أختام*
عادل كامل
[2] النائي
عندما لم تعد هناك فئة (مثقفة) نادرة التخصص، وذات كيان يتمتع بحفريات نائية، منفصلة عن مجتمعها، وقد أصبحت منشغلة للبقاء على قيد الحياة، وقد أصبحت معنية، بالدرجة الأولى، أن لا تندثر، وتغيب، فان هذا الخط الفاصل ـ هذه الفجوة/ بله الفجوات والمسافات غير القابلة للردم إلا في حدود الاستثناء ـ ستزداد اتساعا ً نحو كائنات ستنفصل عن (النخبة) ذاتها، بوصفها قد ذهبت ابعد من: الولادة ـ الموت، ولكنها ليست ابعد من تمسكها بهذا الذي هو ابعد من الغايات/ الأهداف، إن كانت قد حددت، أو لم تحدد. إنها ليست إشكالية، بل ستوضح إن تفكيك (الإشكاليات) يتطلب هذا الحفر، أحيانا ً، خارج البرمجة.
لنأخذ مثال: اللغة. إنها وجدت ـ ككل أداة ـ ضمن عوامل يمكن الإشارة إلى عدد منها، مثلما سيكون الباقي مشروعا ً للامتداد. فهي لا تنغلق عند حدود، الوظيفة وجمالياتها، لكن (لغتنا) منذ دوّنت أقدم النصوص فيها، لم تتخل عن العوامل التي تسري في مجالات البرمجة كاملة، من الأثير إلى النص. فعندما يغفل المتابع، أو يغيب عنه، أن كل يوم، في لغة مثل الانكليزية، وفي سبعينيات القرن الماضي، تندثر20 كلمة، لتحل 20 جديدة، فان برنامج الحياة برمته يتعرض للتآكل، والتعفن، أي: ديمومة التصادم.
وقد برهنت الحياة ذاتها إنها لا تعمل بإمرة فيلسوف، أو طاغية، وحيد، وفي الوقت نفسه، ستعمل بديالكتيك: اللا ـ كل، إزاء الكل، ومن ثم: الانتقال إلى المجموعات، ومنها: النوع البشري.
فعندما نجد أن هناك من توقفت ديناميته عند: حدود، لا يمكن تجاوزها، فانه يكون قد وضع الديمومة في مأزق. والمفارقة وحدها تفصح عن أمثلة تذهب ضحيتها كائنات لا تحصى. وقد يكون الرد ـ بمعنى الدحض ـ هنا، هو المثال على إبقاء مقولات كالترتيب الهرمي، إزاء أي تحرر يتوخى الارتقاء بالنوع نحو هذا الذي لا خاتمة له.
فتلك الفئة التي دوّنت النصوص التي مازالت متداولة، في الحقول كافة، والرمزية منها تحديدا ً، ليست (متقدمة) إلا قياسا ً بما سبقها، لأنها، في الصيرورة، لن تغدو (مستقبلا ً)، بل عثرات.
والسؤال: إلى أين يتجه الإنسان، إن لم يذهب: أما إلى الفردوس، وأما إلى الجحيم، من ناحية، أو يرجع إلى العناصر التي تكّون منها، من ناحية ثانية، عندما يكون زمن (الوجود) محصوراً بينهما. وهذه عملية اختزال لكنها ليست بلا فائدة، في الأقل، لأنها التاريخ ممسرحا ً ـ ومرئيا ً، بتصادماته، كي يجري بعجلات المنقرضات.
فما الذي تريد تلك النخبة أن تلفت النظر إليه، غير (العدم)، مقارنة بما تسعى إليه الحياة برمتها؟ انه ليس هدفا ً يستعاد وتتم الإشارة إليه بمعزل عن مصيره: الاندثار....، أم هناك هذا السابق على (العناصر) والمندمج معها، والمتقدم على ـ حضورها/ وغيابها؟
لكن هذه الإشارة لن تثمر جدلها ـ بوصفها جدلية وهي تذهب ابعد منه ـ إلا بوصفها تتمسك بالعقلانية، منهجا ً، نحو هذا: اللا ـ شكل، في آليات عمله، أو في غائيته. فالمنجز ـ علما ً أو فنا ً ـ أو صهرا ً لهما ـ يحافظ على تنبؤاته في مواجهة أشكال الثابت، والأبدي.
