خزافون عراقيون*
ابتكارات فنية تعيد قراءة ثوابتها
عادل كامل
[1] الافتراضي مستحدثا ً ـ دينامية التواصل
باستثناء تجارب خزفية متطرفة، أكثر انسياقا ً للعشوائية أو تلبية للمظاهر المتأزمة، الآنية، فان إعادة قراءة فلسفات الحداثة ـ وما بعدها ـ في الإبداع العالمي ـ الأوربي تحديدا ً ـ لا تلخص مدى حفرها في الطبقات المندثرة للحضارات القديمة حسب، بل تأكيدها على ضرب من الشك بكل ما ينتمي إلى المستقبل.
ومع أن (نغمة) التشاؤم، والأسى، والإحساس المرير الذي تركه (سيزيف)، ومظاهر العبث، والعنف، واتساع الفجوات بين النخب الثقافية والمتلقي العام ... الخ، كان لها حضورها الدائم في الثقافات، إلا أن ردود الفعل، لم تكن تعمل إلا على قهر عوامل: القهر. وكأن قانون: كل ما عليها زائل، وما يأتي من المجهول يذهب ابعد منه، لا يمثل الحياة، بل إغواء ً لصياغة برامج تدعم الديمومة، بدل القنوط، واستساغة الاحتماء بالغاز القدر، ميتافيزيقاه، وما يتضمنه من انساق تعمل خارج إمكانيات (الدماغ) والعقل.
وإذا كنت أتحدث عن فن (الخزف)، وليس عن (الجسد) أو (الوعي) أو (الثقافة)، فان أقدم النماذج كانت قد تأسست وفق مبدأ استحالة فصل الوظائف العملية عن العوامل التي تضافرت على تشكيلها، كعلامة، فان الخزف ـ مع المجسمات والرسومات ـ كان يتضمن مجالا ً سحريا ً/ رمزيا ً سمح للنخب أن تمنح (النوع البشري اختلافا ً عن الأنواع الأخرى، وعن نوعه أيضا ً، مسافة في التأويل، والتحكم، والغايات. فامتياز الأصابع لم يكن متخصصا ً بالبحث عن القوت، والدفاع عن النفس، بل عن بلورة قدرات أعلى في صياغة الأهداف، والمثل.
وإذا كانت (الغريزة) لاواعية في أداء عملها، فإنها سرعان ما ستعمل باستقلالية تسمح لها أن تطور مهارات ينفرد بها عدد من البشر تذهب ابعد من جمع القوت، والحماية، أو حتى العدوان، نحو مبررات معقولة لبناء دلالات، لا علاقة لها بالنافع، لكن من الصعب القول إنها: جمالية خالصة.
ثمة ـ في هذا النظام المعقد للتخصص في آليات الحفاظ على ديمومة كل ما كان يراه يزول، يغيب، انشغالا ً أنتجه العقل، ببناء العالم الافتراضي، لعدد من الرموز، والتصورات، تؤكد أن التشبث بالديمومة يتجاوز اللا وعي، نحو ديمومة تستدعي التنقيب في طاقاتها الكامنة، تجعل منها، بالدرجة الأولى، معادلا ً للموت ـ والاندثار.
انه مثال لقاعدة عامة، ولكن الأدوار الحضارية التي نشأت في بلاد وادي الرافدين، تمثل نموذجا ً يستدعي قراءة أن رواد (الفن) الأوائل، كانوا على معرفة فلسفية ـ وتقنية ـ سمحت لهم بقراءة متقدمة لأكثر العناصر صلة بهذا القانون: العناصر الأساسية: الهواء/التراب/ الماء/ والنار، ولكنهم، بعد تحليل ـ وربما تفكيك ـ هذه العناصر، والعثور على علاقات تجعل من عملها موحدا ً، لابد أن برز: العدم ـ الكامن في الزمن ـ قهرا ً يتطلب قهره اختراع تمويهات حقيقية، بالأحرى: حقائق اصلب من أن تتعرض للتقويض.
والسؤال الذي لم تجب عنه الفنون، ولم يجب عنه الفنان، بوصفه غدا أكثر رهافة، هل كان العالم الافتراضي قائما ً في القانون، وفي الخامات، أم كان قد تم استحداثه، مع نشوء القشرة العليا للدماغ، بوظيفتها المبكرة في: إعادة إجراء حساب لعمل الوعي، إزاء القهر ـ والتدمير؟ أي التفكير في ماهية التفكير، وهل ثمة وسائل لا تجعل منه لغزا ً عصيا ً على الإدراك..، أم أن الوعي، بما هو عليه، لم يستحدث أدواته من العدم، ولكن العلل، والأسباب المولدة للأسباب، كامنة في انساق البرنامج، وان مهمة (الصانع/الفنان) الأمهر تكمن في تلمس الطريق للاكتشاف، وليس الوقوف عاجزا ً، أو تائها ً في متاهة ما انفكت تطور وسائل الصراع ـ والمتناقضات ـ ما بين الحدود...؟
إن ما تم اكتشافه من جرار، دمى، أواني، ونماذج خزفية مختلفة الوظائف، في حضارات العراق، لا تشكل إلا نسبة لكنوز أخرى مازالت بانتظار التنقيب، والاكتشاف. إلا أنها نسبة تفصح عن مدى بلورة حداثة ترجعنا إلى مهارته في منح الجمال أثرا ً عمليا ً في بنية (النموذج) الخزفي، بوصفه يمتلك قانون الديمومة...، ضمن قراءة لا تعزل حاضرها عن ذاكرتها، ولا عن استبصارها بما سيشكل استكمالا ً للسلسلة. فالأصل لا يكمن في (الفن) ـ مثل اللغة لا تفسر بقواعدها بل بصانعها أيضا ً ـ بل في الذي لم يتخل عن استحداث مناعة مقاومة لحقب الخمول، والوهن.
