الأحد، 4 سبتمبر 2016

جحيم وقصص قصيرة أخرى- عادل كامل


جحيم وقصص قصيرة أخرى


عادل كامل
[1] جحيم
ـ  لِم َ لا تريد أن تغلق فمك...، ألا تخاف...؟
ـ بلى..، أخاف، كيف لا أخاف...، حتى إني صرت أخاف من اللا خوف..، فانا أخاف من البرغوث، من البعوض، من الصراصير، صرت أخاف من الكلاب السائبة ومن التي حجزت وراء القضبان،، من عقارب البيت، من أفاعي البرية...، صرت أخاف من الصديق وما يخفيه ، من العدو وما يسقطه علينا من حلوى ونيران وتمويهات، من الصواريخ بعيدة المدى ومن الأحزمة الناسفة والبراميل المتفجرة والمفخخات، صرت أخاف من الجار ومن بائع الطائرات الورقية، من الشحاذ ومن الطبيب، ومن كل من ليس له مخالب ظاهرة، وأنياب معلنة...، صرت أخاف الذين هم على قيد الحياة، وصرت أتجنب الموتى، حتى أني من غير خوف لا اشعر إلا بالخوف الأعظم، كيف لا أخاف من بنات أوى ومن التماسيح ومن الضباع...، من الصامتين ومن الخطباء، من الضعفاء ومن الأكثر ضعفا ً، من الأقوياء الأتقياء والأكثر تقوى، ولكني، اقسم لك، إني لم أجدف، لم اعص، لم اكذب، لم ازن، لم ازور، لم أغش، لم اقتل، لم اعتد، ولم استنشق حتى رائحة الهواء! فانا حفظت وصايا الأولين والآخرين، كأنها سبقت وجودي، فكيف لا أخاف لو شطحت، أو أخطأت، أو زل لساني اللعين هذا...؟
ـ غريب ...، ألا تخاف من الذي يخاف منه الجميع؟
ـ لا!
ـ ها أنت تعترف بالذنب بنفسك الذي يقودك إلى الجحيم، بعد أن يقطع رأسك بالمقصلة، وبعد أن تفترسك ديدان الأرض جسدك، وتنخر روحك ظلمات القبر...!
ـ ولماذا أخاف من الذي أحبه؟
ـ ها، ها، ولكن من أرسلني للقبض عليك، أيها المغفل؟
ـ هو ذا السؤال الذي لم يعد يعنيني....، فانا ذاهب إليه قبل أن يوجه الدعوة للمثول بين يديه. فأرجوك ابتعد عني ...، ولا تركب معصية التمويه!
ـ ولكن من قال انه طلبك؟
ـ  أرجوك، دعني، ولا تشكك باليقين الوحيد الذي  سمح لي باحتمال العيش في هذا الجحيم.


[2] احتفال
   قال الطير الذي وجد جسده الصغير محاصرا ً بمخالب القطط وأنيابها:
ـ الآن فقط علي ّ أن احتفل بنصركم!
   وكان يود لو قال: بهزيمتي، لكنه أضاف:
ـ لأن التاريخ لا يمتلك إلا ذاكرة واحدة عمياء!
فسأله الهر الأكبر زعيم وقائد جحافل القطط:
ـ وهل لنصرنا معنى من غير إنزال الهزيمة فيك...، بعد أن كاد صوتك يصل إلى السماء...؟
   هز الطير رأسه باستسلام:
ـ السماء وحدها لا تسمع...، فهي أعلى من أن تكون عالية، ثم إننا أكثر التصاقا ً بهذا الوحل. فنحن خرجنا من عفن التراب واليه نعود!
فقال الهر بصوت آمر:
ـ أنت حر، حر مثلما ولدتك أمك بذنوب لم ترتكب!
حوّم الطير بجناحين واهنتين، ثم هبط، ووقف أمام زعيم القطط:
ـ أرجوك، اقض علي ّ!
ـ لن افعل بعد أن أمرت بإطلاق سراحك، وغفرت لك ذنوبك!
أجاب الطير بصوت مرتجف، واهن:
ـ أما أنا فسأبحث عن حفرة احتفل فيها وحيدا ً بنصري، لأن بعض الهزائم تبقى عصية على النسيان، والمحو!


[3] وهم
  سأل الابن والدته:
ـ لِم َ يا أمي ولدنا قردة، ولِم َ نعيش قردة، ولِم َ لا نموت إلا قردة أيضا ً...؟
   قالت بمرح:
ـ وهل حال الغزلان أفضل منا، أم حال النعاج، أم حال باقي الزواحف والمواشي والدواب..؟
فقال بصوت حزين:
ـ آ ...، لو كنا ولدنا بشرا ً...؟
قالت إلام بصوت غاضب:
ـ  وهل كنت تفكر أن نولد في الوهم، ونعيش فيه، ولا نموت إلا وقد صار الوهم حقيقة؟!


[4] طلقاء
  سأل الشبل والده السبع:
ـ أحيانا ً اسمعهم يقولون: هذا الشبل من ذاك الأسد..؟
ضحك السبع:
ـ  لو كانوا يقولون الحقيقة لكانوا تركونا في البرية بدل أن يحتجزوننا داخل هذه الأقفاص...؟

[5] الحقيقة
ـ لِم َ يا جدي كلما حاولت الإمساك بالحقيقة أجدها توارت...؟
ضحك الجد:
ـ أما انه لا توجد حقيقة أصلا ً...، وأما إنها ابعد من تكون بحدود الرؤية...، لأن الحقيقة بوسائلها!
ـ وأنت، يا جدي، بعد هذا العمر الطويل، ماذا تقول؟
ـ بعد أن أمضيت عمري كله...، في هذه الحديقة، استطيع أن أقول أما إنها توارت أثناء بحثي عنها، وأما كان بحثي ذاته قد أضاعها!
ـ والله، حتى سقراط لن يفهم ما قلت؟
ـ آ ....، قلت: لو لم تكن هناك حقيقة فلماذا  يتحتم علينا أن نبحث عنها...، أليست الحقيقة مثل الآلهة...، كلما حاولت البرهنة على وجودها أعلنت عن جهلك فيها، بل وعن  سخرتك منها..، فمن أنت كي تبرهن على وجودها..، والآن أسألك: من أنت...؟ فأما أن تكون حمارا ًمهمته حمل الأوزار، أو بشرا ً مهمته أن يجد حميرا ً يحمل فوقها أثقاله.
ـ قسما ً بالآلهة جمعاء حتى مديرنا قد لا يفهم كلمة مما قلت، يا جدي..!
ـ آ ...، المدراء، مدراء هذا الزمن..، يا حفيدي، لا عمل لديهم سوى البحث عنا، نحن الحمير، وليس بحثا ً عن الحقائق، فهل فهمت؟
ـ  المشكلة إن الكلام الواضح  ما أن يتم شرحه حتى يزداد وضوحا ً، فيفقد غايته، أما ما شرحته لي، فقد جعلت الوضوح ابعد من أن يدركه حمار صغير مهمته، كمهمة أسلافه، حمل الأوزار، ولكن ليس بحثا ً عن الحقيقة، بل لتجنبها!


[6] كابوس
  استيقظ السبع فوجد انه تحول إلى بغل، فراح يحدق في الدواب، والبهائم، وهو يراها طليقة، وهو مازال داخل قفصه، فصاح:
ـ أخرجوني... فانا أصبحت واحدا ً منكم!
اقترب المدير منه:
ـ انتظر!
قال السبع:
ـ من أنت؟
ـ أنا المدير.
ـ آ ....، يبدو انك لم تعرفني أيها المحترم...؟
أجاب المدير:
ـ لا ضرورة لمعرفة انك كنت بغلا ً وصرت سبعا ً...، ولا معنى أيضا ً لو عدت إلى أصلك!
ـ ولكني ولدت عن عائلة سباع، وصولا ً إلى جدنا السبع الأعظم!
ـ آه...، أرجوك عد إلى النوم...، لعلك تحلم انك تحولت إلى ديناصور...، فنخاف منك، أو تختار أن تتحول إلى غزال فنذبحك، أو تحلم انك تحولت إلى فأرة لتبحث عن حفرة وتتوارى فيها بعيدا ً عنا..
وأضاف المدير:
 ـ فلولا وجودكم في هذه الأقفاص من كان باستطاعته أن يحلم بطلاقة وشفافية، وكما يشاء ومن غير قيود،   وان يختار أي صنف إلا أن يتحول إلى بغل نجهل من هي أمه الأتان، ومن هو والده بين هذه الخيول؟


[7] الجلاد والضحية
   مكث الضحية، كلما أذاه الجلاد، يزداد ضحكا ً، حتى أوشك أن يحطم سلاسل الحديد المكبل بها، ويسقط أرضا ً. فسأله الجلاد:
ـ ما الذي يضحكك...، وأنا ابتر أصابعك، بعد أن سلخت لك جلدك، وكويتك بالجمر، وجدعت انفك، وكسرت عظامك...، وبعد أن كنت اغتصبت نساءك، وغلمانك، وأنت الآن في الطريق إلى الموت؟
ـ أنا لا امتلك قدرة على منع نفسي من الضحك...، أيها المغفل!
ـ وما اثر كل هذا الألم الذي أنزلته فيك...؟
ـ لا يساوي شيئا ً!
وأضاف بصوت هادئ:
ـ  لأنني أراك تموت!
ـ أموت...، وأنا أرسلك بعد قليل إلى الجحيم؟
ـ نعم، فبعد ستة آلاف عام، ومائة سنة، وتسعة أشهر، وثلاثة أسابيع، وخمسة عشر يوما ً، وسبع ساعات، وثماني دقائق، وأربع ثوان، وجزء من الألف من أجزاء الثانية...، أراك تقطع، واراك تحرق، وارى رمادك يذر في الريح...، فلا أرى سوى فراغا ً لا اثر له حتى بين الفراغات، الآن، فعذاب من منا أشد قسوة؟!


