الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

مقدمة لمستعمرة الديناصورات-عادل كامل

تجارب
من النبات إلى حدائقنا المعاصرة:
نكوص أم ارتقاء ..؟


عادل كامل


* إشارة:  هناك مثل سومري قديم غدا عابرا ً للزمن والقارات: "لم تلد امرأة ما ابنا ً بريئا ً قط!" ليس لأنه يوهمنا بقبول اشد الحقائق مرارة، أي القبول بالحياة بوصفها تامة البرمجة، ونهاياتها قائمة على مقدماتها، فحسب، بل لأنه يسمح للعقل أن يستأنف إجابات تعيد صياغة الأسئلة بالمضاف من الخبرة، والحكمة، بحسب المصائر، وما آلت إليه المخلوقات ـ بصنوفها وأنواعها ـ من رقي، أو من نكوص...، فالبراءة مكثت شبيهة بالحصول على الخلاص، بعد الاستغفار، وحسابات التسوية...، إزاء عالم الجبر، والضرورة، والقيود....، وانشغالي هذا ـ في مستعمرة الديناصورات أو في (الغزلان في السماء) وفي باقي الحكايات، لم يغوني بالركون إلى السكون، ولا إلى السكينة، فثمة جرثومة ـ سابقة في وجودها وجود الجماد والنبات والحيوان وسابقة أيضا ً في وجودها كل ما سيشكل بنية وآليات عمل القشرة الدماغية العليا للبشر فوق الغاطس من عصور الثدييات وعصور الزواحف ـ لا يغدو إلا مجموعة مخلفات وأثار تركها أصحابها، فرحت أعيد نسجها، بالدافع نفسه الذي للأمل وهو يذهب ابعد من الوهم، وابعد من الإثم، وربما ابعد من: البراءة. انه انشغال شبيه بأعراض المرض، إن لم يكن هو المرض نفسه! فهل كان باستطاعتي أن اذهب ابعد من موتي، أم كان لهذا الموت أفعاله البهلوانية، الشبيهة بما يجري داخل أقفاصنا، في حدائق العالم، إن كانت للجماد، أو للنبات، أو للحيوان، أو لنا، بوصفنا لا نمتلك ذريعة إلا للامساك بالبراءة، كالتي حلم بها السومري، عندما اخترع: جنة عدن...؟ معظم النصوص نشرت في: الحوار المتمدن، القصة العراقية، سومريننت، أدب وفن، وغيرها...، وهي ـ في مجموعها ـ تمثل أصل هذا الخطاب الافتراضي، لكن ليس مجردا ً عن واقعيته، بوصفها وحدها غير قابلة للدحض.
13/10/2015

 [1] وثيقة
   نشرت، إلى جانب سلسلة من القصص المستمدة من الحياة اليومية، إبان سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988)، حكايات شخصياتها شركاء لنا في الوجود: عصفور، فيل، ذئب، حمل، حصان، بغل ..الخ، فلفتت نظر زميلي (احمد هاتف) ليجري معي ـ بدافع الغرابة أو لأي دافع آخر ـ حوارا ً...، كي يضع عنوانا ً له ـ بدافع الاستفزاز أو لأي قصد آخر ـ : عادل كامل في مملكة الحيوانات....، فما الذي تغير...، وأنا أواصل استكمال هذه الحكايات، سوى متابعة السرد.


عادل كامل في مملكة الحيوانات
الواقعية سلاح ابيض ضد القبح!




تصوير: جاسم الزبيدي ـ 1980

بغداد: أحمد هاتف
 آخر ما صدر لعادل كامل، بعد كتابه (الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ الستينات) مجموعة قصص تحمل عنوان (ذاكرة البحر) وهي المجموعة الرابعة له.. ويستعد عادل كامل لإنجاز كتاب الرسم المعاصر في العراق.. فضلا ً عن إعداد مجموعة خامسة أبطالها كائنات غريبة: الفيل .. والحصان... والكائنات التي لا تحمل اسما ً.
وكان سؤالنا الأول له: لماذا هذا المنحى الجديد في تجربتك.. لماذا الحيوانات؟
ـ " لست رمزيا ً أولا ً.. فالحيوانات تقاسمني قدري. أنا أحب الفيل والحمار والكلاب مثلما أحب البشر. بل كم اشعر بالأسف لأني لم اعمل في حديقة للحيوان.. بل اشعر، أحيانا ً، بعذاب لأني لم أولد سمكة. هذا لا يعني إني ضد الوعي .. كما إني لست رمزيا ً في هذه الإشارة. كلا .. بل الإنسان يحلم بسعادة تنتمي إليه. وربما لهذا السبب، أصبحت اكتب عن أشياء تنتمي إلى قارات مجهولة: إلى ضحايا بلا أسماء."
انك تريد أن تقول شيئا ً آخر؟
ـ " مشكلة الكاتب العربي انه مزور كبير.. انه كذاب حتى وهو يروي أكثر الحقائق صدقا ً.. انه لا يعرف، مثلا ً، كيف يتحول إلى حصان مكسور.. والى نمر في مستنقع.. والى سمكة للزينة. أقصد إننا مازلنا في مرحلة ما قبل التاريخ."
لغة لم تلوث..

ولكن لماذا الحيوانات؟
ـ " لأنها تتكلم بلغة لم تلوث بعد. هل تفهم لغة الكركدن؟ كلا. إننا لم نكتب روايات أصيلة عن عذاب مليون صنف من حيوانات امة تعيش مجاعة وتخمة في الوقت نفسه! وهذه للحق دعوة للكتابة عن البشر.. أما أنا فدعوني اكتب عن حيواناتي المعذبة."!
لكنك بدأت تكتب عن النبات والأزهار والأشجار أيضا ً؟
ـ " سأكتب عن صخرة مهملة في الطريق. وسأكتب عن الهواء. لم لا .. أنا أحب الأشياء البسيطة التي تعلمنا النبل. احد أصدقائي، وهو بطل قصة، قتلته نباتاته ولقد رفضت هذه القصة لأنها لا إنسانية، كما إنها تخلو من الصراع! لكني سأكتب عن صراع بلا معنى: عن زهور تعيش في الصخر.. وعن اسماك متحجرة تعيش معنا. ان التخمة والمجاعة في امتنا لا تحل بالمؤتمرات الزراعية والصناعية، أما أنا الذي ابحث عن سيكارة أدخنها، ولا اعثر عليها إلا بشق الأنفس، فأعود إلى صمتي. دعونا نحتفل بالصمت ... فلا معنى للحديث عن أشياء كبيرة جدا ً."
بعد روايتيك (رغبات قيد الاستيقاظ) و (أعوام الشمس)هل ستعود الى الرواية؟
ـ " لا أعظم من الرواية إلا الصمت. ومادمت من المخلوقات الناطقة، فالرواية خلاصي الأجمل. إنها سيدة الفنون بلا منازع، بعد السينما .."
هل لديك تجربة جيدة؟
ـ " من الأفضل ان نتعلم .. لا ان نصبح أساتذة! ان الرواية تظهر عندما لا يستورد الشعب، أي شعب، القمح ويوزعه على الفلاحين! أجل ..السومريون كتبوا ملحمة جلجامش .. ومصر القديمة العظيمة شيدت ملحمة الأهرامات.. لكن تلك الشعوب كانت لا تستورد اللحم أو البيض.. ان هذه المفارقة وحدها تدعونا إلى الأسئلة. نحن امة بحاجة إلى أسئلة وإجابات أصيلة. ترى أين نحن من العلم المعاصر؟ من الطب المعاصر؟"
اذا عدنا إلى الفن.. أعرف انك أقمت ستة معارض شخصية.. ودرست الرسم أكثر من عشر سنوات، وبعد أشهر ستعود إلى مقاعد الدراسة أيضا ً.. فماذا عن الرسم؟
ـ " الرسم لؤلؤة.. نجمة..ذكرى عصر ذهبي.. هل تصدق إني أخاف من الرسم! مع ذلك لدي ّ مئات من اللوحات الكرافيكية التي لم تعرض.. وأكاد احسد نفسي عليها! لكني سأعود إلى الرسم.."
من رأى الشمس مرة ..
لديك ستة كتب في النقد.. وأنت عضو رابطة نقاد الفن الدولية التابعة لمنظمة اليونسكو .. فضلا ًعن نشاطك النقدي في الصحافة.. فهل تنوي ترك هذا المجال؟
ـ " لا. ذات مرة قال جدي: من رأى الشمس مرة لا يفكر ان يعود إلى الظلام. النقد الفني جزء من بناء الشخص. والثقافة لا معنى لها إلا  بالنقد.. والجهد المبذول في هذا المجال لا ينفصل عن بناء حضارتنا. ولكن للنقد أسبابا ً وشروطا ً.. مثلما للناقد .. في البدء لا بد من زمن .. ولا من رؤية ثاقبة أصيلة لا علاقة لها بالأهواء .. والرغبات العابرة. نحن اليوم بحاجة إلى مليون ناقد في الشعر والفن والأدب ولسنا بحاجة إلى مليون شاعر يحمل هوية زائفة للشعر. إني أؤمن، واكرر هذا دائما ً: علينا ان نعمل بدل الانتظار. [كودو] لن يعود ... وهؤلاء الذين ذهبوا إلى العالم السفلى، حسب الأساطير السومرية القديمة، يذكرونا باستحالة الرجوع. النقد اليوم يمثل وضع حد للقبح، لا في مجال الفن أو الإبداع عامة، بل على مستوى أخلاقيات البشر.. فإذا كان الفن لا يخدش البشرة الرقيقة لأصحاب الثروات الخانقة، فعلينا ان نقذف بهذا الفن إلى جهنم. الفن الذي نريد، مثل النقد، لا بد ان يدخل معركة بالسلاح الأبيض.."
في هذا السياق.. كيف تنظر إلى ظاهرة استلهام الفنان العربي للحرف؟
ـ " هذه واحدة من مظاهر الترف! فالفنان يرسم في عصر ما بعد الوفرة! بل في عصر الخيال! لكني لا ادعوا إلى أسلوب موحد، ولا إلى مليون أسلوب.. ببساطة علينا ان نبدأ من الشعب.. ومن ضميره الداخلي.. كي نتلافى تقدم العالم علينا، أي علينا ان نتذكر إننا ننتمي إلى أعظم الحضارات في العدل والإبداع والعلوم والشرائع، وان نبدأ، عندما نبدأ، من عمق التاريخ وليس من سطح العالم. عودة إلى السؤال لا اعتقد ان ظاهرة الحرف إلا تجربة لا يبقى منها إلا القليل.. بل والقليل جدا ً.."
هل تدعو إلى واقعية في الفن؟
ـ " أنا أتمسك بأصالة التجربة: الوعي بها، علميا ً، تاريخيا ً..وانظر بإعجاب للإبداع الذاتي الذي يعدل حتى من مسارات النقد.. إلى هذا الإبداع الذي يصنع النقد في الأخير.. ولا أريد ان أتحدث عن مدارس واقعية أو غير واقعية، ولكني لا اعتقد ان هناك إبداعا ً لا ينتمي إلى واقعه الروحي والإنساني. كل الفنون، وحتى منها السوريالية والدادائية واقعية إلى حد بعيد. لا توجد واقعية على الضفاف.. بل هناك واقعية تمثل، أو لابد ان تمثل، حركة أعماق البحر.. الضمير البشري.. وجماله.. ورسم آفاق لا يمكن ان تذهب سدى، وبلا معنى. ان الواقعية تعني، كما أرى، ان نحارب بالسلاح الأبيض القبح، فالواقعية تعني، في البدء، وفي الأخير، ان نبقى عشاقا ً للجمال، والفن الواقعي هنا، هو ديمومتنا، على الرغم من إننا نتحدث عن أزمنة الفناء."
[اليوم السابع ـ باريس. الاثنين10 آب (أغسطس) 1987]



[2] إشارة/1
     وأنا لا أجد إلا اختلافات، في النوع، تميزني عن الآخر ـ الجماد، النبات، الحيوان ـ في الجذور ـ أو ما قبلها ـ كي انتسب إلى مخلوق فاق الجميع ـ بما يتمتع به من وعي وإرادة بلغت حد الإصرار في استحداث مصائر لا تحدق إلا في رمادها. فالبركان غير مسؤول عما يسببه من أذى للحياة، لكن مع استحالة إحصاء فوائده! كالنار، والماء، والريح ...الخ، لكل منها توازنها في الموجودات، وفي الوجود. النبات، هو الآخر، يتمتع بنظام البذرة ذاتها، معنا ـ من الخلية الأحادية إلى رأس أفلاطون أو دماغ  اينشتاين ـ فهو يأخذ بالقدر ذاته يعطي، الحيوان، بآليات عمله، محكوم بالديمومة ذاتها، وجد ليقاوم الاندثار. انه مهد لنا ـ بفعل التخصص في عمل الأعضاء ـ هذا التحول نحو: سيادة النوع البشري.
   فانا ـ إذا ً ـ لا امتلك قدرة وضع فواصل بيني وبين أي عنصر من هذه العناصر في الوجود، فانا أتشكل منها، باستثناء هذا (الوعي) الذي راح يراقب ما يؤديه الوعي من أفعال ـ وقرارات...؛ وهو استثناء يخص (النوع) بما يمتلكه من خامات، تجمعت،  وانصهرت، وسمحت لنا بالاختلاف، مع إننا ننتمي إلى فصيل راح يتحكم بالأدوات، ويمتلك امتيازاته: الأرقى.
   فهل انتمي ـ حقا ً ـ له، كي أتمتع بهذا الامتياز، مع إنني، بسخرية برنارد شو، أتأمل تاريخنا، فازداد إعجابا ً ليس بالكلاب، فهي مؤذية، وإنما بأي كائن آخر اجهل هويته، ولكن لا مناص الاعتراف بعدم وجوده!
    إنما هذا ليس محض اعتراف للتخفيف من الذنب، بسبب إنني وجدت هكذا، حسب، بل لأن الحرية لدي ّ لن تسمح لي إلا أن أكون شريكا ً في الإثم! وعلامة التعجب ذاتها، هنا، لا معنى لها لولا إنها دالة على المحنة: فانا احمل جنازتي كلما توغلت بالانفصال عن صفاتي، بل وعن صفات العناصر، مادامت ليست مستقلة، وخالصة، ومادامت وجدت بمعزل عن حريتها في هذا الوجود، فماذا عن حريتها في الاختيار...؟
    وأنا اجهل تماما ً من منا كان يحرص على صداقة الآخر: أنا معها أم هي معي ...، ولكنني سأبقى اشعر بأنني معاقبا ً لأنني لم انس ـ في ذات مرة ـ قد تم التشهير بي لأنني كنت لا استطيع ذبح دجاجة! لأن هذا لا يخفف من وجود شركاء لي كانت قسوتهم، إزاء الأطفال والنساء وباقي الأعمار، لا تقارن ببركان يطمر مدينة ويخفيها من الوجود، أو بطوفان يجهز على ملايين الكائنات، أو عاصفة تشرد ما لا يحصى من الكائنات ...الخ فهناك شركاء لي اجهل الأسباب التي جعلت من ممارستهم القسوة بإفراط لذّة خالصة طالما اقترنت بمبررات يصعب العثور على أسباب لها...
      فمن ذا يعلم ماذا كنت سأفعل لو قدر لي ان امتلك أكثر من غرفة في بيت صغير، وأكثر من بضعة كتب، وبضعة دنانير لا تدعني استجدي...، وقصة شيخنا محي الدين بن عربي شاخصة عندما طلب من مريديه إقامة ضريح للملك بعد اعتراضهم أو سؤالهم...، فقال ان الملك قهر إغراءات السلطة كما قد يفشل فيها سواه.
   فانا إذا ً باختيار هذه (الحديقة) الافتراضية، وأنا في نهاية عقدي السادس من العمر، لم أتوخ كتابة المواعظ، أو إشغال ساعات الفراغ، تجنبا ً للهموم، والعزلة، ولا لمحاورة النفس أو تسليتها أو معاقبتها،  أو تقصي خلجات هذه الكائنات التي تشاركني، الحدود ذاتها، القفص، وإنما لأن ثمة هذا المستحيل الشبيه بأطياف الحرية وغوايتها، والشبيهة بصداقات أو مؤانسات تخفف أوزار اختياراتنا التي نقوم بها ...، فثمة إرادة تدحض كل محاولات الانعتاق مكثت تعمل عمل أية غواية من اجل عدم التوازن بين الحياة والموت، بل لها امتياز احدهما على الآخر، بحجة ما من الحجج، لديمومة كل ما نراه يغيب، فهل لا تتألم العناصر وهي تنصهر الأفران الكونية، وتستبدل هويتها، هل لا تتألم البذور بدفنها، والذبائح بقطع رقابها، أو بقتلها، كي نرى الدب يرقص، والأسد تحول إلى بهلوان، والنمر إلى مخلوق ظريف، والدولفين إلى لاعب باليه ...الخ هل يتألم البغل باستذكار غواية والده الحصان لوالدته الأتان، وهو يعيد قراءة تحول الأنواع الأخرى، من نوع إلى نوع آخر...؟
      أم ان هذه الحكايات، ضمن هذه (الحديقة) تحكي الذي يعيد استحالة وضع زمن، للفاني، والزائل، في هذا السياق، إزاء  المتشبث بالبقاء...؟

