟ إن الذات في صياغتها للجماليات ـ بتنوع المناهج وبتعددية الوسائل ـ منحه وعيا ً آخر للحرية ليس بصفتها خلاصا ً،أو كينونة جمالية، أو دافعا ًلبناء عالم أقل تشوشا ً، بل للبحث عن موازنة خفية بين وجود لم ينف أن للمصادفات نظامها،إنما التصّورات، والنظريات، والمعتقدات التي تحكم عالمنا ـ في شماله أو جنوبه ـ لا لتحقق إلا قدرا ً للذات وهي تنفصل (وتؤطر) فيها حريتها، أن ينشغل بالعثور على مغزى ما للجمال، وللقيم، كالمعايير الاخلاقية، في دراسته للفنون كمقاربة لبلورة رؤية ما للذات بصفتها ليست فائضة، مثلما انها لا تمتلك إلا أن تصنع مخيالها المُستحدث، لكن ليس على حساب قطيعة مع ماضيها، إنما المستقبل (والانشغالات بالمستقبليات في تقدم مضطرد) لن يكون سببا ً للاطمئنان.
إن جذور عدنان المبارك الفلسفية، ستبقى تحافظ على عمل اللامرئي في تحوله من الدراسات النقدية، نحو الأدب، أو فن السرد. فالحرية، في الحقل الأول ـ من منظور كائن (منفي) إلى كائن (أوروبي) في الاقامة ـ لم تعد كلمات أو تصورات، أو علامات غواية، بل أصبحت تتضمن اشتغالها بما يستحيل إنجازه بيسر. فالمثنوية (القائمة على التعارضات/ منذ أيوب السومري، والعادل المعّذب الذي يسرد حكايته احد حكماء بابل، وصولا ً الى نصوص المتصوفة، ومعتزلة بغداد) لن يدعها تعمل عملها كمصادفات، حسب هذا المنهج الاوروبي الخالص، ولن يراها مبرمجة (وشغفه بالاطلاع على علوم المورثات وهندسات العصر والمشفرات تؤكد منهجه الديالكتيكي) حد نفيها لكل أمل في تدشين ما لم يدشن. لكن ما الذي باستطاعته (كذات تشبثت بحريتها) أن تفعله بعد أن بلغ التقدم التقني حقبة يصعب على مناهج (الحداثة) أو (ما بعدها) من سبر آليات تحدد أغراضه، غير أن يجد نفسه، والعمر يتقدم، أن يحدق في قفا ـ ومرة أخرى في اليومي المجاور للمجهول ـ مرايا وجود كأن اليد (الخفية) تعمل على زعزعة الصورة، وزاوية النظر، كي يحقق الوجود، بكامل حريته، أحد أكثر غواياته في إدامة كل ما هو غير قابل إلا للاندثار ـ وضمنا ً، استحالة الركون إلى ضمانة قائمة على ما يتركه الأثر ـ أو حتى رمزيته.
1/9/2010


قراءة في قصة (سفر الفناء )



[1] حد بين حدين: إشكالية المسافة

اللغة تخفي أيديولوجيتها، لأنها تتستر عليها، وعلى ما تخفيه، لكنها لا تخفي سرها، فهي، في الحالة الأولى، تعمل لغاية محددة، فيما لا تمتلك اللغة إلا ان تنتهك السر، أو تدمره، أو تعلن عن عجزها في المناورة. لكن الفن ليس لغة، كعمل اللغة في الاتصال والمحاورة، وإنما تبقى الاقتراب من سبر نشأتها، بمجموع العوامل، وفي مقدمتها الإنسان ذاته. فهل الإنسان ـ كباقي الكيانات الناطقة ـ يسعى الوصول إلى الذروة: العجز، واستحالة فك المناطق التي لا تعقبها مخفيات تتطلب جهدا ً، ووعيا ً، وأدوات توازيها في الانتقال من الملغز إلى مكوناته.
وبمعنى ما فأنهما ـ لغة الفن ـ والفن الذي استدعى استخدام اللغة، يشتركان/ وينفصلان في تكوين معادلة برهنت عن تدرجها من الوظيفي إلى الديمومة، ومن المعلن إلى المتستر، ومن القابل للتفكيك إلى استحالة تتبع أثره، وقد غاب، أو اختفى تماما ً.
فالأيديولوجيات، بمعنى الأقنعة، والتصوّرات، تحافظ على مسافة ما، تتسع وتتقلص، لمن منحها حضورها، الأمر الذي يجعل ديمومة الصراع، كديمومة الحركة، تهدف إلى ما هو ابعد من السطح، والظاهر، والقناع، لكنها ـ تلك المناطق النائية ـ تمتلك كل ما سيجتمع في الأثر: الختم. وفي مكونات هويته. إنما لا تمتلك الأخيرة إلا في حالة الاضطراب ان تعلن عن ذاتها، أي في حالة الاندثار أو الموت. وبمعنى مباشر: عن الديمومة، أو الإرادة، أو الاستجابة لاستكمال الدورة.



[2] السؤال: ديمومة الاستحالة
لماذا تستحيل اللغة عند عدنان المبارك إلى (ختم): إعادة بناء ما تم حفرة، نبشه، بالأحرى محاولة الاشتباك معه من غير خسائر، وترك المعنى يعمل بالية دورته! ولأن لاوعي الكاتب لم يتنصل عن تاريخ لا وعيه المعرفي، سمح لوعيه بالتجول في تلك المناطق. كان الختم خلاصة فلسفة ان العدالة (في الأصل) إشكالية. فالعبد ـ في المحاورة السومرية ـ لن يسمح للسيد بالذهاب ابعد من موته. وقد دوّن الكاتب السومري، في الختم، استحالة عزل اللغة عما تخفيه/ وعما تعلنه، في هذا الديالكتيك. فاللغة ـ بعد ان تقول ما تريد إيصاله ـ تسكن مأواها: هذا الذي لا يمكن تجنبه: ان العدالة لن تكمن إلا باستكمال دورة الإنسان: موته، كي يبعث، ويبعث كي يرى ما هو ابعد من موته. أساطير ديموزي تفصح عن مدى استبصار السومري للحد من التناقضات، وجعلها، بدل التصادم، تأخذ نسق التكامل. فالشقيقان، الراعي والمزارع (قابيل وهابيل مستقبلا ً) لن يقتل احدهما الآخر، بل سيكمل احدهما عمل الآخر. انه سبر استثنائي لجوهر العدالة في الفكر السومري، دون إهمال ان (أيوب)، في الأخير، يترك سؤالا ً لن يجد إجابة إلا عبر ما سيضاف، ويقلب، في العصور اللاحقة. فأيوب لم يجدف، وضمنا ً، لم يول (الشطان) ـ ولا نعرف كيف تسلل الأخير إلى مجلس الإله ـ إلا عدم الاكتراث، الذي سيراهن عليه الإله، في حواره معه. فأيوب لم يسأل: ما الحكمة من الامتحان...؟ لأن أيوب حدد وجوده بالمحدود، فهو من التراب واليه يعود، عدا ان (النفس) أو (الروح) ستحل لغزها، وعملها، مادام الامتحان لا يخص الذات العليا، بل يخص الزمن، والأخير، لا يصح ان يذهب ابعد من زواله.
هذه الإشارة التي تعزل الزمن عن (داخله) أنتجت آلاف الأختام ـ الألواح، بما فيها من تشريعات، وقبل كل شيء: أنتجت فنها، بنية الختم، كبناء استمد قوته من عناصر الحياة ذاتها: مرئياتها ومخفياتها معا ً. ومثال أيوب، في نجاحه، لن يعّول على الزمن إلا ممرا ً حسب، أي درجة ـ مساحة، من العبور، وهو الذي سمح له ان يتساءل: من منا في مأزق! سؤال سيتكرر طالما استعاد الفن هويته، لغة تفند الوظيفة لدمجها بما لا يثير الشك، في مواجهة فنائه.
[3] سِفر الفناء
كما يعمل الختم ( تجانس عناصر: الوعي/ اللغة/ الزمن/ الوظيفة، وضمنا الهيئة مع ما يذهب ابعد منها) ـ لكن ليس بالمعنى السوريالي: سبر مناطق اللاوعي/ أو اللاشعور، في إشارات لبريتون وبياناته، بل بقلب السوريالية وجعلها لا تترنح، بل تعيد صياغة المسافة ذاتها بين نهايتها والمقدمات ـ فان عدنان المبارك يفتتح قصته (سِفر الفناء) باستشهاد لإميل سيوران، بما يصح ان يكون خاتمة: "كان هناك زمن حين لم يكن أي زمن". فماذا يستطيع، غير (الختم/ اللوح) وليس النص كما تداولته الحداثة الأوروبية وصنعته ـ ان يبنيه. فما ـ هو ـ غير الزمن ـ سوى الوجود خارج اللغة، وخارج أية وسيلة للتقدم ، أو حتى للارتداد ، أو للمراوحة. انه ليس العدم ، إلا اذا كان العدم ، بحسب فلاسفة بابل ، ذروة إرادة الآلهة. وهذا ما تحول إلى إشكالية عند الهنود، عندما اضطروا لوضع حد بين الصفرين. إنما، في الأصل، كان ثمة ما هو سابق على الزمن: أي الذي لا تستطيع اللغة ان تمنحه وجودا ً. فهل ستأتي التكملة فائضة، للبرهنة أنها كانت قد بلغت خاتمتها، في الأصل، أم لأن الكاتب، عدنان المبارك، لم يغادر مفهوم لغز تكون بذرة الخلق الأولى ـ لأنها لم تعد حتى بعدم تدخل الآلهة أو عدم وجودها في الأصل: تحكم دورة البذرة، دورة المفتاح في القفل، فيغدو السَفر/ الرحلة، كواجب الوجود ـ ولكن للذات في مواجهة فنائها، فينغلق السؤال بالإجابات. فالسومري كان منتبها إلى ان شفرة الإجابات كامنة في السؤال نفسه، وهذا ما سيقوله ماركس، بعد خمسة آلاف سنة. بمعنى: ان العدم وجد امتداده في المساحة المشغولة بالزمن، كي تتحدد المعضلة في إطار: العناصر ـ وحركتها، وليس بفنائها. فالإنسان غير مخول لذلك، الأمر الذي دفع بالكاتب السومري للتفريق بين أهداف: عناصر الخلق، وبين مفهوم الخلق. إنها مسافة توارى فيها العدد بين ان يضع الصفر إلى اليسار أو إلى اليمين. لأن المعادلة تامة، في أصلها، أما ظاهرها، فانه سيحافظ على زمنه، وتاريخه. وضمنا ً كل ما يتعلق بالعدالة: لماذا حكم الموت سابق على الولادة ! وهو الذي شوش ـ وشكك، في منطق يحاول بناء تصور للآلهة، أو لدورها في تكبيل المحدود بالطاعة، والشقاء، واللا متوقع، تزكية للذي يستحيل ان يكون له وجود، لا بالتأويل، ولا بالصورة، ولا حتى بالمشفرات ! الختم الذي سيعيد بناءه عدنان المبارك، يدمج ثقافة (كلية) تمد الذات لمغادرة الزمن، كي لا تحصل أو تجني على ما كان جلجامش يبحث عنه، بل عن دحض وهم هذا الذي لا وجود له ، إلا في حدود الزمني ـ وقد كانت خاتمته سابقة على الحضور.
فهل يمكن ان ترفض الولادة، وهي مكبلة بالصفر، أي بانعدام الإرادة، إن أميل سيوران يسترجع تاريخا ً ينسج بنسقه هذا الذي تحول إلى (ختم/ لوح) لدى المبارك : العدد بين الصفرين!

قراءة في نص تشكيلي

عدنان المبارك من صمت التدوّين إلى دينامية الصو

[1] إشارة

هل أنا إزاء قراءة نص تشكيلي، أم قراءة صانعه، هل أنا بصدد استذكار ما غدا ماضيا ً، أم تتبع ما فيه من باثات، هل أنا بصدد تأويل علامات، تراكمات، انصهرت، وانتظمت كي تسرد، تُوصل، أو تخفي، إلى الأبد، استحالة ذات المحنة الكامنة في كل نص مركّب، مستحدث، ومشفّر، يغادر آليته بالامتداد، أم أنا بصدد قراءة أداء لوظائف عمرها يرجع إلى زمن تكوّن بذرة الخلق، أم أنا أتداول الحضور استنادا ً إلى ما هو قيد الغياب، وأخيرا ً، ما ـ هو ـ موقع النص الفني الذي غادر الرسم، الملصق، التوليف، باستخداماتها نحو عصر يعيد أقدم أسئلته: الموت الجمعي، والموت للجميع، والحياة لصانعي الرماد ـ الحضارة..؟ بمعنى هل الذاتي، غدا معرى، والمستور فضيحة، وهل قصد عدنان المبارك، ببراءة، تدوّين لغز (الآثام)، أم منحه جهده دوافع الاغتسال، كالذاهب إلى عرس، أو إلى معبد، أو كالذي يقوم برحلة من الزمن إلى الصفر، أو العكس..؟
الإجابة التي ستتجمع عندها تأويلاتي ـ كلماتي في الكتابة/ النص الآخر المستحدث ـ كامنة في أن: الوعي ما هو إلا تاريخ سحيق رتبّت الحواس نظامه بالعلامات. فالخطاب ـ إذا ًـ إشكالية، وليس محض تعبير، أو سلعة للتداول، بل سيتضمن ذات المبهمات النائية التي منحت أصابع أسلافنا قدرات الحفر فوق الحجر، العظام، والجدران، بما يتجاوز عمل السحر، ليسكنه، وليكّون ذائقة خاصة بدوافعها ـ المادية، والرمزية، والروحية ـ وهي الجمالية، إنما كأنها تتحرر من المحدود نحو مصيره: المغادرة، بصفتها إقامة؛ حيث النهاية تمتلك لغز تدشيناتها، كالبذرة حبلت بهذا الذي أنجبته، ولا نجده، إلا حاضرا ً حيث السابق عليه يتحقق بالامتداد. انه ليس الوعي مقيدا ً بشروطه، واليات انعتاقه، حسب، بل لأن الانعتاق ذاته يؤدي حضور المستور عبره، بما يميز الرهافة، ويضعها أعلى درجة في الإدراك، والمعرفة ، في بناء الخطاب، بصفته تضمن لغز انبثاقه، وقدراته على الاستئناف.

[2] المتلقي

قبل تبلور مفهوم موت (المؤلف) ـ بل وقبل ان يتحدث هيغل عن موت الفن ـ بزمن طويل، زمن يرجعنا إلى: العدد. فالعالم يتكون من عناصر؛ من ذرات، ومن جزيئات، ومن لا مرئيات أخيرا ً، وهو في تحولات ـ دورات ـ محكمة، تعمل باليات بالغة الإتقان، والدقة، منها ما هو قابل للمعرفة، بحسب أدوات البحث، ومنها ما هو قيد الاكتشاف. إلا ان هؤلاء الذين قسموا الزمن إلى وحدات، ومنحوا الأسفار تاريخها المدوّن، كانوا وضعوا مسافة بين: السحر ـ العلم، وبين: الوهم ـ الحقيقة، وبين: الظن ـ اليقين، بدءا ً بالفيزياء، مرورا ً بعلم العرافة، وليس انتهاء ً بصهر المعادن، وتشفير النصوص كي لا تقارن بالكلام العام، والشفوي، هؤلاء فرقوا بين ما هو مقنن وخاص بالآلهة ـ السابقة على خلق الإنسان ـ وبين الإنسان نفسه، الحاصل على نسبة الثلث منها، وهو ما وهبته كـ (نفس) ليأخذ الطين مداه لكائن تجاوز عصر : الذرات/ النبات/ الحيوان، نحو: الشغف بالمعرفة.
لقد قُتل المؤلف، ولم يمت، والقضية برمتها رمزيا ً تفرق بين المسافة: في الأعلى ـ والأعلى منه ، إلى ما لا نهاية، وبين الكائن المحكوم بالعناصر التي شكلت قيوده ـ وحركته، كي يولد من يفسد في الأرض، بالضوضاء، وفيما بعد بسفك الدماء. انه المتلقي، الخليفة، ممثل الآلهة، وظلها، أي، الفاصل بين اللازمن ـ والزمن.
فالمتلقي وحده، بحسب أدواته، يدوّن ويمحو، يؤسس ويهدم، يحضر ويغيب، فهو يعمل بقانون البذرة، لا تجدد من غير دفن، وديموزي أقدم مثال شعبي له، فالقانون هو (الشيء في ذاته)، نظام البنى والوحدات، والوليد ـ المحكوم بالإنبات ـ هو: المتلقي. وليس مثال جلجامش إلا إشارة لفك العلاقة. فالخلود ليس ـ وهي حكمة الملحمة من ناحية، وهي حكمة كاتبها من ناحية ثانية ـ إلا تتابع مواقف لترتب علاقة (الفاني) بالذي لا يموت، بل بالسابق على الموت أصلا ً.
عدنان المبارك، لا يقتل المؤلف/ الفنان، عبر النص، بل يدفنه: يركبه، يعيد بناءه، يشفره، عبر استذكار علامات ـ إشارات، رموز، كي يغدو النص الفني مرآة مزدوجة: تارة هي التي تحدق في الآخر، وتارة يحدق الآخر فيها. فأين هو (الوجه) ..؟ انه حاصل عملية التذوق ـ التفكيك ـ المعرفة. فالفن ـ على خلاف منطق أفلاطون ـ يمتلك قدرا ً كبيرا ً من التجريب، وهو مسار معقد بين الحتميات/ الموجودات، وبين ما هو قيد التدشين.
فالفنان يدفن، يخفي، كي يسهم ـ في عصر ازدهار جبروت الأنظمة الحديثة ـ ليمنح النص الفني الأسئلة ذاتها التي تتابع عبر الإجابات، لكن كي تعيد سلاسل الصدمة ـ الدهشة. فالموت لا يصبح إلا ممرا ً، مادام قد غدا علامة للحضور.