[8] بهدوء تام
  قال الغراب لرفيقه وهما يشاهدان الحرب تجري أمامهما:
ـ غريب أمر هؤلاء البشر...، يقتلون بعضهم البعض...، بدم بارد، ولكن بمشاعر صادقة! فهم يحرصون على إنجاب الملايين من الأبرياء كي يسحقونهم في هذه المجازر..، بهدوء...، بهدوء تام!
ـ رفيقي، هذا ما تفعله الذئاب، النمور، وهذا تفعله باقي المفترسات، وهذا ما يفعله الطير الذي يطير في السماء،  وهذا ما تفعله كائنات البحر، وهذا تفعله باقي الحشرات، والبهائم، والدواب!
ـ كلا! إنها لا تفعل ذلك إلا بحدود سد رمقها كي لا تموت جوعا ً...، فهي تحرص بالحفاظ على عدم الإسراف في العدوان..، إلا أن هؤلاء البشر، أصحاب العقل والمعرفة والحكمة، لا يفعلون ذلك إلا للبرهنة بان الجوع ليس إلا سببا ً هامشيا ً، إن لم يكن وهميا ً!
ـ آ ...، أتقصد أن هؤلاء البشر لم ينحدروا من المكان نفسه، من عفن سواحل المستنقعات والآبار الأسنة...؟
ـ لا تكترث، يا رفيقي، فان كانوا هبطوا من كوكب آخر، أو انحدروا من عفن المياه الضحلة، فانا وأنت لن نسمح لجرثومة القتل أن تصيبنا بداء الغرور، والعظمة، والمجد!
ـ وهل هم عظماء؟
ـ أذهب وأسأل القاتل الذي سيصبح ضحية، اذهب وأسأل الضحية الذي سيصبح قاتلا ً...، لماذا فعلتم ذلك بإسراف، فاق الجور، وتجاوز كل نوع من أنواع الخساسة؟
ـ أتمزح معي...، وهل سأنجو من مكرهم القاتل لو فعلت، كي أضاف إلى ضحاياهم؟
ـ لماذا فكرت إذا ً...، ولماذا أربكت علينا استنشاق هواء الفجر العليل هذا...؟
ـ أنا لم إربك عليك نهارك الجديد، يا رفيقي، بل هؤلاء العقلاء، العظماء، الحكماء، هم من فعل ذلك!

[9] القطيع
   بعد عراك انتهى بالمصالحة، سأل الكلب الذئب:
ـ على م َ كاد احدنا يقضي على الآخر؟
  رد الذئب بصوت خفيض:
ـ للحصول على شاة، أو على حمل!
اقترب الكلب منه وقال:
ـ لا! أنت لم يكن هدفك اقتناص شاة أو حمل..، بل هدفك كان العدوان...، أما أنا فكان عملي أن أردعك، وأدافع عن القطيع.
ضحك الذئب:
ـ بل لأنك كنت تحمي قطيع الراعي...، هذا الذي سيرسلها إلى السوق، لتباع، كي تذبح!
ـ لم افهم!
ـ  كنت طلبت منك أن نتعاون بالقضاء على الراعي!
ـ آ...، أيها اللعين، كي تقضي علي ّ بعد ذلك، وتصبح زعيما ً أوحدا ً تنتقي ما تشاء من النعاج السمينة...
همس الذئب:
ـ  اسمع: إن راعيك يرسل القطيع كله إلى الذبح...، ولا يبقي إلا النعاج كي تلد خرافا ً، هي الأخرى، ستلقى المصير نفسه...، أما أنا وأنت، لو تعاونا، فسنشرف على القطيع، ونكتفي بما يسد جوعنا!
نبح الكلب غاضبا ً:
ـ اسمع، لا أنا، ولا الراعي، ولا أنت...، يتمتع بالبراءة! فاغرب عن وجهي، مادام القطيع ذاته لا يمتلك رغبة بالتمرد!


[10] توق
   نظر الببغاء إلى صاحبة الثري وهو يعد النقود الذهبية، وسأله:
ـ ماذا تفعل بها، فقد أصبحت كثيرة، وأنت عجوز هرم ووحيد لا احد يرثك؟
ـ حتى أنت، أيها البهيمة، تتضامن مع أعدائي!
ـ بل أنا أتضامن معك..!
ـ اخرس...، غدا ً سأبيعك في السوق وأتخلص منك!
    فلم يجد الببغاء إلا أن قال له بصوت حزين:
ـ لتجعل من ثمني، بعد خدمتك الطويلة، قطعة ذهبية تدفنها في قاصتك..، كي يأتي اللصوص ويسرقونها؟
  اقترب العجوز منه:
ـ  آ  ..، أنا اعتذر منك، لأنني الآن فهمت قصدك!
ـ لا اعتقد ذلك...!
ـ لأنك كنت أنت الوحيد الذي يحرسني، ويحرس نقودي من الغرباء ومن اللصوص!
ـ لا..، يا سيدي، بل لأنني كنت اعمل عبدا ً عندك! وأحيانا، يا سيدي، أنا أيضا ً اشعر بالتوق للتحرر من العبودية. فانا لا أريد أن أبقى عبدا ً عندك إلى الأبد، مثلما حلمت ورغبت أن لا تكون أنت عبدا ً لهذه النقود أيضا ً!
25/8/2016
Az4445363@gmail.com

اليوم تم اغتيال تمثال جواد سليم:-د. إحسان فتحي

 اليوم تم اغتيال تمثال جواد سليم:




 





د. إحسان فتحي
اليوم (29/8/2016) وفي تمام الساعة السادسة والنصف مساء تم اغتيال النحات العالمي جواد سليم ومن أمام قاعة كولبنكيان بالبلدوزر حتى قطع رأسه...!





الخميس، 1 سبتمبر 2016

في هزيمة اللغة العربية في هزيمة الاجتماع العربي*مرزوق الحلبي



الرئيسية / مقالات / في هزيمة اللغة العربية في هزيمة الاجتماع العربي

مرزوق الحلبي

في هزيمة اللغة العربية في هزيمة الاجتماع العربي

 ثقافات

*مرزوق الحلبي

العلاقة بين اللغة وبين ناطقها ليست علاقة واضحة دائما ولا هي عادية ومفروغ منها، ولا هي أحادية الاتجاه. فالناطق لغة ما يختار الكلمات ويصيغها بما يخدم غرضه من النُطق بالكلام. وفي اللحظة ذاتها تقوم اللغة بصياغته وتشكيله. فاللغة التي يصنعها ناطقها على قياسه تصممه لغته وترسم صورته في عيون المتلقّين. بمعنى، أن اللغة والناطق يسيران معا في ظلّ بعضيهما. فلا حياة بغير لغة ولا لغة بغير ناطق. ومن هنا فإن اللغة كيان حيوي قابل للتحول كما هو ناطقها كذلك. للغة أثرها وتأثيرها ليس فقط في سامعها أو قارئها بل في ناطقها، أيضا.

أمر آخر تجدر الإشارة إليه في سياق الحديث عن اللغة هو الوظائف التي تضطلع بها اللغة في الاجتماع. هناك مَن يسارع إلى حصر وظيفتها في أشكال الاتصال. بمعنى، أنه يخصّ اللغة بوظيفة واحدة موسّعة علما بأن للغة جملة وظائف تجتمع إلى بعضها فتصير لغة جماعة وحياتها! فإذا قلتَ لي ما هي لغتك أقلّ لك مَن أنت! أو كما قال القوميون الألمان (وليم هيردر) “كل أمة تفكّر كما تتكلّم وتتكلّم كما تفكّر”. وإذا كانت الثقافة العربية قد أنتجت “أن في البيان لسحر” فإن الثقافة الأوروبية لا سيما الفرنسية أنتجت “سُلطة اللغة والإنشاء”. و”السحر” عند العرب لا يُمكن فهمه إلا مجازا على أنه “سطوة” اللغة على سامعها. وقد كان الشاعر العربي أو الراوية يسحر الناس بقصصه وحديثه الذي شجون كما سحرت شهرزاد أميرها لأكثر من ألف ليلة!

