متابعات نقدية
جاسم عاصي واقع يتقدم على الخيال
مؤيد داود البصام
الكتابة النقدية تحليل وتفسير ونتائج ، تتطلب تضحية ذاتية للحديث عن الذات الأخرى وإبرازها بغض النظر مع أو ضد ، ولكن بمشاعر ومعرفة إنسانية تحافظ على موضوعيتها وحيادها ، وهي إشكالية ليست بذات البساطة ، لمن يدرك مسؤوليتها، لأنها تخضع لنسبية العوامل النفسية والاجتماعية والفكرية التي يتمتع بها الفرد ، وكما يوجزها القرآن الكريم ، حول العدالة في ميل النفس بتعدد الزوجات {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُم} [سورة النساء : 129] ترخيص بالإباحة ، ولكن إدراك الخالق للمخلوق . يرسم النتيجة بصعوبة كبح العواطف ، والميل وارد ، فهي قضية تتبع طبيعة وفسلجة الإنسان ومدى قدرته على هضم وامتصاص البنى الحضارية ، ليكون ممثلاً للفكر الحضاري بصورة عملية ، وهو ما يعطي مكانة للناقد ، بأنه خلاصة التطورات الحضارية وقدوة ألهامها بما يحمله من إمكانيات إبداعية في التصور والتحليل والتفسير والاستنتاج .
من هنا تأتي صعوبة نقد الناقد ، لأنك يجب أن تحمل قدرتين استبصاريتين لتتمكن من التوغل في حيثيات الاستبطان الذي قاده لرؤية ما لم ير الآخر في الأعمال الإبداعية ، لتنتقد عمله الذي يمثل خلاصة رؤية الرآئي ، وفي التاريخ العربي مثلنا (النابغة الذبياني) بعد أن كلّ منه النقد ، إبدع ونبغ ، وخصوصاً إذا كتب الناقد في نفس مجال الجنس الإبداعي الذي يكتب فيه .
الناقد جاسم عاصي كتب القصة والأقصوصة ومارس النقد بمحايثة متواصلة زمانياً ، وقد عرف قاصاً في أواخر ستينيات القرن الماضي ثم بدأ الكتابة النقدية، ولم ينقطع عن كتابة الأقصوصة على الرغم من ممارسته الكثيفة للنقد حتى عد ناقداً أكثر منه قاصاً.
صدرت له مجموعة أقاصيص عن دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 2006 وهو آخر ما أنتجه باسم ( آخر الرؤيا) أهداها إلى صديقه البدوي (نمر) وسمى المجموعة باسم الأقصوصة (آخر الرؤيا) ومن العنوان والمضمون على الرغم من أنها أقدم أقصوصة في المجموعة إلا إنها تحمل بين ثناياها الروح الرومانسية في العلاقات والنظرة الفلسفية للحياة ، وهو على ما اعتقد ما جعله يختار عنوان المجموعة.
ضمت المجموعة خمسة عشر أقصوصة كتبت ما بين عام 1994- 1996 إلا ثلاث منها ، وهي آخر الرؤيا 1967 والردهات 1987 ومساقط الضوء 1990 اختلفت أزمانهن عن أزمان الأقاصيص الباقية .
جميع الأقاصيص كتبت بضمير (المتكلم) يتحدث فيها عن الإنسان بشكل عام، بمختلف طبقاته وتشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ويخص الإنسان المثقف بمعاناته وهمومه في سبع أقاصيص (المرآة . الإبداع . المقبرة . المدفن الصحراوي . ما حدث في المدينة . جدار المدينة . نداءات) ولا تخلُ البقية من الصبغة الفكرية لمعاناة بطله المتعدد في أقاصيصه الثمانية الأخرى ، ويمكننا أن نتصور أنه يتحدث عن المجتمع بمختلف حالاته الإنسانية من وجهة نظر المثقف. أي أنه لا يتحول ، أو يخلق شخصية يستدرجها من داخل المجتمع ، بل تتكون شخصياته من مختلف شرائح المجتمع ولكنهم جميعاً يخضعون إلى نفس القانون ، وهو متاعبهم مع ما يحملونه في أدمغتهم من معرفة ( تقلبات المزاج التي تعكسها عندي حدة التفكير والانشغال بما يمليه على ذهني الذي يعمل كالجهاز الدقيق) (ص5 . المرآة) .