[3] الخامات والإنشاء

أكانت جدران المغارات، في الأصل، حماية للجسد، أم انها كانت شبيهة بعظام الرأس (الجمجمة)، كلاهما يؤديان دور الحماية..؟ أيا كان الاحتمال فان الرحم مهد لتكرارات لا تحصى سمحت باستحداث ـ للمرة الأولى ـ مفهوم أو نسق: التوليد. فالأصابع التي رسمت فوق جدران الكهوف، مهدت، للدماغ، ان يمنح اليد تخصصات غير تخصصها في الصيد ـ والقتل. فالمخالب شُذبت كي تُهذب لتجري أقدم صيغة للحوار، وللنسق المجتمعي ـ بعد تكّون المجتمعات المصغرة؛ من الكهوف إلى مدن الحداثة الكبرى.
وعدنان المبارك، لم يهدم سطح الجدران، بل وجد حياته مقيدة، أو محكومة، بنظام المدن الحديثة. فالجدران ليست وهمية، بل هي: شاشات، صور، حدود، ومساحات لكنها تتمتع بتدفق، تتابع، تقاطع، وتداخل لا يسمح للسكون إلا ان يتلاشى داخلها: يسكنها. لذا تراه جمع (15) شكلا ً هندسيا ً منتظما ً، إشارة تتجاوز مفهوم التزامن، أي وقوع حدثين في زمن واحد، نحو: حشد من الأفكار، الخواطر، والوقائع، عبرت عنها الأشكال بما يتجانس، يتلاءم، معها. فالتطابق لا يتمثل بجدلية الصورة مع الفكرة، كمفهوم كلاسي، أو تقليدي جدلي، إلا عبر سلسلة من المتغيرات/ الصدمات، أدت إلى بناء نص مركب، يكمل كل جزء الجزء الآخر، ويناقضه، ليقربنا من ـ ويبعدنا ـ عن رسومات الماضي ـ: رسومات عصر الكهوف!
ولعل أداء الأصابع لم يختف حتى لو كان العمل ذهنيا ً، ويجري داخل المنظومة الذهنية، فالأداة (الماوس) ضمن عمل الليزر، لم تصبح منفصلة عن علاقة الدماغ بالحواس، ومنها، حاسة اللمس، بعد حاسة البصر، وباقي الحواس، بالاستجابة وبرد الفعل، والتحكم بالنتائج. فالأصابع لم يتم استبعادها، لا عمليا ً ولا رمزيا ً، وكأن عدنان المبارك يخبرنا بالعودة إلى الأصل: الحيوان ـ الإنسان، لأن الإنشاء استند إلى السرد، لكن ليس على حساب عمل الجسد ـ الأصابع، ولا على ما هو خاص بالذهن، ولغز اشتغالاته العنيدة عبر الديمومة، أو إرادة الوجود.
لماذا بدا النص الفني شبيها ً بالنصوص القديمة؛ نصوص الكهوف، وما بعدها، تجّذرا ًوتحويرا ً، قربا ً وابتعادا ً، صلة وقطيعة ..؟ لا إجابة أدق من التراكم ـ التزامن المركب ـ الصهر، والتحول من الكم إلى النوع ..الخ، لتقليص المسافة أو اختزالها، لردم التناقض، ولكن كي لا يفقد مغزاه. فإذا كانت العشرة آلاف سنة قد تركت لنا تجارب مكدسة، في مساحة واحدة، تكّوم بعضها فوق البعض الآخر ـ من الرسم باللون الواحد إلى تعددية الألوان ـ فوق الجدار، لتحكي مرور الأجيال، والحوادث، والأزمنة، قبل عزل كل شكل أو كل صورة عن الأخرى، لنجد انها في النهاية ـ بعد عشرة آلاف سنة ـ تحكي زمنها الفني، بدمج جهد استغرق هذا الزمن، وتحولاته، كي يبلغ ـ في نصنا الفني المستحدث ـ دخول الحاسوب، وهو يؤدي أوامر الدماغ/ الوعي. فهل التوليف محض انشغال ذهن تصميمي لدحض مفهوم: الإعلان..، والعودة للعثور معادل بين (المعنى) والصورة، أم غدا بحثا ً في تقنيات التعبير، ومنح الخامة (الليزر) ـ وليس أدوات الرسم الأولى: الفحم، والخامات العضوية، والمعدنية ـ معادلها مع ما يدور في الرأس ـ وما يحدث خارجه ..؟
إن إعادة قراءة جدار تراكمت عليه أو فوقه رسومات عشرة آلاف سنة، هي من صنع (النوع) وليس من صنع (الفرد)؛ أي ثمة وعيا ً جمعيا ً قنن دور الذات في إطار تقاليد الرسم ـ والفن التشكيلي عامة. لأن الحداثة البدائية كانت ثمرة آليات مستحدثة دخلت فيها عناصر: النار وكيمياء الألوان وتقنيات حرفية التخطيط والتلوين، ومن ثم التعبير ..الخ، كي يتوازن عمل (الأنا) مع التراكم الزمني، ويدخل في إنشاء النص الفني الجديد: فثمة ما لا يحصى من الأزمنة، والخبر، والمخفيات، اجتمعت ـ ركبت/ تداخلت، في العملية الإنشائية، أو البنائية.
فالعلاقة إذا ً تدحض ـ وتؤكد، سياقا ً يمنح التطور مغزاه في الارتداد إلى الأصول، وفي الخروج عليها ـ وعنها: معه وضده معا ً، مادام النص الفني يواجه المتلقي بحشد يكاد يدحض أي قرار أخير لأي معنى من المعاني، عدا ديناميته، كي نستعيد قراءة مستحدثة لتراكمات أزمنة في نص قديم ـ جديد.
قد يشرد الذهن ـ للمقارنة ـ بالعثور على علاقة مع الملصق الحديث: السياسي او التجاري او الفني، وهي علاقة لم تظهر في الرسم العراقي بجلاء كما ظهرت ابان عقد الستينيات من القرن العشرين، بظهور خبرات تدربت ودرست تقنيات الحاسوب في الفن. على ان عدنان المبارك ـ بمحو اثر عمل الأصابع والخامات ـ يحرر نصه الفني من مفهوم الرسم التقليدي، كي يغدو ذهنيا ً، مع تقنيات الليزر، يمنح المتلقي الإيحاء بالعودة إلى أزمنة أقدم للحفاظ على العناصر والمعالجات المتوارثة. فهو لا يخاتل، بل يمسك بالمعنى في امتداده، من غير وضع خاتمة له. فهو لم يكرس نصه الفني ليؤدي دور (الدعاية) أو ضدها، بل اختار المستطيل، شكلا ً للعمل، ولم يختر الدائرة، أو المثلث، وهذه قضية أخرى تمهد إلى تأويل يستبعد المصادفة في اختيار الأشكال.
وبمعنى ما فان الملصق ـ بتعددية أغراضه ـ كتأثيرات الرسم، سمحت له ان لا يعمل ضد الرسم، بل اختار أشكاله، للحفاظ على مراقبة سلاسل من الوقائع، والمشاهد تواجه المتلقي، وقد اختزلت ـ بتجريد او تشذيب مناسب ـ في مشهد مركب، وهو ذاته الدال على استحالة تحديد معنى ما من المعاني، لكن هذا لصالح الكثافة، وليس لصالح الصفر.
لقد قرأ، وشاهد، وترجم عدنان المبارك عشرات الكتب الخاصة بالحداثة. فهو ـ هنا ـ يذهب ابعد من الحرفة. ولعل الموجة التي نادت بتحرير الرسام من الرسم، وتحرير الشاعر من الشعر، والكاتب من الكتابة، أي ان يصبح كل إنسان رساما ً، مثلما بإمكان أي مواطن ان يمتلك خبرات أسلافه، بل ويتجاوزها، بحسب إشارة لتروتسكي، فانه يكون قد حرر نفسه من الحرفة، وقيودها، كي يمتلك بدائيتها المستحدثة. بمعنى: تقمص ما دفن في (الدماغ) من أزمنة، وتحديات، ومشفرات، تركها تأخذ موقعها في الإرسال. فالخبرة ليست (قبلية) إلا لأنها كامنة، ماديا ً، وقد وجدت تحررها بمعالجات لم تتأطر بشروطها المتزمتة، أو غير القابلة للتطور، والنمو.
فالنص ليس إعلانا ً، إلا بصفته يمتلك تقنيات الملصق الحديث، ولكنه، في الوقت نفسه، استبعد مجاله التخصصي. فهو تجنب مفهوم موت الفن، بتحوله إلى سلعة، ليمارس الدور ذاته الأرواح التي صاغت خطابها فوق جدران المغارات. سحر معزز بالتجريب، وخيال استند إلى الواقعية (البراغماتية)، فهو ليس عملا ً فنتازيا ً، راديكاليا ً، دادائيا ً، استفزازيا ً للذائقة ـ أو للبصر، أو للتقاليد عامة، ولكنه، عمليا ً، كمثل الذي يتكلم بأكثر من لغة، وبأكثر من دافع، ولأكثر من لوعة ..الخ، كي يقربنا من المعنى، وليس كي يكتفي بالعمل ـ من اجل العمل. فمع ان ما سعى إليه (مالاراميه) ـ وتيار الفن من اجل الفن في فرنسا، وجهود الانكليز الجماليين في هذا المجال ـ قصدت الحفاظ على الدلالات الخالصة للفن، وعدم خلطها بمفاهيم التعبير، وسيادة اضطرابات (الأنا)، وكل ما هو مضاد للأعراف (النقية/ الخالصة)، فان مفهوم (الفن للفن) ليس زائفا ً، إلا عندما يتم عزله عن مجتمعه الكلي، أي عن الإشكاليات ـ وليس المشكلات ـ التي عالجتها أقدم النصوص ـ الشبيهة بالفن وصولا ً إلى الفن وما بعده ـ حيث استفاد، واستثمر، وتغذى، عدنان المبارك بمعالجتها تلقائيا ً، متحررا ً من القيود، إنما بمهارة ليست فطرية.
إذا ً، الخامة المستحدثة تبقى ذات صلة بالعناصر ذاتها، لكنها بدل ان تمتلك كثافة، وخواص، الخامات القديمة، امتلكت آليات عمل الليزر، واليات عمل الكومبيوتر، من ناحية، وبمهارات السيطرة على الأشكال، والتحكم بها، والحفاظ على المعالجات الكلاسية (الأسس) التقليدية، المدرسية، والمجربة، من ناحية ثانية. لذا فان ثمة انتقالة من الرسم الشائع إلى الرسم بالحاسوب (الفوتو شوب)، وبالعكس، صاغ معادلا ً يسمح للمتلقي بالعثور على استثمار وحدات بالغة القدم، تقع في المدافن، وفي الطبقات الغائرة من الدماغ، في صناعة حداثة النص الفني، كحاضر غدا ماضيا ً، وكمستقبل قيد الدخول في ماضيه، لكن الإشكالية تحافظ على توترها، إزاء عالم مازالت ثمة جمرات مخبأة تجرجرنا بالنظام ذاته الذي أنتج بذور الخلق الأولى، ومنحها شروط تحديها للاندثار.


[من الوجه الى المجهول . تأملات في بورتريهات عدنان المبارك]


[1]: مكونات، تتابع/ تحولات

لم يكن للبورتريه ـ الرأس تحديدا ً ـ أهمية تذكر لا في تماثيل الآلهة الأم، ولا في رسومات الكهوف ـ بين 100 ـ 20 ألف عام ـ فلم يكن الرأس قد استقل بعمله، كمركز. كان الجسد مأوى اللغز، لغز بذرة الخلق، كتاريخ للعصور اللا تاريخية، وهو اللغز المزدوج: للغذاء ـ وللخصب. فلم تدجن الحيوانات، وتروّض، ولم يتم انتقاء المحاصيل، وتحديد قيمتها، إلا كجز من آلية البقاء. فكيف انبثق مفهوم التدوين من اللا تدوين، والزمن الأرضي من اللازمن ـ أو من الزمن الكوني، أو من العدم..؟ فلا رؤوس للدمى، إلا كعلامة فائضة. وفي رسومات الكهوف، إشارات نادرة لنقاط تمثل الصياد، فالحواس مازالت تؤدي ما عليها من وظائف، ولم يتح التراكم لها ان يتحول الرأس إلى مركز. فكانت العصور البدائية السابقة لعصر التدوين، تدوّين تاريخ (القلب) ـ الجسد/ الدم/ وطقوس القتل ـ من ثم، عندما لم يعد (القلب) وحده لغزا ً، ولا الرحم، تربع الرأس على العرش. انه أقدم شكل للمثلث: الهرم، النظام وقد أعاد للمركز سطوته على القاعدة. ولم يتأسس هذا النظام ـ التشكيل ـ بمحض الخيال، أو بقوة خارجية مستقلة عن (التجريب ـ التاريخ)، بل غدا التدوّين أقدم عمل لقلب الاقتصاد (العشوائي) إلى الاقتصاد المنظم. فالهرم لم يتخذ المثلث علامة له إلا إيجازا ً لنظام: الصياد ـ الطرائد. فالهرم ليس رمزا ً للموت، بل لقوته، وقوة الموت، ـ منذ مقتل ديموزي وانبثاقه، دون إغفال اشتغالات مراثي سومر، ومراثي أكد للنسق ذاته، لكن جمعيا ً، بعد ان كان بحدود الإله الواحد ـ هنا، مستمدة من التركيب المعقد للمتناقضات الخاصة بالرب القدير، وهو يستعين بالعناصر الأرضية في خلق الإنسان، الطين والماء، وفي الأسطورة البابلية، الطين والدم. قوة الهرم تعد أقدم (بورتريه) للوعي الجمعي ـ وآلياته ـ بالتجريد الهندسي. فهو رمز الإله، ولده، وهو الإله ـ الفرعون، الذي لا يموت، وإن مات ـ كجسد ـ فالروح ستعود له. فهو قوة كامنة، قوة دائمة، قوة لا يمكن قهرها. بمعنى غدا (البورتريه) مركزا ً لاواعيا ً للصراع ـ العام والخاص ـ الصراع مع الطبيعة وضواريها وقسوتها، ومن ثم الصراع مع البشر ضد البشر، صراعا ً تطوريا ً لخص تاريخ صنع الأدوات، وتقدمها. تاريخ تبادل السلع من الفوضى إلى حرية السوق. وليست أسطورة (نرسس) إلا مثال يؤكد ان ما رآه نرسس، فوق سطح الماء (المرآة)، ليس محض اكتشاف للرأس، فحسب، بل دافعا ً لمنحه كيانه الجديد. انه ليس أنانية محض، وإفراط في الإعجاب، وغلو إلا للانتقال من (المخفي) نحو المعلن: من الجسد/ الأم، الكهف، البذرة، النواة ..الخ، نحو المفتاح. فإذا كانت تلك الكيانات تمثل القفل، فان انشغاله بالبحث عن المفتاح، سيسمح له بصناعته، وليس بالتنقيب عنه. انه عمليا ً أقدم تعريف لنظرية المؤامرة: القصد المخفي وقد غدا يعمل بالحتميات في مواجهة العشوائية، والاضطراب. على ان نرسس لم يكتشف وجهه في الماء ـ كمرآة ـ بل أصبح الوجه يحمل تاريخ الوجوه منذ تشكلت جرثومة الخلق ـ بما تمثل فيها من إرادة للديمومة ـ وصولا ً إلى لحظة: الدهشة، الصدمة، المعرفة، والمزيد منها. فالهيئة (الوجه) ـ كما الهرم ـ خلاصة أزمنة بلغت ذروتها بالأداة ـ الاكتشاف: البصر أولا ً، ومن ثم الحواس المرافقة، ليعّبد دربا ً ليس هبة ـ كما يهب الجلاد الحرية لضحاياه، وكما يهب القائد أوسمة لأبطاله الموتى ـ بل ضرورة تدحض حواجزها، وحجاباتها، كي يكف نرسس عن الإعجاب بذاته، ولكن ليس نحو الإعجاب بالوجه البشري، بل لتعديله، كي لا يكون حضوره محض وجود حدث مصادفة، أو عرضا ً، بل بما تتطلبه دينامية التدشين، والممارسة، لمنح الديمومة منطقها، وآلياتها، وغوايتها، ولغزها، وجمالها، وكي يغدو الفن ضرورة محركة للحريات؛ حرية تهدم مرآتها، في هذا النسق، كي لا ترتد، أو تنغلق. كان البورتريه، في الماء، وسطا ً بين الأرض والهواء، بين: الأسفل وبين الأعلى، الماضي وما سيولد، المرتد والمتقدم ...الخ، ولكنه سيغدو، عبر الأزمنة، لصيق القوة الأكثر تحكما ً في المصائر، مصائر البشر كافة. فأولى (الصانع/ الحرفي/ الساحر) ـ في النحت والرسم والفخار ـ هذه العلامة، أبعادها كاملة: بورتريهات ملوك، رجال معابد، تجار، قادة، سحرة، كاهنات ..الخ، بما تمثله من هيمنة على الموارد، أي الاقتصاد المنظم، والقطيعة مع العشوائية. على ان التحريم لدى عدد من القبائل، يؤكد منحى مزدوجا ً لرأس المال ـ الثالوث المكون من: الخطاب/ القوة/ الثروة ـ فهو يحافظ على سرية (التراكم) ومنحه لغزه البدائي ـ الماورائي/ المثالي .. الخ، ومكانته العليا أيضا ً. فالتحريم لم يدم طويلا ً، بعد ان غدا (البورتريه/ علامة المركز؛ السلطة) المتحكم بالسياق الجمعي للتراكم. فهو صراع خفي بين القلب، وبين العقل. بين الجسد والصورة، بين المخفي والممكن، وأخيرا ً، بين: الظلمات ـ والنور. فالبورتريه أرخ، عبر النصوص الفنية، وما تبقى منها، اعقد الصراعات، والتحولات، بما يمثله (الرأس) من مكانة في الديمومة، في مواجهة الاندثار، والغياب. فالموت ليس محض ملكية ضائعة، مع انه يمثل الخسران، والفقدان، والتوقف عن العمل (الإنتاج)، بل سيمتلك قوته بلغز ان: الحياة لا تنبثق إلا منه. فلا زوال للملكية، في الأخير، مادامت الشمس ستشرق مجددا ً، ومادمت البذرة، لن تنمو إلا بالدفن. آليات ظاهراتية تمتلك أنساقها مهما استقلت الأشكال عن مكوناتها، كما في الفن الحديث. فالرأس لم يعد (الطاغية) أو (الإله) بل هو الضحية. والأمثلة ناصعة، وفي مقدمتها السيد المسيح، بعد قصة حلم إبراهيم وهو يرى انه يذبح ولده إسماعيل. فالضحية ـ هنا ـ غدا الفعل المقدس: الذي تكمن فيه سرية الديمومة، في مواجهة الفناء. فالاشتغال الرمزي، بواقعيته، خيال صاغته الأسس التجريبية، وخضعت لمنطقها، حتى ان استقلاله ـ بل وعزله عن الجسد/ البدن ـ شبيه بالعملة ـ النقد ـ كقوة دالة على ما فيها من متراكمات، مادية ورمزية ومشفرة، تؤدي دورها كآلية للاختزال، والتحكم بالزمن. فإذا كان البورتريه قد بدأ صفرا ً ـ من غير رأس تقريبا ً ـ في الاقتصاد البري، وصولا ً إلى الحداثة ـ والعولمة، فان هيمنته ستتضاعف، مع تحول العنف، من تلقائية الغريزة ـ إلى تنظيمها، ومن عفوية القصد، وبرمجته، كنظام لا يعرف الرحمة، بعزل الهوى عن العقل، وعزل التبذير عن التراكم، فان المجهول وحده سيأخذ موضوعات الوعي، بالأهمية ذاتها للحياة كاملة. انه السلطة، بتراكم خزينها الطويل. سلطة تراكمت فيها عصور: الزواحف/ الثدييات/ والإنسان الحديث/ مقننة بطبقات الدماغ الثلاث. ومقولة ديكارت: أنا أفكر فانا موجود إذا ً، دالة على ان عصر (الجسد) برهن ان الوعي اقترن بالوجود، وليس بماضيه، ولا بغيابه، ولا بما يتعرض له من تهديدات بالزوال. انه صراع بين عناصر ما تحت النظر، مع عناصر ما فوق النظر: الثقيل/ الخفيف، الكثيف/ الشفاف، الخفي/ المعلن ..الخ، كي يمثل البورتريه التاريخ الذي سيعيد (الرأس) نبشه، ووضعه كقوة للديمومة. ومرة أخرى يغدو الموت مركبا ً من فعله وما ضد هذا الفعل، فالمفكر ـ الذي يدير الإنتاج ويتحكم به ـ آليا ً، ووفق اللاوعي الكلي ـ الكوني، الإلهي، والأرضي، هو الموضوع بتاريخيته، مجده، وأبهته. وهو، في الوقت نفسه، سيغدو: الأثير. فالا صورة، بعد تفكيك الذرة، وصولا ً إلى المناطق اللا مرئية فيها، قوة تماثل اتساع الكون إلى لاحا فاته، كلاهما شكل مكونات (الدماغ) ـ العقل أو ماكنة التفكير ـ بالأشياء لذاتها، وفي ذاتها. وبعيدا ً عن التجربة المعقدة للتصوف، فان قراءة تاريخ البورتريه، بمعنى من المعاني، قراءة لتطور الدماغ، وقدراته على النمو. ومع ان (فوق كل ذي علم عليم) بالغة الدقة بتجريبيتها، فان البورتريه، لن يتخلى عن توثيق ان (الرأس) غدا صورة رمزية للكون، في حضوره الذاتي ـ بل والفردي الخالص. فهو ليس علامة للتاريخ، أو علامة تاريخية، وحضارية، فحسب، بل تمثلا ً للأسرار بانتقالها من المخفي إلى الظاهر، ومن العدم كمفهوم يماثل الصفر في قوته الديالكتيكية ـ قوة تماثل حضور الزمن من اللازمن، والوجود من اللا وجود، ذلك لأن العناصر التقليدية ـ منذ اليونان ـ لم تعد تسد التركيب الذي تقوم عليه المادة. فإلى جانب الزمن ـ كعنصر حاسم ـ هناك المضادات لها، الداخلة في تركيبها، كقوة غير أحادية تتحكم بما رصده (الدماغ) من اكتشافات، فلا العناصر الأربعة ـ الماء/ التراب/ النار/ الهواء ـ وحدها تمد الخيال بما هو ابعد منه، بمفاتيح لا تتقدم ـ عشوائيا ًـ وإنما ثمة عناصر لا مرئية كامنة في كل خلية من الخلايا ـ خلايا الدماغ، ومشفرات الجسد برمته، مع إنها، بما نعلم، تلقي الضوء على ان ألجين الواحد يتكون من ترليونات الوحدات! فالعناصر التي كونت البورتريه، لا تكمن في مواجهة الغياب حسب، بل لتأسيس حضور آخر يبتعد عن (الملكية) والوجود التراكمي للمادة. انه الحضور الرمزي للتشفيرات ذاتها التي ستمنح، كل ذات مفكرة، القوة ذاتها لدى كل من كان له الحضور في الشهادة ، وفي الوجود؟ فهو شهادة غياب استحال إلى مد الحضور بما لم يُدشن بعد.