ومع إن ما بعد الحداثة ـ وقد اندمجت طرقها بعالم تحكمه مراكز الشركات العابرة للقارات ـ غير معنية كثيرا ً بالإجابات التاريخية، أو المنطقية، إلا إنها ـ وقد أصبحت مظهرا ً عالميا ً شمل أكثر المناطق بدائية إلى جانب أكثرها تقدما ً ـ معنية بما كان يصنعه الخزاف الأول: هل غاب اللا مرئي عن أكثر الأشكال صلة بالنفع، وهل غابت (الميتافيزيقا) عن مكونات العالم الافتراضي، رموزه، ومخفياته..؟
فثمة قدر لا محدود ـ بنسب تحددها الرهافات والمهارات والتحديات ـ من المجهول الذي يجد سكنه في أكثر الأشكال تقليدية ـ وأعرافا ً، إلى أكثرها احتواء ً للمشفرات.
ربما ليست هي (الميتافيزيقا) أو (العدم) أو (المجهول) ـ ما دمنا نعمل بأدوات قديمة لمعالجة مستحدثات آخذة بالعبور نحو مصيرها، واعني بها اللغة ـ ولكن هل باستطاعة (الجمالي) أو كل ما تنتجه الرهافة، والمنبهات الحسية، والحدوس، وما ينتجه الدماغ من عوالم افتراضية، أن تشكل (ميتافيزيقا) تتوخى أن تصبح علما ً، لمنح الفن أن يكون حرية بموازاة ضدها: الضرورة...، أم أن الفن كان ضرورة أنتجتها الحرية التي تتطلبها الحضارة خارج المفاهيم القائمة على العسر، والعنف، وهي تحتفل، أحيانا ً، باندثارها؟
إن هذا التشبث (العنيد)، بحد ذاته، يمتلك قدرات لا واعية، للسلسلة أو للدورة، وليس لحلقة أو حقبة أو فجوة فيها...، حيث الفن يذهب ابعد من وصفه بالسلعة، وابعد من مشروعه الوظيفي، وأعمق من انشغالاته الشكلانية أيضا ً...، حيث إن لم يستحدث تعديلات تواكب حضارة اقل عشوائية، عنفا ً، وانشغالا ً أحاديا ً بالربح، فان لغز الزوال سيبقى انشغالا ً، لا يهن، بل يجد منفذا ً له، شبيها ً بما تفضي إليه الثقوب السوداء، لا تتوارى داخل بنيتها إلى الأبد، كما قال ستيفن هوكينج، بل تنبعث في حياة لها ديناميتها، حتى بوجود حياة مغايرة لحياتنا، في مكان أخر من الكون.
[2] النار والخزف
لو أهملنا أثر (النار) في تركيب (الوعي)، قبل 400 ألف عام، في الأقل، أي دخول النار كعامل أساسي في بنية (الدماغ)، فهل كان للأدوات أن تأخذ دورها ببناء مجتمعات تتراكم فيها الخبرات لظهور أولى علاماتها المستحدثة، في نشوء الحضارات...؟ أم علينا إعادة القراءة، والتساؤل: هل هي واحدة من المصادفات التي منحت (وعينا) الشروع بإقامة علاقة حميمية مع النار، بعد علاقته مع: الترب/ الماء/ والهواء...؟
لو لم تكن الطاقة اليوم جزءا ً من مأزق كبير، لأهملنا دور التحدي برمته، في قراءة لغز (النار)...، وموقعها في التقدم، ليس تاريخيا ً أو رمزيا ً، بل حضاريا ً، مادمنا لا نستدل إلا بالأثر الفني، النافع والجمالي معا ً...؟
منذ سنوات ليست قصيرة، استبدل الخزاف العراقي الطاقة (الكهربائية)، بعد غيابها شبه التام، بمصادر بديلة، أي بعد عجز الحكومات المتعاقبة عن توفيرها ـ في بلد يمتلك خزينا ً هائلا ً منها ـ واستعان ببناء أفران شبيهة بالتي صنعها أسلافه في سومر وأكد وبابل...، ومن قبل: في سامراء والعصور الأقدم.
ولأن (النار)، في قصة الخليقة، لم تفكك وتُدرس لترتقي للرد على لغز العصيان، حيث المقارنة جرت بين المصنوع من النار والآخر المنحدر من التراب، الأمر الذي احدث شرخا ً في الإجابة، إن كانت تمردا ً أو عصيانا ً، مما يجعل احد مفاتيح فك الشفرة يكمن في الاختلاف ما بين الأعلى ـ والأسفل...، ما بين الشفاف، والمعتم، وما بين الروحي والواقعي، أم لأمر أكثر تعقيدا ً، مما فسرته النصوص المدوّنة، بتأويلاتها المعروفة...، إن كانت أسطورية، أو رمزية، أم إنها جاءت بحدود ما تمتلك، أي بحدود اللغة كأداة لا تمتلك أكثر من آليات الرد...؟
في الحالات كلها، ومنذ 1990، واجهت الخزاف العراقي أزمة اضطرته للعودة إلى أسلافه، مستعينا ً بمصادر بديلة للحصول على النار.