في الثقافة المسموعة ـ قبل شيوع القراءة والكتابة وبعد محو الأمية ـ كان وقع الكلام على سامعيه معيارا من معايير الشعر الجيد والشاعر الفَحل. وكانت إيقاعات الشعر جزءا من تداوله وحفظه ومنابره. وهي ظاهرة غير محصورة في الثقافة العربية بل طالت مختلف الثقافات (اللغات) في فترتها المسموعة. فالإنجليز، أيضا ـ على سبيل المثال ـ لهم عاداتهم في نظم الشعر الموقّع أو السجال الشعري. وفي الثقافة اليهودية ظاهرة مماثلة. للغة أكثر من وظيفة واحدة في الاجتماع. فقد يتم استعمالها لإحداث أثر. بل كلما تعقّدت منظومة الاجتماع كلما تعددت وظائف اللغة. ففن الخطابة مثلا ـ يُعطي للغة وظيفة يُقصد بها التأثير على الآراء وعلى السياسة! كما أن اللغة أداة المعرفة وحاويتها واللغة هي أداة سيطرة وإدارة الاجتماع والدولة والحيز العام. ومن هنا ذاك الفصل في التأريخ بين حِقَب قلّ فيها العارفين بالقراءة والكتابة ـ في أي ثقافة ـ وبين غالبية ساحقة لا تعرف هذه ولا تلك. وكذلك تلك الإشارات الواضحة إلى دور الطبقة المتعلّمة اللغوية في باحة القصر وأروقته مقابل “الغوغاء” أو “العامة”.

ويُشير هوبسباوم مرارا (وغيره ـ أندرسن مثلا) إلى الدور الذي لعبته اللغة في تشكيل الجماعات القومية أو في إدامة سيطرة الطبقة الإدارية في مركز مديني بفضل لغتها. مثل هذه التنظيرات تلتقي مع تلك التي أتى بها غرامشي وفوكو وسعيد بخصوص بسط أنظمة الحكم سطوتها وسيطرتها بواسطة اللغة ومفاعيلها. واللغة هنا بمعنى الخطاب (discourse). والفرضية هنا أن النُخب تفرض خطابها/لغتها ومفرداتها التي تعني في نهاية المطاف مفاهيمها ورؤيتها وتصوراتها للعالم ومجمل أحكامها. أما في العمق فهي تعني، أيضا، عقيدتها السياسية والفكرية ومُجمل أنماطها الفكرية والعملية وسياساتها في المجالات المختلفة.

أما اللغة كمعرفة فهي نظرية تقول بوضوح أن لا وجود للمعرفة إلا ضمن اللغة. ولأن المعرفة ليست نهائية أو مُطلقة في أي لحظة خاصة إذا مضت، بل متراكمة متغيرة نتوقّع من اللغة أن “تتراكم” وتتغيّر وتتحرك وفق المعارف المتولّدة على الأقلّ بفعل العلم ومُنجزاته لا سيما التكنولوجية. لكن لا يُمكننا أن نغفل ذاك الكم الهائل من المعرفة في علوم الاجتماع والسياسة الذي تراكم في زمن الحداثة أو الحداثة الفائقة أو السائلة.

وماذا مع اللغة العربية في هذا المضمار ـ سؤال يطرح نفسه للمرة المليون في ضوء ما نلمسه من محافظة وانغلاق لدى سَدَنة اللغة العربية بوصفها مفردات وتمثيلات وثقافة ومعرفة. نشير بداية إلى أن أمام نهوض العربية جملة من المعيقات. الأول ـ تلك النزعة المحافظة ومصدرها أوساط دينية تعتبر اللغة العربية لغة نهائية في القرآن لا يعتريها نُقصان ولا تعوزها زيادة. بمعنى، أن اللغة العربية مقدّسة لا يجوز الاعتداء على قدسيتها بفرضيات من العالم الأرضي وبنظريات علمانية. يشترك مع هذه الأوساط نُخب ذات نزعة قومية تخلع على اللغة العربية قداسة هويتية عربية. إلا أن المحصّلة واحدة ـ مُعارضة شديدة لتحديث اللغة وتطويرها بفعل إرادي. الثاني ـ نزعة رومانسية تعتبر اللغة العربية واسعة في منتهى الاتساع والكبر قادرة على احتواء كل شيء. ويُضيف هؤلاء إلى ادعائهم الإشارة إلى كثرة المترادفات وأن اللغة العربية “بحر في أحشائه الدرّ كامن”! هذا علما بأن لا اللغة العربية واسعة ولا المترادفات تعني الغِنى لأن عدد الجذور التي يُشتق منها قليل جدا قياسا بلغات أخرى! الثالث ـ سياسات لغوية معطوبة أو فجّة لم ترقَ لفهم مُجمل الوظائف التي تؤديها. صحيح أن الفترة القومية وفترة التحرر من الاستعمار ترافقت مع تنظيرات لغوية هامة لكن سرعان ما غرقت في تأصيلات وشوفينية عربية مغالية. فالعربية في الجزائر مثلا قمعت الأمازيغية. والتعريب خلق أزمة العلاقة مع اللغات العربية المحكية علما بأنها كان يُمكن أن يكون “المنجم” الذي تأتي اللغة العربية منه بثروتها واغتنائها. زجّت العروبة العربية في حرب مع ذاتها ومع اللغات الأخرى المحايثة. فانغلقت بدل أن تنفتح وتقلّصت بدل أن تتسع على الأقلّ في السياسات الرسمية للدول على مذاهب أنظمتها. أما المجامع اللغوية التي نشأت في كل عاصمة عربية فبدل أن تتنافس في فتح أبواب اللغة تنافست وتناحرت في السعي إلى تكريس مغاليقها وتعزيز تحصيناتها. لقد ضاعت الأصوات الداعية إلى الإصلاح اللغوي في حمأة حروب المجامع التي تراجع دورها إلى أن اضمحلّت.

لعلّ أكثر ما يجسّد قصور اللغة العربية هي تلك الظاهرة المضحكة المُبكية التي شهدتها في حقبة التدوين وتلازمها إلى اليوم. ففي فترة التدوين ساد الاعتقاد عند اللغويين أن الأعرابي “صانع اللغة العربية” فاشتروا منه ألفاظا اتضح أنه اختلقها سعيا إلى الربح الرخيص خاصة وأنهم كانوا ينقدون الأعرابي الوافد من عُمق الصحراء درهما أو أكثر لقاء كل لفظة يقول لهم أنها جديدة وأنها تعني كذا وكذا في منطقته! وهكذا، سنجد في كل مُنجد كلاسيكي في كل صفحة تقريبا جذرا أو أكثر لا اشتقاق منه ولا تصريف. لفظة ومعنى جامد ميّت لا أكثر! وفي القواميس نفسها ستجد أن اللغة الحديثة كلها ـ لغة التداول الإعلامية والحياتية موجودة هناك في ملاحق خاصة وكأنها ابنة غير شرعية للغة العربية أو أنها مهموزة النسب لا تصلح لتُحسب على اللغة العربية الأصل ولا أن تثبّت في متن مناجدها وقواميسها! ولا تزال الألفاظ الميتة هناك معززة مكرّمة ترمز إلى الموت في اللغة العربي المعجمية أو تلك المستندة كليا إلى “لسان العرب” لابن منظور.

المراكز الأكاديمية فسحة لحيوية لغوية

أما المراكز الأكاديمية العربية فقد شكّلت نقطة الضوء في هذه المسيرة اللغوية المعتمة للعربية. فإذا اعتبرنا أن علماء حقبة التدوين هم بمثابة المركز الأكاديمي لتلك الحقبة سنرى أنهم طوّروا اللغة وأغنوها بترجمات وتحويلات من لغات العلوم ومن أمهات الكتب (من الفارسية واليونانية واللغات الهندية والصينية وغيرها)  التي اعتبرتها النُخبة العربية في حينه معرفة لا بدّ منها في اللغة العربية. بل أن الترجمة في تلك الفترة هي الفعل اللغوي الذي وسّع العربية في مفرداتها ومعارفها. ولا ننسى أن فقه الكلام العربي تطور من خلال السجال مع تلك الثقافات وطروحاتها وأن “الفلسفة العربية” نهلت من هذه الحقبة و”لغاتها”. بمعنى أن اللغة العربية عاشت أفضل بانفتاحها على اللغات الأخرى والتفاعل معها ومع علومها. وأعتقد أن بعض المراكز الأكاديمية العربية، وإن بتفاوت، فعلت الأمر ذاته في العقود الأخيرة حين ترجمت واقتبست وتفاعلت مع النتاج المعرفي العالمي في اللغات الأخرى لاسيما المؤثّرة منها. يكفي مثلا أن نرى إلى ترجمات الفلسفة الفرنسية الحديثة في المغرب العربي لنُدرك حجم الغنى والثراء الذي اكتسبته العربية لغة وثقافةً. هكذا فعل باحثون ومفكرون ومستنيرون عرب أفراد عندما خرجوا من ثقافتهم واكتسبوا من ثقافات أخرى وأدخلوها ضمن أبحاث أو كتابات أو تنظيرات فأضافوا للغة كنزين، كنزا من المفردات ولدت في حالة الترجمة والتحويل وكنز الفكر عندما تمّ دمج معارف جديدة ضمن إطار اللغة العربية ومساحتها (مثال على ذلك ما يُنشر هنا في موقع الأوان من نصوص وأبحاث وترجمات قيمة تُضيف ليس إلى اللغة العربية بل إلى العربي فردا وجماعة، أيضا).