فهل الكتابة حقبة لها زمنها التاريخي، أم إنها تؤدي دور الجسور نحو (غائية)، بلا غاية، للحفاظ على (الدينامية) أم أن إرادة (الحياة) ما هي إلا احد أشكال المحركات النائية، وخارج حدود الوعي ـ واللغة؟
هنا تبلغ المغامرة ذروتها: التقدم في المجهول. وهي مغامرة لن تترك (الحياة) بلا غاية، من ناحية، وتدفع بها نحو (مجهولها) من ناحية ثانية.
بدءا ً، ليس التطور وهما ً، بل جزءا ً من العنصر غير المسمى، المشترك، مع ما لا يحصى من العناصر، في ديمومة هذا الذي لن يترك أثرا ً له، عدا ـ في لحظة المراقبة ـ ومضاته وكأنها مستمدة من التاريخ، وليس من تلك التي سكنت الذات الحية، ونخبها، على مر الزمن. فالتاريخي يغدو أبديا ً، ولكنه، وبالتاريخ، يغدو منطقه، على أن توظيف (المجهول) إلى مشخص أو إلى تأويلات رمزية، سيعزز النظام الهرمي، ولا يعدله، مما يجعل: الولادة، في هذه الحالات، وكأنها وحدها تعمل بمعزل عن موتها ـ وفنائها.
إنها شبيهة بالأنظمة التي درست، منذ الاقتصاد البري، في الزراعة، ومن ثم إلى التفكير المجرد، حيث الأشكال وحدها تحذف، لتجد أشكالا ً توازي تطور (الذكاء/ الأدوات/ الخبرة)، إنما المعركة ذاتها ـ منذ تشكل خلايا الحياة الأولى ـ لم تحتفل بنصرها، مثلما لم تهن لهزائمها. فهل باستطاعة الفن أن يقول ـ أو أن يخفي ـ شيئا ً غير: دورات الولادة ـ الموت، وهي دورة التحولات، أم أن هناك، شيئا ً ما من (اللا ـ شكل) والذي هو (اللا زمن) لديه ما لم يعلن عنه، ليس استحال، بل بوصفه برنامجا ً، إن تمت معرفته، فانه لن يقارن إلا بما أخبرتنا الحواس ـ والحدوس به، ويكون قد تشّكل كما الحاضر ـ غائبا ً، وكالميت الذي يفند (الموت) بغياب اكتسب لغز حضوره؟
[3] اللا ـ شخصي
بعبارة لا ينطقها أحمق، كما في خاتمة مسرحية غاليلو لبرشت، فان الأرض: تدور، حتى لو نطقها من غير صوت، أو بكتمانه. ولو كان قد رفع صوته، غاليلو، وليس برشت، فان الشخصي لا يعنيني كثيرا ً. ذلك لأن لذّة المعاقبة التي لها ليست مرضية، ولهذا فهي لذّة ليست خالصة، مع إنها لا تخفي انتصار كوبرنيكس، بالذهاب ابعد من دوران الأرض حول الشمس.
ثمة لذّات شخصية استثنائية، كالإدمان بمختلف أنواعه، كالإدمان على الفساد، أو تناول الكحول، أو إشباع الرغبات الأكثر سادية من القتل، وأخرى، كتنفس الهواء الأنقى، أو تناول الطعام بشراهة، يمارسها حشد بلا عدد، لكن لذّة أن يقول سقراط، في واحدة من ومضاته، إن المحادثة إلى رجل يفهم، لا تختلف كثيرا ً عن التحدث إلى رجل صفر. فالأول يفهم، والآخر لا يفهم، وهكذا يغدو الكلام بلا لذّة.
والأمثلة، مع زيادة السكان ـ من ادم الذي ينتسب إلى الواحد الأحد، إلى سبعة مليارات مخلوق يبحثون عن الخلاص ـ ليست نادرة، ذلك لأن الحقيقة ستبقى قائمة، بمعزل عنا! فأين هو فن تلك الومضة، وهي تنتقل من حد إلى حد آخر، ومن زمن إلى زمن ابعد، أم كما دوّن أفلاطون، بحكمة بلغت ذروتها: إن الأعمى الذي يسير من الليل إلى النهار، خير من الأعمى الذي يتجه من النهار إلى الظلمات!