[ من السرد إلى الصمت: العلامة وباثاتها]

[1] أقدم من الرسم
لن يصبح الأعمى رساما ً، مع أن كبار الرسامين عميان! وهذه ليست مفارقة، أو نية بالتهكم. فبيكاسو قال في ذات مرة: إذا كنت تريد أن تكون رساما ً فما عليك إلا ان تفقأ عينيك! الإشارة الأخيرة ـ وبعيدا ً عن التأويل والاحتمالات ـ ترجعنا إلى الزمن الذي نشأت فيه تقسيمات عمل وظائف الأعضاء، فبعد ان كانت لكل حاسة وظيفتها العملية (المحددة)، في ذلك التحول، ابتكرت ـ لأسباب تستدعي حفريات إضافية ـ الحواس واجبات ارقي، وفي مقدمتها: استحداث الإشارات، وصولا ً إلى العلامات والرموز. فأصابع الصياد ستستبدل عملها ـ بالقنص أو بالدفاع عن النفس ـ نحو الرسم فوق جدران المغارات، فضلا ً عن صناعة أقدم المجسمات والتماثيل، والنقش فوق الأواني الفخارية. وكان دور العين قد تجاوز المراقبة، ليغدو أكثر فاعلية في بناء الروابط الاجتماعية البدائية، فضلا ً عن دور الأصوات ـ ككمات أو موجات ـ وقد تداخل بعمل باقي الحواس، في نشأة الدماغ، وفي انساق العمليات السحرية وتحولها إلى ضرب من ضروب التفكير.
وبطبيعة الحال نضجت حاسة البصر بعد التطورات الحاصلة في باقي الحواس: الشم، اللمس، والتذوق، بعد ان كان السمع قائما ً عند المسافات مع المحيط، بوصفة المجس، والمنبه.
على ان تفكيك عمل الحواس الخمس، بين عليا وأرضية، وكجسور بين الكائن والخارج، نجد البصر، بعد السمع، أكثر ابتعادا ً عن عمل: الشم، التذوق، واللمس، الأكثر صلة بالأرض، لكن هذا التقسيم سينبني داخل آليات عمل الدماغ...، هذا إذا كانت هذه الحواس قد وجدت كأدوات لحفظ الكائن، وهي تتوسع في القراءة، والتعرف على واجبات مستحدثة تماما ً. بمعنى إنها ـ الحواس ـ تشترك في الغاية ذاتها: حفظ الكائن من الغياب.

وقد تكون أقدم صدمة رافقت الإنسان (العاقل) غير معزولة عن الخطر الخارجي: المداهمات، والإبادة، فالإنسان سيكتشف انه وجد في عالم غير آمن، قائم على الخطر، فالموت سيشكل أقدم حافز لابتكار انساق (تعبيرية) للموازنة بين (الغياب ـ والحضور)، ولم يأت تقسيم عمل الحواس إلا بوصفه نتيجة تراكم، وتعديلات، وخبرات استغرقت أزمنة طويلة.
النصوص المتوفرة ـ الشبيهة بالفن والتي مهدت لظهوره والتي توفر مقاربة مع بعض ابتكارات الحداثة ـ لم تذهب مع الريح، كالأصوات، فهل يمكن عزلها عن مخفياتها التي توارت فيها، واندثرت داخلها، حد المحو...؟ فمن كان باستطاعته البرهنة على وجود (الأصوات) قبل تكّون حاسة السمع. لا حاجة للاستعانة بنظرية ...، فالموجودات وجدت قبل ضرورة وجود أي برهان على وجودها...، لكن (الهواء وباقي الإشعاعات اللا مرئية) لا يمكن عزلها عن باقي العناصر ...، فهو جزء من مكونات المخيال، ومحرك للاتساع في المساحات، والتصادم، والامتداد ...الخ، الهواء الذي انتظم ليصبح صوتا ً...، إشارات، رموزا ً، وعلامات تميز كل ناطق عن الآخر، إن كان ذكرا ً أو أنثى، كبيرا ً أو صغيرا ً، معاديا ً أو صديقا ً، مثلما تمنح هذه الأصوات وظيفتها في الأبجدية.
بمعنى ان الدمى، والرسومات، والأواني .....، امتلكت خاصية (المدفن) ـ المتحف/ الدماغ/ الكهف/ الرحم ...الخ ـ فالصمت فضّاح. والعين التي لا تمتلك قدرات الإصغاء، تفقد خاصية البصر، والاستبصار بعد ذلك، فهي مركبات، ككل عنصر مهما بدا خالصا ، فهو نتيجة صهر، وتحولات، فهي إذا ً تحكي الحكاية بفعل القاريء، وبتنوع القراءات، وأزمنتها، فان ما توارى في الأثر يغدو ممرا ً نحو الأصل.
واحد أهم الاستنتاجات تبرهن ان الرسم هو ذروة عمل باقي اشتغالات الحواس، من الشم إلى حاسة اللمس، لأنها جميعا ً مهدت للرسام صياغة أبجديته المرئية بالعناصر ذاتها التي راحت (الحداثات) تجدها، هناك، في البدائيات، وفي الأصول.
على ان (الكتابة)، وإن جاءت متأخرة، إلا إنها ليست حاصل جمع، بل إنها إعادة تفكيك تلك البناءات، وفي مقدمتها الانتقال من المكان إلى الزمن: من المحدود إلى ما هو ابعد منه، ومن الداخل إلى الفضاءات. فالبصر ولد نفيا ً ـ مكملا ًـ لردود الأفعال المبكرة، في المساحات الضيقة، المحدودة، ليتمثل المشهد تعليميا ً، نفعيا ً، من ثم انتقاله إلى مجالات: الرهافة/ الحساسية، مقدمة للفن، ومتطلبات انجازه.
فالأشكال اختزلت إلى: إشارات، وقد اقترنت الأصوات بعدد منها، تمهيدا ً لظهور الحروف. فالكتابة ليست صامتة، بل مصمتة. إنها شبيهة بسطح البحر في يوم ساكن، إنما العواصف كامنة في القاع. فالإشارات التعليمية اكتسبت مجالها السحري، برصد المرئيات، بما تضمنته من تنفيذ مزدوج للوعي ـ المكتسب ـ بالأنظمة الجبرية، التي راحت تشتغل بتأسيس مجالها اللغوي.
والكتابة التصويرية مثال مبكر للتراكم، كأنه ثمة برمجة ستتشكل من غير مبرمج! وكان هذا بحد ذاته صدمة غير قابلة للتفسير ـ كصدمة الغياب مكملة بلغز الولادة ـ مما سمح للمخيال ان يذهب خارج حدود الوقائع. كانت رسوم الكهوف إشارة لحقبة بدء ما يسمى بالتاريخ، ليس لأنها مهدت لظهور (العقل) والتفكير، بل لأن ردود الأفعال، والأفعال، وسعت الحيز المكاني ليشمل موضوعات لم يغادرها العقل، كالحركة، والمحو، والتجدد، وما هو كامن في الزمن، والضوء.
عدنان المبارك، كتب، وترجم، الكثير من الموضوعات التي عالجت هذه المعضلات، بعد ان وجد مصيره مقترنا ً بالمعرفة، الثقافة، في وأرشو ـ بمعنى في أوربا ـ بعد ان استمد مقدماتها من جيلي الأربعينات والخمسينيات، في القرن الماضي، في بغداد. فالكاتب الذي سيجد أصابعه تعمل عمل البصر، مثال نادر لنموذج لم يغب عنه تاريخ الحضارات، أي إعادة تمثله، وفي الوقت ذاته، لم يغب عنه انه كائن انشغل بمصيره ـ مع موجات الحداثة وضدها ـ ليشكل التراكم، المعرفي، المفهوم ذاته الذي كان السومري قد بناه بالجمع بين العناصر المتضادة، المتغايرة، واستقصاء الفجوات، والروابط، والفجوات، بينهما، داخل النص المركب بفعل عناصر التجربة، وبفعل الرؤية التأملية.
إلا ان حضوره كرسام، في وقت متأخر ـ بعد ان أمضى سنوات طويلة في الكتابة ـ جدير بالقراءة، في زمن آخر مقيد بحقبة ما بعد موت: الكتابة، والفن، والإنسان. فبعد ان بذل جهود استثنائية في الترجمة، لموضوعات العصر، والكتابة في معضلاتها، وانحيازه لأكثرها علاقة بالذائقة الجمالية، والحريات، وجد انه لا يرسم بمعزل عن وعيه المعرفي حسب، بل كي تتشكل تجربته تحديدا ً في زمن العولمة، وإشكالاتها، بما يمنحها موقعها المؤثر في بناء رؤيته، وعناصرها، وبكل ما يمثل فعلا ً يتجاوز التعبير، ولكن من غير إلغاءه، نحو الهوية . فالكاتب لا يصمم، وغير مشغول بالحلول التقنية، ولا بالجمالية، بل باللغز ذاته الذي راح يراه يكّون مداه الأبعد: ليس غيابه، بل حضوره العنيد.
بمثابة خاتمة