على خط موازٍ، عمد الإعلام العربي في كل مراحله تقريبا لا سيما الفضائي وذاك الإلكتروني إلى التجديد والتطوير اللغوي خاصة وأن الميديا كانت على خط المواجهة الأول مع الحدث ومع المتغيرات ومع الخبر ومع تغطية العالم على ما فيه من تجديد ومتغيرات.

إن في صلب مثل هذا العمل الثقافي اللغوي المعرفي فرضية تقول بأن اللغة كيان حي وظاهرة تاريخية إنسانية يُمكن أن تتطور وتتحول بكل اتجاه. وهذا نقيض رؤيتها كمقدسة أو نهائية أو مسألة سماوية يُحذر المسّ بها من خلال التطوير أو الإضافة أو الحذف! عمل يفترض أن مصلحة العربية والناطقين بها تستدعي فتح مغاليقها وتحويلها إلى ميناء مفتوح لا إغلاقها في حدودها، لا خارج منها ولا داخل.

شيء يُشبه الخاتمة

لاحظت من تتبعي لأنشطة المجتمع المدني العربي لا سيما في العقدين الأخيرين أن هذا القطاع الاجتماعي أو هذا الحقل الاجتماعي ـ حسب بورديه ـ عدا كونه فاعلا جديدا في الاجتماع العربي، فقد كانت له إسهاماته اللغوية في المستوى المعرفي واللغوي الصرف. هنا، أيضا، حصلت عمليات تحويل وترجمة للمعارف المتصلة بهذا الحقل من لغات أخرى. وهي دون شكّ، أغنت اللغة العربية ووسّعتها وأدخلت للتداول عشرات المُفردات والتراكيب الجديدة ومصطلحات وخطابا كاملا جديدا. وهذا ما حصل مع كل حقل اجتماعي جديد خاضه عرب وأنتجوه بلغتهم. وهذا يعني أن اللغة وإن أهملتها الأنظمة واللغة بهذا المستوى أخذها أصحابها اليوميين إلى أماكن لم تصلها من قبل لا من حيث المفردات ولا من المعرفة الخالصة والكشف المعرفي. ومن هنا رأينا ظهور المعاجم المتخصصة ـ وإن لا تزال قليلة ـ التي تغني اللغة وتضيف إليها وتفتحها على الحياة والدنيا كما هي اليوم. أي أن هناك حركة تجديد في اللغة تتم بفعل أفراد ـ وأقلّ مؤسسات ـ ومبادرات داخل الأكاديميا العربية ومؤسسات البحث ومراكزه. لكنها ظلّت في الأطراف ولم تتحوّل إلى التيار المركزي أو النافذ وإن كنتُ لا أقلل من دورها ولا من إسهامها في عملية النهوض اللغوية الفكرية.

تجمعت في مكتبتي ربما مئات الكتب العربية التي تُعنى باللغة والنهضة والتنمية والحداثة وما إلى ذلك. وفي الكثير منها إشارة واضحة إلى العلاقة بين نهضة في الاجتماع ونهضة في اللغة. وأعتقد أن هذا الطرح صحيح في مجمله ينبغي أن يظلّ ماثلا أمام اللغة العربية وأصحابها. فالنقاشات الحاصلة في حقل اللغة هي في العادة متقادمة، بين مناصر للغة المحكية مثلا ومناهض لها، أو بين عشرة نُحاة حول تشكيل جمع المؤنّث السالم. كنتُ أحبّ رؤية نقاش سنوي حول الترجمات إلى العربية وأثرها في ثراء اللغة واتساعها أو حول عدد الكلمات الجديدة التي طورتها اللغة العربية وأدرجتها ضمن معاجمها في نهاية العام 2016 مثلا! أو أن نناقش قرار دولة عربية أو مجمع لغة مرموق إزالة الألفاظ الميتة من متن القواميس وإدراج ملاحق اللغة المتداولة في صلب هذه المعاجم.

اللغة العربية بحاجة إلى عمليتين سريعتين الأولى ـ الإقرار بأن آلاف الألفاظ فيها وُلدت ميتة وأن آلافا مثلها ماتت في حوادث وحروب ونتيجة هرم وخرَف وأن هناك ضرورة لدفنها في أسرع وقت ممكن. والثانية ـ العزوف عن الاعتقاد بقداسة اللغة والمكوث أسرى في رومنسيتها وإنشاء شرفة على كل حرف من المفردات العربية لتطلّ على اللغات الأخرى وتتفاعل معها بوصفها معارف وثقافات وتصورات وأحكام وأنماط. ساعتها، ستكبر العربية وتتسع وتغتني في عقد ما تأخّرت عنه قرونا. بمعنى، أن عملية النهوض بالجماعة العربية تمرّ عبر لغتها، النهضة في اللغة بروح ما تقدّم من لزوم الانفتاح والاقتباس والتفاعل والنقد الذاتي بعد الهزيمة اللغوية (الثقافية الفكرية) المدوّية للغة العربية.

_______
*شاعر وكاتب فلسطيني

غالا… عبقرية دالي وشِعرية إيلوار-*محمد حجيري


غالا… عبقرية دالي وشِعرية إيلوار

*محمد حجيري


يقال إن الرسام الاسباني سالفادور دالي كان مجنون”الشهرة والمال، حتى انهما كانا يأخذان كل تفكيره. إلى أن ظهرت غالا التي أحبها وتعلق بشخصيتها، وقال: أحب غالا أكثر من أبي، أكثر من بيكاسو، حتى أكثر من المال”… و”غالا وحدها استطاعت أن تستمع الى عالمي واستطاعت أن تشفيني من قلقي ومن أحزاني. كما انها وحدها تغلّبت على ضياعي الذي تجسّد من قبلها في أسفار مبهمة في ربوع الكلاسيكية فجعلتني أفهم ما أريده من الكلاسيكية ومن هذياني معاً… من السادسة من عمري أردت أن أكون طباخاً، في السابعة أردت أن أكون نابليون، ولكن شيئاً فشيئاً فهمت أنني أريد أن أكون دالي…”. فمن هي هذه المرأة التي استطاعت أن تقلب حياة الرسام العالمي، “العبقري الفضيحة” كما سُميّ، رأساً على عقب؟
في ربيع 1929 جاءت مجموعة من البوهيميين إلى بيت دالي، بينهم الشاعر الفرنسي بول إيلوار بصحبة زوجته، غالا، واسمها الحقيقي يلينا دايكونوف، وهي ابنة محامٍ روسي. وكان كل ما يقال عنها أنها “مضطربة”، وعولجت في مصحّ، ثم استقرت في باريس تحت اسم جديد هو غالا، وكانت ذات شخصية عنيدة وغامضة، إلى أن أصبحت زوجة ايلوار الذي أهداها جل قصائده، ويعترف لها بأنه ما كان ليكتب ما كتب لولاها: “أنتِ التي أمليتِ عليّ كل قصائدي.” قال لها في احدى رسائله.