[3] إشارة/2
   لا فجوات/ مسافات/ فراغات بين ان تكون هذه (الكائنات) داخل كياني، من الرأس إلى أخمص القدمين، أو خارجه، أو أكون أنا هو من اخترعها، لمحض الاختراع، أو هي التي ألحت علي ّ، باليات عملها، من اجل هذا الحضور..، أقول لا مسافات/ فجوات بين ان أكون قد افترضت وجودها، وسكنتها، وتركتها تستنطق ذاتها، عبر ذاتي، في وهم وجود هذه (الحديقة)، أو عبر وجودها الافتراضي ـ الواقعي، والتاريخي.، أو إنها هي سكنتني، فالمسافات استحالت إلى صفر.
    فانا ـ ربما ـ كنت أكثرها عدم تقيّد بالهدوء، السكينة، والصمت، فرحت أدوّن عوائي، طالما القيود، لها صوت شبيه بصوت مرور المفتاح بالقفل، في باب من أبواب البيوت القديمة، والسراديب، أو السجون، وهو يبعث صريرا ً للحفاظ على ما يريد ان يذهب ابعد من صداه.
    كائنات شكلت هيأتي: يد قرد، عين تمساح، ذيل أرنب، ريش حمامة، منقار نسر، مخالب ذئب، أنياب أسد، جلد ضفدعة، سم عقرب، فحيح أفعى، ثغاء بقرة، عواء ابن أوى، وشوشة خنافس، طنين ذباب...الخ، كي أتتبع الدرب الذي لم يبق منه لا الغائب ولا أثره، متتبعا ً الأصداء، بإرادة وليد وجد انه بلغ من العمر أرذله، كعمر اتنوبشتم، لم تبق من ذكراه إلا لقى نقشت عليها كلمات، تارة، أو ارتد كي يتلقى الصدمات، والمحو، تارة أخرى.
     إنها المسافات ذاتها التي يختفي المسافر فيها وقد استحالت إلى ممرات، وبراري، ووديان، كي يجد انه أسير حدود تنتهي وتمتد بما هو ابعد منها، من فجوة إلى أخرى، أكثر اتساعا ً ..، فكلما ضاقت اتسعت: من بدء نشوء حلم النجاة، مرورا ً بعثرات الدرب، وليس انتهاء ً بالجحيم، فثمة هذا كله يغدو استغاثة، أو صمتا ً، مادامت المؤجلات محكومة بحكم ماضيها، عبر جسور لا مرئية كونت الدورة بتمامها الممتد في كل فعل من الأفعال، وقد استحدثت تجددها بالمستحيلات.
   وقد لا أكون عبرت إلا عن مكنونات خلايا هامدة في جمجمة ديناصور تحجرت  وهلك صاحبها قبل ملايين السنين، وبزغت، وراحت تبث، مثل جنين غادر ظلمات (حديقته) نحو الظلمات الأشد إنارة، وسطوعا ً، بما تمتلكه من الضوء، باحثا ً عن قليل من السكينة، كي لا يجدها، إلا وقد غدا منجذبا ً للعبور إلى ما بعد الموت، وهو يعيد سرد حكاية أسد امسك بغزال، أو ثور وقع بين فكي تمساح، أو حمل صار فريسة ذئاب جائعة، ليجد انه تحول إلى اثر في كتاب، في متحف، كلمات يعيد غزلها مخلوق ينظر إلى العالم عبر نافذة يجهل ما إذا كانت الشمس تنسج منديلا ً للبكاء، أم كفنا ً للموت؟
     فثمة ممرات تجرجر الأصابع التي بدورها تجرجر الجسد الذي بدوره يكمل سلسلة الومضات وهي تارة تنبثق من الرأس، وتارة تتوارى فيه، إنما الأصابع مازالت تنقش أمامنا هذا القليل من أصداء ما جرى لها في زوايا هذه الحديقة، في مستنقعاتها، سراديبها، وأجنحتها السرية...؛ حكايات تحكي كم تقلصت المسافات إلى نقاط، حروف، فواصل، وكلمات...، وسرد يماثل في عمله، عمل الأسرى داخل الظلمات، وعمل الومضات التي تجهل إنها كلما اتسعت فإنما لتحافظ على ديمومة الامتداد.
    يا لي من (كائن) توزعت سماته، صفاته، ذراته، وتناثرت، وقد كان قصده هو البحث عنها..،فتجمعت لديه هذه الحكايات، ليعيد سردها، لنفسه، وهو كلما حاول الانعتاق، ضاقت به الفجوات باتساعها، وإنما للتسع إلى ما لا نهاية في ضيقها! فراح يكرر نغمات طير في قفص، أو عواء ذئب جريح، او فزع غزال أمام الصياد، مادامت الحديقة لم تغلق أبوابها، مع إنها ليست أكثر من كلمات نسجتها الأصابع التي لم تخلق إلا لتلمس ومضات القلوب، وليس غيابها.

[4] إشارة/3
     عندما قررت الببغاء إصدار جريدة "هيا نرقص" بتكليف من الثعلب، وبأمر مباشر من السيد المدير، لم يتم استدعائي للعمل فيها، أنا ذهبت، بنفسي، فسألني الببغاء: غريب ان تأتي للعمل في المكان الذي طالما انشغلت بإدانته، والتشهير به، حد تقويضه! فما الذي دعاك إلى هذا القرار...؟ أجبت بسؤال: ومن قال إنني انشغلت بهدمه!
ـ لدينا ما يكفي من الأدلة على ذلك.
نهضت، للمغادرة، لكن رئيس التحرير سألني:
ـ ستعمل ضدنا، أليس كذلك...؟
ضحكت، وأنا أتمتم:
ـ ها أنت تتحدث مثل البشر..، يقولون لا يوجد إلا اله واحد ثم يطلبون منك ان لا تعبد سواه!
نهض مسرعا ً نحوي وأغلق فمي:
ـ اشش!
   نطقها بفزع تام، هامسا ً:
ـ منذ هذا اليوم، أنت واحد منا...!
ـ لا ،  يا سعادة المدير، لا أنا معكم، ولا انتم معي!
ـ جميل! حقا ً هذا هو مفتاح المناورة، ان تقول نعم لأنك تقول لا، وتقول لا لأنك تقول نعم، وبينهما، تمتد المسافة، فلا نعم هناك، ولا ... تختتم الموقف بها!
   لم انس إنني دشنت عملي بزيارة إلى مرافق الحديقة، ووحداتها العلنية، والأخرى القابعة في الظل: من المحرقة إلى السراديب، ومن المتاحف إلى صالات العرض، من المصحات إلى مراكز المعلومات، ومن المعابد إلى المواخير، ومن المدافن إلى المتنزهات، فضلا ً عن المغارات، الجحور، الثقوب، الأقفاص، الحظائر، الزرائب، وما بينها من برك، وجداول، وبحيرات، ومن مخفضات ومرتفعات ومستنقعات..
    ولم انس أبدا ً إنني، خلال سنوات عملي الطويلة، والشاقة، لم اترك أحدا ً، ولا مؤسسة، ولا دائرة، ولا مكانا ً مخفيا ً إلا وذهبت إليه، ولا مخلوقا ً إلا وحاورته. فنلت وسام "هيا نرقص/ هيا نلهو" من الدرجة الأولى ـ ذئاب.
    كان هذا قبل الطوفان الأعظم ...، عندما كانت هيئة التحرير متمثلة بأعضاء تم استدعائهم من الفصائل كافة، من غير استثناء، فالأسد يعمل بجوار الكركدن، والبغل مع التمساح، والبلبل بجوار وحيد القرن، النملة مع النعامة، والهدهد مع الكلب، الغزال مع الذئب، والنورس مع الدب ..إلى آخر زملائي من الأساتذة الكبار، أو من هم بعمري، أو من صغار العهد بالعمل في إسطبل الخيول ...، وتشاء المصادفات ـ بالمعنى المتداول وإلا فانا حيوان أدرك تماما ً استحالة وجود مصادفة من غير مصادفة في القانون الذي ينفي المصادفات ـ ان اعمل مع جناح القرود، لفترة وجيزة من الزمن، بعدها عملت في جناح الأفاعي، ثم الضباع، ثم العقارب، حتى أدركت استحالة بقائي حيا ً لو لم أجد عذرا ً مشروعا ً للاستقالة، والعودة إلى جناحي، بجوار الأسماك، والقنافذ، والسحالي، والطيور.
   ثم حل الطوفان الآخر، وبدأ العصر الذي حمل شعار: الانعتاق الشفاف، لتدب الحياة مجددا ً كأنها القسم الآخر من الرواية التي تنتظر من يكمل فصولها. فانا نفسي أدركت استحالة وجود (أنا) خالصة، باستحالة وجود مرآة لا تتستر على ما لا يحصى من المرايا، واللا مرئيات، فالأنا ـ هنا ـ اعتراف بواقع الحال، للتداول، واستكمال تتابع هذا الذي يمتد بإرادة الامتداد، وإلا هل ثمة (أنا) يمكن عزلها عن فجوتها الواقعة بين مقدمات مسبوقة بالمقدمات ونهايات ليس لها نهاية...؟ وهذه ليست مداعبة، ولا مناورة، فانا ارتكبت من الأخطاء بعدد الأفعال المغايرة، فنسجت للثعلب خطابات، وللببغاء قصائد وظيفتها دحض الوظائف، وسردت للكركدن بطولات لم يفعلها حتى في أحلامه، وغردت للفيل حكايات فاقت أحلام العصافير نشوة، وقمت بما يدحض ذلك كله أيضا ً، تاركا ً أمر الحقائق للرمال، لعلها تحضي بالنبش، والتعقيب، والتفكيك!
   فعادت جريدة "هيا نرقص"  للصدور بالعنوان نفسه، فترة وجيزة، ثم ليسدل ستارها، وتذهب مع الريح؛ مع من هاجر، أو مات، أو قُتل، أو توارى داخل جناح من أجنحة حديقتنا، وتشاء الملابسات والمفارقات  ان يكون معنا قرد اشتهر بلحيته الشعثاء، عديمة اللون، كأنها مكنسة متهرئة، ممسحة مراحيض، طالما افتخر إنها ليس مزورة، بعطنها، ونتانتها، وبرأس صغير كأنه رأس دبوس، وأصابع كستها بثور وقشور وزعانف ركبت ومكثت خليطا ً بين أصابع الضفادع ومخالب الضباع، وقد دبت شائعات لا تحصى عنه، لم تؤد إلى طرده، بل سمحت له بالعمل بوصفه واحدا ً منا! فعاد شعار "هيا نرقص/ هيا نلهو" إلى الوجود، من غير غبار، أو شكوك.
      ومثلما بدأت عملي بأسئلة طالما أعقبتها أسئلة صارت الإجابات تعقبها إجابات...؛ الأسئلة راحت تحفر في ّ والإجابات راحت تكون صدماتها، فراح الفراغ يمتد حتى بانت مساحات مشغولة بالدورة ذاتها بعد ان غدا الخلاص منها بمثابة التوغل فيها، من الصفر إلى اللانهائي، ومن المطلق إلى العدم. وهل كان باستطاعتي البوح بما توارى عميقا ً فيما كانت دوامة الشغل لا تسمح لنا إلا بمراقبة الدوامة تمضي ابعد منا، وهي تجرجرنا معها، حيث الإفلات منها أصبح مستحيلا ً كالبت في أمر وجودنا بعد ان تحول غيابنا إلى لعبة يومية تجري كالمشي فوق الحبال الوهمية من تركها سقط ومن تشبث بها هلك ...، لتتكدس الوثائق والصور والأدلة كأنها شبيهة بالعقد ما تنتهي الأولى حتى تفضي إلى الثانية حتى تزداد متانة، وحبكة نسج...، فالصدمات الأشد صارت علامات عبور في الدرب ذاته دامجا ً محونا ً بالضلال، وبالظلال، بعد ان انتزع منا كل الإرادات إلا إرادة الولاء له.
     فهل كان باستطاعتي أن استبدل ذرات ذاكرتي وخلايا عمري بدرب آخر وقد بان إنها كلها قد نسجت قبل ان تكون هناك سفينة، وطوفان، ونجاة!
    سخر زميلي القرد صاحب اللحية الشعثاء مني زاعما ً انه وحده من امسك بالمفتاح، مثله مثل الآخر المنحدر من الأفاعي، لم يترك عقوبة إلا وأصدرها ضدي، حتى أصبحت الإنذارات والتهديدات خزانة صحف شبيهة بمدوّنة لم تترك واردة إلا وضمتها مع الشاردات في سجلي الشخصي.
     صحيح إنني ـ و(أنا) ـ هنا ـ تأتي بمعنى مجموع الممحوات والمندثرات وليس الأنا التي طالما تبجح بها الكركدن أو وحيد القرن أو القرد الذي زعم إنني كنت أتتلصص عليه لصالح الببغاء أو من اجل دكتاتورية القائد الثعلب أو الزعيم الأبدي مديرنا الذي ظله امتد ابعد من حساب القرون ونهايات الزمن ـ أبصرت كيف أبصر في الفراغات، إلا إنني كنت لم أتخل عن ولع رؤية هذا الذي توزع علينا جميعا ً، من الفاقة إلى الذعر، من الكوابيس إلى المرض، ومن الشرود إلى الذهول، فهل كنت أثما ً أو باغيا ً كي يكون الأخر ملاكا ً، أم أنا هو الغزال وهو الضبع أو النمر...؟ الأسئلة تتعثر بالإجابات، والإجابات لا تترك لنا إلا ان نمضي في تدشين ما لم يدشن، وما كان ذلك اختيارا ً مني أو عنادا ً أو بسالة، كما لم يكن هشاشة، أو رخاوة، بل كلاهما توحدا حيث أصبح قدرنا يحملنا كجنازة مغذاة باللغز نفسه حملناه معنا في الطريق وهو يقطع مسافاته وأقدامنا مازالت لم تتقدم ابعد من نهايات مقدماته، ومتاهاتها. كان الأعمى يتكأ على الأعرج، والذي فقد الإصغاء يصغي إلى من فقد فمه، العاقل يلهو مع العناكب، والمجذوم ينتصب وسط الساحات ندور من حوله بإصرار قهر المجهول والقفز فوق السراب، حبال حول الحبال تمتد سابقة خاتمتها مقدماتها، وما كف الميت يستغيث طالبا ً الموت.
   خرجت من السرداب وأنا ألهو بشعار: هيا نذهب ابعد من مدانا، ابعد من دربنا، ابعد حفرتنا. فلم يكن لدي ّ ما اخسره، غير الذي نهايته شبيهة ببدايته: حديقة راحت تعصف بها حنكة اللعبة وتقذف بها حيث يتلقاها الأمهر لعبا ً والأشد مكرا ً، والأكثر انحدارا ً من الرذائل. فما أوشيت بأحد، وما سرقت زاد احد، ولا  تمنيت ان أكون غير هذا الشارد، يتلعثم داخل أسوار الأفران، وغليان براكينها، مع إنني مكثت وحيدا ً أداري عزلتي بالوحدة، مشذبا ً الضوضاء بالسكينة، والخسران أرممه بالخسران، إلا إنني لم اعتد شتم احد، ولا الذي أوشى بي زورا ً، أو اتهمني بالتلصص على موبقاته بوصفه ً تعلم ما كانت تفعله البغال بالبغال، وليس ما كانت تفعله الكلاب مع الذئاب، فانا بطبعي تطبعت على حمل ما حمله الهواء، والماء، وما كانت تحوله النار إلى أثير.
   أكانت الديناصورات  تخفي بجيناتها ومشفراتها مصائرنا، أم كان الغبار اقل أذى من الموت يوزع لدغاته علينا بركات، وهبات لم تفض إلا إلى تشبثنا بمغارة من المغارات، أو بجناح نوصد قفله علينا كي نموت...؟ لقد راح الجدب يسمح لنا بالفائض منه: مصائرنا تتآكل، تذوب، تتعفن، تتجمد، تتناثر، تلغم، تفكك، وتتبخر في نهاية المطاف.....، فهل كان باستطاعتي الحفاظ على لغز تشبثي بأكثر من وهم سمح لي ان احفر مدفني داخل أسوار هذه الحديقة وليس أن أتشبث بها حسب...؟
   وأنا اقبع تحت تراب هذه الحديقة أبصرت ما جعلني لا اصدم بما أبصرته عبر الحظائر، الأجنحة، الزرائب، الأقفاص، المحرقة، المصحات، الزنازين، الأفران، المعابد، المغارات، الوديان، الآبار، الملاهي، المسالخ، المواخير، الكلجيات، البارات، الخرائب، المزابل ...الخ، فالأسرار مكثت تبخل بمد ذراعها ابعد حتى من مدانا الشحيح...، فلم يبق مني ما يكفي إلا للمرور فوق تراب كان ذات يوم مشغولا ً برقصات الغزلان، وبتغريد البلابل، وصهيل الخيول ...، فلم يعد للأمل إلا ما للوهم الدوافع نفسها تسمح لليد ان تمسك بالحبل تارة ليدور حول الشمس وغالبا ً ما كانت الشمس تدور حول اليد، فلا المحو أدرك ما دوّن، ولا المدوّن كف عن التوغل في المحو.