ولأن فن (الخزف) ـ عبر الحضارات كافة ـ ليس فنا ً نفعيا ً إلا بوصفه حاملا ً لمشفراته الجمالية، فانه سيشكل وثيقة للحياة، بمرئياتها ومخفياتها معا ً. مؤكدا ً انه لغة عابرة لحدوده، بوصفه شبيها ً بالطاقة الكامنة في المادة.
إنما الخزف الفني وثيقة نسجتها التقنيات، إلى جانب الثقافة، كي يغدو مضادا ً للنفع ـ والاستهلاك، أي كي يؤدي دور (الختم)، بإضافات مستمدة من الرهافة، ومن التجارب العملية المضنية. فجمالياته ستحافظ على رصيدها المخبأ الخاص بالجهد ـ والتجريب.
وكي لا تبدو (الحداثة) مستعارة، أو تم السطو عليها، أو إنها ولدت خارج بيئتها العراقية، فان تحديات الخزاف العراقي، باستحداث البدائل، تحفر في الجذور ـ وفي المراجع النائية التي مازالت تجد مأواها في ذاكرة الخزاف.
فإذا كانت النار قد شكلت تحديا ً، فان (الوعي)، هو الآخر، سيدوّن حضوره: ليس لأن عمل النار أساسيا ً في حرفيات الخزاف، بل في عمل (وعيه) ذاته.
لكن جماليات (الخزف)، هنا، وعلى خلاف ما ذهب إليه "هربرت ريد" باستبعاده من الدلالات الرمزية، والروحية، سيحافظ على إعادة سرد قصة الخليقة، بأشكال لا متناهية للصراع. فهنا تظهر أهمية القراءة ومغامرتها الخلاقة: الأشكال/ الألوان/ الملامس/ السطوح/ الرموز ...الخ، إلى جانب قراءة: الجسد. قراءة يسهم المتلقي بالذهاب ابعد مما دوّن فوق المجسمات وسطوحها، نحو العمق، في جوهر الخامات، حيث (الخزف) يحافظ على لغز نشأته ـ كالأسباب التي أدت إلى خلق الإنسان نفسه ـ في بلاد الماء/الطين، بدلالة انه لم يتوقف عند المعالجات الأحادية، بل راح يتمثل جوهرها، للمآزق، والتحديات.
وبالعودة إلى عام 1976، حيث تم التباهي بالعصر (الذهبي) للخزف الحديث في العراق، في لندن، باريس، وعواصم أخرى، فان هذا المنجز، اليوم، مع مراعاة عوامل الإحباط ـ حلقة ذهبية في تاريخ غدا متداولا ً، عبر متاحف العالم، للخزف العراقي، عبر أكثر أزمنته استجابة لردم الفجوات، وللحفاظ على (لغة) صاغتها الدوافع ذاتها التي صاغت من النار، علاماته المعرفية، المشفرة، والجمالية.
[3] الجسد: مخبآت ومشفرات
في أكثر العلوم تماسا ً بالحياة اليومية، كالفيزياء والكيمياء، يجد المتلقي العام صعوبات لفهم النصوص النظرية، ومدى تطابقها مع (الحقائق المرئية)، مما يجعلها بعيدة عن التداول، لصعوبتها، في الغالب، أو لجاذبيتها المحدودة أيضا ً.
وفي مجال فن الخزف، تتكرر هذه الصعوبة، عندما يغفل المتلقي انه إزاء الفن الذي واكب اكتشاف (الإنسان) لجسده، ومنحه أولوية تعنى بجدلية العلاقة بين الجسد، والطبيعة، وبين الجسد والمجتمع، وبين الجسد وتحوله إلى قيمة جمالية/ رمزية، تستدعي تحويرات موازية لمجمعته المعرفي، إبان العصور السحيقة، أو في أكثرها حداثة، وعولمة.
فالجسد ليس كتلة ساكنة، تتحرك تلقائيا ً، أو لأسباب موضوعية تستدعي التحليل فحسب، بل انه شبيه باللغة ذاتها التي وجدت للاستعمال، بما تمثله من وسيلة لغاية، هي الأخرى، تستدعي اختراع أدوات قابلة للنمو ـ والتطور ـ والتهذيب، تناسب عمق التأمل، وضروراته. وحتى لو كان اكتشاف الإنسان لجسده، بوصفه ملقى، وليس حصيلة خطة طويلة الأمد، نشأت منذ نكون بذور الخلق، فانه ـ بوصفه ملقى ـ يبقى مثار أسئلة سرعان ما تجد الإجابات الأكثر استدعاء ً لنشوء أسئلة أخرى، مضافة. لقد انشغل الإنسان القديم، بأدواته، ليس بوصفها وسيلة حياة حسب، بل لأنها كانت تتضمن ما هو ابعد من ذلك. فمنذ راح ينسج الأشكال النافعة لحفظ غذاءه، ومنذ صنع أقدم دماه، لأكثر الكائنات عناية بصنع الحياة وديناميتها، اعني بها الأم الكبرى، ولدى الشعوب كافة، فقد اكتسبت دلالات رمزية، بوصفها (مصنعا ً) مولدا ً لأسس الحياة وديناميتها. فالجسد الذي لفت انتباه الأسلاف، في حضارات أعالي الفرات، من ثم في الحضارات التي نشأت بعد الطوفان الأعظم، قبل أكثر من سبعة آلاف عام، منحت (الجسد) مكانة اكتنزت فيها الأسرار، ومشفراتها. وبنظرة عامة لفنون (الحداثة) وما بعدها، فان عملية الحفر في الطبقات السحيقة سيظهر مدى الدور الذي مازال يؤديه الجسد، كعلامة غير مرئية، لتأمل مبدأ: التجدد ـ والابتكار.