الإنسان أعمى! تلك هي كلمة والدي، استخلصها، بتأثيرات المعري، وشوبنهاور، واليوت، فلم اعترض، ولكني كنت أتساءل: هل الحقيقة عمياء؟ قال: لا! ولأنني كنت منشغلا ً بما تصنعه الألوان في مصيري، لم يشرد ذهني إلى منطق اللغة كي أراقب الزمن، كعبارة برخت: إن الحقيقة بنت الزمن، وليست بنت الأشخاص..؟ لكنني، بإحساس لا علاقة له بالتقدم، أو بلفت النظر، أو استبعاد الهزيمة، كنت أدركت في وقت مبكر جدا ً ـ أن هناك كائنات ارتقت بتجاربها نحو هذا الذي لا يقبل الانغلاق، ليغدو لذّة نادرة. إن (نرسس) لم يكتشف كم هو جميل، فهذا لا يعنيني كثيرا ً، لكن (المرآة) كانت مرحلة متقدمة في مصير النوع: إن الحقيقة تعدلنا، مع إنها، إزاء المطلق، لا تترك شيئا ً للتقدم ـ أي حتى لقول كلمات لا تعني أكثر من كونها كلمات! وها أنا ـ من غير شعور، ولكن بوعي تلقائي ـ أقع في الفخ: إن الفنون اللا شخصية ـ من الهرم والزقورات إلى ناطحات السحاب ـ ترغمنا أن نحدق في الطريدة التي لا وجود لها، إنما علينا أن لا نتركها تتوارى أو تغيب.
فهل الحقيقة مبصرة، مثل العلاقة بين ما لا يحصى من العناصر في بناء منظومة الحياة/ المجتمع/ وزواله، كي يمتد حتى بحدود قرون، أو آلاف السنين، لتخبرنا، إنها عبرت، مثل ذرات بحجم مجرات، أدت عملها، في معبدها، أو في مختبرها الكوني، أو في لا مكانها، بوجودنا أو من غير هذا الوجود، على حد سواء؟
سيقال أن موت المؤلف/ الفنان/ وانتفاء الذاتي، ترجع إلى (هيغل)، عندما لا حظ أن الموسيقا لا تعزف إلا من اجل الرب، بل للحصول على ثمن. ماركس، لم يعدل هيغل، بل توغل في تفكيك العلاقة، بين المثالي والضرورة، ولم يصدم (كانسان)، كما صدم بوجود آليات بشرية، تسمح للرأسمالي/ الصياد/ الجلاد، أن لا يبالي بضحاياه. فالنمل البشري، إزاء المركز، منظومة عمل قائمة على التدمير. لأن المركز، في الأخير، سيجد نفسه مدمرا ً. فثمة مركز آخر، كنجم كبير، بمروره، يلتهم الكواكب والكويكبات، من غير مشاعر زائدة، أو زائفة، لأن آلية العمل تصبح شبيهة بعمل اللغة التي لا تصدر أصواتا ً.
لا شخصي...، تماما ً، هي الأبنية التي سمحت الفنان( سيزان) أن يخبرنا بها، لكن هل ثمة لذّة صفر، أو مشذبة، أو جمالية، أو عقلية، كالتي سمحت لـ (نيوتن) أن يكتشف قوانين الجاذبية...، وسمحت لدارون، مع سبنسر، أن يعزلا الحقائق عن التصوّرات، ويرتقيا ـ بالتفكير ـ نحو الحقيقة؟
ها هي الحقيقة، تقودني إلى ديناميتها، وليس إلى موتها. ففي الفن، لذّة تتحقق فيها، إن كانت الحياة فيها بعضا ً من الشعر أو ما لا يحصى منه. فالفن يعرف كيف يجتاز عثراته، وعقباته، مثلما بالإمكان تخيل فيل يمشي تحت المطر وكأنه وحده اكتشف ذلك الممر الذي ينقذه من البلل. ولدي المهووسين بكرة القدم، كعشاق (مسي) أو (رونالدو)، إنهما يمتازان بمهارة ذلك الفيل، فـ (مسي) يخفي الكرة ولكنه يمضي بها من خلال أرجل المدافعين حتى ابعد من المرمى!