يبدو الكلام عن بعض التجارب الفنية العراقية يماثل الحديث عن الحركات السرية، كل منهما لا يترك إلا علامات تستدعي الحفر ـ وليس الظن أو الاعتقاد ـ من اجل إعادة التقييم ـ والاستنتاج. ومثل هذا (التوجه) يستدعي جهدا ً نقديا ً موازيا ً لعمل الحداثة وهي تفرض حضورها على المشهد العام لفن القرن العشرين.
فعندما حاولت تقصي تجارب الرسامين، بدءا بنيازي مولولي ـ وليس بجيل عبد القادر الرسام ، في كتاب (الرسم المعاصر في العراق) فقد حاولت عزل العاطفة والتأكيد على المساحة المشغولة من قبل الجميع، وليس عبر عدد من الأسماء الأقل تجاهلا ً، وإهمالا ً، فان إعادة القراءة ـ بذاتها ـ تؤكد إننا إزاء ظاهرة مركبة، ليست خاصة ببلد يتطلع لمواكبة العصر، أو التوقف عند فلسفات (فنية) شكلت معالم القرن العشرين، بل ثمة اعتراف بمدى صعوبة الحديث عن أحكام نهائية، أخيرة، أو غير قابلة للنقض.
كان رحيل جواد سليم المبكر، نهاية رمزية لجيل الرواد، وهي نهاية تماثل خاتمة حياة إبراهيم زاير، للجيل الستيني، فيما كان الفن ـ بعد 1980 ـ يستمد بعض توقداته من هذين الجيلين، محاولة لرسم الصراع بين غياب الفن وحضوره، ليس استنادا ً إلى أسماء المشاركين، وانحيازهم للفن، وإعادة قراءة ما يوازي حقائق ما تحت الأرض، ومعرفة ما يحدث على امتداد عواصم الحداثة فحسب، بل لأن (الأنا) أصبحت في مواجهة عزلة وجودية (انطولوجية) فرضتها المسارات غير الفنية لهذا القرن.
إنها عزلة تتمتع بالتمويهات، فالنخب لم تعد مؤثرة أو قادرة على مواجهة ما يحدث فوق الأرض. وإذا استبعدنا هذه العزلة فان الخطاب الفني برمته سيفقد مقاربته مع ما صاغه، موزعا ً، ومتناثرا ً، عبر مساحة من الصعب الإلمام بأطرافها من غير جهود مؤسساتية، وليست فردية.
وليست تجربة عدنان المبارك، من السينما إلى الرسم، مرورا ً بالكتابة في مجالها الأدبي والنقدي، فضلا ً عن الترجمة، والمساهمة العملية اليومية بردم الفجوات بين بلده والبلدان الأخرى، إلا نموذجا ً لتجارب أخرى تكاد تكون مجهولة، لأسباب في مقدمتها ان العناية بالفن، واجهت إهمالا ً صريحا ً، أو بحدود الندرة أو الاستثناء.
ومثل هذا (الحكم) لم تولده أو تنتجه إشارات تخص، موت الفن، وموت المؤلف، وموت النص، بل موت المتلقي الذي كاد يحقق بعثا ً ـ بحدوده الرمزية ـ للمفاهيم الأقل عرضة للزوال. فالموت الأخير واكبه ازدهار لوسائل الاتصال الأكثر معاصرة، وهي تولد، باللحظات، وليس بالأيام أو الأجيال. فالمتلقي لم يعد يمتلك آليات إعادة الحياة للنصوص الفنية، إلا بحدود تيارات العولمة، واشكالياتها، بل وجحيمها، بهيمنة أيديولوجية (حرية السوق) وما ستتركه من احتمالات مجهولة المصير.
لأن السؤال: أين يذهب الفن ...، في الفضاء المفتوح، أو غير المقيد، وما هي المعضلات ـ الفلسفية/ الجمالية ـ التي سيتبناها المستقبل في الأدب والفن، في عصر (تفكيك) القارات، والأمم، والمؤسسات التي كادت تبدو غير قابلة للهدم ....، أكثر صلة بسؤال يخص دينامية الفن: أين يذهب الإنسان ..، بمعنى: ما هو مصيره..؟
ولا يصدمنا عدنان المبارك، عندما تساءل، في نص أخير (أيلول 2014): من أنا...؟ حد انه دوّن عنوانه لاستلام من يخبره بذلك!
عدنان المبارك، وقد احترف الكتابة، وجد ان الفن ـ الرسم ـ يرجعه إلى المدافن التي لم تنغلق أبوابها إلى الأبد. لقد رجع إلى معضلات: الخلق، وتكون بذرة الحياة! وهو درس في القيم، المعايير، وليس محض محنة آنية. انه سؤال يجد إجابة مؤكدة، لا مجال للغش فيها، عندما يمتلك السؤال لازمنه ـ في الزمن، مثلما يمتلك: زمنه ـ إزاء اللازمن.
هنا يكون الإنسان علامة حياة، كي يمتلك الفن شرعية مغايرة لتاريخ آخر حاولت اللا شرعيات ان تجعله تاريخا ً للشرعية. فالحتميات، بمختلف اتجاهاتها ـ ومنها الفن بوصفه مرآة ـ عملت على منح الافتراضات صلابة القوانين، في الوقت الذي كان الفن يقاوم احتضاره، وتحوله إلى سلعة، والى سلعة تكونها قوانين الأشياء، وليس قانون الحيوات، وأسئلة الوجود.
ألا نرى ان مئات المهجرين، قسرا ً، أو طواعية تحمل الأسباب ذاتها، للمبدعين العراقيين، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا (2014)، تمثل واحدة من انساق القرن العشرين وخصائصه: القرن الأقل ثقة بالمثل، والأكثر رضوخا ً لمسارات التصادم ـ التصدعات، وان تجربة عدنان المبارك ـ وهي في الأصل لا تبحث عن الفن بمعزل عن الموجودات، ولا الموجودات عن الوجود ـ ذات مسار جدير بالقراءة، والتفكير، ليس لأنها تمتلك أسس أقدم أصول للفن/ والكتابة، بل لأن المستقبل لا يتشكل من غير فلسفة لا يتحول فيها الإنسان إلى بضاعة، وأشياء، وإعلانات.
من أنا ....؟ سؤال عدنان المبارك، لا يقذفنا في الظلمات...، مع إننا نتذكر سؤال عميان أفلاطون في الكهف: أيفضلون الانتقال من النهار إلى الليل، أم من الظلمات إلى النور، ولا نغفل معضلة صخرة سيزيف ـ وقد ظهرت صخرة عبعوب بديلا ً عنها في بغداد مع إنها اشد مرارة وفكاهة وفنتازيا ـ مثلما ستتحول مرآة نرسس ـ بفرديتها ـ إلى مرآة كوكب يواجه أزمات يومية، أو محسوبة بأجزاء الثانية....، أقول انه لا يقذفنا في المتاهة، بل علينا ألا نستبعد مصيرنا مادمنا نشهد حتميات التحول تجري في جحيم لا يقارن بجحيم دانتي الذي قد لا يصبح سوى فردوسا ً، ليس لأن الإجابات التي تفتقد إلى المنطق أو العقلانية تضمنها طوفان العنف، وصناعة الإبادات، وما هو أكثر قسوة من الكراهية بين الشعوب، وبين الشعب الواحد، فحسب، بل لأن الأمل بحياة حقيقية غدا رهانا ً لا يعّول عليه كثيرا ً.
إذا ً فانا ـ قبل ان تتعرض ذاتيتي إلى التفكيك والدحض ـ مارست دور المتلقي في قراءة سؤال عدنان المبارك: من أنا ...؟ للمشي من غير ضرورة للحديث عن الدرب، فهو موجود مثلما المسافر لن يعمل على دحض السفر. فالتجربة الإبداعية لدى الكاتب والفنان عدنان المبارك قامت على أسس (الريادة) في العراق الحديث، وقد نضجت في البلدان التي تكونت فيها، حداثة جاورت محركاتها، ومخفياتها، ولم تتخل عن ان تكون مثيرة للجدل، بإعادة تقصي مفاهيم (الأمل)، ليس للفن، بل للإنسان، كي لا تكون العدمية، عمليا ً، قد برهنت إنها هي: الأصل. بل كي تحفر في أقنعتها، بدل ان تصنع أقنعة تحت هالات: المشي بحثا ً عن الذي لا وجود له!




5/12/2016

Az4445363@gmail.com






الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

قصة قصيرة- عادل كامل

 قصة قصيرة


بانتظار من يعيد القراءة

[ يا لها من سخرية...، أنا أتحدث إلى أصم، وهو يعرف إنني أعمى، فأقول له: مادمت تعرف إنني اعرف انك لا تسمع، وأنا اعرف إنني لا أراك...، فما ـ هي ـ الحكمة ـ من هذا التواصل....؟ ]


عادل كامل
     لم يخطر بباله أن يتوقف عن الكتابة، مع انه لم يحولها إلى وظيفة، ليجني منها ربحا ً، فلم ينقطع عن مراسلة كل من عرفهم، وزاملهم، واشتغل معهم، طوال عقود، قبل أن يجد نفسه وحيدا ً، وقبل أن تصبح عزلته تامة.
     بيد أن أحدا ً .. لم يرد، ولم يصله جواب يؤكد وصول رسائله أو عدم وصولها. فراح يخترع الأعذار، غير مكترث للأمر...، بسبب أخطاء البريد، أو عدم دقة العناوين، أو بسبب الخدمات...، أو لأخطاء ارتكبها بسبب معرفته المحدودة باستخدام الحاسوب....، الأمر الذي لم يمنعه من الانشغال بالمراسلة، حتى بعدم وجود أعذار تبرر عدم الرد، تناسب تصوراته عن نفسه، وتقدير ما كان يكنه من مشاعر حرص أن تكون مرآة لحياة كان يراها تغيب.
   ولم يفكر ـ للحظة ـ أن يكونوا جميعا ً منشغلين بحياتهم حد استحالة توفر لحظات للرد...، رغم ـ دار بخلده ـ مشاق الحياة في المنافي، وما تتركه من اثر في حياتهم الجديدة...، للإجابة على رسائله، حيث لم يكن يطلب أكثر من الاطمئنان، وردم المسافات التي راحت تأخذ بالاتساع...، أسئلة لا تذهب ابعد من السؤال عن الصحة، وما آلت إليه مصائرهم، بعد المغادرة...، فثمة ما يشبه الأطياف طالما مكثت ترفرف لم تدعه إلى محوهم من ذاكرته، رغم إنها لم تعد تعمل إلا بالومضات، عبر لحظات كان يتوهج فيها، فلا يمتلك إلا أن يدع خياله يرمم ما آلت إليه الصدمات.فالحياة كتاب حتى لو محوت كلماته فانه يجد ما لا يحصى من الوسائل كي ينبثق من الظلمات. مرددا ً: حتى الظلمات ذاتها تصبح عاملا ً لمقاومة الغياب، والنسيان.
    وعاد إلى التأويل، في محاولة للعثور على احتمال يماثل ما يعانيه ، هو ـ من علاقات هشة مع من عرفهم، من الأهل، والجيران، أو مع الأصدقاء القدماء، في مدينته، من الخوف أو الحذر أو من مشاغل الحياة المختلفة.
   ولم يسمح لنفسه أن يتخيل إنهم أصبحوا عظماء...، فمن يكون هو...، بعد أن تشبث ـ هو ـ بالبقاء في داره، والقناعة بالراتب التقاعدي الشحيح، والرضا بالقليل، بعد التكيف داخل غرفة شيدها في مطلع حياته، بوصفها مثواه الأخير.  مكررا كلمات جار له هُجّر من بيته عنوة وهو يقول بصوت عميق الحزن: أليست البيوت تشيد كي ندفن فيها! فيبتسم ليخبره: هكذا اختفت أعظم المدن، بسكانها. فيرد الآخر: والآن لا بيت نموت فيه، ولا موتى يسكنون البيوت.