على أن الجسد في الفنون ـ الفخار والنحت والرسم ـ لم يولد جسدا ً تاما ً، بل أصبح جسدا ً طالما كانت هناك رؤية جمعية أسهمت بمنحه مكانته في البناء المجتمعي، وضمنا ً، لم يكن الانشغال الجمالي/الفني، بمهامه التنقيبية، يجري بمعزل عن التحولات، من البسيط إلى المركب، ومن المركب إلى اختزاله، وإعادة تركيبه بحسب الإضافات والمحو.
ففي تجارب هذا المعرض [خزافون عراقيون] لأكثر من ستين خزافا ً، تتم الاستعانة بالجسد موضوعا ً يتكون بحسب مهارات الخزاف، ورؤيته الفلسفية. فهو لم يعد إلا موضوعا ً ديناميا ً تضمن نقدا ً لاذعا ً لما عاناه (الجسد) من انتهاكات، طوال السنوات التي أعقبت الحرب (2003) والانتهاكات السابقة، منذ العام (1958).
فثمة مستويات لهذه الرؤية صاغ الخزاف منها هوية عامة ـ لا شعورية ـ جمعت اهتماماته، كي يعيد صياغتها، بأسلوبه، ومدى استجابته لقانون الحياة بوصفها سلاسل من التحديات المتواصلة تسمح له بصياغة حضوره في مواجهة الهدم ـ والدفن.
ثمة أجساد خزفية، بالأحرى: ثمة رهافة خزفية في رؤية الجسد، لأنها علاقة جدلية بينهما ولا أسبقية لأحدهما على الأخرى؛ الجسد في الطبيعة، أو الجسد وقد استحال فنا ً خزفيا ً، لأنها شبيهة بالعلاقة بين الدماغ والوعي، كلاهما يعتنيان به، كما في تجارب: أمير حنون/ عبد الأمير طاهر/ علي السعدي/ قاسم محمد/ على قاسم حمزة/ أطياف علي ...الخ، وثمة تحويرات أجرها الخزاف، لكن بتفكيك الجسد، واختزاله، بوصفه علامة دينامية اتخذت من المعالجة الخزفية الجمالية أولوية له. كخزفيات: احمد جعفر/ نبيل مع الله/ سامر احمد/ ابتسام ناجي/ سيف نفل/ عدنان الصافي/ زينب ألركابي/ حيدر صباح/ زينب البياتي/ احمد عبد الرزاق/ رائد احمد/ حيدر مجهول ...الخ، فيما هناك تجارب حافظت على المنحى الاختزالي للجسد، حد التجريد، بالتشذيب، او بالتحوير، لم تلغ الإرث الغاطس للموروث الخزفي العراقي القديم، وللحضارات كافة، كما في تجارب: شنيار عبد الله/ رجاء عباس/ سلام احمد/ خالد جبار/ سعد الجابري/ قاسم نايف/ حسن عبد الأمير/ تراث أمين/ يحيى رشيد/ وجدان الماجد/ حيدر رؤوف/ أكرم ناجي ...الخ
إن هذه التنويعات، في رؤية الجسد، بوصفه أقدم علاقة مشفرة مولدة لرموز الحياة ـ شبيهة بالمصنع تضافرت فيه عناصر الإنتاج ضمن خطة عامة قائمة على علاقات سببية نائية وغير منظورة ـ منحت فن الخزف لغة تعبيرية ـ جمالية، تباينت بين الذاتي، والجمعي، في رصد الحياة اليومية التي عاشها الخزاف، ووثقها بتقنيات تداخلت فيها التنصيصات، الاستعارات، الدمج والتحوير حد المنحى التجريدي، لتشكيل أسفار تضمنت زوايا بصرية، وأخرى رقمية، وثالثة اكتفت بالأشكال المألوفة، بغية تحقيق التوازن، بين الروافد والأسس التي اعتمدها الخزاف بمنح البعد الجمالي دافعا ً خاصا ً بعمل الجسد ـ التاريخي، بدل محاكاته أو إهماله. فالمشترك حث ذاكرة الخزاف لصياغات سمحت لأصابعه أن تمنح المخيال مدى مناسبا ً مجاورا ً للبصريات الواقعية التي عاشها الخزاف، بعنفها، وبصدماتها، والارتقاء بها ـ كما فعل الأسلاف والرواد في مواجهة التحديات ـ نحو معالجات تعيد للحياة المجتمعية، ذائقة تمنح الخزف (حداثته) في الخطاب (المعرفي) للمجتمع، بعيدا ً عن العزلة التي يعاني منها الفنان عامة، والخزاف على نحو خاص. فبهذا المنجز، في هذا السياق، يتوخى فضاء المدينة، ليس لأنه نشأ فيها، بل لأنه يسعى لمنح الفن موقعه المتقدم، بإرساء حياة لم تخلق فائضة، أو للدفن.