فمن غاليلو إلى سيزان، ومن دارون إلى مسي، ومن نيوتن إلى ماركس...الخ، يعبر ذلك العنصر اللا مرئي للبرهنة بان الابتكار ـ وهو معنى الحياة بعيدا ً عن نظامها الهرمي ـ يؤدي دور مرور الأطياف حتى لو كانت منظومات المراقبة (المركزية) قادرة على الاعتراض، مع إنها، ستستثمر مصائرهم لصالحها، وتحتفظ بما اكتنزت، إنما الحقيقة، والحقيقة بحسب المختبرات، تذهب ابعد من ذلك.
هل قلت إن اللا شخصي، ليس ما هو ما قصدته الألسنية/ البنيوية، منذ بواكير علم الانثروبولوجيا، وصولا ً إلى التفكيك، وإنني لم اقصد ـ أيضا ً ـ الحديث عن نظام يعمل بمعزل عن العاملين فيه، مع انه، لا علاقة له بموت الفن أو موت الإنسان؟ إلا إنني حاولت لفت النظر، ضمنا ً، للقبول بالقهر، من قبل (النمل) البشري، والعمل ضد الحقيقة: ضد الفن ـ ضد الإنسانية التي قرأت لحكماء سومر، ولسقراط، أو لتولستوي، وللآخرين أصحاب النزعات المرهفة، مثلا ً، لأنها ناصعة، كالنجوم التي أثارت دهشة (كانت)، لكن ليس من اجل لذّة خالصة قائمة على (الشيء في ذاته)، لأنها في الأصل عبرت مخيال قهري ـ بل أداء ً شبيها ً بعمل الدماغ ـ وما كان عاملا ً لهذا الوعي في رصد مرور هذا الذي ستكون (علامته) غائبة، بحضورها المحصور بين مجهولين، وليس بين غائبين. فالأشياء التي تفنى، مقارنة باللا ـ شكل، تعمل بمعزل عن هذا الزوال ـ الفناء. فالعقل سيتتبع مساره عبر علاماته في الزوال، فيما الفناء، يلحق، رمزيا ً في الأقل، باللا كل.
فهل (الهرم) علامة اكتنزت بلغز ديمومة مكوناتها، أم للنظام الهرمي ـ من الرأس إلى الرمل ـ لغزه كي يبلغ تاريخنا ذروته...، أي نهاية الدورة، كي تعمل الحقيقة ـ بعيدا ً عنا أو بنوع يماثلنا أيضا ً؟
إن الإجابات، في الغالب، تترتب بقيود لغتها، وليس بما يتمتع به الدماغ من مديات ابعد، لأن الأخير، بحسب العلماء، ليس مجموعة أجزاء، لكنه ليس (كلا ً)، بل مركبا ً تضمن، عبر الزمن، تلك الأطياف التي سمحت لغاليلو أن لا يقول بصوت مسموع، بل أن يتمتم مع نفسه: تعيس هو البلد الذي يحتاج إلى أبطال!. فهو لم يخترع، ولم يكتشف، شيئا ً شخصيا ً، بل تتبع الظل وهو مأخوذ بلذّات لا شخصية: لذات لا علاقة لها بالحروف، والصوّر، والرموز، والحدوس. ليس لأنها تعمل بمعزل عن المراقبة، بل لأنها، كما هو المنطق الجدلي وهو يتوغل في تفكيك الجدل، في تفكيك ذاته، لا يتباهى بالنصر: أي بمحو الآخر. فالفردوس، طوال الحقب المظلمة، لا يسكنه إلا أقل الناس رهافة، لأن انتصاراتهم برمتها شيّدت على إقامة نيران مستعرة للآخرين. ويا لهو من خلاص...، مثل هذا (المثلث) في مقدمة السهم، أو في الرؤوس النووية، بشارة لأعياد لا وجود لها، عندما تستحيل المراكز إلى أثير.!