   أتراهم أصبحوا عظماء...، أو فوق العظمة...، حتى لم يعد لديهم الوقت للرد على سؤال يتعلق بما آلت إليه مصائرهم، في المنافي، بعد لوعة الشتات، والتشرد، والبحث عن مكان لا يطردهم، ولا يستلب منهم أحلامهم. لم يدع الشك يساوره بسبب العظمة، فربما إنهم تعرضوا لمتاعب السفر، أو للأمراض التي تسببها الغربة، أو بسبب إنذارات الشيخوخة، وما تسببه الوحدة، أو بسب الهرم، والخرف....، بالرغم من انه اكبر سنا ً منهم، أو يقاربهم بالعمر...، ورغم المتاعب التي كادت تقعده، إلا انه طالما وجد نافذة يطل منها على فضاءات ممتدة حتى لو كانت تأخذه إلى المجهول. فلم يدع الوهن يذهب ابعد من مشاعر يجد ألف عقار لمعالجتها والقناعة بان الدنيا كتاب حتى لو لم يكتب فان كلماته شبيهة بالشهب والكواكب والذرات والمجرات تعمل وفق خطة غير قابلة إلا لاستكمال برنامجها الذي وضعت من اجله. فمن يكون هو كي يخترع أوهاما ً لأسباب غايتها مغايرة لأهدافها، وحكمتها.
   فعاد يكتب...، على أمل للحصول على جواب، فهو لم يطلب منهم مساعدة، أو حتى دعوة للسفر، أو ما يستدعي عدم الرد. فحتى لو كانوا حصلوا على ما كانوا فقدوه، في مدينتهم، وصاروا أسماء لامعة، ولها شهرتها، فان ردا ً لا يستغرق إلا بضع لحظات، لا يعد صعبا ً، أو مستحيلا ً...، فهل بالإمكان محو تضاريس المكان، وأزمنته، وشخصياته، لأي سبب من الأسباب، بيسر، ومن غير استئناف، أو مراجعة...، مادامت الحياة سلسلة مترابطة من الممرات، والجسور...، من العلاقات والمودات، من المصالح والذكريات....؟
   قرب بصره من الشاشة لقراءة ما لفت نظره: خربشات...؛ حروف وأرقام وعلامات وجدها لا تعني شيئا ً، ربما تكون رسالته الأخيرة وصلت إلى عنوان آخر..، كلا...، فالأرقام والإشارات والفواصل تخص إدارة الشبكة، فأهملها. كانت الرسائل، في الماضي غير البعيد، تصل عبر البريد، ويوصلها الساعي، ساعي البريد، إلى باب البيت...، بعد أسابيع، أشهر، وسنوات قليلة، الآن، لا تصل الرسائل أبدا ً. قال لنفسه: اقصد: تصل حتى قبل إرسالها!
   ترك رأسه يميل إلى الأمام، شاعرا ً برغبة للعودة إلى النوم، أو لتناول الفطور...، محدقا ً في الخربشات التي بدت له شبيهة بمعادلة فلكية، رياضية، كيميائية، بل بدت له وكأنها كتبت بلغة مندرسة تتطلب قراءتها خبرة خاصة...
ـ آ ....،  ما معنى هذا أيها الموقر...، الم تتندر من هؤلاء الذين انشغلوا بالحصول على مكان بجوار الرب! لكنك قلت: ما شأني بهم...، فقد وجدوا الحياة ممرا ً لنهاية تتوازن فيها الاحتمالات. أما أنت ....، فاعترفت بان المشكلة لا علاقة لها بالمعرفة، ولا بالفلسفة، وحسمت الأمر باختيارك لقراءات تضاعف رغبتك بالنوم، وإلا سينفجر رأسك، لأن مشكلات العالم باتت خارج نطاق حدود عمل العقل....، ثم أن كل ما أنجزته لا يساوي إلا ما كنت تراه يذهب ابعد من حضوره الوجيز، حتى انك نفسك كنت تندهش برؤية أمر مرة ثانية، وكنت حسبته توارى خارج نطاق رقابتك. فما الذي بإمكانك أن تفعله، وأنت شاهدت سلاسل الإبادات، والفوضى...، وقلت ما هي إلا غيمة صيف...، وليست خطة محكمة تمضي نحو خاتمتها. أنت ـ وهم ـ على مدى عقود، أهملكم الموت، وفلتم من أقسى المصادفات قسوة، حتى إنكم كنتم تقولون: كأننا وجدنا وسيلة لمراضاته، وإخماد أنفاسه، حتى لحين.
   رفع رأسه قليلا ً ليتابع تلاصق الأرقام بالحروف عبر جداول وخطوط يجهل معناها. وسره إنها أحالته إلى سنواته الأولى، عندما رغب أن يتخصص في حقل نادر...، إنما اكتشف انه أوغل في متاهات اللغات القديمة، بطلسماتها، ومخفياتها، وأسرارها، فاستبدل مشروعه بدراسة الجسد...، والبحث عن نشأته، ومكوناته، ومراحل عبوره من سواحل العفن إلى المغارات، ومن الكهوف إلى القرى، ومنها إلى المدن العملاقة...، إنما صدم برائحة الجثث...، رائحة الموتى...، فقد فقد وعيه عند أول مشاهدة للجسد موزعا ً فوق طاولات التشريح، الأصابع منفصلة عن البدن، والرؤوس بدت له محنطة، والثقوب تقلصت، شاحبة، بدت كأنها صنعت على عجل...، شاهد الجسد كما لم يره من قبل، تحول إلى خردة...، كأنه تعرض لانفجار أو للغم، أو لعبوة ناسفة...، ليمكث سنوات يهرب من الرائحة، لكنه كان يجدها أكثر حدة، كلما لامس جسدا ً آخر، حتى كاد يصاب بفوبيا الموتى...
ـ عزيزي....
  وفشل بإضافة كلمة...، فقد أفزعته رائحة الليل، كأنها تنبعث من قبو، أو من مدفن، مصغيا ً بلامبالاة لدوي أصوات تأتيه رتيبة، ممتزجة باستحالة العثور على كلمة يكمل ما كان يدور برأسه.
     شعر بجسده يتقلص، إنما كان بصره يتجول عبر مساحات لمح إنها تفقد حدتها: مدن تتحول إلى بؤر، بحار تصير كأنها قطرات ماء، فيما بدت الصحارى له مثل أوراق متناثرة...، جميعها تتداخل لتبدو بيضاء.
    لا معنى للحديث عن ما إذا كان هذا شغلهم، ودار برؤوسهم، حتى للحظة، فلم يتطرق إلى الأيام التي انهمك فيها بقراءة كل ما تناول موضوعات الهجرات، والشتات، وتفكيك العالم، واللوعة المبرمجة التي غايتها الترويض...، فهي قديمة قدم نشوء جراثيم الخلق البكر...، وجدت كي تتفرق، وتتوزع على بحار، ووديان، وسهول الدنيا، من غير شروط، محكومة بالبحث عن إقامة مستعمرات تقاوم عوامل زوالها...، فلم يجد مسوغا ً بإثارة اختلافات تؤكد عدم وجود قاعدة مشتركة جمعتهم على مدى سنوات، وحتى أحلامهم فإنها جزء من غيوم عابرة إلى البعيد. حروب ومصالحات وسفك دماء استعدادا ً لإقامة الأعياد. لا مسوغ لإثارة مثل هذه الأفكار، فقد كانت مقدماته تمتلك قوة قهر نهاياته، لعقول لا تمتلك أكثر من تتبع ظلالها.
    فهو لم يتطرق إلى كل ما قد يسبب غصة، وحرجا ً، وألما ً غدا مألوفا ً، فالإنسان وحده يمتلك ما لا نهاية لتحمل أقسى الأوزار، والخطايا. كما لم يجد سببا ً للحديث عن عاداته، وحياته الشخصية. فهو كان يود التعرف على ما كان مشتركا ً: صبوات حارة وتوهجات تكمل منطلقاتها البريئة، والانشغال بما كان يثير دهشتهم، جمال الفجر، والسفر عبر البحار، والتحرر من عادات البكاء على ما سيزول، والانشغال بالعثور على عوالم يتم استحداثها بالصبر، والأناة، والمغامرة. هل تراهم تخلوا عن تذكر انشغالاتهم بالبحث عن المدن المستحيلة، الراقدة تحت في أعماق الأرض، أو عن المدن السماوية، في المجرات الأخرى...، والعمل على تأسيس مدن فاضلة خالية من الشر ومن الأشرار....؟ هل تراهم اغفلوا تذكر المجاعات التي كانت تضرب مدينتهم، حد انه تذكر حكاية البنت التي كانت تعلن مبتهجة عن موت شقيقتها، كي تصبح وليمة، أم لم يعد يعنيهم أمر الحروب الأهلية، بين الطوائف، لأسباب مكثت تتكرر، عبر القرون، من غير تأويل أو تفسير واضح...؟ ولم يعد يمر بخاطرهم ما كان يفعله الغزاة، لأنهم، تركوا الماضي ينسحب بعيدا ً عن عالمهم وهو يستكمل برمجته العنيدة...؟ لقد كان منشغلا ً بأمور، وتفصيلات، مغايرة، هي الأخرى، كانت لا تجد من يدعمها، ويعيد قراءتها، كي تكون للمقارنة فائدة ما تذكر.
    لم يخبرهم بتحول الزقاق الذي عاشوا فيه عقودا ً من الزمن، قد تحول إلى ما يمثل بقايا عروض مسرحية لم يبق منها  أكثر من أصداء، ومن هياكل احتلتها الأسر النازحة، المهجرة، السائبة، أو الباحثة عن مأوى يحميها من البرد، ولهب تموز وآب...، فالحديث عن العاطفة يجعل العقل معطلا ً، هذا إذا كان باستطاعته مقاومة وهنه.
ـ فمن الصعب تخيّل إن الحالمين أفاقوا حقا ً للتخلي عن أحلامهم، بعد أن كادت المدينة أن تصبح نسيا ً منسيا. نافيا ً هذا الاحتمال...، حتى لو كانت العاصفة عملت ببرمجتها على جعل الخراب العام حقيقة مدونة وذاهبة نحو نهايتها، إنما ود لو اخبرهم بأنه لم يعد يعرف أين اختفت الشوارع، وعلاماتها، ولكنه لم يكن ليسمح لنفسه بالإسراف....، فالعاطفة لم تعد إلا ولعل تلاميذ لم تصقلهم المدينة بعد..، تلاميذ جاءوا من القرى لكنهم أبدا ً لم يصلوا إليها.
ـ فقد كان كل منا يقول للآخر: أنا آخر من يهاجر، آخر من يفر، وآخر من يبحث عن ملاذ امن له في هذه الدنيا وقد اجتاحها الخراب، والجذام، والفوضى.
   إنما لم يبق من الزقاق، ولا من الشوارع المجاورة، ولا من المدينة، إلا هياكلها، وأشباحها، فحتى واجهات البيوت، والأبواب، والنوافذ تبدلت، وأصبحت الأزقة مكتظة بآخرين، من الصعب معرفة هوياتهم، أو إقامة علاقات معهم...
    حدق في الشاشة: بيضاء. فترك رأسه يبتعد، يتمايل، بحثا ً عن: اثر. كانت بيضاء  وخالية من الخربشات أيضا ً.
   ثم استدرج نفسه لاستعادة قواه. لكنه لم يعد يتذكر انه تطرق للحديث عن الآمال، والصبوات التي كادت تجعل منهم زمرة متجانسة موحدة غير قابلة للتفكيك، والتشتت، بل حدثهم عن أحلام مسبوقة بأشواق آلت إلى نهاياتها، بالمرور، والغفلة، واللامبالاة، مثلما بالصدمات أو بالصمت، موضحا ً أن المشترك بينه وبينهم لا يكمن في تحوله إلى أطياف أو إلى كوابيس، بل إلى ما يماثل خطة وضعت بإحكام لا معنى للاستئناف فيها، كي تصبح خاتمتها أخيرا ً مغايرة لمقدماتها. على انه محا كل إشارة إلى ما يخص الأسباب، إن كانت مستترة أو ظاهرة، ذات صلة بالأرواح الملائكية أو بالأرواح الشريرة، بالمعصية أو بالاجتهاد، فقد عاد ليوضح بأنه لا يتحدث عن آفاق ما غدا الحديث عنها مستحيلا ً، وإنها عمليا ً صعبة المنال، ومن العبث ألتوق لانجازها، بالوضوح ذاته لم يدع نغمة الندم تختلط بمشاعره الوديعة...، فالقضية لا تعدو أن تكون أكثر من سؤال لا يتضمن قط البحث عن جواب عليه، ولا عن استئنافه، بل عن محاولة عفوية لردم فراغات جولتنا إلى شظايا...، والى ذرات آخذة بالانقسام إلى ما لانهاية.
   عاد وترك أصابعه تضرب على الحروف ببصر غائب، فلمح عبارات تكمل لا معناها، وكأن بصره توحد بالحروف، وانه لم يعد ليفكر باستئناف حياة لا وجود لها، قدر انه ترك حياته تتخذ أشكالا ً تكمل بعضها البعض الآخر....، لكن لم يحصل على الذروة فحسب، بل على العزلة ذاتها وقد منحته الشعور بالفراغ المشغول بالفراغات...، ووجد صعوبة برسم ابتسامة أصبحت مستعصية، نادرة، وتساءل: ربما كانوا بلا استثناء جميعهم على صواب!  وحوّم في الفراغ الذي رآه يمتد بعيدا ًعن جدران غرفته. ربما واجهوا في سفرهم ويلات البحر ومحن العبور...، أما أنا فحرصت أن لا أغادر المساحة ذاتها وقد صارت تكفي لحماية جسدي من التحلل، والاندثار.
   بالأحرى شعر باللامبالاة التي راحت تنقر وتطن داخل رأسه: ربما يكون هذا كله شيد على الوهم، فلا أنا جزء منهم، ولا هم كانوا أجزاء تكمل وعدا ً ما...، هم وجدوا فرصة اغتنموها عنوة أو لأي سبب من الأسباب وأنا وجدتها فرصة للغوص في ارض الظلمات.
   أحس انه بلغ النهايات الحرجة: من منا كان ...، السبب، ومن منا عمل على ترك النهايات تذهب ابعد من حدودها؟
   ولكنه لم يسأل أيا منهم هذا السؤال، ولم يخطر بفكره أن يذكرهم إن كانوا امنوا بالخرافات، أم بالعلم...، لم يذكرهم بما كاد يذهب ابعد من الموت...، بل طالما تحدث عن أمل بالسؤال عن أحوالهم، وما يمنح مصائرهم ثمن السكن في المنافي...، هل وجدوا ما يخمد براكين القلب، وزلازل الرأس، ويمهد لحياة مغايرة، بدل التآكل بجداول المنسين، والغائبين...، أنا أيضا ً لم أقع في الأسر، ولم اجرح جرحا ً يخمد الأنفاس، ولكني لم احصل إلا على ما افقدني أية رغبة بالذهاب ابعد من تأمل ما يجري في المجهول. لقد تركت جسدي يرقد بجوار الحائط، ورأسي يواصل هجرته، ما بين الكواكب والنجوم. فلا انتم كنتم تختلفون معي، وعني، ولا أنا كنت اختلفت معكم، وعنكم...، انتم نجوتم من  سنوات المذابح العشوائية، وفق الخطة العليا،  وأنا نجوت أيضا ً لأسباب اجهلها...، فلا أنا اعرف متى غادر كل منكم...، ولا حتى كلف نفسه بوداعي...، لكن هذا لم يشغلني  طالما أنا أيضا ً كنت احتمي بالشرود...، حتى أحيانا ً كنت أستحيل إلى نبات.
   هل حقا ً جميعا ً أسهمنا بترك سفينتنا تغرق...، أم كنا لا نعمل إلا على إغراقها، بإصرار، من غير تردد، بل وبلا حزن، أو ندم؟
     شرد ذهنه تماما ً: فالكل لم يعد يجد شيئا ً ما مشتركا ً...، عدا هذا الفراغ راح يعزلنا عزلا ً حتى لا وقت للاستعادة، أو الاستئناف. فقد صار كل منا لا يريد أن يعرف ماذا جرى، وماذا حصل ...، وكأن القصة وضعت خاتمتها قبل أن تكون لها مثل هذه الفواصل، والشوارد، والعثرات...
 ـ فانتم نجوتم من الحروب، ومن المفترسات...، من الملاحقات، والنبش في مخفيات أعمالكم...، وأنا أمل ذلك ...، إنما كان مفهوم النجاة ـ رفع صوته يخاطب لا احد ـ ذاته قد تجنبناه، واخترنا، عن طيب خاطر، ما وحدنا، أو اعتقدنا انه كان يجمعنا، في سنوات الغيلان.
   لا احد يرد.
   كم كان بوده لو جلس تحت شجرة السد، وتأمل أمواج دجلة عند الغروب...، منذ متى لم يفعل ذلك، ولم يذهب إلى النهر؟ تذكر انه كم ود لو دفن تحت تلك الشجرة، بعد أن يغسل بالماء، ليرقد كأنه لم يخلق ولم ير ما رآه.
  ليجد انه أضاع ساعات أمضاها يحدق قي البياض، شاشة بلا ملامح، تشع عتمة زئبقية، فأفاق بلا شعور: كنت أرى جثماني يتعفن، تنهشه الضواري...، في الزقاق، بجوار آخرين تركوا في العراء...، يتعفنون...
أفاق: لو لم أكن فطنا ً في تلك اللحظة لكانت تلك الكلاب افترستني... ما أشرسها، حتى إنها اعتادت علينا.
    ثم عاد يتنفس بلورات راءها تتطاير  مشبعة برائحة غبار، وبرائحة ورود قديمة، أما رائحة المدينة فقد امتزجت برنين رتيب كاد يفجر رأسه.
   مستبعدا ً لحظات رأى فيها جسده تحول إلى نبات، إلى أوراق، والى أغصان، بقايا شجرة اقتلعت لتصبح حطبا ً...، مستعيدا ً غفوة لم تدم إلا ليرى  جسده تنهشه الأنياب،  أنياب القطط، وربما تسللت بعض ضواري الصحراء ودخلت إلى المدينة...، فالكلاب لم تعد تحرس قطيعها.
   غابت شاشة الحاسوب: لا رسائل، لا ردود، فالبريد صفر. متخيلا ً ـ لبرهة ـ طالما كان يتجنب التصادم، طالما اخترع مجالات تمنحه الشعور بالدعة، والسلام، إلا أن تصوّراته غالبا ً ما كان يراها تذوي...، وتتلاشى، لينبثق على نحو شبيه بانفجار مكظوم، أو بركان، صدمات غير متوقعة، فيستعيد إرادة ظنها خمدت، قوة ما أربكت وهنه، ومنحته قناعة مغايرة للخذلان.
ـ فانا أكاد أدرك أن شيئا ً ما آخر لم يعد له حضوره، يعمل من غير فاعل.
   إنما لم يعد يرى الكلمات، ولا الفواصل، وكأن رسائله لم تصبح إلا تعويضا ً لا ينتج أكثر من افتراضات اتخذت هالة من هالات الفصام.
ـ ذلك الطيف الندي الذي جمعنا...، من غير مقاصد، وغايات، ثم أراه ابتكر وسائله في المحو.
   ترك أصابعه تستقر فوق ورقة تلمس اصفرارها، فانبثقت رائحة أعادته إلى الماضي، ورقة ترجع إلى أكثر من نصف قرن...، لتنبت فيه رغبة سرعان ما قاومها، لقد ود لو عاد وترك جسده يتحلل...، بعيدا ً عنه،  تحت الشجرة، عند ضفاف النهر، بدل أن يرى عالما ً تحاصره الجدران، يتموج بالضوضاء، ومشغول بالعزلة، والخوف العميق.
   أتسع الفراغ...، فلم يعد يتلمس ببصره إلا حافات بدت له شفافة وقد راحت تسحبه إلى فضاء أوسع، يمتد بعيدا ً منسحبا ً معها، بلا إرادة، أو اعتراض، حتى انتابه شعور بغياب الجدران، والحاسوب، والزمن. فدار بخلده أن حياته لم تعد تعنيه...، وكأنها لم تكن أكثر من ظلال تتلاشى بعيدا ً عنه...، أحس إنها عبرت وانفصلت عنه تماما ً، كالذي طالما شعر به وهو يعيد تأمل مخلفات حريق لم يترك سوى رماده.
    بدا له الفراغ شاسعا ً، بلا حدود، خارج نطاق غرفته، وبعيدا ً عما كان يجري داخل رأسه...، وعالمه الذي بدا له معزولا ً عنه تماما ً. مثل من يتأمل ذرة رماد تجمعت فيها أزمنة مدينة غابت عن الوجود.
   وبدت الكلمات تعمل من غير إرادته، تحفر أثرا ً لتمحوه، من ثم تنبثق ليراها تذوب في الفراغات، وقد فقدت أشكالها الدائرية، وصارت كتلة رمادية بلا حافات.
     لأن ـ دار بخلده ـ عدم الرد، مثال لا يثبت إلا ما كان يراه وهو يجلس أمام النهر، أمام دجلة: سماء وافق وسكينة.
    وود لو عثر على تأويل لا يدعه يسرف بإعادة كل ما بدا له بلا زمن، وحركة.
ـ وكأن الحياة برمتها خالية إلا من هذه الظلال... وقد اتخذت موقعها في الدورة، من غير علامات، ولا أصداء.
    ليجد أصابعه تعمل آليا ً:
ـ وكأن جميع المخلوقات، في نهاية المطاف، تتماثل في غيابها، وتتوحد من غير مشاعر محددة.. وتذهب كأنها أكملت برنامجها في الخطة...، فما ظهر،عبر الزمن، توارى بعيدا ً عنه...، حتى الأثر لا وجود له إلا ليبرهن انه  وجد تاما ً، خارج عمل  صخبنا.
    لمح الدخان تحول إلى هالات ضوئية، فتجمد، فثمة أصوات تقترب، وأخرى تتلاشى: انفجارات ودوي وأزيز طائرات...
فكتب:
ـ كأن الدوي الأعظم مازال يستكمل عبوره خارج نطاق وعينا، ووجودنا، وصبواتنا أيضا ً. فالماضي وحده لا يمتلك  إلا أن يواصل ذهابه  بعيدا ًعنا، وقد جرجرنا معه، أحيانا ً، وقذفنا بعيدا ً عنه، أحيانا ً أخرى.
   وكفت أصابعه عن الكتابة: انه طنين أرواح ليس لديها ما تعمله سوى العثور على ممرات للعبور...، تؤدي إلى ممرات أخرى، لا يعنيها سوى المرور ...
فجأة قال انه لا معنى للحديث عن منفاه..، داخل جدران غرفته، ولا عن لا مبالاته وهو يعزل كيانه ويدثره في المناطق القصية، ليس لأنه لم يعد يشكوا منها، بل لأنه توحد معها، مثل مرض عقد صلحا ً تاما ً مع صاحبه، حد الذوبان.  فالذي يولد في الأسى، لا يعيش إلا تحت ضرباته، ولا يأسف إلا أن يموت بعيدا ً عنه. لم يجد ضرورة ليخبرهم برحيل اعز المعارف، أو الأصدقاء، فموتهم شبيه بغيابهم، امتداد في المساحة، وليس فنائها. كان لا يجد ضرورة بالحديث عن هذه الوقائع، وما التي إليه حياة بعضهم، إلى الوهن، والهذيان، والتشرد، أو إلى الفاقة، والنسيان، والعزلة، فقد تكون مكدرة لعواطفهم، أو تبدو مثل وباء كريه فروا منه. بل كان سؤاله المتكرر يخص ما آلت إليه مصائرهم، في المنافي، لا أكثر ولا اقل.
  كما لم يجد مبررا ً ما للحديث عن أمراضه...، هلا وسه، وشرود ذهنه، ولا ضرورة للحديث عن مخاوفه، ووهنه، ولا عن لغز انبثاق كل ما بدا له فقد حضوره.
   بل كرر انه لم يعد بحاجة إلا لاستعادة الأزمنة المشتركة التي أصبحت طي النسيان، ولا معنى لاستعادتها، إلا بوصفها صفحات في كتاب لا وجود له.
   ولم يصب بالإحباط أو بالخيبة، رغم عدم وصول جواب واحد يسمح له بتخيل أن الحياة ليست شبيهة بالموت...، بفراغ يمتد عازلا ً جزيئات ذراته بعضها عن البعض الآخر، فلا هذا يعرف ذاك، ولا ذاك يعرف ما جرى لهذا....، فلم تعد ثمة مصالح مشتركة، ولا صبوات، ولا ذكريات قابلة للاستئناف.
   لكنه سرعان ما ترجع وتخيل انه مازال يئن تحت ضربات موجعة غدت ـ بمرور الوقت ـ الألم  الدائم الأليف للحفاظ على آمال لم يتم محوها كلية. فاستعاد لحظات راح يفترض فيها انه تسلم عشرات الردود، فراح يبوبها، بحسب وصولها، ليعيد قراءتها بنشوة مكتومة، لا مناص إنها تماثل اللحظات التي طالما تمناها وهو يفارق الحياة، من غير أسف، أو ندم، ولكنه وجد أن شيئا ً ما مازال يدّب، يومض، يزحف، وان الضربات ليست سوى تدريبات تقود للحصول على عقل تتوازن قيه ردود الأفعال، بأفعالها. نشوة لا حسية، أو مضطربة، مائعة، ولكنها ليست عقلية خالصة، لتعيد سبك العناصر كي تبدو أكثر صفاء ً.
     لكنه لم يفرط فيها: فمنذ زمان بعيد لم يعد يعّول على كان ما يظهر في المرايا..، فالنشوة محض عبور من فراغ إلى آخر أكثر اتساعا ً، ومتاهة...، مع إنها شبيهة بالممرات التي كان من الصعب تصوّر إنها معزولة عن هذا الذي  مكث يحافظ على نفي بلوغه الذروة.
     بيد انه لم يدع لذّة شعوره بالتقدم أن تنفي وجوده وحيدا ً حتى وهو يرى الجسور تحولت إلى طرق لا نهائية العدد، وقد بدت له مثل خلية دماغية متصلة بالخلايا الأخرى، وان تلك الخلايا بأسرها متصلة معها. فقد راح  يسفه لغز العزلة مثلما لم يعر الصبوات أكثر من مرورها عبر جسورها النائية.
ـ ربما ...