[5] ثناء وشكر
[1]
     مازالت الكلمات طرية، مرتبة بعفوية، عناية، بوضوحها وسحرها وبما فيها من أسرار، فقد كانت جدتي ـ لامي ـ واسمها (صفية) تروي لي ان الصخور، في الجبال والوديان، شبيهة بنا، لها أم وأب، فهي مخلوقات تولد، وتنمو، ولها أجنحة....، كانت تروي لي تلك القصص عن الجماد، والنبات، والحيوان، كي لا اغفوا! لأنها كانت لا تعمل عمل "الملقن" ولا تعمل عمل "الواعظ"،  فكانت تقول ان الشمس مثل الإنسان الطيب، لها عقل وقلب وعملها ان تهب ضوءها للحياة ...، فبقلبها تفرح الكائنات، وتّعيد، وبعقلها، يتم البناء. فبدل ان اخلد إلى النوم ـ وأنا في سن الثالثة من عمري ـ كنت انتظر قدوم الليل كي تمتد ساعات النهار، لتروي حكايات مستمدة من حياتها، وخبرتها، وحكمتها، حول قصص الدببة والذئاب والصخور والأشجار والريح...
   فماذا تبقى...، كي يتسلل إلي ّ منها،  أكثر من سلاستها، وهي تصور لي حديقة (نوح) ـ أو سفينته ـ مثل حياة خالية من الأوهام، والقسوة، والآثام.
[2]
    هل قرأت "كليلة ودمنة" قبل سن العاشرة من عمري، أم بعد ذلك بقليل...، لا أتذكر..، عدا ما رسخ في ذهني من مشاهد لا تفرق بين الحيوان والإنسان...، ولم أتعامل معها بوصفها مواعظ أو وصايا، بل تركتها تتسلل إلي ّ وأنا ازداد شغفا ًبها، كي اصدم، عندما عرفت، بما آل له مصير ابن المقفع، وان يكون مصيرنا، كمصير شركاؤنا، في هذا الوجود!
[3]
    ولم يكن حيوان الجاحظ مادة للتسلية، أو حتى لتعلم كتابة الإنشاء، بل ممرا ً للذهاب بعيدا ً في اللغز ذاته: الحيوان الذي مازالتا نشترك معه بالخصائص، والعذابات، بالخامات والألغاز: أصلنا المتمثل بما رواه الجاحظ، كأقدم عالم نفس في دراسة أغوار اللاوعي السحيق ـ الذي هو لاوعينا، رغم دور (الوعي) الذي مازال يشتغل باليات لغز وجوده، واندثاره، وانبثاقه أيضا ً.
[4]
    وغير حمار الحكيم، وغير حمار سرفانتس، وغير مزرعة جورج أرول، لا تعد الحكايات ولا تحصى، ففي كل نص من نصوصها ثمة محركات، وبالدرجة الأولى: نظامها البنائي: الفكرة/ السياق/ الأسلوب. فثمة خلاصة تعمل عمل الضوء وهو يتحول إلى طاقة، والزمن إلى مكان، والأصوات إلى كلمات.
     ثنائي لهؤلاء، ولنصوصهم السحرية، البلاغية، ولفاضل العزاوي، ومدني صالح، وبهنام أبو الصوف، ود.عبد الستار الراوي، ورعد عبد القادر، وعدنان المبارك، وكل منهم يلتقي عند اختلافه مع الآخر، لا يدعني اغفل كل من تحمّل لساعات وساعات العوامل التي صاغت تجربتي....؛ فلولا العثرات، الهفوات، الأخطاء، الشطحات، هل كان باستطاعتي ان احتمل وجودي...، من غير مساندتهم، وعونهم المباشر، والرمزي.
[5] اعتذار
     ربما أكون قمت بالدور نفسه ـ ككل مخلوق آخر يتخلق بصفات الملائكة ـ بعلم مني، حد العناد، أو بشرود، أو بغباء، أو ببراءة، فواجب الاعتذار، لمخلوقاتي التي عاشت في ّ، وعشت معها، يسمح لي بالمرور منحنيا ً لها، للغزلان ولأضدادها، وللمفترسات وأضدادها، مادامت الأسماء كونتها أفعالها، قبل ان تأخذ عبورها نحو البعيد، ثم الأبعد. فالاعتذار علمني إنني لم أتعلم إلا القليل...، وجعلني أتقدم، في كل لحظة، للاعتذار للجميع، من النمل إلى الأسماك، ومن القرود إلى الأرانب، ومن الذئاب إلى الفئران، ومن بنات أوى إلى الطيور...الخ، بمثابة تخفيف من وزر آثام لم انوي ارتكابها، وفي الوقت ذاته طالبا ً الصفح، وربما الغفران، منها، حتى لو جاء هذا بعد فوات الأوان، أو لا يساوي لحظات عذاب ثور يشم رائحة الموت في السكين. إنما هذا ما دار برأسي، وأنا داخل جدران حديقتي، بعد أن صار التشبث بالأمل أقسى من التشبث بالسراب، وبعد إدراك أن اللغة، بموت المتلقي، وبما لا يحصى من الميتات، أصبحت خارج الاستخدام، مثل فأس صنعتها الآلهة، بعد تشكل القرى الأولى، ولم تعد سوى اثر في متحف. فهل لصمتي رائحة عواء ديناصورات تسللت جيناتها إلى رأسي، والى رؤوسنا، في هذه الحديقة، ولكنها لم تمنعني من الاعتراف بتحمل كامل المسؤولية، وأنا أحدق في المجهول!
13/10/2015

مقدمة

مبدعون في الذاكرة- د. إحسان فتحي











مبدعون في الذاكرة




جميل الملائكة


 












د. إحسان فتحي


الأخوة المعماريون والمهندسون العراقيون والأصدقاء

تحياتي الحارة

هذا اليوم، أود ان استذكر المهندس المدني العراقي الفذ  الدكتور جميل الملائكة والذي يعتبر احد ابرز أساتذة كلية الهندسة في جامعة بغداد والعراق، واحد اهم المهتمين باللغة العربية والتعريب في التعليم العالي، كما انه تميز بملكته الشعرية المتميزة دون ان يحاول تسليط الأضواء الإعلامية، إذ تميزت شخصيته الرائعة بالتواضع الذي  دائما ما ميز الرجال الكبار والعلماء الفطاحل.
رحمه الله واسكنه فسيح جناته


الثلاثاء، 13 أكتوبر 2015

قراءة في ديوان (جامع العسل) للشاعر ذياب الشاهين ثنائية الوطن والمرأة-أحمد الحلي



قراءة في ديوان (جامع العسل) للشاعر ذياب الشاهين
ثنائية الوطن والمرأة
أحمد الحلي

منذ سنوات عديدة ، أُتيح لي أن أتعرّف إلى الشاعر ذياب شاهين ، ووقفت عن كثبٍ على تجربته في كتابة النصوص  الشعرية وتنظيراته اللافتة حول أوزان الشعر العربي ، وأحسب أن تجربته الشعرية بصفة خاصة كانت تنمو نمواً بطيئاً ولكن باطراد ودأب ، وقد استقر في خلدي أنه يحمل في داخله صبر اليرقة ومثابرتها والتي اختارت أن تدفن ذاتها  لأمدٍ معين في شرنقة ، ثم ما تلبث أن تشقّها لتطير في فضاءات الله الفسيحة ...
بين أيدينا آخر دواوينه النثرية ، التي صدرت مؤخراً عن دار النسيم بمصر ، وهو بعنوان ( جامع العسل) ، وقد تضمن عدداً من القصائد التي كُتب معظمها وفق طريقة التفعيلة ، وتتمحور موضوعاتها حول  ثنائية ؛ الوطن والمرأة ، وما بينهما من تواشج وتقاطع ، تماهي أو تشظي ...
والشاعر ، كما يتبدّى لنا منذ الوهلة الأولى مهموم ومشغول بقضايا وطنه وما يكابده ويعانيه يومياً  المحرومون والمهمّشون  ، وهو هنا لا يتردد في أن يكون ضميرهم ولسانهم الناطق ، حاملاً على كاهله كل الهموم والمكابدات ، وفي أحيانٍ كثيرة نراه يثور ولا يتردد في إعلان غضبه على من يقفون خلف المأساة من سارقي المال العام  ممن يستأثرون بخيرات البلاد من المتخندقين خلف الشعارات الدينية التي وجدوا فيها ضالتهم دريئتهم المثلى ضد كل من يحاول إقصاءهم أو تنحيتهم عن صدارة المشهد  ، بينما غالبية المواطنين يرزحون تحت نير البؤس والفاقة والعوز الشديد ، إلا أن الشاعر سرعان ما ينتبه ، إلى أن هؤلاء اللصوص والأفاقين إنما وصلوا إلى مناصبهم ومراكزهم بتصويت الناس العاديين لهم في مراكز الاقتراع مرة بعد مرة  ، فنراه يقول ؛
وأنى لي أن أُفرّقَ
بين قطيع خرافٍ وكومةِ أفاّقين !
ولحساسية الشاعر المفرطة ، بإزاء ما يجري من حوله من منغّصات ، نراه يقول ؛
أتراني متّ حيث ولدتُ أم أنني في كلّ غروبٍ أموت .
واستكمالاً لذات المنحى ، نراه  يقول في قصيدة (هباء) ؛
اشتهيتُ ميتةً تأخذ بذراعي قبلَ أن يسقط من جبيني قمر !
وعلى ذات الوتر ، وضمن إطار الكوميديا السوداء ، نقرأ ؛
لا أكثرَ سواداً من دخّان ظهيرةٍ في الرصافة
سوى وجوه المهرّجين ، سعيدةٌ بصيفِكِ يا بغداد
فسادتُكِ يستمنون على الأرائكِ
والخضراءُ فردوسُ الثعالبِ
وما حولهم جحيمُ المعدمين!