[4] استبصار
على إن تحديد جوهر الوجود، لن يفضي بأكثر من إنسان يحدق في: كل ما يقع خارج وعيه. على أن الوعي ليس حاسوبا ً متقدما ً، ومنفصلا ً عن معنى (ما) في هذه العلاقة ـ المعادلة. فانا لا اخترع هذا الذي غدا خارج أدواتي في المراقبة ـ والحكم، الأمر الذي لا يسمح لي بأكثر مما ذهب إليه حكماء ـ العقلاء والمجانين ـ بتلخيص رأس مالهم حول (الحياة) بوصفها ليست فائضة ـ أو خالية من المعنى، أو: إرادة عمياء. حكماء تركوا الفجوات تسكن حكمتهم، وتسكن اللا محدود، لإعادة التحكم بمصائرنا، من غير النظام (التراتبي) الذي كان (الهرم) نموذجه على مر الزمن.
ما الذي يشغل رأس فنان يستطيع، مثل شجرة، أن لا يصدع رأسه بما هو أعظم من الصدمات: الحماقات البشرية، التي لا يمتلك ـ لا الفنان ولا تمتلك الشجرة ـ في نهاية المطاف، إلا الدفاع عن كينونة ـ وجود مهدد بالمحو ـ أو، في الأقل: بالاستلاب؟
ففي التعرف على ما هو خارج المعرفة، وحدودها، وعمل أدواتها، يستعيد الكائن ـ الذي توهم حريته في عالم محكم، قليلا ً من أندر الومضات التي لا تضعه فوق البشر ـ بوصفه استثناء ً، بل علامة صاغتها التحولات، وقد راح يجد خطاه فيها الدرب الذي لا يجعل نظره (تقدميا ً) ويده باحثة عن طريدة، لا يجعل صمته حرا ً وكلامه مغامرة، لا يجعل أحلامه ملاذا ً، وأفعاله سلسلة من المناورات...، فهو لا يسعى لمغادرة أوهامه ـ وأخطاؤه، كي يجاور عالما ً لم يترك أملا ً إلا بالعثور على كل ما يدفعه أما إلى السكينة، وأما إلى: اللامبالاة!
هذا الكائن، كلما ازدادت عزلته، ازداد استبصارا ً بكل ما لا يلمحه البصر، أو يتتبع علل العقل. فهو سيعيش من غير أمل، ولكن من غير قنوط، فهو لا يعمل كما يعمل (النمل) أو تعمل الأشجار، أو (الأشياء)، واقصد من غير أمل، أي من غير وهم، مهما كان متقدما ً، ويتمتع بقليل أو بكثير من اليقين، فالأمل، ليس السراب، وليس هو استبدال (المنفى بمنفى أكثر اتساعا ً)، وليس هو الارتداد، وترك الكسيح يصبح قدوة ـ كما في النص السومري عند معالجة معضلة العدالة الإلهية ـ وقد دوّنت قبل ظهور إبراهيم بألفي عام ـ ولكن لأن السبعة مليارات (كائن/فرد/ رقم/ شفرة/ كلمة/ حرف ..الخ) تؤدي دورا ً شبيها ً بمعركة يكون النصر فيها وهما ً بنيويا ً، فان هذا الأمل، لديه، كمن يعمل عمل المستغفر للمستغفرين، كما كانت رابعة العدوية تفعل، أو كقولنا للباحثين عن خلاصهم عن قصر في الفردوس، وعن غلمان، أو عن حواري، أن لا يسرفوا في الأحادية، والتحكم بالمصائر بوصفها غنائم حرب، فالأمل ليس أن اعثر على ديمومة لا تكون جزءا ً من وجود لا يتوقف عند(حد) أو ينتهي بخاتمة.
وبمعنى ما مماثل: كيف يتأتى لنا أن نمسك بأمل إزاء وجود لا يبوح بأكثر من ومضات: ذرات أو لا مرئيات تعمل بما يدحض أي حكم، بعد أن كانت مسيرة الأنواع قائمة على إحراز نصر لا وجود له في النهاية، إلا بحدود تحولات العفن إلى عطر، والعطر إلى عفن، لأسباب لا علاقة لها إلا بحدود (الوهم) الذي غدا (أملا ً) لديمومة تصادمات لن تترك لنا إلا احتمالات تقسيم البشر، بحسب تاريخهم، إلى: قاتل ـ وضحية، كي يستعيد الأخير، دور الأول، عبر البرنامج ذاته، ومن غير تعديلات تذكر!