[4] الحرف ليس سطحا ً
حتى النصوص الخزفية التي تبدو قائمة على إخفاء مضامينها، أو محركاتها الفكرية، بل وحتى التي تتخلى عنها أو تنبذها، لا تستطيع، مقارنة بالفنون الأخرى، أن تتبنى الحياد، أو المعالجة الأحادية للأشكال، وعناصرها. فكما تمت، تحويرات الجسد/ البدن، بوصفه علامة مركبة، توليدية، وصياغته بأبعاد ذات صلة بالمعمار والمدينة، بالأنساق المجتمعية، والنفسية، بالتأويل وبالدوافع الرمزية...الخ، فان منحى ظهور الحرف ـ في الخزف ـ التحم بالجسد ذاته، وفي الوقت نفسه، غدا علامة مركبة لمسار فني طويل.
إن لا شعور الخزاف يفصح عن مبدأ أن خياله الأبعد لا يستنسخ موروثاته، بل ينتقي منها ما سيشكل حاضرا ً لتطبيقاته الفنية.
فإذا كان الجسد ذاته أقدم مفهوم لجدلية عمل الوعي على صعيد التطبيقات النافعة، فانه غدا أداة مولدة لإضافات تمنحه مدى ابعد في الدلالات، وما تتضمنه من إيحاءات، فنية/ جمالية، فان (الحرف) ـ بوصفه جزءا ً من بنية صورية ـ شكلية ـ رمزية، سيقترن حضوره في المنجزات ذات الصلة بالوسط الاجتماعي ـ والمعرفي. فإذا كانت الكتابة قد نشأت مصاحبة لبرنامجها التطوري، فإنها ستحافظ على ديناميتها، حتى بتجدد أشكالها.
ولعل النصوص المبكرة للأواني، الجرار، والدمى الفخارية، فضلا ً عن المجسمات والأعمال اليدوية المصاحبة لحياته اليومية، لم تستغن عن استلهام منظومة الكتابة ـ بوصفها حاملة للمعاني ولجمالياتها المستحدثة ـ بل أكدتها، عبر مختلف العصور، ومنها الأزمنة التي غابت عنها مصادر الإشعاع ـ التوليد، والابتكار.
فالنص الخزفي القديم، سيغدو مجالا ً لتنفيذ الأفكار، عبر المعالجات الفنية، لأنه سيمنح النفع قناعا ً لا يمكن عزله عن هذا السياق، ولكن الجمالي، أو الجمالي في ذاته، لا يحقق رسالته، عبر القطيعة، بل عبر التحويرات والاختزالات التي تسمح لمفهوم الإنتاج أن يذهب ابعد من السياق الميكانيكي، نحو الرموز، والإيحاءات، المولدة للمعاني الأكثر تقدما ً، بل والأكثر صلة بالحداثة.
في هذا المجال، ظهر استخدام الحرف باستعادة الخزين، واستثمار مكانة المعرفة في التداول، فضلا ً عن الاختزال الذي سيمنح الخزف هويته، ليس بفعل العلامات، والمعالجات، بل بسبب الانصهار ـ والبنية الجدلية لوحدة عناصر النص الخزفي.
ففي نصوص: ماهر السامرائي/ هاشم رسمي/ خالد جبار/ سعد العاني/ قاسم حمزة/ ساجدة ألمشايخي/ رعد الدليمي ...الخ، مستويات متنوعة تمنح (الخزف) مكانته كأثر يستحدث حضوره، وليس بوصفه إشارة لعلامات مندرسة.
فإذا كان بيكاسو وبراك قد ادخلا الحرف (ألطباعي) ضمن سياق التوجه التركيبي ـ التلصيقي/ الكولاج، للدلالة على معالجات مستمدة من الظواهر الصناعية الأوربية، لتوثيقها، فنيا ً، فان تقاليد فن الخزف العراقي، والعربي عامة، وجدت في الكتابة ـ وحروفها ـ مسلمة بيئية وثقافية وشعبية وروحية لبنية الفن، وما يتضمنه من غايات عابرة للاستخدامات، نحو النص المستقل، بما يتضمنه من دلالات معرفية ـ وجمالية.
ولقد انشغل الفنان الرائد جميل حمودي، ومديحه عمر، وشاكر حسن آل سعيد، كل برؤيته، بمعالجات على مستوى الرسم، أو البعد الواحد، بحسب المهرجان الذي أسسه آل سعيد، وقصد منه إبعاده الافتراضية، في مواجهة عصر السلع، والأشياء، لمنح الرؤية مداها المضاد للنفع المباشر، بل والمضاد لأحادية الرؤية. ففي هذا المعرض نلمح لوجود مهارات مرهفة للعثور على جسور من (التاريخ) نحو (الحاضر)، ومن المحدود نحو العام، بتركيب يتوخى المعادل بين الاتجاهات، الأساليب، والمعالجات الفنية أخيرا ً.
فظهور الحرف لا يمثل بعدا ً واحدا ً، بل أبعادا ً، لأن الروحي، في الأساس، ليس مضادا ً للواقعي، بل إسهاما ً باستحداث إضافات قد لا تبدو منظورة، ولكنها، بفعل التطبيقات، والتحديات، تؤكد إنها لم تستكمل أزمنتها السابقة، بل تستحدث أزمنة تسكن مخيالها الخلاق.
[5] تداخل الفنون: أبعاد
كان مفهوم المجسم، منذ البدء، عملا ً تركيبيا ً، ليس لأنه حصيلة روافد، تجّمع أزمنة، بمعنى كتلة، وتضافر خبرات فحسب، بل التمهيد لنمو جدلي يسمح للتطور أن يشكل محركا ً لعلاقات العناصر، وجسيماتها ما تحت الذرية، في تحقيق الهرم ـ من اجل البناء. على أن الشكل الخزفي، في هذا المعرض، سيجعل من مقولة رولان بارت: ما الذئب إلا مهضومات خراف، تنصيصا ً مشروعا ً ـ بل وشرعيا ً ـ لتواري الصانع/الفنان، في نصوصه الخزفية. فالتاريخ بلا أسماء لا يلغي هوية (الأنا) فحسب، بل يحولها إلى أثير أو إلى أطياف.