435
وحين رأها دالي في السهرة، توقف لسانه في الأوقات الأولى عن الحركة… يقول دالي: “كل شيء ابتدأ من الباب، في أحد الأيام دخلت الغرفة وكان الباب مفتوحاً ورأيتها: تفجر الحب في داخلي، ومنذ تلك اللحظة قررت أن تكون لي”. حلق شعره، ولوّن جسمه بالأزرق والأحمر، ووضع حلق أخته آنا ماريا ـ التي كانت، إلى جانب غالا والنادرات من الموديلات اللواتي رسمهن، الوحيدة التي أدخلها إلى مرسمه، كما ووضع قرنفلة حمراء وراء أذنه، ووقف أمامها، ففوجئت مستغربة، معجبة بعينيه، خائفة من منظر الجنون الذي احتواه، وهو يضحك بصورة هستيرية بلا توقف. من هنا بدأت أشهر قصة حب بين دالي وغالا التي كانت الخط الفاصل بين عبقريته وجنونه.
الغرام الهذياني بين عبقري الرسم والمرأة الروسية الآسرة، لم يعجب والد دالي الذي هدده بالطرد من البيت إن هي بقيت معه، وأجبرها على العودة إلى باريس، وبقي دالي وحيداً غارقاً في دموعه وأحزانه، يقول: “النساء عطاء رائع قادر على تحويل الرجل إلى معتوه، وأنا لا أفكر بأي شيء سيء حينما أقول ذلك، أنا أحب المعتوهين خصوصاً عندما يكونون في حالة الهذيان لأنهم وقتها أشبه بالملائكة، وهكذا بفضل النساء، فإن رجالاً مثل دانتي يصبحون معتوهين، ويكونون في وضع يؤهلهم ليكتبوا الكوميديا الإلهية”. ذهب دالي إلى باريس وتزوجها، هدية الزواج، قطعة مجوهرات كبيرة، بجعة منحوتة من الحجر الروسي الكساندريت، وفيه بيضة كبيرة الحجم من الزمرد حينما تقلبها تصبح فيلاً، وبعد شهر عسل في اسبانيا استقرا في بورليكاتو عند كوستابرافا، وعاشا في بيت متواضع لصياد سمك، ليدرك دالي لاحقاً أن غالا ليست حبيبة فحسب، بل هي موضوع لعشق عارم من شأنه أن يعالجه من مرض سيكولوجي مزمن… وهذا الحب سيظهر في لوحاته… إلى درجة أنه كان يوقع على بعض لوحاته باسمه واسم غالا معاً. وفي تلك السنة الحاسمة في حياة دالي، أي 1929، اعتمد دالي على غالا في إنقاذه من نوبات “الشلل الضاحك” الذي كان ينتابه من آن إلى آخر، والذي كاد يمنعه من إنجاز أعماله السريالية العظيمة، وقال: “علّمتني حقائق الكثير من الأشياء.. وعرفت منها أيضاً كيف أرتدي ملابسي بشكل لائق.. إنها الملاك المتوازن للاتساق والانسجام.. وهي التي أعلنت كلاسيكيتي”.

435
سيرسم لوحة “ملاءمة الرغبات”، حيث ستتمثل تلك الرغبات في رؤوس لأسود رهيبة، وكأنها رغبات متفجرة تصبح، من خلال حب غالا، مقبولة في إطارها العلاجي: “اختفت عوارض الهستيريا في نفسي، الواحد تلو الآخر، وصرت قادراً على كبح جماح ضحكتي”… ويرسم لوحة بورتريه لغالا حاملة لحماً مشويّاً على كتفيها… هذه اللّوحة تجمع بين المرأة والأكل والبُعد الديني الإبراهيمي… هذه اللّوحة تعني كما أوّلها صاحبها: أنّ دالي كان يرغب في أن يأكل غالا حبيبته… وبدلاً من أكل غالا، رسم لحماً مشويّاً معلّقاً على كتفيها… لقد قرّر أن يأكل لحم الخروف بدلاً من لحم المرأة غالا… إنّ هذا الرّسم يذكّر، بحسب تأويله هو نفسه، بواقعة إبراهيم الذي استبدل ذبح ابنه بذبح خروف…

لقد قدّم دالي هذا التّأويل الذّاتي لبورتريه غالا في سياق مثير لنا اليوم، كما تقول الباحثة أمّ الزّين بن شيخة،في مقال بعنوان “الفن الذاكرة في لوحات سالفادور”: هو سياق إحالته على علاقة مخصوصة بالعرب، ويقول في ذلك الصّيف (أي صيف 1933 ): “كنت أرغب في أكل كلّ شيء… لكنّي كنت أيضاً على عطش شديد… لقد شعرت فجأة بسلالتي الشّمال افريقيّة، إنّ عطش العرب هذا هو الذي جعلهم يتهافتون على إسبانيا ويخترعون الظلال وفوّارات الماء… متعطّش أنا إذن مثل العرب، ولقد كنت أيضاً مقاتلاً مثلهم”…
غالا، بحسب العارفين بسيرة دالي، كانت الوجه الآخر لوالدته التي توفيت العام 1921، وكان عمره 16 سنة. وقد علّق على موتها في ما بعد بأنه “الصدمة الأعظم” التي تعرض لها في حياته وأنه كان يعبدها. ووجد المحللون أن ارتباطه بغالا وحبه لها، قد يكون تعويضاً عن فقدانه أمه.. وأنها تمثل له الزوجة-الأم بشكل واضح. وتحولت غالا مع الوقت إلى مديرة علاقاته العامة والمسؤولة عن تسويق “منتجات دالي”، وتقود سيارته، وهي موديل لوحاته. وبدوره فقد كان دالي يتعلّم كيفية استغلال فضائحه واستفزازاته في مشاريع تجارية مربحة. المهم أن غالا التي تكبر دالي بأحد عشر عاماً، ظفرت باهتمامه، وكان خيالها يتألق في كل رسومه، كما هو متألق في حياته اليومية. وقد ذكر تأثير غالا فيه، بقوله: “لقد أغلقت بذراعيها باب جنوني”. كما كانت ببساطة المهتمة بكل أعماله ومقابلاته، وبتوقيع تلك العقود الغالية مع تجار اللوحات وجامعيها، تقرأ له الكتب وتلخص له ما يجب، وأصبح كل معرض من معارضه رمزاً وتجديداً للزوجة المعشوقة، والتصقت به عبارة: دالي الكبير هو غالا. وقد كان يردد دائماً: “أرغب في شيئين: أن أحب غالا وألا أموت نهائياً”. وعندما ماتت غالا في حزيران1982 بعد حياة زوجية دامت 47 عاماً، وقف سالفادور دالي وسط المقبرة ليقول بلهجة الذئب المحطم: “حصل ما كنت أخشاه لقد متّ قبلها إذاً”…