فماذا يريد الفن أن يؤديه، إذا استبعدنا التشخيص، التعبير، الرمز، واحتمالات التأويل، وما يبدو راسخا ً، أو منزلا ً، أو خاليا ً من الغبار...؟
[5]
في الغالب لا اشعر بالندم، ولا بالإثم، لأنني لا امتلك إجابة أخيرة ما إذا كان الفراغ، أو العادة، أو الحوار مع النفس، سببا ً ابرر به انشغالاتي بالفن. ولا استبعد أن لفت النظر، حتى وأنا أتوارى بعيدا ً عن الآخرين، له تأويله.
ففي عالم السلع ـ البضائع، ينوع الصانع إنتاجه، بعلامة ما، للترويج، إنها منافسة للديمومة، إن كانت على مستوى الغرائز، أو على صعيد الاستحداث.
ومادمت اجهل تماما ً لماذا (الديمومة) لديها ما لا يرد، كي تكون موازية للقدر، والحتميات، فانا اجهل لماذا ـ بعد تذوق مرارات الإخفاق في الحسم ـ علي ّ أن أرى ما لا يحتمل، من رداءة ونذالة، من قسوة وعدم حياء في ديمومة المطالبة: بالتغيير، الإصلاح، والثورات؟
فلا الفن، ولا الطب، ولا المواعظ باستطاعتها أن تذهب ابعد من حدود عملها: فالمريض سيلقى حتفه، في نهاية المطاف، لأن برمجة (الديمومة) قائمة على كل ما لا علاقة له بحرية الاختيار، فالأدوات مقيدة بوظائفها، مثل السلع: الاستهلاك.
ولا أكثر إثارة للقهر أن تنتهي الحكمة باعتراف: هذا هو الواقع! لأن الأحلام ـ بمشفراتها ـ تعمل في هذه الحدود.
وهكذا دأبت، في كل صباح، قبل الشروع بالكتابة، أو الانشغال بالفن، أو أن أعيد قراءة كتب، تبعدني قليلا ً عن حافات القفز وراء الجنون: العقل، لأن الأخير، كما تؤكد البراهين، ذروة آليات عمل المفتاح في القفل. فانا إذا ً في حال المتورط. فانا أصبحت ورطة نفسي! فالجنون، كالعقل، كلاهما شبيهان بشرود المتيم، لا ينظر إلا للذي يرغب في النظر إليه.
وللدقة، أنا لست أسير قيود المكان الذي ولدت فيه، وزمنه، ولكنني ـ حياء ً ودقة ـ لا اذهب ابعد منهما. فقد تكون الإجابات، في كوكب آخر، ككوكب أنطوان اكزوبري في الأمير الصغير، خالية من الأسئلة. إنما أنا أرى عرضا ً مسرحيا ً شبيها ً بنظرية المؤامرة، مهما استبدل العرض، فانا لن أغادر نسق استحالة دحضه، أو حتى تعديله. فالدماغ يعمل بالغاز شبيهة بعمل شجرة تقاوم البرد أو أي عدوان، وشبيهة بالحرباء تستبدل لونها تكيفا ً بزمن قياسي، ومثل من يجهد كيف يكون بصره تقدميا ً ويده تصفق للرداءة، قلبه ينحاز للطهر وفمه ينشد للموبقات، أو مثل قديسة وحدها تدرك إنها غير مسؤولة عن عفن العالم..!
ثمة قيود لن نغادرها إلا بالتوحد معها، حتى بعد الموت، فإنها ستمتد، كإرث، للذين سيولدون بعدنا. فإذا كنت لا استطيع استبعاد رائحة تفسخ جسدي، أو حتى رائحة رمادي لو اخترت النار بديلا ً عن الدفن تحت التراب، فما معنى الحديث عن عطور أزهار البرية، أو ورود بساتين بغداد...؟
ويا له من اكتشاف، شبيه بالجاذبية، أو من اكتشف إن سرعة الضوء لا تقربه من معرفة لغز: اللا ـ كل، واعني بأننا أسرى النسبية. فاينشتاين الذي لم يستطع أن يفهم شيئا ً من الصفحات الأولى التي قراءها من رواية القصر، وقال إنها بحاجة إلى دماغ يوازيها، فانا اجهل تماما ً فك مسيرة تاريخ لو لم أكن مكبلا ً به لكنت غادرته، فأرحت الآخرين ونفسي أولا ً منه ...