وهناك قصيدة بعنوان ( قل يا أيها الفاسقون) ، صاغها الشاعر وفق النمط القرآني  ، إلا أنه وجّه من خلالها سهامه اللاذعة للصوص الجدد ، نقرأ ؛
قل يا أيها الفاسقون ، لا أكتب ما تكتبون ، ولا أقرأ ما تقرأون  ، دجلة براءٌ منكم ، والفراتُ أجاجٌ في حلوقكم
وفي قصيدة أخرى بعنوان (الشمس ما عادت أجمل ) ، نراه يعمد إلى تصعيد وتيرة نبرته المحتجة ، ضد أولئك الجاثمين فوق رقاب الناس باسم الدين ، فنراه وهو يشجب ويستنكر تعاليمهم القاسية المتعسفة ؛
انزلي ثوبَكِ ، ليمسَّ قدميك الصغيرتين ، كي لا تُفسدي وضوءَ اللصوص !
وما يفتأ أن يلوذ بها دريئةً بوجههم ؛
ضمّيني تحتَ جديلتيكِ
كي لا تستبيحَ دمي فتاوى الملثّمين !
وهو يرى أنه لا أمل يُرتجى من هؤلاء ؛
أيةُ بشرى سيُطلقها لصوصُ البيتِ ، وأيُّ أملٍ يرسله الملتحون ؟
ثم يعود بنا الشاعر ، إلى الحال المزرية ، التي وصلت إليها مدينته من حيث الإهمال وتردي الخدمات ؛
فالشوارعُ  ترفل بالوحول
والمزابلُ تؤثث محلتنا
كما تؤثث الحكومةُ الطرقَ بنقاط التفتيش !
ونقاط التفتيش هذه ، والت تشكل عاقاً نفسياً ، سيتكرر ذكرها في الديوان عدداً من المرات ؛
* لا قانون يحمي شوكَ ذكورتي
ورمّانَ أنوثتِكِ من التفتيش !
ليصل إلى الخلاصة التي ستشكل مفارقة ؛
أأصفّق للدكتاتور أم أبصق في وجه الحرية ؟
سيأخذ الحلمُ المستحيلُ شاعرنا إلى أسئلةٍ من دون إجابات ؛
هل أحلُمُ ببغداد خضراء من دون منطقةٍ خضراء !
وفي صورة أخرى ، أراد لها الشاعر أن تكون معبّرة عن الأسى وحجم الفجيعة ، ولكنها خرجت على هيئةٍ كاريكاتيرية ، وه ما يدخل في إطار المضحك المبكي على حد قول المتنبي ، حيث نقرأ في قصيدة "حب عند سيطرة الزوراء" ؛
والشعبُ الأعزلُ ، كُتبَ عليه المشيُ ، إلى يوم يبعثون ،
وها هو يمسي ، يمشي ، يمشي ، فالمشيُ رياضته الفضلى
أتراه يمشي لإمامٍ لم يظهر بعدُ مدفونٍ عند علاوي الحلة ؟
وهو هنا يقدم ما يشبه مرثية لبغداد وفجيعتها ؛
في بغداد الحياةُ لُغزٌ كبير ، لا فرق بين البلبلِ والأفعى !
على أننا سنرى الشاعر ، وهو  يثوب إلى نفسه ، سنره يجد عزاءه وخلاصه من خلال المرأة ، التي تمتلك المفاتيح السرية لسعادته ، وأنها وحدها قادرة على انتشاله مما هو فيه من اليأس وفقدان الأمل ، نراه يقول في قصيدة (أجنحة الرحمة) ؛
ما الحياةُ سوى أن أكون قربَكِ وتكونين قربي !
ويخاطبها قائلاً ؛
يا لي من روحٍ وحيدةٍ
لو تُعطينني شيئاً من الألم ، أفضل من كوني شبحاً !
وهو يجد منتهى سعادته بالقرب منها  ؛
ما أجمل تقبيل عينيكِ ، حقاً كنتُ أتساءل ؛
لو كان لقلبي شفتانِ !
ويصل معها إلى ذروة الحميمية ؛
فأنا لا أطمعُ ، في أكثرِ من نهدٍ منكِ على صدري
كي نقتسمَ النبضَ ، ويهدأ قلبي المجنون !
وهو يقول في قصيدة ( هباء) ؛
ضعي وردتين على قبري ، وستنطق الشاهدة !
وسنجد أن وحشته ستستبد به حين يلتفت فلا يراها موجودة بقربه ؛
يشتمني الفجرُ ، حين يراني نائماً دون امرأةٍ قربي !
وفي المحصلة  نستطيع أن نرصد عدداً من المقاطع تصب في هذا المنحى الأثير إلى قلب الشاعر ؛
* عسلُ شفاهِكِ يذكّرني برغيفٍ لم آكله بعد !
* حين لا مستْ ساقاكِ ساقيَّ ، ألا يستحقُّ صلاةً من خبأكِ في دربِ حياتي!
* يا حبيبتي الشهيةُ ، آهِ لو تفورين ، كوني تنّوراً لمرةٍ واحدة !
* يا لعيوني حينما تلاحقانِ نحلةً أسكرها العطرُ !
* لا أملك زاداً ، إلا عشقكِ وذنوبي !
* أنى لي أن أعلّق على صدرِكِ ، باقةَ النجوم الطافية ، على شط بابلَ الحزين !
* هاتي سكّيناً ، لنقطعَ شريانَ الوجدِ
فنحنُ أسارى عشقٍ لا يرحم !
* ما أجمل شفتيكِ حينما
تبوحانِ لي بقُبلٍ لن أتذوّقها أبداً !

* آهِ سيدتي ، أما آن لنا أن نستمتعَ
بالهامشِ الذي رُمينا فيه عَسَفاً
اكشفي لي عن سُرّتكِ الفضيّة !
وفي نهاية الديوان ، وفي وبالتحديد في قصيدة (ثياب الأسئلة) نراه وهو يطلق صرخته المدوية  التي تعبر عن  عمق اختلاجاته ؛
أبحث عن روحي ، فلا أرى
سوى حمامةٍ كُسرَ جناحُها !


السبت، 10 أكتوبر 2015

قصص قصيرة جدا ً مستعمرة الديناصورات- عادل كامل القسم الثالث



قصص قصيرة جدا ً
 مستعمرة الديناصورات

  عادل كامل
القسم الثالث


[101] أسرار
     عندما تم استدعاء الثعلب، بوصفه المحرض على أحداث الشغب الأخيرة، التي كادت تقود إلى العصيان، والحرب، سأله المدير:
ـ بالتأكيد انتم تمتلكون الأسباب للتمرد، ولكم بعض الحقوق المشروعة، ولكن، بنظرك الثاقب، هل تقع المسؤولية علينا وحدنا، ، من اجل تلبية مطالبيكم المشروعة،  بدل هذا التمرد؟
ـ وهل ستتركني على قيد الحياة لو بحث بالحقيقة؟
ـ لك الآمان أيها العزيز!
ـ وكيف اصدق، وأنا مكبل بالسلاسل، والقيود، وحرسك يصوبون فوهات بنادقهم نحو رأسي؟
   أمر المدير بفك القيود، ورفع السلاسل، وإخلاء الغرفة من الحرس الخاص بالحماية. قال الثعلب:
ـ وكيف اضمن انك لن تومئ لهم بإشارة  بسلخ جلدي، أو إرسالي إلى الجحيم؟
ـ هل ترغب أن اهدم أسوار الحديقة، أم ادعك تغادر كي تتصل بي هاتفيا ً وتخبرني بمطالبيكم ...؟
     نهض الثعلب، وقرب رأسه من المدير، مبتسما ً بسخرية، وقال:
ـ المشكلة انك، يا سيدي، أصبحت واحدا ً منا!
ـ لم افهم؟
ـ اقصد ... انك أصبحت عاطلا ً عن العمل، فعندما لا يكون لك إلا أن تغلق أفواهنا، فهذا يعني انك لا تمتلك إلا أن تغلق فمك! فأنت تراقب، ونحن نراقب، لأنك لا تنتج شيئا ً، ولا نحن ننتج شيئا ً، لهذا لا احد يستطيع إخماد النار التي ستحولنا جميعا ً إلى رماد!

[102] مصير
   أرسل الذئب بصره إلى أجنحة الحديقة وزواياها المختلفة، مرددا ً مع نفسه: فيل من الهند، أسد من أفريقيا، كنغر من استراليا، زرافة من كندا ، دب من القطب المتجمد، ذئب من الصحراء، عصافير من إقليم ألواق واق...، بغل من أصول مختلطة، وغزال من السهول الخضراء...
متابعا ً بصوت أعلى وهو يخبر زميله الذئب:
ـ عدا البعير والحمار وبنات أوى ...، فقد أصبحنا ـ في هذه الحديقة ـ  نشبه فريقا ً حديثا ً لكرة القدم يتكون من لاعبين من بلدان مختلفة، عدا بلدهم!
 أجاب الآخر:
ـ أرجوك لا تقع ضحية ماضيك !
اعترض بصوت متوتر:
ـ هل ترغب أن أغلق فمي وأنا أرى هذا الخليط العجيب؟
  بعد صمت غير قصير أجاب:
ـ لم تكن القارات، في الأزمنة السحيقة، منفصلة بعضها عن البعض الآخر! فماذا عن عالمنا اليوم، وقد أصبحنا نجهل ما يحدث غدا ً، وليس ما حدث وصار من الماضي؟ فلماذا تحكم على مصيرك بالموت، بدل أن تضعه جانبا ً، وتحتفل مع أفراد عائلتك بالمصير المجهول؟!

[103] جدران
     قال وحيد القرن للأيل الذي يقف بجواره:
ـ كأننا في سجن، فما الذي يحدث لو هدموا المشبكات الحديدية الفاصلة بيننا ..؟
ابتسم الأيل:
ـ يا سيدي، لن يرحم احدنا الآخر أبدا ً، وهذه هي حسنات الجدران، في هذه الدنيا، لا تدعك إلا أن تراقب بفم مغلق!
ـ يا لها من حياة لا تسمح لك إلا أن تجهل معناها!
ـ سيدي، لو كان لها معنى، فلا تتصور إننا نقدر على معرفته، حتى لو  كان صريحا ً بهذا الوضوح!

[104] دوامة
ـ أصغيت إلى الأخبار وهي لا تتحدث إلا عن الفساد، والفوضى، وسرقة المال العام، وعن نهاية العالم، وعن ملايين المهرجين، والمهجرين، والمغيبين، وقتلى الحروب الوهمية، والحقيقية، وعن ملايين النازحين، والأرامل، والمفقودين، وعن ملكات جمال الإبل، والخنازير، والقطط، حتى تضطر أن تخفي راسك في الوحل!
   أجاب ابن أوى على تساؤلات الخروف الواقف بجواره:
ـ ما شأنك بمتابعتها...، وهي لا تهدف إلا على إيذاءك! أليس عليك أن تفكر متى ترسل إلى القصاب، وتنتهي الحفلة!
ـ يا صديقي...، منذ أول الدهر، وحتى يومنا هذا، كانوا يغووننا بغد لائق! فلا هم كانوا صادقين، ولا نحن صنعنا شيئا ً يستحق الذكر!

[105] اعتراف
ـ سيدي، استطيع إعادة قراءة المخلفات المتحجرة التي ترجع إلى العصر السابق على ظهور الفقريات، والزواحف، والثدييات، و...
ـ آ ........، المخلفات ذاتها، وضمنا، بفعل النقص في عدد مكونات عناصرها، فإنها انشغلت بالتهام بعضها البعض الآخر، حتى إنها لم تترك إلا ما لا يمكن التعرف عليه!
ـ ولكنني منشغل بما يحدث لنا في الحاضر..
ـ سيدي...، بحسب نظريتك، فان تفكيك بنية المؤجلات تعني إننا لا نمتلك إلا نحدد زمن انقراضنا!
ابتسم الآخر متمتما ً بصوت شارد:
ـ كأن ما قمنا به، ليس إلا ما نجحنا في اكتشافه! لقد حصلنا على المفتاح كي ندرك ان عملنا الحقيقي لم يبدأ بعد..!
ـ بالضبط...، فما ورد في الخلايا المتحجرة يقودنا إلى ...
ـ فهمت!
   رفع البرفسيور رأسه وسأل زميله:
ـ الآن عرفت لماذا يهتفون بحياتنا!
ـ أنا لن اعوي!
ـ لن ادعك تؤدي دور الذئب...، أنا سأدعك تغرد أو تغني، أو تزقزق...،لأن زمن الطيور لن يدوم طويلا ً، فضلا ً عن انه يمح أثره ذاتيا ً طالما لم ينشغل بالعواء!

[106] سوء فهم
    سمع مسؤول الجناح الأيسر، في الحديقة، ضجة آتية من وراء الأشجار، حيث المكان المخصص للمفترسات العليا، فهرول، وفجأة تسمر أمام أسد اعترض طريقه، فصوب بندقيته نحوه، لكن الأسد لم يدعه إلا أن يتجمد، تاركا ً سلاحه يسقط فوق الأرض:
ـ أترغب بقتلي؟ وأنا جئت أخبرك....، إن بنات أوى، وطيور المستنقعات، بالاتفاق مع الأرانب البرية، وماعز المرتفعات،  مع عدد من أفاعي الرمل، دون أن أنسى ذكر دور النباتات المحاذية لضفاف البركة، وحشرات الهواء، كلها، أيها السيد المدير...، أعلنت التمرد، بغية إعلان العصيان!
ـ آ .....، آسف، كنت أظن انك حديث العهد معنا!
    هز الأسد رأسه متمتما ً مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ لأنني قصدت أن اخبره بأنهم سيهدمون الدنيا علينا! والسيد المدير يقول لي: كنت أظن انك حديث العهد ...، لكن، من ذا يقدر أن يقمع ثورة تشترك فيها الأشجار، والتراب، والهواء؟

[107] الحقيقة
ـ لِم َ خنت؟
   كانت الذئاب قد أمسكت، عند اشتداد العاصفة، بالذئب وهو يسرب معلومات للجناح المجاور.
    لم يفتح فمه، فلم تكن لديه قدرة على النطق، إلا بعد أن منحه الزعيم عفوا ً لو أدلى بما ينقذ حياته:
ـ اقسم لك ...
   وراح يتحدث عن سلسلة حلقات تكمل الواحدة منها الأخرى، متوغلا ً في أدق مفاصلها، بعد أن غاص في مناطقها النائية الشديدة الظلام...
   فأمره الزعيم بالصمت، فجأة، بعد أن دار بخلده، انه لا يقول إلا الصواب.
فقال للحرس:
ـ ولأنه أكثركم استبصارا ً في  الممحوات، خذوه ...
    وأومأ بحركة من رأسه أن تكون نهايته ناعمة وشفافة. فقد دار بباله: إن السافل لو واصل الاعتراف، فانه لن يقول إلا الصواب!

[108] الحمل والذئب
   قال الذئب للحمل:
ـ عندما لا تجد مكانا ً تذهب إليه، تكون عرفت الحقيقة كاملة!
ـ أنا في بحثي عنها، يا سيدي، أضعت المكان!
ـ  كلانا، إذا ً، أنا وأنت، لا نمتلك ما نخسره، لا المكان، ولا الحقيقة.
   تساءل الحمل:
ـ والموت؟
ـ أرجوك...، فهذا الذي اسمه الموت، هو سابق في وجوده علينا، فهو ملأ المكان، مثلما لا يبحث عن الحقيقة.
ـ كم أود لو تركتني ارجع إلى القطيع الذي اختطفتني منه، لأنني سأروي باقي الحكاية، فمن يرويها سوى الشاهد عليها؟
ـ الم أخبرك: عندما تجد الحقيقة تدرك انك فقدتها!
ـ ولكن عندما أموت، لا احد يصفق لك، ولا احد يمجدك!
ـ كأنك تغويني بالتراجع، كي اصدق ان الموت ارتوى، وشبع، أو وهن، وغاب!
ـ لا احد منا يمتلك الإجابة.
ـ تقصد إن الحقيقة سابقة على وجودها الزائل، وهي عبر الزوال، تذهب ابعد من وجودها؟
ـ مثل حضورك، وحضوري...، الذي يماثل وجود الهواء في الأعلى والتراب في أسفل سافلين! لا مودة بينهما ولا رحمة!
ـ آ ....، لو عرفت من يخبرني: ما ضرورة هذا الشقاء، مادامت الحقيقة سابقة ـ ولاحقة ـ على ما نراه يزول...! فلا أنت باستطاعتك أن تترك أثرا ً لحمل وديع، مثلي، ولا أنا امتلك قدرة ان اروي ما حدث!

[109] الغزال والكركدن
ـ كم تبدو جميلا ً، أيها الكركدن، وأنت تدك الأرض..!
   رفع الكركدن رأسه قليلا ً وخاطب الغزال:
ـ ليس مثل جمالك، وأنت تلعبين الباليه! كأن الجاذبية تخلت عنك!
ـ ليس مثل ثقلك، وأنت تصد الريح، مثل صخرة كأن الكون كله جعلها لا تتزحزح، فأنت ليس مثلي، لا تجد مأوى تستقر فيه.
ـ بالعكس، فأنت أينما تذهبين، يبحث عنك الناس، فتسكنين قلوبهم، أما أنا، فلا ينشغل برؤيتي إلا كبار السن!
ـ هذا بالضبط هو الفارق بين حياتك الآمنة، التي لا تثير الفضول، وبين حياتي التي لا اعرف أين أخفيها عن الأنظار، فحياتي وجيزة، فإذا كانوا يهربون منك لغرابة منظرك، فانا وجدت ملاذي في هذه الحديقة، بسبب رشاقة جسدي!
ـ  يا فاتنة، أنت حقا ً مثل الشرنقة ما ان تصبح فراشة حتى تتوحد بالضوء...، كم جميلة وأنت لا تتركين أثرا ً يتتبع خطاك! فأنت تولدين وترحلين لا أذى لك حتى على الأرض. فلا تربكين أحلام النائمين! أما أنا فثقيل حتى صار جسدي مأوى للأحزان، فتنهش الطيور لحمي، والحشرات جعلت منه مستقرا ً لها. أما أنت، فمثل الضوء، لا مسافة تتسع لمداه، مثل عشق تنصهر فيه المسافات! أنا أتلقى القدح من العابرين، وأنت لا تكترثين لمن يمجدك...!