435 (2)
بمَوت غالا، مات دالي. هذه هي المعادلة التي راهن عليها أولئك الذين يعرفون قبلة النار “الطويلة بين هذا الرجل وتلك المرأة”. كان يقول: “أنا وغالا نملك معاً خمس حواس فقط، أصابعها هي أصابعي، وكلامها هو كلامي، أما الحاسة السادسة التي لا تجمعنا إلى أي كائن آخر من الكائنات البشرية فهي.. الحب”. عاش دالي حزيناً مكسوراً دامع العين مع ذكرياته، وهو يلبس عباءة وثياباً بيضاء تعبيراً عن حزنه الأبدي على غالا. وبعدما استعاد هدوءه وتآلف مع فكرة الغياب، أخذ يبحث عن النصف الآخر، فرسمها للمرة الأولى وهي غير موجودة. من هنا ارتدت لوحاته، بعد موت غالا، شكلاً جديداً، ولا أحد يدري لماذا راح يرسمها محاطة أو مسكونة بقرون الكركدن (وحيد القرن)، كما لو أنه كان يخاف عليها من الموت، فكان يستعمل القرون كطلاسم لحمايتها من النهاية. وفي أحيان أخرى أخذت غالا شكل العذراء التي تحمل الطفل، ولم يكن هذا الطفل إلا دالي نفسه.
ساحرة الفنانينوأبعد من قصة غالا مع دالي، فرغم أنها لم تكن فائقة الجمال، لكنها سحرت العديد من الفنانين والشعراء السورياليين، لدرجة أن نجاح أعمالهم الفنية وقصائدهم الشعرية، كانت تعزى إلى إلهامها لهم. وقد وصفها “بابا السريالية”، اندريه بروتون، في اهداء كتابه المشترك مع ايلوار “الحبل بلا دنس”، بأنها “المرأة الخالدة”، وهجس بها الشاعر كريفيل قبل موته. واهدى اليها رينيه شار بعض قصائده. وقبلهم جميعاً، كان ايلوار الزوج والعشيق، وبدأت قصة العشق هذه عندما تعرف شاب اسمه بول اوجين غريندل، والذي عُرف في ما بعد ببول إيلوار، الى فتاة روسية هي “غالا”…
أين كان مكان اللقاء بالضبط؟ المعلومات متضاربة. فهناك من يقول في مستشفى للامراض الصدرية في مدينة كلافاديل في فرنسا 1912، أو في مصحّ في سويسرا. ليس هذا المهم، لكنهما قطعاً تعارفا في مستشفى، وكانا يتلقيان العلاج من مرض السل الرئوي. وتقول إحدى الروايات إنهما كانا في عمر واحد آنذاك: في السابعة عشرة تقريباً.
وبعدما شفيا، عادت غالا الى روسيا، والتحق ايلوار بالجيش مع بداية الحرب العالمية الأولى. وقبل نهاية الحرب، التقيا مرة أخرى، وأقامت هي في بيت أهله، وتزوجا بعد نهاية الحرب في 1917 وأنجبا في العام التالي ابنتهما الوحيدة سيسيل. أيضاً عاش ماكس إرنست مع إيلوار وغالا. إيلوار أحب الرسم مع الشعر، وشارك إرنست في تركيب الكولاج. عاشوا بطريقة يعبّر عنها المصطلح الفرنسي (menage a trois)، الذي يعني رفقة ثلاثية. وبدأت علاقة سرية خفيفة بين إرنست وغالا. في العام 1924 حدث ما حدث بين إرنست وغالا، وبسببها ضرب ماكس إرنست، صديقه ايلوار، على عينه، فأدماه…
كان إيلوار مخلصاً لغالا، يعشقها. هذا هو الظاهر في الرسائل المتبادلة بينهما والتي ترجَم أجزاء منها، المسرحي الراحل عصام محفوظ في كتابه “بول إيلوار: قصائد حب يليها رسائل إلى غالا” – نراه يترجاها ويكتب لها: “يا صغيرتي غالا أحبك بلا حد. لا أؤمن بالحياة، لا لا أؤمن إلا بك. هذا العالم الذي هو عالمي والممزوج بالموت، لا أستطيع أن أدخله إلا برفقتك. أن للا أكون إلا بين يديك، بين عينيك، بين نهديك، بين ساقيك، أنا مدعو حيث لا أرتوي أبداً”. أرسل لها من ميونيخ ومن أولشتادت، من ستراسبورغ يقول: “أنا لا أنساك لحظة واحدة”. ومرة كتب لها: “أنتِ الينبوع العجائبي لخيالي وحريتي، إنني أعبدك”. لكن غالا كانت امرأة مراوغة، كانت تحب إيلوار وتعشقه، لكن خيالاتها أكبر، واستمر حبهما حتى قطعه الموت، وقد يبدو غريباً في هذه الاسطورة أن نرى غالا (حين كانت تتهيأ للاقتران بآخر هو سالفادور دالي) تسأل إيلوار: لماذا خف حبه لها وقلّ اهتمامه بها؟ فأجاب إيلوار (الذي كان يتهيأ للزواج بأخرى هي نوش) بأنها ستبقي الوحيدة في حياته وإلى الابد. كانت تناديه بـ”يا زوجي مدى الدهر”، قبل الزواج، وخلاله، وبعد الطلاق.
إنها اسطورة حب لم يكن في الإمكان اكتشاف تفاصيلها بعد رسائل غالا الى إيلوار، إلا باكتشاف رسائل إيلوار الى غالا بعد وفاتها العام 1982، وكانت قد خبأتها ثلاثين عاماً، أي منذ وفاة الشاعر العام 1952 عند ابنتهما سيسيل…
هي 272 رسالة أرسلها إيلوار، في مقابل 15 رسالة من غالا، وهي كل ما تبقى من رسائلها إليه، بعدما أحرق معظم الرسائل اثناء الحرب. في إحدى رسائلها تقول غالا إنها امرأة فريدة بين النساء، وكذلك ايلوار، فهو فريد بين الرجال، وكانت تقول أيضاً إنهما من طينة واحدة.. في الرسالة 105، يكتب لها:
أيتها المرأة التي عشت معها
المرأة التي سأعيش معها
أيتها المرأة نفسها
يلزمك معطف أحمر
وكلسات سوداء
وإثباتات
لرؤيتك عارية
العري النقي يا لزينة المظهر.
في الرسالة 111:
قوة عينيك تحميني من الانهيار.
يا صغيرتي الحلوة العزيزة غالا.
غالا المراوغة التي لا يهدأ خيالها الجامح، تعبت من تقلبات إيلوار وجنونه السوريالي، وانتهت علاقتها به بعد سنوات عديدة من الحب. وراحت تبحث في أعماقها عن علاقة جديدة، ووقعت على شخص آخر لا يقل جنوناً وعبقرية عن إيلوار، إن لم يزد أضعافاً مضاعفة، هو الرسام دالي. ويقول المحيطون بدالي إنه، لولا غالا، لرأينا دالي يتجول في الشوارع بحثاً عن قوت يومه، ويرسم لوحات لا يراها أحد، لكن غالا وظّفت جنونه بالشكل الذي استخلصت منه عبقرية.
______
*المدن

الأربعاء، 24 أغسطس 2016

فيلم يجسد قصة حب أوباما وميشيل


فيلم يجسد قصة حب أوباما وميشيل

لوس انجلوس- يمكن للأميركيين اليوم مشاهدة تفاصيل المواعدة الأولى بين باراك وميشيل أوباما في فيلميرصد تصرفات الرجل الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة وهو يغازل زوجته المقبلة طوال يوم.

2-159
يتناول فيلم «ساوث سايد ويز يو» تفاصيل أول مواعدة بين أوباما وميشيل في صيف عام 1989، وفيه تظهر ميشيل روبنسون (25 عاما) المحامية القادمة من شيكاغو مع تخرج مع باراك أوباما طالب القانون الذي جاء للتدريب في الشركة التي تعمل بها. وطوال الساعات التي قضياها معا، والتي تصر ميشيل على أنها لم تكن مواعدة، يحضر الاثنان معرضا فنيا ومناسبة عامة، ويشاهدان فيلم «دو ذا رايت ثينغ» (افعل ما تراه صحيحا) للمخرج سبايك لي، ويتناولان المشروبات والبوظة خلال مناقشتهما لحياتهما وتطلعاتهما ومخاوفهما.

2_1-6
وقالت الممثلة تيكا سمتر التي تلعب دور ميشيل «ترى في الفيلم أنهما تحديا بعضهما بعضا.. وتحدثا عن أسرتيهما، واعتقد أن كل هذه الأمور واقعية جدا وفي متناول الناس»، فيما قال باركر سورز الممثل الذي جسد شخصية باراك أوباما في الفيلم إنه بدأ «بتقليد قوي» للرئيس، لكنه بعد ذلك ترك التمثيل وأدى الدور بتلقائية.

وتزوج باراك أوباما الذي بلغ عامه الثامن والعشرين في ذلك الصيف ميشيل في عام 1992.

______
*القبس الكويتية

الأحد، 21 أغسطس 2016

أضواء على العولمة في الأدب.. البروفسورة شميم بلاك-*إعداد وترجمة: لطفية الدليمي

أضواء على العولمة في الأدب.. البروفسورة شميم بلاك

*إعداد وترجمة: لطفية الدليمي

” موسيقى البوب الأمريكية تنبعث من مكبّرات الصوت في شمال إفريقيا، والروايات الهندية صارت تقرأ على أرصفة الطرق الخلفية في مدينة نيويورك العملاقة، فهل صار النتاج الثقافي معولماً كما هي حال سلاسل مطاعم البيتزا والهمبرغر؟”.

بهذه العبارات الاستهلالية يفتتح موقع ( Yale Insights ) الحوار مع البروفسورة ( شميم بلاك Shameem Black ) التي تعمل حالياً أستاذة في الجامعة الوطنيّة الاسترالية ANU حيث قدمت إليها بعد خبرة تدريسية حقّقتها في تدريس مادة الأدب مابعد الكولونيالي Post-Colonial Literature في جامعة ييل الأمريكية المرموقة.
حصلت البروفسورة بلاك على شهادة الدكتوراه من جامعة ستانفورد الأمريكيّة وتتنوّع اهتماماتها البحثية والتدريسية في ميادين : العولمة والأخلاقيّات في الرواية المعاصرة، التنوّعات الثقافية في الأدب المعاصر، الأدب مابعد الكولونيالي في القرنين العشرين والحادي والعشرين، الأدب واليوغا، العدالة والمصالحة الانتقالية في المجتمعات التي خاضت حروباً أهلية، السرديّات الرقميّة وسرديات الأزمات الإنسانية.

نشرت البروفسورة بلاك كتابها المعنون ( الرواية عبر التخوم : تخيّل حيوات الآخرين في روايات نهاية القرن العشرين Fiction Across Borders: Imagining the Lives of Others in Late Twentieth-Century Novels) عن جامعة كولومبيا عام 2010 وتحاول المؤلّفة في هذا الكتاب توكيد فكرة أن الروايات من مختلف بقاع كوكبنا الأرضي في نهايات القرن العشرين كانت تسعى لتصوير شخصيات إنسانية وجغرافيات متباينة اجتماعيّاً دون تنميط جاهز أو مثالية زائفة أو محاولة خلع صفات خارجية قسريّة عليها.

لطفية الدليمي
____________

أختام *-عادل كامل
















أختام *



 الختم الثالث

عادل كامل



[11] الختم: الزوال في امتداده/ أعالي الضجات: الصمت!