فإذا كان المشروع الإنتاجي للخزاف، عمليا ً، يغاير ظاهرة موت الإنتاج الصناعي، والإبداع التصنيعي في البلاد، سلبية أدت إلى ازدهار الاستيراد، فان الخزاف العراقي غير معني بهذه المعضلة. فهو لا ينتج (سلعه لسوق مجهول حسب) بل قد لا يعرف مصير (فنه)، لولا انه أعاد الحفر في تقاليد راسخة لم يدعها تغيب.
انه ـ كما قال قاسم سبتي: " يبدو لي أن تل حسونة وتل حرمل وباقي التلال لازالت تضخ لنا وفي كل يوم أعدادا ً من فرسانها المبدعين وهم يحملون بين جوانحهم خزفا ً ينبض كما الأفئدة بحب وطن نبيل اسمه العراق" يحقق اعقد معادلة للغز: التجدد.
لكن ليس لسر الماضي إلا المحفز لمنح (المندثر) مداه، فكما أثبتت مقولة اينشتاين الشهيرة (E =mc2) أن المادة والطاقة مترابطتان صوابها، فان الماضي لا يتوارى تحت التلال، بل يمتد، عبر الوعي الجمعي، نحو أصابع راحت تعيد مخفياتها، في أزمنة مازالت تزداد تعقيدا ً، وصعوبات.
فالتاريخ بلا أسماء، سمح للخزاف، بالبرهنة على أن السلسلة لم تنقطع، منذ عصورها الأولى. فثمة دوافع للإنتاج، من اجل أكثر المفاهيم بعدا ً عن (النفع) و (الربح)، ألا وهو هذا المشفر لمقاومة الرداءة، الكامن في: قهر عوامل القهر.
فالجمالي، مبدئيا ً، يدحض التخصص في مجال أخير. ليس لأن (الفنان) غدا خزينا ً لنصوص لا تحصى، بل لتيارات وفلسفات وإبداعات تجاوزت المألوف، والتقليدي أيضا ً.
فالرؤية (الجمعية) ستمنح كل (اسم) أثره في إنتاج النص الفني ـ المركب ـ من فنون ومعارف وخبر سابقة، وصياغتها بأقل الإمكانيات ـ الخامات مع ندرة الطاقة ـ كي تشكل علامة مغايرة لعقد مضى من تراكمات الغبار ـ والدخان.
فالخزاف تمثل المجسم بوصفه مضمونا ً لأكثر من ثلاثة أبعاد، فهو الجسد، وهو اللغة، وهو الأثر، ثم وجد مأواه في النص الفني، بعدا ً لمهرجان مضاد للاحتفالات التمويهية، عبر الألوان، والملامس، والتحكم بالمصادفات.
فالنحت غدا الأساس العميق للبناء المعماري ـ الافتراضي ـ للمعرض برمته. وإغفال تماثيل الأسس، سيقلل من فهم جدلية النحت بالفخار، وبالخزف الفني الحديث. فتماثيل الأسس ليست تصوّرا ً مثاليا ً (ميتافيزيقيا ً) للعلاقة بين الأعلى (عالم الآلهة) والأرض (عالم البشر) حسب، بل منح اللا شعور مداه ليعمل بالصيغة البنائية لدى صانعي الزقورات، ومخترعي الكتابة، وواضعي الشرائع، عبر تركيب شمل الزمن، الأبعاد، فضلا ً عن باقي العناصر. فالنموذج الخزفي لا يتكرر ـ من فنان إلى آخر ـ بل يتنوع بمنح التكرار هوية تتضمن الأسلوب، بتداخل مختلف الروافد.
فالخزاف غدا رساما ً، بعد أن منح النص الخزفي علامة تستدعي من المتلقي الاحتفاء بالمرئيات، ليس فوق السطح الخزفي، أو في الطبيعة، بل في إعادة العلاقة بينهما، لقراءة مادة البصريات، وهي تمنح الشكل النحتي دلالة الخزف الحديث. فليس ثمة خزف من غير قراءة المخفي ـ وصياغته بهوية كونتها، في الغالب، دوافعها غير القابلة للدحض، أو التقويض.
[6] مقدمات لمقدمات
قد تكون لرمزية (الطين) أثرها في عدم الانسياق بعيدا ً في محاكاة الحداثة (التصنيعية/ السلعية)، واستخدامها على صعيد المعالجات/ الأشكال، والأبعاد الجمالية، اقصد أن الاستحداث مكث يحافظ على جدلية المخيال بذاكرته، ليس استنساخا ً، وليس قطيعة مع تقنيات الحداثة أيضا ً. ولكن مادامت هذه الرمزية مشتركة على صعيد وعيها الجمعي، فضلا ً عن حضورها المادي/التاريخي، فان التقدم لم يحصل إلا عبر التداخل، التجاوز، والانصهار...ن بعيدا ً عن هيمنة حضارة على أخرى، هيمنة استبدال يوازي عمل المحو.