   وشاهد أصواتا ً اتخذت بياض بلوريا ً سرعان ما غدا جسيمات لا مرئية تترك ظلالا ً خفية لحركتها..، والوعي بما كان يتركه من رنين خفيض...، مغايرا ً للثوابت التي كادت تحسم مشاعره بظهور وباء لن يترك بعد انتشاره حتى ما يدل على انجازه عمله بحسب الخطة.
    شاعرا ً بمرارة لاذعة اختلطت بنبضات قلبه. فقال انه لا عودة إلى الجسد...، ليمسك بهالات رآها شبيهة بالأفكار تغوص وتتوارى كي تبزغ، ثم ما أن بدت له ناعمة محاطة بدوائر ومستطيلات حتى تعود وتتلاشى وتصبح صفرا ً. لكنه لم يخبر أحدا ً بالأبعاد التي مازالت بانتظار تكوّن أدوات قادرة على اكتشافها والعبور بها من الظلمات لاستحداث مخبآت ما انفكت تجد من يعرقل تكوّنها.
   وردد، مع نفسه، بصوت وجده يتمايل مشبعا ً برائحة سرعان ما سمحت له بتتبع لون ما كان ينبثق من شاشة الحاسوب...، بدا له مشفرا ً بمرور الوعي عبر اتصال خلايا دماغه بخلايا أدمغة العقول الأخرى...، فالكلمات فائضة إذا ً...، بعد أن تحولت إلى حجابات، وكادت تفسد عليه براءة ظنها غير قابلة للتلف..، أو المس...، مرور راح يقلص المسافات كي تحافظ على ما فيها من أبعاد، لمحها تثير لديه رغبة غامضة ونشوة غامضة بالهدنة:
ـ الهدنة...؟
   إلا انه راح يبحث عن مفردة لا تصبح عثرة، بل تبقى ممرا ً  للحفاظ على كل ما كان يراه يتسرب...، يتفكك، ويتلاشى.
    شعر كأن زمنه بالبحث عن وجود ما لا مناص انه لم يكن فائضا ً...، فالنهايات وحدها تمتد بتراكمات مقدماتها، ولا مجال للاعتراف إلا بهذا الذي مازال يمتلك أبعاداً لم تستحدث بعد...، لأنه لم يصبح غائبا ً بعد أيضا ً...
ـ كنت أود لو عدنا  ـ ببساطة وسلاسة ومن غير عقد ـ نتنزه عند ضفاف النهر، النهر الأتي من الأعالي المار بالحقول وبالبساتين نحو  المدينة، مدينتنا ...
   توقف عن الكتابة، وقال بصوت استنشق عبره رائحة الماء، والصيف، والنخيل:
ـ أمن اجل هذا حصل الذي مازال يطن ويقرع ويدوي.....؟
   صمت. مكتفيا ً بابتسامة تركها ترفرف...، مع رأسه، وقد رآه يحوّم في فضاء الغرفة:
ـ هل أخبرتكم بأنها بالفعل كانت هدنة....، لكنها ليست معكم، بل مع ... هذا الذي صدق انه كان يتمتع بقناعة أن ما من احد يمكن أن يمس ... براءته!
   وامتد الصمت ليجد انه يراقب أصابعه تعمل بمعزل عنه:
ـ  أهذا ـ هو ـ الذي وجد كي يذهب ابعد من غيابه؟
وتساءل بصوت مرتجف:
ـ عزلتكم ام عزلتي...؟ وكأنني صرت ابحث عن مذنب... عن فاعل...
نهض متمتما ً:
ـ يبدو إننا لم نخلق إلا لصناعة هذا العقار الذي عمله يمد الداء بالديمومة...، وبما هو ابعد منا، مني، ومنكم، من زمننا، ومن زمنكم، المرض الذي كنا نبحث عن عقار للقضاء عليه، أو للحد من جبروته، وما يتركه من أسى وخراب...، هو العقار الذي لا وجود له...، البراءة، فلا معنى للهدنة! ولا معنى للرسائل إن كتبت أو لم تكتب، إن أرسلت أو لم ترسل...، فلم تكن إلا هي الأسباب ذاتها التي عملت على استحداث مجالات تنصهر فيها الأسباب المولدة لماضيها، والمولدة لمصيرها المؤجل....
   لا إجابات.
   إنما لم يول الصدمات أكثر من إصراره على استحداث آمال لا مرئية...، فالحياة لا تقبع داخل الكلمات، ولن تسكنها. لكنه لم يصدم، بل كتب:
ـ  فالعزلة أكدت إنها، مهما اتسعت في مساحاتها، فإنها قائمة على ما يدحضها..
   شاعرا ً أن كل خلية، في جسده، ترسل إشارة إلى الجميع...، مثلما أحس عميقا ً انه يمتلك قدرة قراءة ما لا يحصى من الردود، والإجابات. فالحياة لم تمض، لأنها لم تبح إلا بما بدا أطيافا ً للعبور:
ـ  كأنكم وانتم تذهبون إلى أقاصي المنافي، فوق هذا الكوكب الشبيه بمجمع للنفايات، أصبحتم أكثر قناعة بالأمر الواقع، ذلك الذي كنا، في يوم من الأيام، قد منحنا عزيمة على دحضه، أو تعديله، في أسوء الأحوال.
    ولم يجد ثمة ضرورة للنبش في النهايات، مهما تأجلت، فإنها محكومة بنسقها، ونظامها، فهي ليست طليقة إلا بحدود ما ستؤول إليه، وكأنها أنجزت واجبها...
ـ انجاز ماذا ...؟
   تذكر الموضوعات التي صاغت هواجسهم، وحواراتهم، وتجمعاتهم، حتى أثاروا الشبهات...، لكنهم ازدادوا إصرارا ً بان الاختلافات وحدها هي التي كانت تمنحهم الحفر في الظلمات، فالعام لا تحكمه المشاعر المستترة، المطمورة، فهو غير مقيد بمبدأ التجمع، التكتل، والتعارف، وهو لا يقع تحت قبضات أصحاب المال، ولا بفعل المبرمجات القائمة على الخطط الخفية...، ففندوا النظريات وفككوها كي يستخرجوا منها ما سيدخل في تركيب البناءات المحتملة...، واستنتجوا أن الحياة لا تعدو أن تكون أكثر من مسرحية محكومة بازدواجية أضدادها، فالأكثر حكمة ليس وحده من يتحكم بالمصائر، بل برهنت الطبيعة أن قواها تعمل بما لا تركه أعظم العقول...
ـ انجاز ماذا ...؟
   ولأنه لم يعد يجد ما يستند إليه، أكثر من أصداء لأصوات توارت، قال بلامبالاة، لكن بثقة:
ـ هذا هو كل ما في الأمر.
   ولم يفكر أن يجرح أحدا ً، مثلما فعل بنفسه حيث امسك السوط وانهال عليها، يجلدها، ويعذبها، وإلا لكان لو شيّد بيتا ً وجمع ما يدفع عنه الحاجة، بدل المضي بالنبش والجري خلف سراب...، إنما لم يخبرهم بالتمويهات التي اغفلوا أسباب ازدهارها، ولا بالأوهام التي ظنوها عابرة، فلم يسلطوا الضوء على غياب الجهد، وكراهية بذل الحد الأدنى من العمل...، فالثروات التي انهالت على البلاد عززت صخبهم، ومنحت أصواتهم درجاتها القصوى. كانوا ضحايا العاب خديعة، لكنها مضت، فاستحالت إلى ما يتفوق على أي جهد لتفنيدها. فغدا من يجر العربة وحده يتحكم بمسارات الدرب.
ـ فلم نكرس برنامجا ً واضحا ً يمنحنا خطوات تجعلنا لا ناسف إننا أضعنا ما كان علينا أن ننجزه، وندعه يتقدم...
   لم يدوّن كلمة واحدة حول ذلك، فالمشترك لم يذهب ابعد من الأصوات...، والصخب، وحتى هؤلاء الأكثر انشغالا ً بالبرامج الحديثة لم يلفتوا النظر إلى الحقائق...، والى ما كان يجري خلف الواجهات. كانت اللافتات قد بهرتهم.
ـ فحتى الماء أصبحنا نستورده ..، لأن مصائرنا جرجرتها الأصوات..، والمزاعم، وأمراض العظمة.
   لكنه لم يكن راغبا ً بالعودة إلى ما عبره الزمن...، فثمة ما لا يحصى من العلل، لا جدوى من نبشها. فعلى مدى ألف عام لم يكن لدينا ما يقارن بما لا يحصى من اختراعاتهم...، فهم يستحدثون، في كل برهة، ونحن ندفن  كل من يتجرأ بالعمل على وضع ضميره تحت الضوء.
   وجد الهواء ينسحب. فمد أصابعه إلى الأمام، بحثا ً عن نسمات...
ـ فانا أتذكر هؤلاء الذين ماتوا في الصحارى، جفت ابدأنهم، ولم يكن منطقيا ً أن يتساءلوا: أين ذهبت مواردهم...، ولماذا هربوا من بلادهم ... ، ثم ما فائدة سلخ أرواح ضاعت في البراري، والبحار، مثلما كانوا يتوهمون أنهم كانوا على صواب.
   بحث عن أصابعه فوجدها تيبست. فيما لمح رأسه يتمايل، حتى بغياب الهواء.
ـ ربما يكون هذا هو السبب الذي أهملناه، اغفلناه، ولم نحسب له أي حساب، فلم تكن هناك مشتركات حقيقية، صائبة بيننا، مما جعلت النهاية تجري بعناد، وبلا مبالاة...، وقد بلغت ذروتها.
   ودار بخلده انه لم يكن مراقبا ً، ولا قاضيا ً، ولم يكن مخولا ً بإصدار الحكم. الم ْ يتندر من هؤلاء الذين كانوا يذهبون إلى جهنم طواعية، بلا تردد، زاعقين: افتحوا الأبواب! بحجة أنهم سمعوها تقول: هل من مزيد!
   لم يجد قدرة على الضحك:
ـ لأننا كنا نتندر على هؤلاء الأكثر خمولا ً إلا بعمل المستحيلات للحصول على ركن في الأعالي...، بجوار الرب..، لا عمل لديهم إلا كراهيتهم للعمل، وبذل أقاصي الطاعة بسحق كل من كان ينوي أن يبذل جهدا ً ...، أو يتحرش بالأعراف.
   لمح الجدران تتقلص، ليرى جسده تحول إلى بذرة.
ـ كأنني وجدتها!
فرفع صوته قليلا ً:
ـ  لا أبدو أني بصدد السفر إلى العالم الذي لم يرجع منه احد...، صحيح إنني احتضر ولكنني لم أمت بعد.
    ليجد رأسه يصطدم بشاشة الحاسوب:
ـ من أين جئت إذا ً...، من أين خرجت...،  الست مركبا ً من عناصر هذه الأرض، الست جزءا ً من هذا الكون؟
   أليا ً ـ بمشاعر مجمدة ـ نهض ليعد الشاي، ثم يرجع، كاتما لوعة لم تدم إلا برهة:
ـ كنا نجهل البند الأول: من نحن ...؟
    ولم يخبر أحدا ً بأنه استعار منه كتابا ً ولم يرجعه...، ولم يذكرهم انه لا يتذكر أن أحدا ً منهم التزم بموعد...، واظهر ما كان يتستر عليه، ويخفيه..، ولم يتحدث عن الأسباب التي طالما أفقدته أعصابه:
ـ الاستخفاف بالحقائق، وتجنب الصدق!
ـ من نحن...؟
   ووجد في مرارة الشاي لذّة عقاب أليفة..، ليجد صعوبة اكبر في العثور على نسمات تعيد له توازنه. فالدخان غدا كثيفا ً. وربما تكون خلايا الدماغ تعاني من نقص ...، عناصر ديمومتها.
ـ كنا مأخوذين بالحرية....، ولم نجد من يذكرنا بأسسها..، بجوهرها، حتى إننا كنا أما أن نتناول الماء الملوث أو نبحث عن ماء مستورد. كأننا كنا سعداء بالفجيعة.
   تلمس جسده: لا لم يتحول إلى صرصار. وانه لم يفقد انفه، كما لم يبتلعه الحوت...، فقد تذكر حكايات قراءتها منذ زمن بعيد، ورسخت في ذاكرته...، ثم أضاف بسخرية: ولم أصر نباتا ً.
    فجأة، استنشق رائحة الليل، خالية من الدوي، من الغبار، فلم تعد ثمة طائرات، ولا أصوات انفجارات..، ولا مواجهات ...، قال لنفسه، وانه لم يعد يخشى أن تطرق الباب للسؤال إذا ما كان منحدرا ً من عفن المستنقعات أم ولد تام الهيأة...، من أية قبيلة وما هو انتساب أسلافه...، هل هو من اختار معتقده، أم القدر منحه ولعا ً بالهجرة إلى المذنبات النائية...
    تاركا ً أصابعه تمسك بجسده، فقد شاهده تحول إلى كتلة جافة، متصلبة، ركنت عند تل من النفايات،  سمع اصطكاك أسنان مفترسات متوحشة تقترب منه، لم يتحرك، فقد أدرك انه طوق من كافة الجهات...، ورأى السماء تمطر حجارة، لم يسمعها تنفجر، قالوا إنها أسلحة ناعمة، مثل حلوى، هدايا للصغار، لا تؤذي، فيذهب كل من تلامسه إلى العالم الآخر كأنه يعود إلى البيت.
أفاق.
  تلمس الكلمات ممتزجة ببياض جاف، مخلوطة بالدخان، تشتبك معها حبيبات أصداء منحت المزيج لونا ً حلزونيا ً استطال فبدا له شبيها ً بالمرات التي ظن انه تحول فيها إلى أثير:
ـ ها هو المنفى باتساعه غدا بحجم بذرة كلما توغلت فيها دعتك إلى فضائها اللا محدود...، مثلما الكون ذاته لا يكف أن يمحو حافاته...
   تاركا ً أصابعه النحيلة تنقر في الهواء:
ـ  فانتم إذا ً غير آسفين للفرار من منفانا، لاختيار آخر، مثلما أنا لم اعد امتلك حتى رغبة بالأسف إني لم اختر هذا المنفى، أو سواه، مادامت البذرة هي البذرة أينما كان موقعنا فيها.
   ووجد فمه ينطق:
ـ إنما رأيت السماء تمطر حجارة ناعمة، وشاهدت أرواحنا تهيم، فلم ير احدنا الآخر كي يودعه...، وإذا رآها أغفله، كانت الفراغات تدوي بأنغام استحدثناها كي تبلغ بالمحو   ذروتها... ، فكنا نزداد شغفا ً بالفراغات: أصواتنا التي خمدت قبل أن تغادر أفواهنا...، يا للآسف...إننا لم نجد ما نأسف عليه...، حتى عندما كنا نأمل بغير ذلك...؟
    لكن هل حقا ً....؟ وسكت برهة: أن أحدا ً لا يريد أن ينطق...، لا يريد أن يعرف...، ولا يريد أن يغادر منفاه...، كي لا يكرر بعناد لعبة الصياد الأول...، وهزيمة الطريدة الأولى..، وكأن كل منا كسب الرهان، حيث الهزيمة وحدها كانت قد ارتدت قناع الخلود!
   بالأحرى، قال لنفسه، لا جديد يذهب ابعد من تلافي الإعادة، واستنساخ القديم. إلا أن المتاهة كانت قد تجاوزت حدود برامجنا، لأننا ـ ببساطة ـ  كنا لا نمتلك إلا اختيار ما كنا وصفناه بـ: العار، الدناءة، والرذيلة.
   توقف عن الكتابة، وراح يتخيل انه أزاح الجسور التي لمحها قائمة بين الأجزاء، وبين الكيانات..، فلم يعد يرى سوى مكعب خارج المدى، إنما تردد في إكمال المشهد. فأينما ذهبت فالجسور هي التي تمتد نحوي. فلا وجود لي خارج الشروط ذاتها التي جعلتنا في العمق: في العار، وما تحت الرداءة.
   وعاد يتخّيل المشهد: السفينة تغرق...، إنها تهبط إلى القاع...، فمن أغرقها؟ لم يشغلنا هذا السؤال. فقد تحتم على كل منا أن ينجو...، يلوذ بالفرار...، نحو الصحراء، نحو البحر، نحو الجحيم أيضا ً عندما لم تعد هناك نوافذ، وممرات للهزيمة.
ـ أنا تجمّدت...، ُجمدت، وجد نفسي مجمدا ً...،  أراقب تتابع الضربات، أراقب الصدمات، الصواعق، والهالات البلورية ترتفع في السماء...، النار تلتهم الجدران، والموتى يغادرون المدافن، الثكالى ينحن بجوار الأرامل فيما شاهت أطفالا ً يتدلون من أغصان الأشجار، والضربات تتبعها أخرى اشد منها، توهجا ً حتى صارت بلون ما قبل الخليقة. ولشدة قوتها صرنا شظايا، ولم نعد محض ذرات، أو كيانات، ولنا ثقل وأبعاد، صرنا نحدق في اللا مرئيات بعد أن فقدنا كل صلاتنا بما حلمنا في يوم ما أن نراه يانعا ً، وحقيقيا ً...
     ليجد أصابعه راحت تعمل آليا ً: وصار كل منا يبحث عن فجوة للهرب...، لا معنى للحديث عن الهزيمة...، ولا عن من كان السبب، فالحياة ذهبت ابعد منا...، ابعد منها...
ـ وأنا تجمدت، جمدت، ووجدت نفسي مجمدا ً...، فقلت: أنا هو من يغرق، يغطس، يغوص....، وأنا أيضا ً في طريقي للذهاب ابعد من الموت، ومن تمويهات الحياة، ووعودها، من صلابتها وهشاشتها، من أصواتها وصمتها...، أنا اذهب خارج موتي.
  كلا.
متلمسا ً الهواء:
ـ  أنا الآن في كوكب آخر....، حتى بدا لي المشهد معادا ً...، لأنني تخيلت هؤلاء الذين تركونا للحصول على ركن في الأعالي، تخيلتهم يبحثون عن الحوريات، ويبحثون عن العسل، وعن البن، وليس عن الهواء الذي لم يلوث بعد...، هؤلاء أيضا ً كانوا تخلوا عن السفينة، وتركوها تغرق إن لم يكونوا هم أنفسهم من أسهم  باستحالة إنقاذها...، تركونا نتخبط في متاهات الخوف، نرتجف من شدة الذعر، والويلات...، لأن كل منهم كان يلوذ بالنجاة وحيدا ً نحو الأعالي، وآثار أقدامهم مازالت تدك الأرض، ومن عليها.
   وبدأ يقرأ في الشاشة:
ـ ما الاختلاف إذا ً...، هؤلاء بحثوا عن خلاصهم في السماء، وانتم بحثتم عن خلاصكم في منافي الأرض...
ـ أما أنت فكنت تحتمي بالجدار...، كي لا تقتل، وأنت تشاهد فرق الاغتيالات تتجول تبحث عن طريدة..، فلم يرك احد منهم، وظننت انك نجوت..
   هز رأسه: هل أخبركم بماذا كنت أفكر أو بماذا فكرت...، آ ...، لم أفكر، بل صحوت حتى أنني صرت اردد: لم يتركوا لنا إلا أن نخلص أنفسنا، بمعنى: أن يقتل احدنا الآخر. فالخلاص، في النهاية، موتنا.
   متمتما ً: إنما عدت أدرك إنني لم اهزم: فالرب وحده ليس بحاجة إلى إثبات! ليس بحاجة إلى براهين دالة عليه، تتفوه بها مخلوقات غيابها سابق على وجودها. الرب هو وحده علامة وجود كلما ادعينا معرفته إنما نوسع المسافة بيننا وبينه!
    أرتج جسده من الداخل، فمحا الكتابة، حتى فكر أن يتلف الجهاز، فربما يكون قد ارتكب هفوة، أو خطيئة يحاسبه ضميره عليها، قبل أن يجد من ينزل فيه العقاب. إلا انه أدرك فجأة انه لم يقم ـ هو بذلك ـ بل الجهاز ذاته قام بمحوها! ذلك لأنه، في إحدى رسائله، ما أن كان يشرع بإضافة كلمة، إلا ليجد الشاشة تحولت إلى مساحة بياض. فكان كلما عاد واسترد الكلمات، وشرع بإضافة حرف...، وجدها عادت خالية إلا من البياض المشع. لم يجد تفسيرا ً للمعضلة، بعض الكلمات تجعل نظام الحاسوب يقوم بمحوها ذاتيا ً...، رغم إنها لم تكن كلمات خارج السياق المتداول، أو تتنافى مع الأعراف...، في العالم. فالممنوعات يعرفها، حفظها عن ظهر قلب، بل كان يستنشقها، وهل ثمة محرمات...، وهو قد نجا من الموت...، مرات ومرات، إنما وهو يراقب الجثث ترمى فوق أكداس النفايات، مستعيدا ً مشاهد المقابر الجماعية، رماد الموتى الأبيض المائل للاصفرار الممزوج بلون الرماد، عظامهم، ومشاهد إطلاق النار في الرؤوس، ومن الخلف...، القنابل الفسفورية، العنقودية، شاهدها أيام الحرب...، وعبر الوثائق، درسها، حللها، حتى خزنها بجوار ذكريات ترجع إلى ما قبل سبعين عاما ً؛ رائحة التراب عندما تملأ انفه بعد سقوط المطر، ورائحة الحليب، وحرارة  والدته وأنفاسها.
ـ لكني كنت ابحث عن جذور ...
   ووجد صعوبة في العثور على هواء لا يفسد عليه وعيه. كان لا يريد أن يتعرض للنعاس، أو للإغماء...، فقد شعر كأن قوة ما كانت تحفزه باستحالة القبول بما يذهب به ابعد من الهزيمة...، الم يكن يطالب بالبحث عن وسائل غير الأصوات، والزعيق، والهتافات...، وسائل غير الأناشيد، والكلمات، تضع حدا ً للقبول باختيارات كانوا عملوا على دحضها؟
ـ من أنت...؟
   لم يذكر في رسائله انه لم يحتفظ حتى بمرآة للحلاقة، منذ سنوات بعيدة،  فقد كان يتلمس بشرته لذلك..، مثلما لم يبق للانا إلا بحدود عملها في الحفاظ على أداء الضروريات، كالذهاب إلى النوم، أو عدم إغفال تناول الطعام...، وعدم إغفال العقاقير التي لولها لكان قسم ابوقراط فائضا ً، فلم يبق أثرا ً يستفزه للدفاع عن قضايا جديرة بالزوال، والمحو. عدا التمسك ببقايا هذا الوعي بما حدث، ووقع، منذ سنوات، ربما إنها تسبق ولادته، بما كانت تحتويه من غزارة معلومات، وحوادث، ذلك لأنه لم يعد يرى مستقبله أكثر من هذا الملحق بالماضي البعيد...، فلم يعد يعامل جسده، إلا بوصفه فجوة تركها تستكمل تسلسلها، لا أكثر ولا اقل.
   فبدت له حياته منفصلة عن وعيه، بل طالما أحس إنها فائضة أيضا ً عنه، ولكنه وجد نفسه يتمتم معترضا ً:
ـ آ ....، فمن ذا إذا ً يدرك كم مضى من الماضي، وكم ستدور الدورات ضمن برنامجها...، ونحن لا نملك حتى درجة من درجات الصفر؟  مع ذلك...، لم نكن نمتلك إلا أن نزداد عنادا ً، وتمسكا ً بالتمويهات، ودحضها، ثم ـ في نهاية المطاف ـ  لا احد يمتلك إلا أن يتدثر بوهمه.
أفاق ليساءل نفسه بتردد، وبخوف:
ـ هل غابوا جميعا ً...؟
   لو لم يتحسس جسده يرتجف، ويتعرض لنوبات من الارتجاج، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه ـ وقد ضحك للعبارة التي أعادته إلى أيام قديمة خلت ـ لكان اطمأن إلى جواب واحد:
ـ أنا هو من غاب! أنا هو من مات!
    لكنه عاد يكتب منشغلا ً بالبحث عن علة لها علاقة بأحد الأطراف...، أو بما يحصل من تصدعات في  الوجود، أو بما هو ابعد...، من وجود خطة حكيمة ومتقنة ببلاغة ونائية حتمت استحالة ديمومة ثوابت الحياة...
   ليسأل نفسه، بعد أن لمس أعلى رأسه، بهدوء، في عبارة موجزة: ربما أكون أنا الوحيد الذي لم يدرك انه فارق الحياة، وغدا غائبا ً...؟
   مع انه تخيل الأمر بأدق التفاصيل ...، وشاهد موته يحدث مرات ومرات...، إلا انه  لم يعد يصدق انه فارق الدنيا...، تخيل كيف طلب من جاره، أن لا يحشره في قبر ضيق، وناوله مبلغا ً إضافيا ً للعناية بالأبعاد، وان لا يتم حشر جسده حشرا ً عنيفا ً،  لأنه تخيل الألم يطارده حتى بعد توقف عمل الدماغ، وتوقف القلب عن أداء عمله، متخيلا ً السماء تمطر...، والريح تداعب الورود التي دفع ثمنها، على أن تكون ألوانها شبيهة بالمنديل الذي أهدته له أمه قبل أن يتأملها تفارق الحياة، وتخيل انه يسمع البلابل تغرد...، فيخاطبها، ويمضي معها أزمنة استثنائية...، من غير أن يغفل انه أمر بعدم كتابة اسمه فوق الشاخص...، معللا ً أن ذلك قد يكون أمرا ً لا يليق بإنسان عمل من اجل الآخرين، وليس من اجل نفسه...
     هز رأسه، فوجده ثقيلا ً، فشرد ذهنه، وهو لم يكف يكرر بأنه مازال يتنفس الهواء...، بل وانه تناول قطرات من الماء، بعد أن اعد الشاي، كما يفعل بعد الاستيقاظ فجرا ًفي كل يوم، متابعا ً، بإصرار: انه مازال يرى الكلمات، الواحدة بعد الأخرى، كأنها تنسج المنديل الذي طرزه وأهداه لفتاة غابت عن ذاكرته...، مخاطبا ً، من عرفهم، وبرغبة ما وجدها لم تخفت، صديقي: سقراط...، صديقي الجاحظ، صديقي الجنيد، صديقي ابن رشد، صديقي المعري، صديقي اينشتاين، صديقي تشيخوف، صديقي طرفة بن العبد، صديقي دانتي، صديقي غاليلو، صديقي مندل، صديقي ماركس، صديقي دستويفسكي، صديقي الملا عبود الكرخي، صديقي مدني صالح، صديقي اليوت، صديقي عدنان المبارك، صديقي فاضل العزاوي، صديقي علي النجار، صديقي عادل كامل،  صديقي الله!
   وعاد ليجد الشاشة تحولت إلى بياض تام.
19/11/2016
Az4445363@gmail.com