     بعد ان يقع الحدث، إن كان إطلاق سراح أو إلقاء قبض، فان النتيجة ستقود إلى أسبابها، على أنها النتيجة التي ستصبح سببا ً، لاستكمال حلقة في السلسلة. فما الذي ميزني، ليس ان أفكر، بل الانشغال لا بالبحث عن الأسباب، في جذرها، بل للحفاظ على الفجر بعيدا ً عن الذوبان في غبار النهار، وضجته، بل ما مغزاه كي اسلك هذا الدرب وليس غيره...؟
    في الثانية من عمري، عام 1949 أو في عام 1950 ،لا اعرف لماذا غادرت الغرفة، على عجل، كي يسقط سقفها بعد لحظة، وتنهار الغرفة! لا أتذكر ملامح وجه والدي، بل مازالت أمي تحدق في ّ بشرود تام. ماذا لو كنت قد اندثرت، ولم امضي عمري  أتعقب هذه الأسئلة كـ: هل يحق للمحدود ان يضع المطلق في القفص، ليحاكمه؟ هل كانت الأسباب الأولى في ذاتها، كي تأتي النتائج، كالعدم الممتد، مكملة لها؟ ما الذي حصدته، وأنا لم ازرع شيئا ً عدا هذا الذي واصل إقصائي من الحصاد!  هل كنت، لو مت، امتلك الدافع ذاته، بالحفر في نتائج الأسباب، وفي المقدمات وقد بلغت ذروتها؟
    لن اعزل وجودي عن أي وجود آخر، أو أميزه. فالذين لم يفكروا، كانوا احد أسباب ان توجد زمرة لا عمل لها إلا الاستئناف. فثمة عدالة ـ كهذا الذي سكن الزمن وكان علة له ولم يصر خاتمة ـ لا وجود لها لكنها شغلت المظلوم والظالم معا ً، فجوة بين العبد والسيد، شكلت الحدود والفجوات، لكن هل كنت استطيع استبعاد لماذا لم أمت، ولماذا، قبل لحظة انهيار السقف، غادرت الغرفة؟!
     في حادث مماثل، نجوت من الغرق، أي انتشلت من الماء في اللحظة الأخيرة. كهذا الحادث، بعد نصف قرن، سيقع لولدي سيف؛ لقد سمعت صوت ارتطام جسم ما بالأرض، وأنا كنت اكتب أو ارسم، فقفزت، مسرعا ً إلى الحديقة. لقد صعقه التيار الكهربائي، وهو يشتغل في مبردة الهواء، وسقط من الأعلى إلى الأرض. لم يمت. لأنني ـ بخبرة مكتسبة ـ كسرت لوحا ً خشبيا ً على جسده. آفاق، تحت شرود شقيقته التي قالت لي: لم يمت!
     مرة، قبل أربعين عاما ً، اختطفت من الشارع. وهكذا طلبوا مني ان أتخلى عن راسي. بشرود قلت: ليس لدي ّ رأس ما يستحق التخلي عنه، لا لكم ولا لأية جهة في هذا العالم. كان التهديد بالموت، يفوق الموت، فهو نتيجة أنني كنت لم اقدر ان اقبع بين الجدران!
     في الحرب، مرات لا تحصى، كانت بعض القذائف تسقط على بعد أمتار، وليس فوق راسي. وفي حادث آخر تم سحبنا من ارض المعركة، وإعادتنا إلى بيوتنا، فنجوت من الأسر، أو من الموت!
   إنها نهايات كونتها أسبابها، وأسبابا ً تممت بعضها البعض الآخر، بمعزل عني، مع أنها لم تكن لتحدث لو لم أكن موجودا ً. فالأخير، ليس حالة، أو وضعية، بل حلقة في سلسلة، فما الذي كان يعبر مكملا ً استحالة ان تكون له نهاية، عندما جعلني ـ ومنحني ـ ان أعيد الحفر في قبر لم ُيشغل بأحد، مع انه سيكون شاهدا ً على موتي.
    مع الشاعر فيصل جاسم، في نهاية عام 2006، في طريقنا إلى آفاق عربية ـ حيث عملنا ـ أوقفتنا مفرزة للشرطة، كانت المهمة معروفة لدينا: الذبح العشوائي، تحت غطاء الانتماء الطائفي. عندما كانوا يجرجرون فيصل إلى الصندوق الخلفي لسيارته، كنت اسأل نفسي: كم الزمن الذي تستغرقه الرصاصة كي تحولني إلى جثة، .! ثم كنت منشغلا ً برؤية جسدي فوق تل من النفايات، كان من الصعب حتى ان ادفن ـ كما يدفن الموتى في الظروف الاعتيادية ـ قبل ان تمزق جسدي أنياب كلاب الليل، وقطط النهار!
     ولكنني أدرك تماما ً أنني لست استثناء ً، فالملاين نجو من الغرق، ومن عشوائية الموت في الحرب، ومن عنف عصابات الرصد، والاغتيال بالسمن أو بالكاتم، أو بغيرهما، ملايين كانوا يعيدون ترتيب ربط النهايات بمقدماتها، لأجل ان تكون ـ أنت ـ سببا ً، لنهاية ما من النهايات، وكأن المشهد عبارة عن وثيقة دوّنتن كي تجري أحداثها بحكم أنها ماض ٍ، عدا الاستعادة.
    الختم ـ أو ذلك الذي يجاور ختما ً أو شبيها ً بالختم ـ يتضمن نهاية عملها صناعة المقدمات. فالميت يخرج من الحي، والحي يخرج من الميت. لكن: ما الموت..؟
    ها أنا المحه، كما لمحت ذلك الذي سكن الزمن، بغياب تام، بجعله حاضرا ً في المشهد.
    قبل نهاية القرن الماضي، بأسابيع، عزمت ان أضع حدا ً لحياتي، بدا ً بحضور أو تكّون خلايا الخلق حتى احتفالات أسياد العولمة بتدمير عالمنا من اجل عالمهم، وسرقة أحلامنا من اجل أحلامهم ـ لكن شيئا ً ما شبيه بنسمة فجر، أو ظل صوت، أو لمسات ومضات، أوقفت موتي!  كي اسمع ـ هل سمعت ؟ ـ أم كان راسي مزدحما ً بالأصوات ـ من يقول لي: لست أنت من يحدد ذلك! فدار بخاطري ـ في تلك اللحظات كما الآن ـ إننا نولد في الحزن، كما حكماء الصين، بل نولد في الخوف، ونعيش فيه، ولن يقتلنا إلا الخوف. كي أتساءل، كما تتساءل الأطياف في لحظات تحولها، اذا كانت ثمة قوى الأكوان غير المحكومة بحافة، تأمل ان انحني إليها، وأؤدي  لها الواجب، فلماذا لن تكون النتائج إلا مشروطة بظلم الإنسان للإنسان، حد اللهو، والانتشاء بمحوه حد العبادة؟!
     هل كان اختياري للأختام، شبيها ً بعمل آخرين لا عمل لهم إلا على دفن مصائر أحفادنا، من اجل مصائر أحفاد سكان قارات أخرى، محض نهاية ستنتهي إليها الأسباب، كي تكون نهايتها دورة في امتداد هذا الذي منحني الخوف، وتركني أراقبه، وأنا لا امتلك إلا ان انجذب إليه، كأجزاء أجزاء ذرة لا تمتلك إلا ان تؤدي دورها بنظام اتساع المديات بين الثقوب السود والبيض والمجرات والكوزرات وما لم اعرفه في هذا الضيق! الم ْ يقل منعم فرات: ما الحياة إلا سرداب خال ٍ من السلالم! وهو يرى ما أراه ـ كيف تندمج المقدمات بنهاياتها  ـ كيف تطبق الجدران على ما كنا نعّول عليه!
     يا لها من حرية ان أرى هذا كله، خال ٍ إلا من (حرية) رؤيتها، أو لمس رفيفها، أو تنفس ومضاتها السابقة على الضوء، والممتدة ابعد منه! وقد استحالت إلى مدى بين المديات، وليس بين الحافات!