إن جميع أقاصيص المجموعة هي هموم إنسانية ، أن ارتفعت وتيرتها أو انخفضت ، لكنها تؤشر على حالة المجتمع عبر زمن محدد ، إذا استثنينا الأقصوصتين (الردهات ، آخر الرؤيا) كلهن يخضعن لزمن الحصار الاقتصادي الذي عصر المجتمع العراقي ودق عظامه ، والذي جاء بعد حربين مدمرتين ، استنزفت قوى الشعب اقتصادياً وفكرياً ووضعت بنى جديدة في العلاقات الاجتماعية. وكما يقول الناقد الروسي ايخنيباوم ( تستمد من الحكايات والنوادر والأساطير) ، وهو المنهج الذي أتبعه القاص في تنوع الحوادث وتنوع الشخوص، على الرغم من السمة الواحدة التي تجمع أبطال أقاصيصه ، إلا إنها تمثل جملة حوادث من وقائع الحياة اليومية لفترة زمنية شكلت أقسى الآلام والعذابات للمجتمع وما زالت بعد أن استثمرتها القوى الطامعة في العراق، لتصل إلى حالة الاحتلال والتدمير .
والملاحظة المهمة هي وحدة الأسلوب التي أتسمت بها المجموعة حتى التي كتبت في عام 1967 وهو ما يثير التساؤل والاستغراب ، تصوراته الإنسانية ونسق جملة ورؤاه التخيلية لا تبتعد كثيراً عن أسلوبه الذي كتب به القصص الثلاث ذوات الأزمنة المتقدمة ، فهي متوحدة مع أسلوبه وأنساقه الكتابية لأقاصيصه في التسعينيات من القرن الماضي ، حتى في افتتاحية الأقصوصة ، الجملة الخبرية التي تختصر الكم من المعلومات، وهي العادة التي درج عليها في جميع أقاصيصه تقريباً، فجملة الافتتاحية جمل خبرية تبلغ المعلومات بطريقة (مباشرة ، لتقحم المتلقي وسط الحكاية ، ضمن تساؤل ينبع من داخله ( لم استطع اليوم إنجاز أي شيء) ص5 ( يوم طلبت لخدمة الاحتياط في الجيش) ص14 (حاولت مراراً أن أواصل المتابعة والقراءة ) ص40 ... الخ .
قصة (المرآة) تروي قصة إنسان تشغله هموم القراءة وعالم الكتب ليتأخر عن زيارة والدته في المستشفى ، لكنه عندما يذهب بعد الاتصال التلفوني بالمستشفى تكون قد ماتت، ولكن مشاعر الألم والفقدان كلها تختفي أمام موته مع موت الأرث والتقاليد والعادات وروح الفطرة، وهو ما يتكرر لدينا في أقصوصة (الإبداع) بنائية الاستلاب، عندما يودع عقله لدى الآخر لاستثماره حتى يتمكن من سد حاجته المعاشية ويرفه عن عائلته، لكنه يسقط أسير الجشع والاستلاب ، وهكذا نجد الأقاصيص تأخذ نفس المنحى في التعبير عن الحالات الإنسانية المسلوبة بفعل العامل الخارجي ، والقهر الذي وقع على الفرد والمجتمع ، أن كان في الحياة العامة جراء الحصار أو جراء الحروب التي شنت بعد الحربين وقبل الحرب الأخيرة كما في أقصوصة (المدفن) الجميع في الزمان والمكان إلا الابن العائد بإجازة من وحدته ، وعندما تحاول العائلة الهرب من المكان إلى آخر أكثر أمنً من القصف والدمار الذي تحدثه الطائرات الأمريكية ، يصاب الابن العائد في بطنه ، تجعله ينزف دمه ، فيكون الرحيد الذي يبقى من بينهم مدفوناً في حديقة الدار ويغادر بديلاً عنه الآخرين .