[110] رائحة السكين
   في فجر يوم بارد، استنشق الثور رائحة نصل السكين قبل ان يرى القصاب، فأدرك ان أيامه في الزريبة لن تطول، ففضل ان لا يستعيد سنوات حياته التي أمضاها في جناح الماشية الوطنية، كي ينشغل بتأمل وردة رآها تشع بياضا ً لم يره من قبل، كانت تتوهج كأن الشمس مازالت تسكنها. قرّب رأسه منها، كانت خالية من الرائحة، إنما أحس بها تعمل في قلبه، لأنها كانت تتمايل ليس مع نسمات الريح، ولا مع ضوء الشمس، بل مع رائحة السكين! أغلق الثور فمه تماما ً، مدركا ً انه لا يقدر على إسكات الأصوات داخل رأسه،  لكنه لم يخدش مشاعرها، لأنها نبتت بفضل الروث، بل لأنها غير معنية بما سيحل له، فأحس ان الدم يجري داخل تلا فيف ذاكرته، متقطعا ً، ثم يسرع، ليتوقف، ثم ليغلي، وفي الوقت نفسه، سمع الوردة تخبره ان أيامها القصيرة جدا ً قد امتدت طويلا ً! فانا أيضا ً لا احد يكترث لموتي.
    عندما شاهد القصاب يقترب منه، لم ير السكين، الوردة قالت له: هذا لا يعني انك كسبت حياتك، فهي، مثل حياتي، خرجت من الدمن، واليه تعود!

[111] كآبة!
     اخبر الذئب الطبيب الذي يشرف على علاجه، إن انعدام شهيته للطعام، نتيجة وليست سببا ً:
ـ فبعد أن اضطررنا للفرار، في ليلة عاصفة، لم نجد أرضا ً بديلة. البعض غادر إلى البعيد، والبعض الآخر نفق، والبعض فر إلى المناطق المجاورة، وأنا وقعت في المتاهة.
    فقال الطبيب له ان تدهور صحته ليس نتيجة بل سببا ً!
ـ لأنه من الصعب التحدث عن النتائج بمعزل عن أسابها، ولا عزل الأسباب عن نتائجها. فالمقدمات لا تحدث كي لا تبلغ ذروتها، ولا النهايات تبقى سائبة بمعزل عن مقدماتها!
    مكث الذئب يستعرض ما حدث له بعد ذلك، ثم رفع رأسه وسأل الطبيب:
ـ فأنت لا تعاني من الضيق مثلا ً...؟
أجاب الطبيب:
ـ أنا أؤدي عملي، بالدرجة الأولى، فليس لدي ّ الوقت الكافي لإضاعته ...
ـ جيد! فأنت تعرف إننا لم نهزم، إلا بعد ان أدركنا إننا لا نمتلك ما نخسره...
أصغى الطبيب بانتباه، فتابع الذئب:
ـ فعندما أسرونا، كان الجميع قد فروا، حتى لم يعد هناك احد لا من البشر ولا من الذئاب، بل حتى النبات اختفى وتحول إلى غبار!
قال الطبيب:
ـ بالتأكيد ليست مهمتي ان أموه عليك، أو أوهمك، أو أخدعك...، لكن لو عدت إلى تناول طعامك بانتظام...، فان إحساسك بالخسران لن يكون حادا ً...
أجاب الذئب بوقار:
ـ كأنك تريد ان تقول: انه لا يمكن قهر الأسباب، إلا بقهر نتائجها ، وأنا لا اختلف معك في هذا التشخيص، لكن اخبرني هل فقدان الشهية، إن كانت نتيجة أم كانت سببا ً، يمكن ان لا تدعني اشعر بأنني بت وحيدا ً تماما ً ومنفصلا ً حتى عن نفسي، أم ان مهمتك ما هي إلا إدامة هذه العزلة؟

[112] كلاب
ـ هل تتذكر الكلب الذي هرب من بلادنا، إلى البلاد البعيدة؟
ـ وماذا يعنيني بعد أن هرب، وتركنا؟
ـ انه يشتمنا، ويشتمك؟
ـ دعه يعوي! فإذا كنا نعوي بسبب الخوف، فهو يعوي لأن البلاد البعيدة وفرت له الطعام، ومنحته الآمان، ثم أن الحياة، كما يقولون، دورة! هذا إذا لم نفقد أملنا بماذا سيقال عنا، بعد نهاية عصر الكلاب!
ـ وكأنك لا تخاف من القتلة؟
ـ وماذا قلت....، سوى قول الكلمات التي لا يقرأها احد، وإن وجدت متابعا ً، فلا يكترث لها، أو لا تعنيه، وإن وجدت من يستسيغها، فلا يعمل بها، وإن وجدت من يعمل بها، فما فائدة عمله بعد أن لا يكون لدينا ما نخسره!

[113] مسافة
ـ هذا هو سقراط...!
   واخرج الأسد رأسه من وراء القضبان، وسأله:
ـ ما الذي جاء بك أيها الفيلسوف العظيم، إلينا، بعد أن فضلت الموت على الهرب؟
ـ من قال لك إنني خرجت من عالم الموتى ....، ولكنني جئت اعرف كم هو عدد الذين يميزون بين النور وبين الظلمات؟!
ـ آ .....، وماذا عرفت؟
ـ لو كنت عرفت، لكنت مكثت في بيتي، مع زوجتي، أتعلم منها الحكمة!
ـ آ .....، الست أنت القائل....، الزواج مفيد، في الحالتين، فالزوجة الصالحة تمنح زوجا السعادة، وغيرها، تصنع منه فيلسوفا !
ـ والآن أخبرك: أن الفاصل بين الحياة والموت، يماثل هذا المشبك الحديدي، بيننا، فلا أنت تعرف هل أنا طليق، ولا أنا اعرف أأنت مقيد؟!

[114] عودة
  قال الحمار ـ الذي عاد إلى الحظيرة توا ً ـ مذعورا ً، لزميله:
ـ أنا لا اعرف لماذا لم نولد عميان؟
أجاب الآخر بهدوء:
ـ وبماذا تحصي النعم التي لا تحصى؟
ـ ولكنني رأيت، بهذا البصر، مذبحة جرت بين الناس، ورأيت جثث الضحايا متناثرة، بعد ان فر آلاف الأطفال، والنساء، والشيوخ، هاربين إلى البرية.
فقال الآخر بلا مبالاة:
ـ عادوا إلى وطنهم الذي هربوا منه، للاستيلاء على مدينتنا، وقد ظنوا إنهم وصلوا، وأحرزوا نهاية الحرب!

[115] أنفلونزا
     بعد أن شاهد كبير الطيور، تشييد المحرقة، في زاوية بعيدة عن الأنظار، لم يقدر ان يخفي ما سيحدث لهم، بعد انتشار شائعات تؤكد انتقال وباء الأنفلونزا إلى الحديقة، فتمتم مع نفسه:
ـ كنت أظن ان الجحيم يأتي بعد الموت!
    سمع المدير صوته، فاخبره، إن المحرقة لم تعد لهم، بل لأمر آخر! ضحك كبير الطيور:
ـ أيها الماكر...، ولكن ماذا عن أنفلونزا الطيور؟
ـ اقسم لك...إنها خاصة بنا!

[116] نابليون
ـ أغلق فمك، يا كبير الضفادع، ألا ترى الإمبراطور جاء ليتفقدنا!
ـ آ ....، نابليون! ماذا يفعل هنا؟
ـ ربما جاء ليستمد مخططاته من أحلام جنوده الموتى!
ـ ولكننا لم نمت بعد؟
ـ اسأله؟
    خرج من الماء، ورفع رأسه، وسأل الإمبراطور:
ـ هل حقا ً أرسلك الرب إلينا؟
ـ من أنت؟
ـ لو أخبرتك من هو أنا..، لعرفت أن الهزيمة قد كتبت علينا جميعا ً!
ـ أنا لم اهزم! لأن المعركة لم تنته!
ـ غريب....، لابد انك مازلت غارقا ً في الأحلام، أو أن أميرا ً من أمراء الحرب دعاك للاحتفال باليوم الأبدي للنكبات!

[117] عدالة
     بعد جلسات امتدت طويلا ً صدر الحكم ببراءة الذئب، فاعترض الحمل:
ـ إذا كانت عدالتكم لا تميز بين المعتدي، وبين المعتدى عليه، فانا لا امتلك إلا ان ارفع رأسي إلى السماء!
   طلب القاضي من الذئب الحديث، فقال الأخير:
ـ كنت أغط في نوم عميق، عندما استنشقت، يا سيدي، طراوة عطر بالغ الرهافة، فأمرت نفسي بالتجلد، لكن العطر غدا مجسما ً بأبعاد رباعية، رشيقا ً، مركبا ً، يتمايل مع نسمات الفجر، مع ذلك أمرت نفسي بالصبر، إنما الهالة المعطرة الرقيقة اقتربت حتى لامستني...، فأفقت، مضطرا ً، فرأيت هذا الحمل الوديع الجميل يتبختر أمامي فإذا به يصرخ في وجهي: لم استنشق رائحة كريهة راحت تعمل كما تعمل السكاكين في القلب، مثل رائحتك! فلم احتمل، يا سعادة القاضي، إلا ان اغضب، لكن ليس عليه، بل على نفسي!
فسأل القاضي الحمل:
ـ هل لديك ملاحظات؟
ـ كيف أميز بين الحقيقة والوهم، وأنا تجمدت بسبب نظراته ورائحته التي شلت حركتي، وحولتني إلى تمثال...، حتى استنجدت بعدالتكم!
   بغضب خاطب القاضي الحمل:
ـ خسرت قضيتك! وأمرت بحجزك، ، ريثما تصبح خروفا ً، فوجودك أصبح مثيرا ً للفتنة، والغوايات! وقد تستطيع استئناف الحكم، لكن بعد انتهاء الحكم!

[118] ولادات
     اخبر طبيب الجناح الخاص بالولادات زميلته حديثة العهد بالعمل في الحديقة:
ـ لم أر ولادات غريبة كالتي حصلت يوم أمس، فالبقرة ولدت تمساحا ً، واللقلق باض ثلاثة مكعبات، واللبؤة أنجبت تسع ضفادع، وولدت الناقة بلابل بمناقير معدنية، والفار ولد جنينا ً غير مكتمل، والدبة أنجبت أرنبا ً بذيل حصان وآذان قرد وأسنان سمكة...
ـ وما هو الغريب في الأمر ...، ونحن نعمل على استبدال القديم بالجديد، وأحادي النوع بالمركب، والمتزمت بالمرن، والصريح بالمتعدد الصفات، باختصار لا أجد ثمة غرابة عدا في موقفك الغريب هذا...!
     رفع رأسه وسألها بصوت مرتجف:
ـ هل أصبحت عتيقا ًإذا ً...؟
ـ أقوالك وحدها تؤكد ذلك، فانا لم أوجه تهمة لك!
سألها بفزع:
ـ هذا يعني إنني أصبحت من الماضي؟
ـ تجلد! اصبر! أيها الطبيب، فانا سألحق بك، عندما اكف عن مواكبة هذا العالم!
ـ وماذا عن قسم ابوقراط؟
ـ آ .....، ها أنت تؤكد مجددا ً انك أصبحت باليا ً، ومن الماضي السحيق!

[119] الديك يعترف
ـ هل ستعترف...، أم أرسلك إلى المحرقة؟
     قال المحقق يخاطب الديك، فرد الأخير بصوت متلعثم:
ـ وهل هناك من يمتلك ذرة من العقل يصدق إنني أنا هو من اعتدى على بنات أوى، وعلى الثعالب، وعلى الذئاب...، ثم كيف يخطر ببالك ان اعتدي، وأنا لم أغادر قفصي، كما ان عملي، في جناح الدواجن، مكبل بشروط قاسية، فرضت علينا، من لدن إدارة هذه الحديقة...؟
أجاب المحقق بصوت واثق:
ـ إن لم تكن أنت هو من اعتدى على تلك الأطياف الشفافة...، فمن يكون هو المعتدي ...، هل هو أنا، أم الكركدن، أم التمساح، أم الطنطل، أم وحيد القرن، أم الفيل، أم الخنزير الوقور...؟
أجاب الديك مذعورا ً:
ـ أنا لا اتهم أحدا ً من تلك الكيانات، ولا من تلك المكونات، ولكنك تستطيع، يا سعادة المحقق، ان تتهمني بتهمة إزعاج أحلام الأسد! حيث تكون عقوبتها ان أغلق فمي، وأنا بدوري سأغلقه إلى الأبد، فهذا معقول...، أما ان أكون قد حاولت الاعتداء على النمر، والدب، والديناصور، فهذا قرار لا يخلو من القسوة!
ـ أخبرتك إنني قد استبدل قراري لو ...، اعترفت!
ـ سأعترف، سأعترف، سأعترف شرط ان لا ترسلني إلى الجحيم، وأنا على قيد الحياة!

[120] امش!
     امش، قال الخروف للذي يسبقه: فالصوف الذي على جسدك، ليس لك، وجلدك، هو الآخر، سينتزع منك، ليصنعون منه بساطيل للجنود، وأحذية للأطفال، لحمك ليس لك، ولا عظامك، ولا دمك...، ولا رأسك لك!
استدار الخروف وسأل رفيقه:
ـ بالرب عليك كيف عرفت هذا كله ...، وهو لن يحصل إلا بعد الموت؟
ـ يا أحمق، الم تر هذا في الإعلانات، وعبر وسائل الاتصال الحديثة...؟
فقال:
ـ لا!
، أنا رأيت..، فأمس عرضوا ما يحدث في المدينة، صورا ً للدخان والخراب وللجثث  الموتى متناثرة في الطرقات!
ـ فقال بألم عميق:
ـ بعد ان يسلخون جلودنا، ويفترسوننا، لن يفلتوا من العقاب!
ـ هم يقولون: بشر الطاغية بيوم لا لون ولا طعم ولا رائحة له.
ـ كيومنا هذا...؟
ـ امش، امش، امش فحتى التراب الذي تمشي فوقه سيسلب منك!

[121] جهنم
    بعد ان أوقع ابن أوى الديك في الكمين، واستسلم له، اخبره:
ـ سأرسلك الآن إلى جهنم!
   فكر الديك وسأله:
ـ ماذا فعلت لك، وأنا اعرف انك ستلحق بي!
ـ من أخبرك بذلك؟
ـ افترسني ...، كي ترى نار جهنم باستقبالك.
   أخلى ابن أوى الديك، وراح يهرول خلفه:
ـ متى يرسلونني إلى الجحيم؟
   طلب الديك منه ان يقترب، وهمس في آذنه:
ـ عندما تكف عن نصب الكمائن لنا.
   أدرك ابن أوى الخدعة، لكن بعد فوات الأوان، فقال متمتما ً:
ـ الدرب مازال طويلا ً!

[122] الحمار والذئب
   نادى الذئب حمارا ً طليقا ً رآه يمر من أمام قفصه:
ـ أنت مكثت آلاف السنين، أيها الحمار الجميل، تحمل أثقال البشر، وتحرث أرضهم، وتنقل بضائعهم، ثم أخيرا ً أسروك ووضعوك في هذا السجن!
فقال الحمار:
ـ مع إنني لا اشعر بالعار، ولا بالخسة، بسبب ما قدمته من خدمات...، إلا ان الحرية التي تتحدث عنها، ليست إلا وهما ً!
ـ أتسخر مني، وأنا أنصحك، وأرشدك، ولا انوي إلا تحريرك!
ـ لقد تركوني طليقا ً، لأنني هرمت، كبرت، حتى ان لحمي لم يعد يصلح طعاما ً لكم أيها الأحرار، فدعني اعثر على زاوية ارقد فيها، بدل إضاعة الوقت بالإصغاء إلى هذا الكلام!