   




السبت، 19 نوفمبر 2016

قصة قصيرة انتفاضة البعوض-عادل كامل



قصة قصيرة

انتفاضة البعوض



عادل كامل
    في الزريبة، وعند بزوغ أولى ومضات الفجر، استغاثت البعوضة بصوت حاد لعل أحدا ً يمد يد العون لها وينقذها، وهي تشاهد إعصارا ً رماديا ً مشبعا ً برائحة أدركت إنها تنتمي إلى المبيدات...، كانت تراه يقترب، فراحت تصرخ بأعلى ما لديها من قوة في الصراخ والزعيق، والاستنجاد...، لكنها لم تجد من يصغي لها، فهتفت:
ـ أين انتم...؟
   كان ذلك سببا ً كافيا ً للطيران بأقصى ما تمتلك من سرعة نحو جناح الأسود، الأقرب لها، بعد جناح الحمير، فلم تجد أحدا ً يكترث لها، ويصغي لتضرعاتها. كانت الأسود تغط في سبات عميق. فضحكت البعوضة ألما ً وقالت لنفسها:
ـ لا عمل لديهم....، لا في الليل، ولا في النهار!
   طارت كي تصل إلى جناح القرود، فاقتربت منه، تأملته، وشاهدت الزعيم يستقبلها باستغراب، اقتربت كثيرا ً منه، وراحت تحدق في محياه:
ـ سيدي الجميل....، إننا نتعرض للإبادة!
ضحك الزعيم:
ـ مع من تتكلمين...؟
ـ معك..
ـ وأين أنا...؟
   أغلقت فمها وطارت تبحث عن من يساعدها، وينقذها، فرأت وحيد القرن عند البركة:
ـ سيدي...، إن لم تساعدني فسأموت..؟
   سمعها وحيد القرن، فانفجر ضاحكا ً، حتى شاهدته يتمرغ في الوحل، وعندما رفع رأسه الكبير، وعاد يتأملها، قالت له:
ـ آسفة ...، فانتم أيضا ً في عداد الهالكين!
  تمتم بصوت متلعثم:
ـ اقتربي مني كي أسمعك.
قالت:
ـ أنا بعوضة حمقاء، أينما ذهبت، لا أجد أحدا ً يكترث بي، كأنني خلقت عدوة للجميع، وكأنني أصبحت فائضة!
أجاب وحيد القرن:
ـ منذ زمن بعيد وأنا اسأل نفسي: ما الفائدة من وجودي، في هذا الركن المعزول، اعلف التبن والعشب ثم اذهب إلى النوم...، حتى أصبحت وحيدا ً لا عمل لدي ّ غير ان أراقب الناس يضحكون علي ّ تارة، واضحك عليهم تارة أخرى...؟
وأضاف وهو يضرط:
ـ حتى أنت ِ تستطيعين السخرية مني، والضحك علي ّ أيضا ً ...، ولكنني أخبرك بضرورة البحث عن مكان بعيد لعلك تفلتين من الإبادة، والاجتثاث، والمحو....، فانا أينما اذهب فموتي وحده هو الذي ينتظرني! وكأن خاتمة اللعبة وضعت قبل مقدماتها!
وقال بصوت حزين:
ـ مع إنني اعرف ان مضارك لا تعد ولا تحصى حتى أكاد اجزم انك بلا نفع، لكن اهربي  وابحثي عن مكان قد يساعدك على البقاء ...! فلا ضرر من وجود بعوضة زائدة في حديقة تنحدر نحو الفناء!
فصاحت غاضبة:
ـ إذا كنت لا تقدر على نجدتي، فلماذا تؤذيني ...، وكأن من خلقك نزع الرحمة منك...؟
ـ أنا لم أجدف...، ولم أتفوه بما يدل على ذلك، بل قلت لك ابحثي عن وطن امن ...، فأنت هنا لا عمل لديك سوى نقل الجراثيم، وبث الرعب فينا، وإنزال العقاب في سكان حديقتنا الآمنة!
   هربت، تلملم هزيمتها معها. وعندما رفعت رأسها قليلا ً صعقت وهي تشاهد الإعصار الرمادي يزحف نحوها، فأسرعت، وكلما ضاعفت سرعتها في الطيران كانت ترى الإعصار يسرع في أثرها، فلم تجد ملاذا ً لها غير قفص الطيور الكبير...، فاختارت جناح الصقور، فحطت فوق منقار صقر شارد النظرات، فخاطبته:
ـ أيها الشامخ الأبي الغيور يا ثعلب السماء، وأسدها!    
ـ من..؟
ـ دعك مني، فانا جئت طالبة حمايتك، وعونك.
ـ من أنت ِ..؟
ـ إن كنت لا تعرف من أكون فكيف ستمد يد العون لي....، فالجميع للأسف يتجاهلون عذابي، وما تعرضت له من قسوة، وظلم...، فانا ولدت في المستنقع، مع أسلافي، وعشنا فيه...، وها هم يلاحقوننا بقرار الإبادة، والمحو...، فهل هذه عدالة...؟
ـ آ .....،  يا ناقلة الجراثيم والأمراض الفتاكة، يا بعوضة الشر، يا غراب المستنقعات!
ـ اقسم لك، أيها الصقر العظيم، لم افعل ذلك بإرادتي! فلماذا افعل الشر إذا كنت استطيع تجنبه؟  ثم ما هذا الذي انقله...، هل رأيته، وهل كنت أنا السبب بجلب الأذى لكم ..؟
   هز رأسه بحيرة ونظراته مازالت شاردة:
ـ وأنا ما الفائدة من وجودي غير قنص المستضعفات من الفئران والأرانب والطيور..؟ فانا ولدت هكذا ...، وها هم يحتجزوني خلف القضبان، بقصد حمايتي، بعد ان تم احتلال بلادي الشاسعة وانتزعوها منا وقد أصبحت غير صالحة لسكننا! الأوغاد قلبوا المعادلة، فحولوا اغتصاب حقوقنا إلى شرعية، بعد ان داسوا علينا، ومنحونا هذه السجون!
  فقالت وهي تفكر:
ـ كأنك تذكرني بناقل الشر غير الشرير!
فقال وقد ظهرت عليه ملامح الغضب:
ـ لا تذهبي ابعد من حدودك...، فلو كان الشرير بريئا ً فلم استخدمه الشر...، ثم لماذا استجاب للأفعال المشينة، والخسيسة، وغير العادلة...؟
ـ أحسنت، يا سيد الهواء، والرمال، والشمس! فانا غير شريرة، ولكن الشر أغواني...، فانا ضحية بلا قصد مسبق...، فلماذا أعاقب وكأنني أنا المسؤولة عن ارتكاب الشر...، فانا أعاقب بالذنب الذي أرغمت على ارتكابه...، فأين هو العدل؟
   صاح غاضبا ً:
ـ أغربي عن وجهي...، فانا أخشى العدوى...، يا ناقلة الكفر! فدعيني، في هذا الفجر الجميل، ابحث عن وليمة!
   فدار بخلدها سؤال أربكها: إذا كانت حياتي لا تنتهي إلا بالموت، وبموت جنسي، فما الفائدة من حياة لا تترك خلفها إلا محوها...؟
فصاحت:
ـ إذا ً فأنت لم تترك لي إلا ان انقل لكم ما حملته أقدامي من الحظائر والزرائب ...
ـ لا...،  أتضرع إليك، يا بعوضة الشر ان لا تنقلي الشر إلينا!
    وابتعدت هاربة كي تختفي عن نظره. فكر الصقر مع نفسه:
ـ إنها ليست ناقلة للشر...، بل هي الشر عينه!
   من ثم راح يبحث عنها في فضاء القفص الكبير، داعيا ً النسور وباقي الطيور للبحث عن بعوضة تسللت إلى القفص، وإنها ربما تكون حاملة لواحدة من افتك الأمراض وقصد بها انفلونزا البرغوث، أو جنون اللقالق، أو جذام البط الوحشي، فهي، قال:
ـ تحمل ما لا يتوقعه العقل، إنها تنقل وباء الهذيان، والموت بشفافية، وفوبيا الزوال!
     ناداه نسر عجوز لم يحرك ساكنا ً:
ـ وماذا يعني القضاء عليها، أيها الصقر الجسور...، هل سيطلقون سراحنا، ويدعونا نرجع إلى برارينا...؟
  صدم الصقر لكلماته، فخاطبه بجدية اكبر:
ـ دعنا نفكر في حدودنا أيها النسر الحكيم، فالقضاء على ناقلي الأمراض خطوة تفضي للقضاء على المرض...، فهذا العمل يماثل التصدي لناقلي الشر بغية القضاء على الشر...، لأن عدم اتخاذ ما يلزم يماثل اشتراكنا فيه، ويماثل تخاذلنا، إن لم اقل غيابنا من الوجود.  وتلك إشكالية تجعل وجود الشر، بحد ذاته، شرعيا ً! وهذا يعني إننا وقعنا في المحضور....!
متابعا ً بصوت أعلى:
ـ وما أدراك ان تكون هذه البعوضة قد أرسلت لنا...، دست دسا ً، لنقل وباء يهلكنا جميعا ً، ويعرض جنسنا للفناء، داخل أقفاصنا الموصدة، ونموت موت الأسماك في أحواضها الآسنة، بدل ان تتمتع بالبحر وطنها السليب!
ـ يبدو لي، أيها الصقر الشهم، انك أصبحت بالحمى، فأنت تعرف ماذا تفعل الحميات  بالعقول...؟
ـ لا، لا تفزعني! فالبعوضة لم تقرصني ولم يختلط دمها بدمي...؟
ـ ها، أنا لم المحّ إلى ممارسة شاذة، بل إلى عدوى تحدث عبر الهواء!
   صمت الصقر برهة وقال:
ـ وهل سمعت شريرا ً باح انه ارتكب الشر بإرادته، أو حبا ً بالشر...، أم تراه يجد له ألف غطاء، وألف تمويه ...، وألف عذر...؟  ثم إنني لم ارتكب الشر، كما لم أقم بنقله...، كل ما قلته هو دعوتك لتشاركنا بالقضاء على هذا العدو....!
     بعد ان طارت البعوضة، وابتعدت عن قفص الطيور، راحت تبحث عن مكان امن تختبئ فيه، فوجدت شقا ً في شجرة، دخلته، فأفضى بها إلى ثقب يطل على البركة، فرأت أمامها ملكة البعوض تحّوم، مثل طائر مصاب بسهم، تائهة، تتخبط بحثا ً عن ملاذ تتوارى فيه. فنادتها:
ـ سيدتي...، سيدتي الملكة ...
   لم تسمعها، فصرخت البعوضة بأعلى ما تمتلك من قوة على الصراخ:
ـ أنا هنا...، في هذا الشق.
    لكن ملكة البعوض ابتعدت وغابت عنها. فدار بخلد البعوضة انه لا معنى للمجازفة ومغادرة الثقب، فتركتها تلقى مصيرها المجهول!
   فكرت وهي تلقي نظرة متفحصة إلى الأشجار، أمامها، ثم نظرت إلى ضفاف البركة، لتشاهد مجموعات من الغزلان، والثيران، والزرافات، والنعاج، والجاموس، وثمة دب يرقص جذب نظرها:
ـ الأحمق لا يعرف ماذا يجري ...؟
ثم قالت لنفسها:
ـ صبرا ً.
   ولكنها صدمت عندما رأت بوما ً يجلس القرفصاء في نهاية الثقب، سمعها، فهمس بصوت ناعم:
ـ سمعتك تصرخين...، وتنادين على ملكتك التائهة...، فقلت مع نفسي: ما شأني، فانا عشت حياتي وحيدة، لا شأن للآخرين بي، فما شأني بهم!
   استعادت أنفاسها، فسألته:
ـ أي إنني وقعت في المصيدة؟
ـ لا ...، أنا هو الذي وقع فيها!
     ذلك لأنها استنشقت رائحة نمل. فأبصرت لترى ان البوم مطوق بسلاسل لا مرئية وان أية حركة سيقوم بها ستكشفها وتعرضها للخطر. تجمدت. وراحت تخاطبه عبر لغة الومضات، فاخبرها ان تزحف بهدوء وتلتحق بملكتها الضائعة، وتهرب بعيدا ً عن الغابة، وبعيدا ً عن البركة، فأومأت له إنها مسرورة ان تجد عونا ً كهذا من لدن بوم يحتضر. ولكنه قال لها:
ـ فهناك، عند المستنقعات، يتجمع البعوض، استعدادا ً للانتفاضة، والتمرد، وإعلان العصيان، ومن ثم الحرب على الظالمين. فاذهبي...، بهدوء، بصمت، ثم اعملي على تحريري من النمل!
ردت بامتنان:
ـ أمرك...، سيدي البوم، فلن نغفل نصحك لنا!
   انفتح الفضاء أمامها. فحلقت، بخط مستقيم، كما اخبرها، بدل الدوران، أو الطيران المتعرج، أو الارتداد والتراجع.
ـ فلا تنشغلي بالثيران، والضباع، والجاموس، فكلها تعمل على هزيمتكم، وسحقكم، ومحو وجودكم ، في هذه الحديقة.
      وتذكرت إنها قالت له ان هذا محال: وإلا لكانت الديناصورات وباقي الزواحف والثدييات قد أفلحت بالقضاء على أسلافي البعوض، والبرغوث، والقمل!  تذكرت انه قال لها ان الزمن تغير، وان أدوات الفتك ما هي إلا جزء من لعبة خاتمتها بانت منذ بدأت إدارة الحديقة بشن الحروب.
     وكاد انشغالها بوصاياه الشبيهة بالمواعظ ان تشل حركتها في الطيران، كي تستمع إلى صوت مجهول المصدر أمرها بتحمل عناء الطيران، للوصول إلى سواحل المستنقعات الخلفية، حيث الظلمات، الريح، البرد، والموت! وان تتجاهل ما مر بها...، فلا احد، في هذه الحديقة، يرجو للآخر إلا الشر، والتنكيل، والقتل..!
ـ آ .....، سيدي، من أنت، فالدنيا مازال فيها شرفاء ؟
ـ أنا هو لا وعيك السحيق، يدربك على التجلد، وتحمل العذاب، للنجاة!
ـ ولِم َ تفعل هذا...، إن لم تفعله للأسباب ذاتها التي دفعت الأشرار إلى إبادتنا...؟
ـ أنا لست هو الشر، ولست الخير أيضا ً، أنا هو الذي يذهب ابعد منهما!
    ارتج جسد البعوضة وكادت تفقد توازنها في مواجهة تيارات الهواء:
ـ إذا كنت لا تقصد فعل الشر، ولا فعل الخير فما الذي تقصده تحديدا ً ....، بمثل هذا الإرشاد، والوعظ، و ...
   لم يدعها تكمل:
ـ أنا في الأصل لا افعل الشر ولا نقيضه، بل افعل الذي لا استطيع إلا ان افعله! فانا هو هذا الذي يكاد عمله ان يكون خارج العمل!
   فسألته بخوف:
ـ ألا تعتقد إنني أصبت بالوباء...، الذي اهرب منه، وإنني أصبحت امثل الوباء نفسه؟
ـ لا امتلك الجواب، ولا ظله! فما قلته لك ِ ليس إلا حاصل شقاء طويل...، ومواجهات حادة، ومكابدات خالية من الرحمة ...، وإذا ما كانت كلماتي لا تدلك على الطريق، فإنها ستفتك بك!
    أسرعت، محفزة أجنحتها البلورية باجتياز مطبات كان يحدثها الإعصار الرمادي، الذي غدا عاصفة هوجاء مشوبة بالظلمات الداكنة...، وما ان رأت قرص الشمس يرتفع خلف الأشجار حتى لمحت مرآة لا حدود لمساحتها فاتجهت نحوها:
ـ آ  ...
   استنشقت رائحة سمحت لها بالطيران على مستويات منخفضة، حتى شاهدت ما لا يحصى من الفيالق، والكتل، والمجموعات الكبيرة من البعوض، تمتد، تغطي الأفق أمامها، فراحت تبتهل، وهي تبحث عن الملكة التائهة، فلم يلتفت لها احد...، ولكنها أدركت إنها تستطيع الطيران بعيدا ً عن الخطر.
ـ إلى أين... أنت ِ...، أيتها المتخاذلة؟
نظرت إلى الخلف، فلم تجد سواها، فقالت:
ـ أنا....؟
     وحدقت في مصدر الصوت، فرأت مجموعة ترتدي لونا موحدا ً لم تميزه،  لشدة توهج أشعة الشمس، فوق المستنقع الكبير، يتتبعون خطاها.
ـ نعم.
ـ منذ زمن بعيد ونحن نبحث عنك...!
فقالت غاضبة:
ـ أنا هي التي كانت تبحث عنكم.
   سمعت آمر المجموعة يخاطب مساعده:
ـ الق بها إلى الجحيم، فقد تكون تعاونت مع العدو...، وقد يكون العدو هو الذي جندها، وأرسلها! فالنفوس المريضة ترتكب أخس الأفعال من اجل مكاسبها الدنيئة!
   فصرخت:
ـ أنا نجوت بمعجزة!
فضحك آمر المجموعة، وهز رأسه:
ـ هكذا يقول الجميع، دفاعا ً عن الخطيئة، وارتكاب المفاسد، والإثم!
ـ أرجوك ...، أصغ إلي ّ أولا ً، ولا تسلك سلوك المهرجين، أصحاب الأصوات الملعلة، خطباء الساحات، أصغي إلي ّ، فانا اعرف ما يجري هناك، في الزرائب، الأجنحة المغلقة، الأقفاص، الحظائر، وما يحدث في السراديب، الجحور، الشقوق، وما يجري تحت في قاع البرك الراكدة...، وعند سواحلها....، حتى ان الإعصار كاد يقضي علي ّ، قبل ان يتحول إلى عاصفة...، لإبادتنا، واجتثاثنا من الوجود!
   لكنها وجدت جسدها الغض مكبلا ً بالسلاسل، والحبال، ولم يسمح لها حتى برؤية ما يحدث، لتجد جسدها داخل قوقعة مظلمة، أدركت ان من يدخلها لن يخرج منها سالما ً، عرفت ذلك، بعد ان أفاقت، فقد وجدت الملكة قد سبقتها، وخاطبتها الملكة: لا جدوى من الصراخ....، ومن العياط، ولا فائدة من طلب الرحمة، والغفران! فلا تنتحبي، ولا تبكي، ولا تتضرعي ...، فقد فعلت ذلك من غير جدوى!
     وجدت صوتها يغيب، مثلما أدركت إنها لم تعد تمتلك قدرة على إجراء حوار مع ذاتها، وان أجهزتها الأخرى بدأت تتخلى عنها، لكنها عادت تصغي إلى الصوت الذي حذرها، عبر طريقها فوق البركة، بان الجميع يستعدون، بعزم، وعناد، وإباء، للقيام بردود أفعال تناسب حملات الإبادة، وليس عليها إلا ان تواصل بذل الجهد الاحتياطي، مع ملكتها، وباقي السجناء، والمحتجزين، لتلافي عقبة الاحتجاز، بدل ان يتحول الدفاع عن النفس منحدرا ً نحو المجهول، ونحو الظلمات.
11/11/2016
Az4445363@gmail.com