وإذا لم تكن هناك تأثيرات تذكر للخزاف البريطاني (أيان أولد)، عندما طاب منه أن يؤسس فرعا ً للخزف في معهد الفنون الجميلة، قبل عام 1955، كما ذكر الخزاف جواد الزبيدي، في كتابه [الخزف الفني المعاصر في العراق] فان تأثيرات (فالنتينوس كارالامبوس)، أستاذ الخزف القبرصي، العراقي الجنسية، عمل بحضارة البحر المتوسط، ولا يمكن إهمالها، لا على صعيدها الشخصي، ولا على صعيد مفهوم: التنصيص ـ في سياقه الجدلي/ الحضاري.
فقبل خمسينيات القرن الماضي، لم يكن للفن المكانة التي نالها بعد عودة المبعوثين للدراسة في أوربا، بعقد من الزمن، حيث كان لمفهوم جدلية (الخيال) إزاء (الذاكرة) دافعا ً للجدلية وحدة (الاختلافات)، وليس العكس: الأحادية. فالهوية ستحافظ على صيرورتها بابتكار خصائصها المستحدثة، عبر ما يمثل روح العصر، مع عناصر البيئة، ومنها الموروثات، والأعراف، والتحولات الاجتماعية، والثقافية.
فكانت جهود الأستاذ الخزاف فالنتينوس مدخلا ً للشروع بتدشين ما يماثل(الطفرة القائمة على أسس جدلية القديم بالحداثات) في عالم الخزف الفني في العراق. كان فالنتينوس معلما ً، حرفيا ً، ورث صناعة الخزف عن عائلته، ثم صقلها بالدراسة في لندن، وأخيرا ً راح يعيد قراءة ما يمثله الخزف في حضارات ما بين الرافدين. انه عمليا ً قوض الأحادية، والانغلاق، بانفتاح اشترط جوهر الخزف، وأعرافه، في عصر ما بعد الحداثة، وتحولات العالم إلى قرية صغيرة.
كان عمله مركبا ً، لكن ليس تلصيقيا ً. فالهوية خلاصة تضافر عمل صيرورة العناصر، وأسسها الدينامية، فلا يمكن استحداث (الهوية) من العدم، أو استنساخها عن الماضي، أو محاكاتها بأنظمة الحداثة الأوربية، ولا يمكن تأسيسها بقرار، أو تلبية لسوق. فقد اجتمعت في تجربينه روافد الحضارة اليونانية، الأوربية الحديثة، والعراقية...، مما أسهم بظهور مجموعة الخزافين العراقيين يعملون على حل معضلة (الهوية) بما تعنيه من: أصالة ـ وحداثة.
ولفترات طويلة كنت أراقب عمله، وأصغي إلى آراءه، وأفكاره، وأثرها البناء في صقل مواهب تلامذته، حيث برز الأستاذ سعد شاكر، نموذجا ً سرعان ما رسخ مفهوم التجانس القائم على الاختلافات.
فإذا كان (السوق)، أو حاجة المجتمع للخزف الفني، واحدا ً من أكثر الأسباب للتطور، فان (الفن) سيدخل في صراعات حادة، بين ما يريد الفنان أن ينجزه، وبين ما يطلب منه، فضلا ً عن مكانة النص الخزفي، على صعيد التاريخ، والزمن، في المنجز الطليعي.
في هذا المعرض [خزافون عراقيون]، تردم فترة زمنية شبيهة بالسبات، في استعادة الأسس التي منحت الخزف العراقي، في العام 1976، تدشينا ً بلغ الذروة.
ولعل حرية عمل الخزاف لا تكمن في العودة إلى الأصول، ولا تكمن في استعارة النماذج العالمية، مثلما لا تكمن في الحرفيات المتقدمة، التي أسهمت فيها التكنولوجيا، وروح (العصر)، واضطراباته، حسب، بل في العثور على المعادل الذي يسمح للخزاف أن يشكل علامة تنتمي إليه، وليست مستعارة، أو مستحدثة من العدم.
وللأسف لا توجد مؤسسة باستطاعتها أن تجعل من هذا المعرض، نواة متحف للخزف العراقي الحديث...، والمعاصر، كي يكون (متحفا ً/ ذاكرة) و (محترفا ً) يلخص تزامن آلاف السنين في نصوص خزفية لم يغب عنها: الموروث الشعبي، السحري، البدائي، مثلما لم يغب مدى التصاقها بغبار الحياة، ودخانها، واستثمارها لخبرات فنون كالمعمار، النحت، الرسم، فنون الطباعة، الزخرفة، والخط بمختلف أنواعه ـ القديمة والعربية والأجنبية ـ والتصميم، ومعالجة النص الخزفي ليس تحديا ً ـ كما ذكر هاوزر كأحد معاني الفن ـ حسب، بل إنشاء ً، يعمل فيه اللا وعي بحرص متوازن مع الوعي، واللا قصد مع القصد، وكل ما سيشكل علامة تنتمي، في نسقها، إلى: المنتج، حيث: الهوية، ليست مستعارة، مثلما لا يأتي الأسلوب بعد الموت، كما قال بيكاسو، بل يلخص دحضا ً للاستعارة ـ بمعنى الاستيراد ـ، على حساب البدء بإنشاء مكونات الخزف بهويته الجمالية، وفي مقدمتها: الطين، أصل بذرة الخلق البكر، كما قالت الميثولوجيات العراقية القديمة، وكما أكدت علوم الحياة ذلك، لبلورة خلاصة (هوية) توازن بين مثلها (غايتها) وقوانينها الوضعية، التاريخية، بل واليومية. لأننا إزاء تجربة خزفية تولد بفعل التحديات، فهي تجربة لم تقترن بالصمت، أو باللامبالاة، أو بالهجرة إلى بلاد أخرى، بل بالحفر في ذاكرة راحت تعمل عمل المخيال، وبأسس توخت الابتكار، والتجديد.