[123] الغراب والحمامة
     سأل الغراب الأسود، من وراء القضبان، الحمامة البيضاء:
ـ وأنت يا حمامة ماذا فعلت كي يسلبونك حريتك؟
ـ اعتقد إننا جميعا ً لم نرتكب ما يستحق هذا العقاب....، لكن اخبرني ماذا فعلت أنت؟
ـ لم يخبروني بالسبب!
ـ أنا اعرف!
ـ ستقولين لأنني علمت قابيل كيف يحفر حفرة لأخيه، ويدفنه فيها! لا...، هذا لا يكفي، وليس لأنهم أذكى منا، وأكثر مكرا ً، أو اشد بسالة ...
   استغربت الحمامة من كلماته، فسألته:
ـ ما السبب إذا ً...؟
ـ لو كنت اعرفه لكنت عرفت كيف لا أقع في الأسر!
ـ هل تسخر من عقلي؟
ـ لو كان لك عقل، لكنت عرفت السبب.
ـ صديقي أيها الغراب الأسود، لا تحزن، فحتى أذكى العقول، مع التي لا عقل لها، تشاركنا المصير ذاته!
ـ الآن عرفت لماذا تنوحين ليل نهار!
ـ وأنا عرفت لماذا كنت لا تتوقف عن النعيق!

[124] سعادة
   قبل بدء الاستعراض الأسبوعي لرقصة" كلنا سعداء أبدا ً" سأل القرد الأسد، وهما يستمتعان بمراقبة الجمهور الغفير لهما:
ـ في اعتقادك، يا زميلي، من أكثر تعرضا ً للانقراض...، نحن أم هم؟
     همس الأسد في آذنه ان وقت الأسى لم يحن بعد، وان عليهما أداء العمل بنجاح لا أكثر ولا اقل.
   تراجع القرد خطوة إلى الخلف، وقال لزميله النمر:
ـ مازال يؤكد بضرورة إغفال ما جرى لنا...
   هز النمر رأسه وأكد له انه غير مؤهل للإجابة.
     بعد الاستعراض، طلب القرد من المدير ان يسمح له بقضاء يوم في جناح الحيوانات الوضيعة.
أجاب المدير:
ـ هذا هو تقديرك لأبناء جنسك؟
ـ أنا لم اقصد أهانتم...، والتقليل من شأنهم، ولكنني كنت ارغب بمعرفة هل هم سعداء في أداء دورهم في رقصة باليه" الحياة سعيدة إلى الأبد"؟
قال المدير:
ـ لم نقل إلى الأبد...، قلنا: أبدا ً!
فسأله في الحال:
ـ هل أنت سعيد؟
ـ بسعادتكم يا سعادة القرد!
ـ أتسخر مني؟
ـ ولماذا اسخر منكم وانتم تؤدون أدواركم بذكاء!
     في طريقه إلى جناحه، شاهد الأسد يجلس منزويا ً في ركن بعيد، فلم يسأله: هل الحياة سعيدة دائما ً؟  بل اصطدم بالنمر، فسأله الأخير:
ـ ما الذي يشغلك؟
ـ ان أتعس المخلوقات وأكثرها بؤسا ً لا عمل لها إلا ان تؤدي رقصة: "الحياة سعيدة إلى الأبد"!
[125] أحلام
ـ جدك الأكبر هرب عبر البحر، والآخر هرب إلى  الصحراء، أما جدتك، فاعتقد إنها هلكت، بسبب الإشعاعات، الأولاد واجهتهم مشاكل لا تحصى، فالبرية ضاقت بهم، وهم ضاقوا بها، فلم يعد لدينا ـ  نحن الذين بقينا أحياء ًـ ما نفعله، فاستسلمنا، والآن عليك، يا حفيدي، ان تستعين بما ارويه لك....، عن الفضاءات، والشمس، والغابات، والبراري، والبحار...
ووجد انه أسرف في التمويه، فقال لحفيده الثعلب الصغير:
ـ والآن عليك ان تكتفي، وتقتنع، باستنشاق رائحة الطرائد!
فقال الثعلب الصغير لجده:
ـ أنا لا احلم بالفضاءات، ولا بالشمس، ولا بالفرائس...، أنا أفكر كيف استطاع البشر أسرنا، وكيف وضعونا في هذه  الأقفاص؟
ـ وضعوا أنفسهم فيها، أم وضعونا فيها؟
ـ لم افهم؟
ـ الم أخبرك ان تستعين بما ارويه لك....، فالبشر، في قديم الزمن، كانوا طلقاء في البراري...، يشتركون معنا في الغابات، والبحار، والبراري.
ـ أرجوك...،لا تتوقف عن الكلام، أرجوك أكمل...
ـ دعني اخذ قسطا ً من الراحة..، فالحديث عن البشر لا يورث إلا الأحزان، والقنوط!
بعد صمت عاد الجد للحديث:
ـ صار الناس يشيدون أقفاصهم!فصار الكبار يخترعون قصصا ً لصغارهم!
ـ لكنهم لا يفكرون إلا بالمستقبل..؟
ـ وهذا ـ هو ـ ما افعله معك، يا حفيدي، ان تصنع وهما ً يمتد ابعد من زمن زواله!

[126] سلام
    بعد ان شاهد القرد، عبر شاشة الحديقة الكبرى، فلم "بزوغ عصر القردة" همس في إذن زميله:
ـ ألا تعتقد إننا جميعا ً انحدرنا من العناصر ذاتها التي كونتها عوامل نشأة الحياة؟
ـ مع إنني لا أكن احتراما ً لأصحاب المخالب، والأنياب، ابتداء ً من التماسيح إلى البشر، ومن العقارب إلى الدبابير...، إلا ان ما يوحدنا هو إننا نشترك في النهاية  التي تختلط فيها العناصر ذاتها التي كونتنا! فما جدوى غضبنا عدا انه لا يدعنا نرحل بسلام!

[127] رماد
ـ اسمع ...
وأضاف الجد يخاطب حفيده:
ـ وحتى لو لم يظهر البشر، لظهر أي نوع آخر.. لأن التراكم شكل مبدأ التمايز...، بين الأنواع، في المكر، والجور، لكن فكر كم سيدوم زمن هذه الحديقة، وأنت تتأمل ما يحدث من تصادمات لن تترك خلفها إلا الرماد، والأثير!
ـ كأنك تطلب مني ان لا أقاوم هؤلاء الماكرين وهم يديرون اللعبة...ظ
ـ أبدا ً.....، لكن ليس لدي ّ قلب يحتمل فقدانك!

[128] صمت
ـ منذ سنوات وأنا لم أسمعك تنطق بكلمة، ولم أرك ابتسمت أو دخلت في حوار؟
    هامسا ً أضاف الفهد، يسأل النمر:
ـ ولم أرك تناولت طعامك بشهية، كأن الحديقة ضاقت بك، وأنت ضقت بها؟
    بعد صمت طويل، وبعد محاولات أخرى لاستنطاقه، تمتم النمر:
ـ أتود ان تسمع جوابي الذي لا يسرك، ولا يسرني أيضا ً؟
    ابتسم الفهد:
ـ كلما سجناء!
ـ مادمت تعرف هذه الحقيقة، فما معنى كلامي، عدا إضاعة الوقت؟
ـ وهل صمتك يفضي إلى غير الصمت؟
ـ  في الأقل...، لا أحاول الوقوع في الوهم، كما لا أوهم غيري!
ـ أي انك لم تعد تحتمل حتى ان تتحدث مع نفسك؟
ـ ومن قال لك أنا أتحدث مع نفسي؟! أم تنتظر ان أفرحك أكثر مما فعلت وأنا أغوص داخل الوحل الذي خرجت منه، والذي لا مناص سأعود إليه.
ـ آ .....، الآن فهمت لماذا لم تنضم إلى السيرك!
ـ أتظن إنني لو لم اشترك، أكون قد نجوت بجلدي؟!

[129] ألوان
   سأل الحمل البقرة:
ـ أنت تأكلين العشب الأخضر، لكن حليبك، أيتها البقرة الجميلة، يخرج بلون آخر، فهو ابيض صاف ٍ مثل الثلج؟
   فكرت البقرة قليلا ً، لتسأله:
ـ كيف خطر ببالك هذا السؤال الذي لم يدر بخلدي أبدا ً...؟
صمت لحظة وقال:
ـ لكن لدي ّ سؤال آخر: هل سنبقى إلى الأبد نسمن، في هذه الزرائب، كي نذبح ونصبح طعاما ً للآخرين؟
ـ وهذا السؤال، هو الآخر، لم يخطر ببالي!
تمتم بحزن:
ـ  هكذا تصبح أقسى الأفعال، عابرة، إن لم تصبح بابا ً من أبواب العدالة، والرحمة...!
ـ ماذا قلت أيها الحمل اللعين؟
ـ ها أنتِ، أيتها البقرة السمينة، تبغضيني وتلعنيني لأنني سعيت كي نبقى نأكل العشب الأخضر، ولا نقدم للآخرين، إلا البياض! لكن، واآسفاه، كلما عملت عملا ً صالحا ً، أجد من يلوح لي بالذبح، هذا إذا لم أرسل إلى المجهول قبل ان استنشق حتى رائحة الهلاك!

[130] قسوة
ـ ماما...، لا أريد ان أرى...، اسلبيني النظر!
استفسرت  الأرنب الأم من صغيرها:
ـ ماذا حدث لك، حتى تكاد تموت رعبا ً؟
ـ رأيت، عبر الشاشة الكبيرة، الثلج يتساقط كثيفا ً فوق خيام المهجرين، والفارين، والنازحين...، ويغطيها...، ورأيت الأطفال الموتى ....، فوق الثلج الأبيض، إحدى البنات لم تغمض عينيها كأنها تحدق في السماء!
ـ آ .....، دعك من هذا...، لأنها حكاية تمتد إلى عصور ما قبل الطوفان.
ـ ماما...، أي قلب أعمى، أي عقل شرير، أمر بقتل الأطفال وتركهم يحتضرون وينفقون في العراء، بلا رحمة، وبلا شفقة؟
ـ كنت أتصور انك تسألني عن قسوة الثلج...، ولكن حسنا ً فعلت..، لأن عليك ان تعرف حدودك..، فبعد ان وضعوا الثعالب، والذئاب، وباقي المفترسات، في الأقفاص...، قلنا: نجونا من الأشرار. أما الآن فما معنى ان توجد مثل هذه الشاشة الكبيرة وسط هذه الحديقة وهي لا تترك خبرا ً سيئا ً إلا وعرضته علينا؟
  أجاب بصوت مرتجف:
ـ لن أغادر مغارتنا هذه أبدا ً!
ـ لا يا ولدي، فلم يعد لدينا ما نخشاه، إلا خطر الطيور الجارحة، وما تبثه هذه الشاشة.....، قبل ان يرسلوننا طعاما ً للذئاب الجائعة القابعة خلف القضبان!

[131] الذئب والكبش
   بعد ان هرب الذئب العجوز وغادر قفصه، وابتعد عن أسوار الحديقة، وجد نفسه محاصرا ً، بين قوى كانت تشتبك بالأسلحة كافة، وقد تناثرت الجثث، جثث النساء والأطفال والشيوخ والفتيان، مضرجة بالدماء، بعد ان مزقت، واسودت جراء الحرق، وعمت الفوضى، لم يعد لديه إلا العودة إلى الحديقة، ملاذه الوحيد. آنذاك لم يذهب إلى قفصه، مباشرة، بل حشر جسده الهزيل وسط أجساد دافئة حالما رأته حتى ذعرت من وجوده الغريب معها، ولكن الذئب، هو الآخر، شعر بالخوف درجة انه يتكلم، ولم يفتح فمه، إلا بعد ان استعاد قواه، وبعضا ً من الطمأنينة، مرددا ً مع نفسه بصوت مسموع: فانا اشعر بالعار أيضا ً! وقد رفع صوته:
ـ لأنني كنت ارتكبت الخطيئة، والآثام، والمعاصي!
هز الكبش رأسه، وبسخرية خاطب الذئب:
ـ ولكنك، يا صديقي، لا تستطيع ان تكون إلا ذئبا ً.
ـ آ .....، لكن دعني، أيها الكبش العنيد، ويا أيتها الخراف الطيبة، ان اعترف لكم بما رأيت..
قال الكبش حالا ً:
ـ رأيت الحرب بويلاتها، بخستها، وخرابها..؟
ـ نعم لقد رأيت الإنسان الذي طالما عمل على قتلنا، واجتثاثنا، ومحونا من الحياة، رايته وهو يجتث نفسه بنفسه! فانا رايته على صورته الحقيقية.
ضحك الكبش من غير ان تغادره السخرية:
ـ وما الغريب في الأمر...، مادمت، أيها الذئب العجوز، طالما كنت تؤدي الدور ذاته إزاءنا؟
ـ أرجوك لا تدعني افقد الأمل...
اقترب الكبش منه:
ـ هل تقدر ان تقاوم رائحة لحمي..، إذا قلت نعم، فانا سأمتنع عن أكل العشب، ولا اسبب له أذى؟!
   تراجع الذئب خطوات مبتعدا ً عن القطيع:
ـ عدنا إلى سر الخطيئة! فمادمت لا تقدر ان تستسلم لموتك بهدوء، قانت لا تقدر إلا على ...، ارتكابها!
    ثم راح يتمتم بصوت مسموع:
ـ حتى لو عدت إلى قفصي، وامتنعت عن الافتراس، فانا غير قادر على اختيار الموت .. جوعا ً!
    اقترب الكبش منه:
ـ وما الجديد...ظ
ـ لا جديد...، فانا كنت اعرف من هو الإنسان، واليوم ازددت إيمانا ً بأنه لا يمتلك إلا ان يكون هو نفسه.
ـ وما الجديد ...؟
ـ أرجوك...، ابتعد عني...!
ـ سأبتعد، لكن من يضمن انك لن تفترسني ...؟
  ولى الذئب مذعورا ً، بعد ان راح القطيع يهاجمه من الجهات كلها، ليتأمله عن بعد: الآن عرفت ان أقسى الاختراعات لا تزول إلا بزوالنا ...، لأنها وحدها للأسف لن تسمح للعدالة حتى ان تكون حلما ً، أو أملا ً، أو حتى وهما ً!

[132] أنت وأنا!
   اقترب الفار من الأسد، وسأله:
ـ بماذا تختلف عني ...، أنت لديك ذيل وأنا لدي ّ ذيل، أنت لديك أنياب وأنا لدي أنياب، أنت لديك لحم وعظام ودم وأنا لدي عظام ولحم ودم...، أنت تريد ان تبقى على قيد الحياة وأنا أريد ان أبقى على قيد الحياة أيضا ً...، فاخبرني، أيها الأسد العظيم، بماذا تختلف عني؟
   ضحك الأسد لفترة طويلة من الوقت، وقال:
ـ أنا في القفص وأنت طليق.
ـ اعرف هذا ... فماذا لديك؟
ـ أنت من تسأل وأنا من يبحث عن الجواب...؟
ـ اعرف هذا...، فماذا لديك أيضا ً؟
ـ أنت تستطيع ان تبول علي ّ، عندما أموت، وأنت تستطيع ان تحقق أحلامك بالنصر، في الوقت الذي أكون قد فقدتها إلى الأبد.
ـ وبماذا كنت تحلم؟
ـ بالتأكيد لم أكن احلم ان تجري معي هذا الحوار!
ضحك الفار وسأله:
ـ ولكن ماذا ستفعل بي في العالم الآخر...؟
ـ آ ......، أيها الفأر، لو كنت تخشى العالم الآخر، لكنت عرفت حدودك في هذا العالم!