    فجأة اقرأ لزميل ـ واحد من 999% ـ  يكتب بأنني طالما كتبت ـ مقدمات معارض أو حول تجارب الزملاء ـ بماعون من الفاصوليا! لن ابتسم، فانا لا امتلك قدرة ان افتح فمي، فانا غاطس في الإثم أنني عشت كي اسمع من يتهمني بأنني لم اطلب الأجور التي استحقها! ما الجحيم، ان لم يكن هذا الزميل ـ مع 999% من الآخرين ـ يحفرون بكل الوسائل مدافن للذين لم تحبل بهم العقيم من زوجها المخصي، بعد ..!
     لأنه وحده ـ مع 999% من الآخرين/ وقد وصفهم سارتر بالجحيم ـ يمتلكون إيديولوجية المحو، تحت لافتات البياض، ومقاومة الرداءة، فاترك أصابعي مقيدة باستكمال حريتها، عذرا ً، باستكمال عبورها من الخوف، كي تكون للحافات حافة تسمح لنا بالحفر في أبديتها، لحظة بين زوال لم يدشن بعد، وبين زوال سابق على حضوره، وحضورنا معه أيضا ً!
     هل حقا ً انها، أيها الجرجاني الموقرـ: " ان لفظا ً لا يدل على معنى هو كالضوضاء سواء بسواء" أم لأنك، لم تصغ، إلا لضوضاء خافتة، لامست رهافتك، كي تأتي وتصغي إلى ما بعد (الضوضاء) لا كخاتمة، ولا كمقدمات، بل كاستحالة ان تجد نظاما ً إلا وقد محانا جميعا ً: أصواتنا/ أحلامنا/ أجسادنا/ وأختامنا قبل ان نراه ينبثق للشهادة علينا، بأننا مُنحنا قليلا ً من الضوء كي لا نرى إلا اتساع مساحات أعالي الضجات: الصمت!
[12] الحاضر مرتدا ً ـ مجهولا ً
       كيف اقهر هذا الهاجس: ما أنجزه ليس حاضرا ً، وليس قابلا ً للبقاء، بل لا أراه إلا وقد عاد إلى (المجهول) الذي بزغ منه، ليتوارى، مع زمنه الوجيز: أما يهرب منه، وأما يختفي فيه؟ كيف اقهر، لا موتي، ولا موت تحول الختم إلى أثير، أو إلى جزيئات لا مرئية، بل عندما تبلغ الإرادة خاتمتها: الصفر! كل هذا ماض ٍ، والحلم، هو الآخر، كالغواية، لا يقول شيئا ً يعّول عليه...؟ فانا اعمل في زمن لا وجود له، وحضوره لم يعد مقترنا ً إلا بالذي ينبثق منه: المجهول. وها أنا ـ مع إرادتي ـ اجهل لغز هذه المقاومة. فاكف ـ لبرهة ـ عن العثور عن سياق، عدا الماضي ـ ذاته ـ  وقد غدا مضادا ً لماضيه. فانا لم يخطر ببالي ان استرجعه، أو احّن إليه، ولا هو فعل ذلك، إنما ثمة قوة ما لا زمنية تجعل الماضي طيفا ً لا يقيّد بالحركة، والأصوات، والمعاني: الطيف اللا بشري، لكنني لم اعد اجر مقارنة بين موتي ـ السابق ـ هذا الذي أنا عليه ـ وبين ما انسجه من حبال لا وجود لها إلا بما يتوارى فيها من أطياف، وومضات، وظلمات كفت ان تتركني خارج مساحتها، لأنني تحررت من الماضي، ومن المرور، وأكاد اعبر نحو الماضي ذاته، وهو يتكون بلغز أبديته، فأدرك أنني اصنع ماضيا ً، وليس جسورا ً، وليس لغوا ً، وأنني غير مشغول بالدفن، أو باستجداء العون، أو طلب المساندة، لأن الختم، ان كان بلا لغز، يكون بلا آخر، وعندما يكون بلا آخر، يكون بلا مفتاح. ها أنا في أعيد الاشتغال ـ بكامل إرادتي ـ بالقفل، تاركا ً موتي يؤدي عمله برهافة!
[13] الديمومة: الختم وضده
    فإذا كنت أميز بين ثلاثة أبعاد ـ الأول ينحدر نحو الماضي، والثاني يتتبع مسارات سابقه، والثالث: ماض مؤجل، وإذا كنت استطيع أن أضع الاسم بحذافيره لجدي/ ولوالدي/ ولولدي/ ولحفيدي، وإذا كنت استطيع أن أميز الصمت في الكلام، وان أعزل الكلمات عن أصواتها، وإذا كنت أميز بين جسد: أمي/ زوجتي/ ابنتي، وإذا كنت امتلك بقايا مقاومة لمعالجة ارتفاع درجة الحرارة، في يوم 14 تموز / 2011 ـ التي بلغت 49درجة  مئوي ـ ، وإذا كنت استطيع ان أرى المرآة تحدق في وجهي بالمقلوب، من اليسار إلى اليمين، وهي تنثر ومضات أجزاء وجهي في وجهي، وتعزله عني، عني أنا الذي طالما حاولت استبدال برمجتي بأخرى، أجد أنني لا امتلك إلا حث خطاي الخفية تتبع المسارات ذاتها، فمن يخبرني بان هذا كله ليس إلا ذبذبات مضطربة، وتصادمات لا علاقة لي إلا بحدود ما يتم تنفيذه، تجعلني لا أتمسك إلا بالوهم الذي سمح لي ان اشتغل للعثور على يقين غير الموت: غير ان اصنع هذه الظلال المائلة، المتوارية أبدا ً، والتي طالما صاغت أسلوبي، وهو لن يستطيع قط ان يذهب ابعد من حافته.
     أتساءل: كيف تمضي الومضات (وأنا أمضيت حياتي منشغلا ً بمراقبتها، من انعدام الأسباب إلى اندثارها/ إلى انبثاقها) ومن ذا يبعد عني الضرورة أو الجبر ليجعلني اصدق مرة واحدة ان الحرية ليست أكثر من علامات للمراوغة، وان الأولى وحدها ما هي إلا ترتيب في الرفض أو في القبول!
    ها أنا أرى كيف تجرجرني أختامي ـ وضمنا ً كلماتي ـ إليها، فأغيب. لكن لتبدأ المسيرة ذاتها التي لا أبعاد أخيرة لها، وهويتها غير قابلة ان تسكن في ختم!
[14] مفارقة:عندما تكون اللاحافات حافة

     هل تنعدم ـ أتساءل ـ المسافة بين من يغتصب ختمك ـ أي ماضيك وما هو سابق على هذا المضي/ وعلى مصيرك، وما هو مكمل له ـ وبين ديالكتيك الكون/ والطبيعة جزء منه ـ بصورة يتم الخلط فيها بين حتميات كبرى، وبين سلوك هو من صنع الاشتباك البشري..؟
بمعنى هل لا جدوى من الحديث عن ذلك اللغز الكامن في لغز (الختم): جمالياته وما يتضمن من تقانات متقدمة في الأسلوب..؟ ولا جدوى من مقاومة كل ما سيأخذ منك بعد ما كنت رايته بحكم العدم..؟
     الوعي يناور. فالوعي ذاته يتضمن انشطاراته ـ في خلايا الدماغ وصولا ً إلى أعماق النفس ـ تارة يقاوم اندثاره، وتارة لا يتقدم إلا ليضع أطيافه فيها. هذا الوعي العنيد بجعل الحياة برمتها تبدو (متحفا ً) كونته البصمات؛ من الجسد إلى الطيف، ومن النفس إلى الروح، يخفق للاندماج بوجود سابق على وجوده!
    إنها ليست مناورة لغوية، مع ان الكلمات لها قوة الموت التي تجرجر الضحية إلى حتفها، انما هي حال وجد الساكن سكنه خارجه. فانا أدرك تماما ً أنني لم اعش إلا كي اشهد كيف لم اعش إلا هذا الذي رايته غائبا ً. وهي ـ بالمناسبة ـ تجربة غير قابلة للتعميم. لأنها ـ كما لكل ورقة كيانها في الشجرة ـ تخص هذا الشديد الخصوصية: النائي، الذي لم يشهد إلا حفلا ً لم يدم إلا بومضات حضوره.
    مناورة تفرق بين من يسرق منك حروفك المدوّنة فوق هذه الورقة ـ الختم الكتابي ـ كما تفرق بين من يغتصب مصيرك، وما توهمت انك صنعته، وبين  ذلك الذي سكن الزمن ـ وسكن خارج مسافاتنا المحدودة. فالأخير لم يغتصب، لم ْ يلوث، لم ينبني علة العفن، أو الخسارات، بل هو أنت كما ظهر الوجود في لا حافات المرايا. الم ْ يتحدث نيتشه عن الوجه في المرآة، المبعثر، والغائب عبر حضور الوهم، إنما ليس لدي ّ مرآة (اجتماعية) و (بشرية) قائمة على مكر ان يمحو الإنسان الإنسان الآخر، لا يسرق أحلامه وأصابعه ورأسه ومصيره فحسب، بل يتمتع بإنزال عفنه فيه كي يحصل على أوسمة تقلب المصائر كافة. فعندما تؤول الأمور إلى لصوص يتحكمون بمعايير الجمال، والحقائق، تكون لا حافات مرايا الكون قيد الشك!
    فهل المسافة واحدة، وهل الجزء البشري المنحدر من مستنقعات العفونة، شبيه بالأصل الذي رايته في قلب الشمس! ليس هذا سؤالا ً للتندر، للأسف، بل مشهدا ً للتاريخ ـ من غير استثناء حد الفجيعة ـ لا يمكن التحقق من حضوره إلا وقد توارى بحكم الشمس، وليس بما صنعته في نظامها العنيد!


تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.