الأحد، 13 نوفمبر 2016

قراءة في كتاب ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) - حامد كعيد الجبوري


                             ( خصائصُ الأسلوب والجهد الجزائري )
قراءة في كتاب ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي )
                                                              حامد كعيد الجبوري
    يعزفُ الكتابُ والباحثون والنقادُ الكتابة عن الشعر الشعبي العراقي إلا ما ندر جدا جدا ونضع خطا تحت ما ندر ، وتبرير ذلك برأيي الشخصي أن المعنيين الذين ذكرتهم يعتقدون بدونية الشعر الشعبي العراقي وعدم أهليته للدراسة والبحث ، والكتابة عنه وله يعتبر عندهم ضرباً من الاستخفاف أو عدم الأهمية ، أو لأنهم لا يستطيعون خوض غماره وأمواجه المتلاطمة التي ستغرقهم دون تحقيق أي شئ أو منجز ثقافي يشار له ولهم لاحقا وبالتالي أهملوه ، ناهيك عن المفهوم الطبقي الذي نعتوا به الشعر الشعبي وأسموه ظلما بشعر العامية ،  ولا أخفي أن الموروث الشعبي العراقي كما بقية أبواب الثقافة والفنون عامة فيه من الغث الكثير ، وبالمقابل فيه من السمين أيضا مما يثير شهوة الكتابة عند ال( ما ندر ) جدا كما أشرت إليه أنفا ، لذا نجد في بعض الصحف العراقية موضوعا نقديا من صفحتين أو أكثر لملئ فراغ تلك الصحيفة أو تلك ، وحتى في صحيفة طريق الشعب تعطي للأدب الشعبي صفحة واحدة في الأسبوع ، وأنا أجده قليل جدا هذه المساحة الضيقة ، ومن النادر أن نقرأ فيه موضوعة بحثية متكاملة الأغراض والمفاهيم النقدية ، أو دراسة  تفصيلية رصينة لتراثنا الشعبي الغزير ، وما صدر عن دار الينابيع عام 2010 م ( الثورة النوابية ) لحسين سرمك أجده المنجز الضخم عن ما كتبه الشاعر العراقي الرمز مظفر النواب ، وكنت أرقب دراسات أخرى لنفس الناقد أو غيره عن تجارب عراقية شعرية شعبية لا تقل إبداعا ووطنية وجماهيرية عن تجربة رمزنا النواب ، مع تحفظي عن ذكر أسماء الشعراء كي لا تثار تساؤلات حولها لأني أتعامل مع النص كونه عملا إبداعيا لا غير ، وربما صعوبة توثيق الثقافة الشفاهية الشعبية المتداولة حالت دون التصدي والكتابة عن الموروث الشعبي العراقي  كما قلت .
      أجد أن الخلفية السياسية للصديق مزاحم الجزائري هي التي دفعته صوب الكتابة عن شاعر هزلي أستحوذ على الإعلام الشعبي اللساني حقبة الثلاثينات والأربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي ، فخلفية مزاحم الجزائري السياسية تُعنى بالأدب الشعبي عامة والشعر الشعبي خاصة ، بل وتعتبر قصائد البعض من الشعراء منشورات سرية تتداول عند مختلف شرائح المجتمع العراقي ، وقصائد مظفر النواب  مثلا لذلك ، ولليسار العراقي وبخاصة الحزب الشيوعي العراقي يدٌ بيضاء في تسليط الأضواء على بعض من الشعراء الشعبيين  الذين وجد فيهم الحزب الشيوعي العراقي جذوة شعرية يمكن من خلالها تبني تلك الظاهرة المميزة وصقلها وإبرازها بإطار وطنيتها التي تحمل ، ليصبحوا بعد ذلك من أبرز شعراء ستينات وسبعينات القرن الماضي ، ومثال ذلك كراس ( أغاني للوطن والناس ) طبع بعد احتفالية العيد الأربعين للحزب الشيوعي العراقي 1974 م ، وضم بين دفتيه ( 32 ) قصيدة لشعراء لا يزال يشار لهم وليومنا هذا بتجربتهم الفريدة المميزة ، وأسلوبهم الحداثوي ، وتداخلهم بصفوف شعبهم ونقل معاناة الوطن وأهله ، ويُتهم الحزب الشيوعي زورا أنه يخلق الرموز الشعرية منطلقا من شخصنة ذاتية لأسماء بعينها ليبرّزها وتصبح واجهة إعلامية للحزب وقيادته ، وهذا زعم مرفوض  ودليلي أن كل الأسماء التي تعرفون وأعرف من شعراء شعبيين هم منجزٌ إبداعي سبروا أغوار المفردات الشعبية وقدموها على صحن ثقافي شعري ممتع للذائقة الأدبية القارئة ، فأحبَ الناسُ تلك القصائد وحفظوها واستدلوا بها على عظيم تلك التجربة السبعينية حينها .
           و ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) عمل وجهد ليس بالقليل للباحث والشاعر مزاحم الجزائري ، وقراءة  الجزائري واقعية انطباعية بنيوية لقصائد شاعر ترك لنا ثلاثة دواوين شعرية ( سنجاف الكلام ، قيطان الكلام ، محراث الكلام ) ، وربما يعتقد البعض بمكان ما سهولة الدراسة لقصيدة شعبية مباشرة ، تخلو من الرمزية لتفصح عن مكنوناتها ومعانيها العفوية كما يحلو للقارئ تسميته ، وهذا يخالف حقيقة قصدية الشاعر ورمزية سخريته اللاذعة وإشاراته في ما يقول ، وأستطاع الجزائري أن يناقض ما يدعيه البعض وأخرج لنا رؤيا وحقائق قصائد ( قسام النجفي ) وقصديتها بتسفيه أفكار مجتمعية بالية طبع الكثير من عامة  الناس وجبلوا عليها .
         العربية لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك ، حقيقة تركها لنا النحويون ، فلا يستطيع أحد منا قراءة أي بيت من الشعر الفصيح دون أن يشكل الحروف – الضمة ، الفتحة ، الكسرة ، السكون ) ، ( حييتُ سفحكِ ظمأناً ألوذُ بهِ / لوذَ الحمائمِ بينَ الماءِ والطينِ ) ، من  يستطع قراءة البيت دون تحريك الحروف في البيت أعلاه ، ومن المؤكد لا يستطيع ،  ومن هنا تأتت جمالية ورفعة اللغة العربية في تحقيق غاياتها ومراميها ، ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) سورة فاطر ، فلو قلنا اللهُ بدل اللهَ لأختلف المعنى كاملاً ، فالكسرة أو الفتحة تغيير بالمعنى وضياع ما أراد الشاعر أو الناثر ، لذا أنبرى العروضيون وقعدوا القصائد الشعرية الفصحى ، ووضعوا لها ميزانا عروضيا يحتكم إليه ، أما الشعر الشعبي ولعدم قبول الحركة على الحرف الأخير من الكلمة لذا أصبح من الصعوبة بمكان إخضاع القصائد الشعبية للميزان العروضي الفراهيدي -  رأي شخصي -  ، يقول النجفي ( شاربله كونية دوه / وأثلث حكك شربت نوه / ياكل شمس يشرب هوه / من إذنه يطلع دخان ) ، في هذا المقطع وببقية القصائد الشعبية لا نستطيع أن نحرك نهاية المفردة الشعبية ، كما في بقية القصائد الشعبية عامة ، ولو أخضعناها للحركة أضعنا وزن القصيدة واختلفت معانيها على الفهم والتمييز ، وبجهد كبير ودراية عروضية للجزائري أخضع قصائد ( قسام النجفي ) للبحور ( الفراهيدية ) وأشار لوزن تلك القصيدة بما يقابله من الشعر الفصيح ، ومؤكد أن الجزائري ليس الوحيد بهذه التجربة بل سبقه الكثير لتقعيد – الوزن -  القصائد الشعبية ، وهي محل خلاف كبير بين العروضيين ، والطريقة المثلى عند غالبية الشعراء الشعبيين اعتماد وسيلة الأذن الموسيقية ، وأجدها وسيلة خاطئة توقع الشعراء بالخلط بين الأوزان الشعرية المتقاربة بتفعيلاتها العروضية ، إلا إن كان الشاعر الشعبي يمتلك أذنا موسيقية واعية وهذا ما يندر .
      قسم الباحث ( مزاحم  الجزائري ) منجزه ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) الى ثلاثة فصول غير المقدمة والتمهيد والخاتمة ، الفصل الأول : مضمونية البنية الإيقاعية وفيه مباحث شتى ، الفصل الثاني : مضمونية اللغة والأساليب الفنية وفيه مباحث أخرى ، والفصل الثالث : مضمونية الصورة الشعرية وكذلك يحتوي على مباحث عدة .
     لم يغفل الباحث من إيراد بعض القصائد و( الموالات )  و( الأبوذيات ) و( الهوسات )  الساخرة للشاعر ( النجفي ) مما تضيف متعة للقارئ ، ويجعله مسترسلا لقراءة كل المباحث التي أوردها الجزائري ، ومن طريف ( الهوسات ) يقول النجفي ساخرا ، ( أحنه صدك وأحنه نحرث المحروث / منخلي على وجه الأرض ملغوث / إلنه يوم نهجم بيه على البرغوث / ( والحرمس هد أعله رجاله ) .  
     جهد لا يسعنا إلا أن نشكر الصديق الجزائري الذي فكك قصائد ( حسين قسام النجفي ) وأخضعها لميزانها العروضي ، وأستخرج لنا من قصائد النجفي الجناسات والطباقات بموسيقى القصائد  للشاعر ، ومضامين البنية الإيقاعية ، ومضامين اللغة وأساليبها ، ومضامين الصور الشعرية الفكاهية والساخرة ، ومضامين الصور الشعرية السريالية  ، مبارك للباحث ( الجزائري مزاحم ) هذا العمل والجهد والمثابرة .