[133] الأسماك عارية!
   سأل الطفل والدته وهو يشاركها مشاهدة الأسماك في القفص الزجاجي الكبير:
ـ لماذا، يا أمي، الأسماك تسبح عارية، ألا تخجل منا؟
   مدت أصابعها إلى فمه كي تغلقه، خشية ان يسمعه الآخرين، فصرخ:
ـ ماذا قلت ...،  وأنا اقصد ألا تشعر بالبرد؟!
  ابتسمت الأم، وقالت مع نفسها: حسبت انه سيذهب ابعد من ذلك!
لكنه خاطبها:
ـ في الواقع كنت اقصد أيضا ً، يا أمي، ألا تخجلين من النظر لها وهي تستحم عارية!

[134] مصالحة!
    اجتمعت القنافذ وقررت ألا تؤذي الأفاعي. فأرسل زعيمها برقية بذلك، فجاء الرد، قراءه حفيد قائد الأفاعي على القنافذ: من أسد التراب إلى القنافذ الشوكية، نبارككم إصدار قرار المصالحة! فكتب القنفذ الأكبر رسالة جوابية، أعطاها للصل، كي يحملها إلى جده. لكن لا الحفيد وصل ولا الرسالة وصلت. فغضب الجد وجاء بنفسه، وخاطب القنافذ:
ـ أرسلت حفيدي إليكم، ولم يرجع ...، فهل هذه نواياكم  للمصالحة؟
 قال كبير القنافذ:
ـ المصالحة، يا سيدي، تحتم على كل منا ان يعرف حدوده وان لا يغادرها!
  فصرخ كبير الأفاعي:
ـ وما فائدة هذه الأقفاص إذا ً...؟
ـ هذه...، يا سيدي، للدعاية!

[135] الظلم والعدالة
قالت اللبؤة لشبلها:
ـ يا ولدي...، في الغابة كنا نموت من اجل الحصول على الحرية، وهنا، في هذه الحديقة، تهبنا الحرية ما كنا نحلم به!
فقال ساخرا ً:
ـ كي نرقص، ونلعب على الحبال، مع القردة؟!
كادت تصفعه، لكنها قالت بصوت غاضب:
ـ أي شرير علمك هذه الكلمات؟
أجاب بثقة:
ـ الناس يقولون إننا، معشر الأسود، أصبحنا مثل القردة، والحمير، والقطط...، لا عمل لنا إلا المشي فوق الحبال، والرقص مع الدببة!
بعد صمت غير قصير أجابت:
ـ هذا أفضل من ان ترى، في نهاية العمر، الثعالب تبول علينا!
   ابتعد الشبل عنها، وقد أدرك استحالة العثور على جواب، فتمتم مع نفسه: أنا لم أكن احلم بالعودة إلى الغابة، ولا الخروج من هذه الأقفاص، أنا كنت أفكر بما قاله لي الحمار: أينما وليت وجهي، فلا احد أمامي إلا الناس، ولا احد خلفي إلا الضواري! أما انتم، أيها الأسود والنمور والذئاب، فقد أفلحتم بكسب ود الجميع!
    ثم سأل الشبل نفسه: ماذا لو لم أكن قد ولدت...، أكنت فكرت لماذا أنا موجود...، وها أنا وجدت، فهل لغيابي معنى؟
    مر الحمار:
ـ ها لو ...، أيها الشبل الثرثار...، أما زلت منشغلا ً بالعدالة؟
ـ لا! اقسم لك لا...، فانا مشغول بأمر آخر.
ـ بماذا ...؟
ـ ما الذي يحدث لو دام الظلم إلى الأبد...؟
ضحك الحمار:
ـ لا يمكن للظلم ان يدوم إلى الأبد، ولكن يبدو  لا معنى للعدالة من غير هذا الظلم!
قرب الشبل رأسه من الحمار:
ـ ماذا تقصد...؟
ـ لو عدت ونظرت إلى الماضي، فستعرف ان ما لا يحصى من أسلافنا، لقوا حتفهم، وانقرضوا، كطرفة عين، لكن شيئا ً ما كان يجتاز أقسى الكوارث، حتى وصل إلينا، وحتى وصلنا إليه!
ـ آ ..، فهمت، لا احد استطاع دحض إرادتنا في الذهاب بعيدا ً في المجهول!
صمت الحمار لحظات، وخاطب الشبل:
ـ كما إننا لم ان نحرز تقدما ً يذكر!
  ضحك الشبل:
ـ أليس هذا الحوار، يا صديقي، بحد ذاته، خطوة صحيحة في الدرب؟ ثم تمتم مع نفسه: حتى لو كنا لا نعرف شيئا ً عن هذا الدرب!

[136] كابوس
   ـ مرة ثانية استنشقت رائحة دماء جافة، حادة، وقد راحت تمتزج بومضات موخزة وأصوات تتناثر داخل فراغات رأسي...
    وأضاف الحمار يخاطب رفقائه، في الزريبة:
ـ كأن الحديقة برمتها تحولت إلى عاصفة ترابية، معتمة ...
أجابه احدهم يطمئنه:
ـ ربما أسرفت، يا صديقي، في الطعام.
ـ لا...، فأنت تعرف إنني لم اعد مولعا ً بالأكل...
 قال آخر:
ـ هل هناك ما يشغلك...، يقلقك، ويفزعك...؟
صفن لحظات وأجاب:
ـ في الواقع لم اعد منشغلا ً بمصيري، الشخصي، بل ولم اعد منشغلا ً بمصائركم، يا رفاقي...، فنحن نولد، هنا، للذبح، طعاما ً لتلك البهائم الخاملة ...!
سأله الآخر:
ـ ربما شعرت بالبرد؟
فقال غاضبا ً:
ـ أخبرتكم بأنني لم أر ما يثير القلق...، فقط استنشقت رائحة دماء جافة..، فلم اسمع أصواتا ً، ولم أر ألوانا ً، بل تلمست سكينا تبتر عنقي!
صاح الأكبر سنا ً:
ـ طالما نصحتك ان لا تشاهد ما يعرض عبر شاشة الحديقة اللعينة...، لتنشغل بما يحدث، فتضطرب أحلامك، يا ولدي، ما دمت عرفت إننا كنا نولد كي تفترسنا الضواري، في البرية، ثم أصبحنا نعمل على حمل الأثقال، وبعد ذلك جاءوا بنا إلى هنا ..، فما الذي سيكون عليه المستقبل؟.
ـ آ ....، أخبرتكم، بصدق، إنني غير مكترث للحتميات، فما من احد  عاش إلى الأبد، ولكنني مشغول بهذا اللا معنى الذي راح يصدع رأسي بأحلام سلبتني لذّات النوم!

[137] أنت أم أنا؟
     اقترب عجوز من حظيرة الحمير، فشاهد احدهم يقترب منه، فرحب العجوز به وخاطبه:
ـ اقسم لك...، أنا اعترف بأنك أذكى مني، وأكثر ثقة بنفسك، واحتراما ً لها، واعترف لك انك تتمتع بالرهافة، والشفافية، حد انك لم تفرط  بهما، ولا بمشاعرك، ولا بما يدور بخلدك ..
   وتراجع العجوز خطوة إلى الوراء، لأن الحمار قرب رأسه كثيرا ً منه، فتابع العجوز:
ـ واقسم لك ...، انك تمتلك تصورات جديرة بالتقدير، والثقة، والاحترام، ولكنني أود ان أخبرك، واعترف بمرارة، انك إذا كنت تذبح، لمرة واحدة، لتصبح طعاما ً للبهائم الخاملة، وغير النافعة، في هذه الحديقة، فانا، يا صديقي، ذبحت آلاف المرات، ومازلت اذبح، وأنا أصر ان ابقي رقبتي بانتظار السكين!
هز الحمار رأسه الكبير، استجابة لكلامه، فخاطب العجوز نفسه، بصوت مسموع: ربما قصد إنني لم اعد أر خلاصي إلا بالاستسلام، والخنوع، واللامبالاة!
نهق الحمار:
ـ لا! لا، أيها العجوز، لم يخطر ببالي هذا أبدا ً، بل قصدت انك لم تفعل شيئا ً من اجلي، كي تفعل شيئا ً من اجل نفسك!
ـ أصبت! فأنت لا تموت إلا مرة واحدة، وتنتهي حفلتك، أما أنا، فبعد كل موت، تجدني بانتظار الموت القادم، من غير ملل، ومن غير ضجر، وأحيانا ً بابتهاج!

[138] وليمة
     لامست  النعجة بجسدها جسد الكبش، لتخبره، من غير كلمات، وبلا صوت، ان الببغاء، في الصباح، ألقى نظرة خاطفة، ثم تبعها الثعلب، وتفحص القطيع، ليأخذ حذره، ولا يجادل، أو يدخل في حوار، فالمدير لديه معلومات عن الخروف الذي سيصبح وليمة.
   أجابها الكبش انه لا يمتلك ما يفعله، فان لم يتم اختياره اليوم، فغدا ً...، فانخرطت ببكاء صامت، خشية ان تلفت نظر السيد المدير. لكن الأخير خاطب القطيع:
ـ الأوامر صدرت بإخلاء الزريبة، بغية ترميمها، ونصب سقوف تقيكم من المطر، والبرد..
   خاطبها الكبش النعجة:
ـ ها هو يفند سوء ظنك ِ!
    هزت رأسها ولم تخبره انها كانت تخشى ان تفقده، إنما القرار شمل الجميع.
قرأ المدير بخلدها، فطلب منها ان تقترب:
ـ نعم.
خاطبها المدير:
ـ حقا ً أنت ِنعجة ذكية، وأنا سعيد بفطنتك...، ولكن كيف تمت معرفة  ما دار بخلدي..؟
  أجابت من غير تردد:
ـ بسبب اللام التي كتمتم صوتي، ولم تسمح لي حتى بفتح فمي.
قال المدير بصوت جهوري:
ـ آن لكم ان تعودوا إلى البرية، فانتم طلقاء!
    تجمّد القطيع فجأة وتحول إلى كتلة متراصة نطقت بصوت موحد:
ـ أيها المدير...، اختر أي واحد منا، بدل ان تمزقنا الضواري، في العراء!

[139]  تهديد!
     جرجر الطفل البالغ خمس سنوات من عمره، يد أمه بقوة:
ـ دعينا نغادر هذه الحديقة!
ـ لكننا لم نر الأجنحة الأخرى، لا جناح الغزلان، ولا جناح الطيور، ولا جناح البرمائيات..
ـ أماه، يكفي إننا شاهدنا هذه المخلوقات لا تخجل منا، وقد تركت عوراتها بلا حجاب، وستر، وكأننا في ناد ٍ للعراة!
صرخت:
ـ ماذا تقول...؟
ـ أقول إذا كانت هي المخلوقات لا تخجل منا، فلماذا لا نخجل، نحن، منها...؟
تمتمت مع نفسها بشرود:
ـ ماذا عساه يقول، ماذا عساه يفعل يفعل، بعد سنوات؟
حدق في عينيها شزرا ً:
ـ لن اسمح لك بالخروج من البيت أبدا ً!
فقال بذهول:
ـ من علمك هذا ...، يا ولدي، فأنت ولدت عاريا ً، وستدفن، مثلما خلقت.
وأضافت:
ـ فالمعايير الحقيقية، يا صغيري، يحددها العقل، ولا تحددها هذه العورات!
صاح بإلحاح:
ـ دعينا نخرج، وإلا فانا غير مسؤول عما سيجري....!

[140] أسباب أخرى
     بعد ان اجري الطبيب فحوصاته المختبرية، وبعد إجراء معاينة مباشرة له، قال الطبيب للأسد:
ـ صحتك ممتازة، فلماذا فقدت شهيتك لتناول الطعام...، وكأنك تخفي الأسباب علي ّ....، تكلم، فهذا هو اليوم الثالث...، حتى ان هناك إشاعات تتحدث عن نيتك بإعلان الإضراب عن الطعام؟!
اعترض الأسد بصوت حاد:
ـ هذه وشايات، وأخبار كاذبة...، تنم عن دناءة هؤلاء المخبرين وخستهم عندما يشهرون بكائن مثلي، عاش سنوات طويلة في هذه الحديقة من غير شبهات!
أجاب الطبيب:
ـ وهذا ما أقوله أنا، فنزاهتك فوق الشبهات!
قرب الأسد رأسه من الطبيب، هامسا ً:
ـ منذ سنوات وأنا ارقب...، وقد تأكد لدي ّ، أيها الطبيب، ان القرود، مع فصائل أخرى، قد استولوا على مخازن السلاح،  بأنواعها كافة، وإنهم شرعوا يجرون تدريبات عليها...، وهم الآن يمتلكون كميات كبيرة من المتفجرات، والعبوات الناسفة، والألغام، والأحزمة الناسفة من ناحية...
وصمت، فحثه الطبيب:
ـ أكمل، تابع، أرجوك...، فهذه المعلومات خطيرة؟
أجاب الأسد بصوت واهن:
ـ لكن هذا لم يثر مخاوفي، ويمنعني عن تناول الطعام، فهناك قضية أخرى بالغة الخطورة، يا سعادة الطبيب!
ـ قضية أخرى...، بح بها أرجوك.
ـ ان ترسانة الأسلحة الفتاكة أصبحت تستحوذ على عقول البشر، وهي التي تتحكم بإرادتهم.
ـ  أتقصد ان الإنسان الذي صنعها لم يعد يتحكم بها؟
ـ اجل..، اجل، الإنسان صنع الأسلحة التقليدية، التي سرقت منه، أما الآن، فالأسلحة الفتاكة، المدمرة، هي التي أصبحت تتحكم بالعقول، والمشاعر، والإرادات!
صعق الطبيب، فعاد الأسد إلى الكلام:
ـ فإذا كنا سابقا ً نأمل بحياة مشتركة، فان هذا الحلم قد تبخر تماما ً، لأنه لم يعد لدينا ما ننتظره، بعد ان بدأت الأسلحة عملها، في التخريب.
صاح الطبيب:
ـ سأخبر السلطات بالأمر.
أجاب الأسد:
ـ فات الوقت ...! فلا فائدة ترجى...، بعد ان أصبحت مخازن الأسلحة مشرعة، وبعد ان استولى الغوغاء عليها، لان الأسلحة المدمرة هي التي ستصدر أوامرها للعقول، وللإرادات! فلا القردة ستنتصر، ولا البشر يمتلكون قدرة  السيطرة على استيقاظ البراكين وقد أفاق من سباتها العميق!
تمتم الطبيب، يخاطب نفسه، بصوت مرتبك:
ـ ها أنا أجد إنني لا ارغب حتى بتنفس الهواء!
لكزه الأسد:
ـ لا تكترث، أيها البرفسيور، فهذه ليست هي المرة الأولى ...، ولا اعتقد إنها ستكون الأخيرة!
[141] ابتهاج
     وهما يشاهدان عربة نقل الموتى تتجه نحو المحرقة، تحمل جثمان وحيد القرن، لمح القرد زميلة يقهقه بصوت متقطع، فسأله باستغراب:
ـ هل هكذا نودع شركائنا الوداع الأخير...؟
أجاب حالا ً:
ـ إنهم يأخذونه إلى المحرقة! كما سيأخذوننا نحن أيضا ً.
ـ وهل هذا ما دعاك إلى الضحك؟
ـ لا اعرف لماذا شعرت بالابتهاج! ففي الأقل، يا شريكي، سنتخلص من الدفن في الوحل، فلا احد ينوح علينا، ولا احد يشهر بنا، ولا احد يتذكرنا، بل ولا تكون هناك فرصة للكلاب ان تتبول علينا!