فهل نطق كافكا بلسان الرب أم عمل على استبعاد بديهة المشهد ذاته الذي عاشه سيزيف وصولا ً إلى بشاعات العولمة، وعالمنا المعاصر، وما تؤديه الأسلحة المحرمة من تسليات موجعة لضحاياها، ماذا قال كافكا أكثر من رصد الإجابات على أسئلة غائبة، لكن اختيار الموت، لم يعد ممكنا ً، وفي حالات نادرة، كالأمير الايطالي الذي اضرب عن الطعام احتجاجا ً على الموجودات وعلى الوجود، ورحل بهدوء، أو كغرق فرجينا وولف، فانا لعلماء النفس شطارتهم في العثور على أعراض للإدانة!
إنها برمجة تحتم على المبرمج، مهما تحرر من آليات عملها، أن يجد نفسه قد أتقنها، وأدى دور من يقف في أعلى الهرم: الصياد، أو الأمير، أو مدير الشركة، الأكثر مكرا ً ودهاء ً وجورا ً وقوة وفتنة وثراء ً وبرمجة يجادل بها للإبقاء على القاعدة شرطا ً للحفاظ على وجوده في الذروة: فوق الصليب أو الموت كمدا ً أو التمتع بعقارات كالمورفين أو الشعر أو الفن أو المشعوذات أو مرتلا ً في حضرة الرب، والكل يعرف، إن (الرب) يقع بعيدا ً عن ذرى التصوّرات، والكلمات. فالصياد وحده لا يفرط بلذّة إنزال اشد درجات الألم، والذل، بالآخر الذي لن تنتهي أسطورته بموته، بل سيأخذ بثأره عبر برمجة تمتد إلى ما لا نهاية، أو عند حدود برمجتها.
فهل ـ في الفن ـ استطيع أن أجد سلوى غير تجاهل هذا العرض المروّع للقانون السابق على كلمات مالتوس: حرب الجميع ضد الجميع، حيث العناصر، في تشكلها، لا تكف عن دورها في إثبات أن: النهار يكمن في الليل، مثلما العتمة قد وجدت سكنها في أشعة الشمس!
قوانين....، لا تجد إجابة إلا ورأسك بين يدي ّ جلاد أما أن يرسلك إلى جهنم، أو لا يمتلك أن يرسلك إلى أي مكان آخر...! ففمك إن نطق أغلق، وإن لم ينطق فلا معنى لوجوده...، فأية برمجة عنيدة هذه التي حولت حياتنا إلى مسرحية تجري في القاع، لكن بمرأى من يمرحون تحت الضوء...! قوانين تدفع بالمفارقة للحفاظ على (المثلث): رأس... وقاعدة لا إرادة لديها إلا التنفيذ، والطاعة. وأيا ً كان الرأس، فالمنفى يحتم شكل منفييه، مثلما المنفيين، في محاولات الخلاص، يعززون دور المركز: المنفى. وكأنها لعبة إن لم تلعبها أرغمت أن تطرد منها، أو تلعبها بحرية وحدها لا إرادة لديك إلا على أخيارها. إنها كحرية الطريدة، أينما ولت، فالمخالب غرست في أقاصي لا مرئيات جيناتها! فهل استطيع، بهدوء، أن اغوي أصابعي/ بصري/ دماغي، بالتحايل على نهاية وضعت، قبل أن يكون هناك نهار، وقبل أن تكون هناك دابات تدب بهذا الدبيب الذي غدا مشهدا ً مألوفا ً، بأدواته، وبتقنياته، مادمت أدرك إن موتي مدوّن في سلسلة تحولات العناصر، قبل أن يكون ثمة دماغ ـ وحواس، أم إن هذا كله نتيجة حتمية لوجود المقدمات، ونهايتها، وهي جديرة بالملاحظة؟
•
تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.