يشتغل جاسم على التضادات في حركة الدراما لأقاصيصه ، ويترك المفاجئة بتحول مسار المتن الحكائي من خلال البنية الحكائية، بإيجاد فجوة غير متوقعة يختلط فيها الواقع والتخييل وذلك باحداث الصدمة لكشف الحقيقة ( إذ نسيت أني أمام جثة ، بل كأني اصدق في مرآة صقيلة تعكس وجهي) (ص15 . المرآة) . (تركني هكذا ، وحيداً لا أستطيع التفكير) ( الإبداع . ص26) . ( واقتادنا معاً عبر الممر المحفوف بالأشجار) (الردهات . ص90)
إن بطله مستلب يندفع إلى مصيره بقدرية غريبة على الرغم من أنه لا ينفك عن التفكير والتأمل ، وكأن هذه الإمكانية المعرفية هي اللعنة ، في كل مسارات أقاصيص جاسم عاصي يتخذ نهاياتها المسار الذي يعاكس الرغبة، ففي أقصوصة (الإبداع) بعد أن يرهن عقله وبمحض أرادته يكتشف الورطة من خلال الآخرين ، عندما يخالف الاتفاق ويعود للتفكير ، وهكذا نجد الحالة في أقصوصة (الردهات) التي كتبت في زمن متقدم . اختار المبيت مع والده في مستشفى الأمراض العقلية ليخفف عنه ، ولكنه في النهاية يصبح جزءاً من العام ، بعد أن قبض عليهما وهو يريد أن يخرج والده من المستشفى .
إن أقاصيص جاسم عاصي شهادات ووثائق بلغة شاعرية وتعابير جمالية ، تعبر عن معاناة شعب وأمة في أتون الموت والدمار إذ لا أمل ولا مستقبل ( كان صبرنا ما يعيننا ، صبر من استسلم الحال المفروض ، بحيث أصبحت الحياة والموت متداخلة مع بعضها ، يشغلنا شيء غامض ، لابد من الوصول إليه ، لا مسافة للأحلام في رؤوسنا) (ص101 . المدفن) .
إنه يتحدث بلغة الواقع ، لكنها لغة تخرج عن واقعيتها لأن الحلم فيها واقع ، فلا معقولية ما يحدث يحول هذا اللامعقول لحالة الفرد والمجتمع إلى صور وأخيلة تحيل الواقع إلى مخيال مقبول منتزع من جمالية الصور التي كتب فيها ، هو لا يكتب بلغة شاعرية ، أنه يكتب نثراً مركزاً فيه أخيلة شعرية ، لأن اللغة عند الشاعر غاية ، وعند القاص وظيفة وسيطية يستخدمها أداة توصيل ، لتعبر عن المعنى المطلوب ، فجاءت لغته مدركة، لكنها تحمل شحنات شعرية، تحول الأرضي إلى كوني ، إلى بعد خارج نطاق التصور الواقعي ولكنه معاش ويتحرك بيننا، جملة من السهل الممتنع ، لا يصعب فهمها لأنه لا يلجأ إلى تعقيد العبارة، أو دفع اللغة في استعارات بعيدة عن واقع الفكرة، جملة تتحاور مع المتلقي وكأنها حكاية شفاهية تستمع إليها في مقهى أو جلسة ، لكن في داخلها أفكار يستقصي أدراكها إلا بالتأمل والتفكير ، متمكن من فن الأقصوصة ، وهي خاصية يمتاز بها من خلال خلو أقاصيصه من الحشو والزيادة عما يريد أن يقوله.
تجد بين السطور حالة أخلاص للتعبير عن مكامن الحرج والألم الذي يعتريه، إنها الروح الإنسانية والحساسية المفرطة التي تتلبس المبدع تجاه واقعه ، فتحيله إلى صرخة مكتومة تخرج بتدفق حكاية أو قصيدة أو لوحة ، يعبر بها عما يستطيع أن يوصفه للألم الدفين الذي يغمر الروح ويلامس وجع الآخر، ليتواشج إحساسه مع إحساس الآخر بالألم والقهر إزاء الواقع المر ، وما يعانيه الإنسان في مجتمعه.
إن قصص جاسم عاصي وان كتبت ضمن منهاج واقعي ، لكنها تحيل رموزها ودلالاتها في نهاياتها السريالية واللامعقولة، لتظهر مدى بشاعة الواقع وتأثيراته النفسية والمادية على الإنسان ، أنها تحمل دلالات عميقة في تفسير ما يجري وجرى، يكشف عن عمق حالة التخلف الاجتماعي الذي يضرب بإطنابه من فوق وتحت، والمأساة يحمل صليبها أولئك الذين أبتلو بالإدراك والمعرفة ، وكشف حد الجنون والسخرية من الطواطم التي تخلع وتلبس أقنعتها بذات السهولة التي تدمر الأرض وما عليها من أجل غرائزها وجشعها .