[7] وأخيرا ً
إن السؤال عن المهارات الاستثنائية القادرة على ابتكار الأشكال الأكثر طليعية، هي جزء من بنية حضارية (اجتماعية/اقتصادية/ ثقافية ...الخ) عامة. فهل بالإمكان تصوّر وجود (ما يكل أنجلو) و (روفائيل) و (دافنشي) خارج عصر النهضة، أم أن وجود (سيزان) و (مونيه) و (بيسارو) خارج باريس، وهل بالإمكان وجود فنانين أمثال بيكاسو أو هنري مور أو خوان ميرو خارج بيئاتهم الأوربية ...؟
فإذا لم يكن لدى صانعي الخزف، قبل عصر الطوفان، إلا واقعيتهم السحرية، القائمة على أدواتهم في الفهم، والتأويل، فان عالمنا، المحكوم باليات التطور العلمي / التقني، سلب من (الفن) سحره، ولغزه، فبعد أن تحول الفن إلى (سلعة) صار الإنسان (الميت) ـ بعد موت الإله عند نيتشه ـ يعمل بشرعية تكمل مقدماتها. لأن السؤال: هل ثمة انجازات خزفية باستطاعتها أن تتجاوز التيارات (الطليعية) في عالمنا المعاصر، وقد تجاوز الموجة الثالثة، ما بعد الصناعية، نحو تفكيك أكثر الأجزاء صلابة: من الذرة إلى الإمبراطوريات الكبرى..؟
أنا هنا لا اثبت مبررات للطمأنة، أو للتمويه، ولكن في بلد غطس في أكثر أزمنته عتمة، وصار يستورد قوته اليومي، حد استيراد (الماء) من دول تعاني من الجفاف، ويستورد الطاقة التي من المفروض أن يصدرها، وقد شهد هجرات مليونية مشتتة في إرجاء العالم باحثة عمن يحميها من الانتهاكات، بل ومن الموت...الخ، يتمسك عدد غير قليل من خزافيه بلغز: الخليقة، بعمل صريح ضد ظواهر الارتداد، والرداءة...
لا مجال للمقارنة بين أدوات الخزاف المعاصر، وما يمتلك من خامات، والبيئات المساعدة على بلورة ابتكاراته...، وبلد بالكاد تظهر فيه تجارب تبرهن عن أهمية الفن، ومكانته في التقدم.
مع هذا كله فان المآزق اليومية لم تعد محض عقبات، بل أصبحت تعمل للذهاب وراء الأزمات. فهذا الكم (الفني) ـ بوصفه منتجا ً بحدود الأعراف والتقاليد التي رسخها الرواد ـ تمسك باللغز ذاته بمنح فن الخزف مشفرات جعلها مرئية، بصرية، عبر الحفاظ على توازنات بين الذاكرة وديمومتها المتجددة. فالحلم بانتظار معجزات (خزفية) يماثل استبدال الهواء بهواء آخر! بل استبدال الإنسان نفسه، بإنسان نجهل ماهيته، ومواصفاته، كي لا نسرف في مغامرات الاحتفال بمصير مجهول.
فإذا كان الخزف، في نشأته، قد رافق نشأة تحول الأصوات إلى علامات، والإمساك بالزمن في تحوله إلى حيز للاستقرار، فان اللغة ذاتها لم تعد أداة تمتلك الإجابة عن الأسئلة التي واجهها هؤلاء الرواد. ليس لأن اللغة أصبحت أداة من الماضي، وجزء من الذاكرة، انتهى استخدامها، بل لأنها ـ إن تجددت ـ وابتكرت صيغا ً أخرى، فالأمر متصل بالصانع/المخترع: الإنسان الآخر. وإلا هل يحق لنا الحديث عن خزف، وهو رهن وسائله التقليدية، وهل يحق لنا أن نرى بغداد، على سبيل المثال، فردوسا ً كما تخيلها الأسلاف، في سومر: جنة لا يهرم فيها الإنسان، ولا يموت، جنة يتنزه فيها الحمل مع الذئب، وجنة تلد فيه المرأة من غير أوجاع الوضع...؟
لقد أنتج (الخيال) البشري أكثر العلامات واقعية ورسخها عبر أثاره، ومنها فن الخزف والمجسمات، واليوم، بتقدم تقنيات الواقع، لم يعد للخيال إلا أن يحفر في ماضيه، ومندرساته. ليس لأن المستقبل، بحسب خبرة طالب الفيزياء، لا يعدو أن يكون أكثر من حلقة مؤجلة مع مقدماته، بل لأن الحاضر ذاته غدا معضلة إزاء عالم لا ينبني إلا على قانون: الهدم/ والتقويض. فإذا كانت (العقول)، عبر أزمنتها التي وضعت عالمنا في ذروته، قد حولت التأمل إلى برنامج في التغيير، فان عالمنا اليوم، لم يعد يسمح لهذه العقول، بأكثر من استكمال تتابع خطاها، نحو نهايات، لم تعد للفنون، ولا للكلمات، أكثر من أصداء، وأحيانا ً، آثار تتضمن كل ما علينا أن نعيد قراءته، وليس تركه يذهب مع الريح.
* "خزافون عراقيون ـ معرض مشترك" جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ـ 2016
4/9/2016
Az4445363@gmail.com