[142] مزاح
   داس فرس النهر فوق ساق الضفدعة، فراحت تصرخ:
ـ كم مرة أخبرتك أنا لا أحب مثل هذا المزاح! فارفع ساقك وإلا فإنني سارد بالمثل!
     سمعتها جارتها فقالت لها:
ـ اهربي من غير ساق، قبل ان يسمعك فيكمل مزاحه معك!

[143] الديك وابن أوى
     وهو يتخلص من مخالب ابن أوى، صرخ الديك موعدا ً، بعد ان أصبح في أعلى الشجرة:
ـ إذا كنت نجوت مني، الآن، فأين ستذهب من نار جهنم، بعد الموت...؟
   رفع ابن أوى رأسه وقال له ساخرا ً:
ـ كم سأكون سعيدا ً بتناول لحمك مشويا ً!
ـ أتسخر من نار جهنم؟
ـ معاذ الله، أيها الديك الشاطر، خاصة انك تخليت عن دجاجتك ولذت بالفرار...!
     عوت الكلاب مهرولة نحوهما، فهرب ابن أوى، فراح الديك يخاطبه:
ـ لا تهرب، انتظر...، ستضطر للاعتراف بجرائمك كاملة!



[144] الحصان والأتان
     مرت الأتان(1) تتبختر نشوانة من أمام الحصان، في الإسطبل، حيث أخفى ابتسامة لمحتها الأتان، فاقتربت منه كثيرا ً، حتى استنشق رائحتها، فسألته:
ـ أتسخر مني، أيها الحصان الجميل؟
ـ بالعكس...، فانا استعدت أزهى أيامي، عندما بذلت كل ما كان بوسعي ان أقدمه للآخرين!
   لم تخبره بما اسر في إذنها، قبل سنوات طويلة، وهو يسفدها: عساك ان تلدي مهرا ًعداء مثلي، فلا تجعليه كالحمار الذي ينوء بحمل الأثقال(2) لتقول:
ـ ماذا نفعل غير حمل الأثقال..، فانا نفسي لو افعل ذلك لتخلصوا مني، وجعلوني وليمة للمفترسات!
ـ هذا هو الصواب.
ووجد صعوبة في متابعة الكلام، فسألته:
ـ أراك مهموما ً، حزينا ً، وتنظر بشرود ...، ولا مبالاة؟
أجاب بلا بعدم اكتراث:
ـ كنت أود لو مت بدل ان انطق بكلمة أسف، على ما مر...، ولكنني سأعترف لك، يا صديقتي القديمة، مادام الكلام، في نهاية المطاف، كالصمت، محض مرور من المجهول إلى المجهول، فها أنت ِ تستنطقيني!
ـ ها أنت أصبحت فيلسوفا ً، تفكر مثل القدماء؟
ـ لا، أيتها الأتان السعيدة، فانا لم اعد اجري في ساحات الوغى، ولا في ساحات المنازلات الكبرى، ثم لم اعد اجر العربات، بعد ان شغلوني بجر عربات الموتى، ثم عربات الزبل، ثم حمل الأثقال، رغم تقدمي بالعمر بعد سنوات طويلة من الخدمات التي قدمتها!
ـ وماذا بعد ذلك..؟
ـ الجواب وحده سيبقى لغزا ً...، فانا لم اقتل، ولم أمت...، بل وجدت مصيري ينتهي بي في هذا الإسطبل، في هذه الحديقة، وقد وضعوا لافتة تقول: حصان أصيل!
نطقت بنشوة:
ـ وها أنا أجدها مناسبة كي نعيد صداقتنا الحميمة القديمة...، يوم ولدت بغلا ً!
قالتها بخبث، فأجاب بصوت واهن:
ـ آ ...، أيتها الجميلة، مهما تقدم العمر بك، فأنت مثار للدهشة، والغواية...، ولكن لماذا تبعثين في الأسى، بعد ان غاب عني عقلي، وفقدت جذوته!
فقالت بحيرة:
ـ  وماذا افعل بعقلك...؟
ـ لا تسخري مني، فالعقل وحده مسؤول عن الغواية، والخطيئة!
ـ لو كان ما تقوله صحيحا ً، لكانوا أرسلوك إلى المسلخ طعاما ً للضواري، أو تخلصوا منك بإرسالك إلى المحرقة!
  فقال بصوت حزين:
ـ لن يطول الأمر ...، فعندما لم اعد قادرا ً على عرض مهاراتي، للزائرين، بوصفي أصبحت أثرا ً، كما قالوا ذلك، ستنتهي حفلتي في هذا الوجود!
ـ يا للخيبة، لن أتذوق عسلك!
فنطق بصوت مرتجف:
ـ لكن خيبتي اكبر ...، أيتها الغالية، عندما لا أجد ساحة للجري، ولا أجد ساحة للمنازلة، ولا أجد قدرة للتمتع بزمني...، عدا الاحتفاء بوجودي وقد صار هيكلا ً...، بعد سنوات بذلت فيها كل ما كان بوسعي ان ابذله من اجل الآخرين، ولكن اخبريني..
صمت فترة غير قصيرة، ليسألها:
ـ أين ولدنا الغالي؟
اكتأبت، وبصعوبة وجد الرد:
ـ افترسته الذئاب.
ـ آ ....، فهمت، لهذا ترغبين بابن...! إذا ً...، لن ادع الحزن يؤذيك، بعد ان  ملأت رائحتك عقلي!، لكن ما الذي يضمن ان بغلنا السعيد، ابننا، لن تفترسه الكلاب، أو ينتهي به المطاف إلى هذا الإسطبل، في هذه الحديقة؟!
_________________________________
1 ـأتان: ( اسم )
الجمع : أُتُنٌ ، و أُتْنٌ
الأتان : الحِمارة ، أنثى الحمار
2 ـ طه باقر " مقدمة في أدب العراق القديم" أدب السخرية والغزل والتراتيل. جامعة بغداد ـ كلية الآداب ـ 1976 ص182

[145] نواح
     ـ مرات، ومرات، ومرات لم تستطع ان تمسك بي، وها أنت، أيها النمر، تقبع خلف القضبان، بانتظار قطعة باردة من اللحم!
    متابعا ً، أضاف الأرنب:
ـ فأي مجد واه ٍ، خاو ٍ، شيّدت عليه سمعتك، وأنت تفترس المخلوقات الوديعة، الرقيقة، المسالمة..؟
   قرب النمر رأسه من الأرنب:
ـ أيها المغفل، لن تستطيع، مهما تمتعت بالحرية، الا ان تصبح وليمة لي...، فلو لم تكن موجودا ً، ومعك مخلوقاتك الرقيقة، الشفافة، لكنا نرقد مع الديناصورات!
فسأله الأرنب:
ـ وهل دام زمن الظالمين إلى الأبد..؟
رفع النمر صوته:
ـ اقترب..
ـ ها أنا بجوارك، لا تعزلنا سوى القضبان.
ـ من علمك هذا الكلام...؟
ـ لا أقول لك ان الحرية علمتني، ولا أقول ان الظلم هو الذي علمني!
ـ كيف تعلمت إذا ً...؟
ـ لو كنت اعرف...، لأغلقت فمي، قبل ان يمنعوني حتى من النواح!

[146] مصائر
    عندما اقترب الحمل من الذئب، كان الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة:
ـ يا لها من نهاية!
ود الذئب لو قال له: انتظر. ولكنه جمع قواه ليقول:
ـ ما نطقت به أيها الحمل الوديع، أقسى من الألم الذي تحدثه السكين وهي تفصل رأسك عن بدنك!
أجاب الحمل بصون حزين:
ـ اخبرني ما الفائدة من موتك...، وأنا موتي كله منافع للآخرين!
   لم يتمكن الذئب من النطق، بل دار بخلده، في لحظة الموت، وإلا ما فائدة وجود هذا العدد الكبير من الضعفاء، والعبيد!

[147] الأسد يتكلم
ـ لم تترك غزالا ً، ولا كبشا ً، ولا ثورا ً، ولا حتى أرنبا ً...، إلا وافترستها..
وراح الفأر يخاطب الأسد الصامت:
ـ والآن رُوضّت، فصرت تجيد الرقص، وتمشي فوق الحبال، وتجتاز حلقات النار، بل رحت تعزف وتغني مع الجوقة، نشيد: من البراري إلى الحدائق، سائرون....!
  وصمت الفأر، فلم ينطق الأسد بكلمة. فرفع الفأر صوته:
ـ هل لديك ما تريد ان تقوله، أم ستحتمي بالسكوت؟
عبس الأسد، ثم ابتسم، ولم ينطق. فسأله الفأر:
ـ أكنت تريد ان تبوح بسر...؟
    لم يجب، منسحبا ً إلى ركن بعيد في القفص. فاقترب الفأر منه كثيرا ً، غير آبه بالرد. تابع الفأر يقول:
ـ لهذا السبب، ربما، تركت أنيابك تختزل الكلام، ولكن ما هو سر صمتك، يا إمبراطور الغابة؟
لم يجب. فاقترب الفأر منه وعضه:
ـ آن لك ان تفترسني!
ضحك الأسد، ونطق:
ـ آه...، لو كنت غزالا ً..!
ابتسم الفأر وسأله ساخرا ً:
ـ ماذا كنت ستفعل..؟
أجاب بصوت خفيض:
ـ سأدربك على الرقص!
ـ آ .....، ماذا فعلوا بك..؟
أجاب الأسد:
ـ أيها المغفل...، أنا وأنت، في المصيدة، فماذا تريد مني ان أقول؟
   هرب الفأر، فدار بخلد الأسد: ربما جاء لاستنطاقي؟ ثم استدرك: وهل يوجد غير هذا القفص، والرقص فوق الحبال؟
مستعيدا ً صوت الفأر: ما أقسى الحرية عندما لا تكون إلا الاختيار الوحيد!
فقال لنفسه بصوت متلعثم:
ـ وما أقسى ان تولد كي لا تمتلك إلا ان تدافع حد الموت عن سجنك!

[148] رائحة
ـ ما ان راني حتى توارى، خلف الأشجار...، لكنني رأيتها تلحق به!
    ساد الصمت، في الحظيرة، ممتزجا ً بالذهول، والترقب، فطلب زعيم الحمير ان يكمل شهادته، قال الجرذ متابعا ً:
ـ ومكثت أتلصص، عن بعد، وقد كان الظلام حالكا ً، والبرد شديدا ً...، لكن كل منهما عثر على الآخر.
متابعا ً أضاف:
ـ وبدأ يجامعها، كأنه يسفدها! فكانت تهز رأسها إلى اليسار تارة، والى اليمين تارة أخرى..، حتى شهقت، وهو تأوه بصوت عميق مسترخيا ً ...، ثم اختفى ...!
فسأل الزعيم الأتان:
ـ هل لديك كلام يؤكد أو ينفي هذا الادعاء..؟
ـ طبعا ً أنا لا انفي، ولا أؤكد ...!
ـ غريب.
ـ أيها الزعيم، أنا لا اعرف من كان السبب، فأنا لا اعرف هل هو الذي أغواني، أم أنا هي التي هرولت خلفه....، فثمة رائحة كانت لا تقهر جذبتنا، وصهرتنا...، لكنما علاقة هذا الجرذ بنا، كيف رآنا، ومن اخبره بأمرنا؟
 سأل الزعيم الجرذ:
ـ حقا ً، من أمرك بهذا العمل...؟
أجاب بصوت واثق:
ـ السيد المدير...، والسيدة مستشارته، الببغاء، بتوجيه مباشر من السيد القائد، الثعلب!
قالت الأتان:
ـ صدقني ...، كنت غارقة في الحلم، درجة الاستحالة الإفاقة منه، ويا للخيبة، لم يدم...، فقد عضني هذا الكلب!
صاح الجرذ:
ـ أنت سمعتها ماذا قالت...!
    فطلب الزعيم من الأتان ان تخاطبه بأدب، واحترام.
صفق الجرذ، قائلا ً:
ـ  أسألها أيها الزعيم ماذا فعلت بعد ان شعرت بوجودي...؟
قالت الأتان:
ـ سيدي، وهل ادعه يفسد علي ً مثل هذا الحلم...؟
ـ أثمة...، آثمة...!
لكنها تضرعت:
ـ الم تفعلها معي، مرات ومرات، أيها الزعيم، بل ومعنا جميعا ً!
خاطب الجرذ الأتان:
ـ يا لها من وقاحة...، لو كانت الخيانة مع حمار أو حصان لهان الأمر ...، لكنك لم تفعليها  إلا مع عابر سبيل...، ومع من...، مع سكير أبله مشرد ...!
فسألها الزعيم:
ـ آن لك تحاكمي وتنالين جزاءك، فاذهبي وقفي عند المحرقة، فلم يعد لحمك صالحا ً حتى للكلاب!
ـ أمرك، يا زعيمي..، لكنني...
قربت رأسها من الزعيم وهمست:
ـ سأخبر السيد المدير بأنك، يا زعيمي، كنت تفعلها مع السيدة زوجته، وأنا شاهدة على ذلك!
صرخ الجرذ:
ـ يا للكارثة، هل هذه حديقة، أم مبغى عام؟
   فرد الزعيم على اتهامها:
ـ إنها فعلت ذلك برضاها، ورغبتها، ويمكنك ان تسأليها!
قالت الأتان:
ـ يا له من حلم أفسده علينا هذا النذل الخسيس!
وحاولت رفسه، لولا انه ولى هاربا ً. فهمست في آذن الزعيم:
ـ سأمكث باقي الليل، معك، أيها الزعيم، أم اذهب ـ بنفسي إلى المحرقة واعترف ...؟


[149] ظلمات
ـ سيدي، إذا كنت تود ان يمتد حكمك طويلا ً، في هذه الحديقة، فلا تدع فترات انقطاع التيار الكهربائي تطول!
ـ ماذا افعل...؟
   أجاب المستشار:
ـ سيدي المدير...، دع الضوء يفيض عن الحاجة!
ـ ولكن هذا سيسمح لهم برؤية المحجوب، والمستور، والمخفي!
ـ لا، لا، لا يا سيدي، دعك من النظريات العتيقة، والحديثة منها أيضا ً، ذلك لأن فترات الظلام الطويلة وحدها تحدث التمرد...، وما ان يحدث التمرد، حتى يصبح عصيانا ً، والعصيان ما إن يبدأ  فسرعان ما يتحول إلى ثورة، وما ان تحدث الثورة، فما عليك إلا ان تضطر للهرب، هذا إذا نجوت من القتل، وما يعقبه من أفعال شائنة!
فكر المدير طويلا ً:
ـ إذا ً علينا ان نمنحهم المزيد من الضوء...، كي يدوم حكمنا ً طويلا ً...؟
ـ نعم...، لأنهم لن يفطنوا للحكمة التي تقول: القيادة هي فن العثور على إجابات على أسئلة لا وجود لها! ذلك لأن  القليل من الضوء ـ سيدي المدير ـ سيدعهم يكتشفون كم الظلمات بلا حافات! أما المزيد منه، فلا يفندها، أيها القائد، ولكنه لا يدع أحدا ًيفكر فيها، أو يبحث عنها،!  


[150] سعادة!
     عند البركة، لم يجد الغزال من يتحدث معه، عدا سمكة وجدها ترفع رأسها قليلا ً من الماء:
ـ هل وصلتكم الأخبار...؟
من غير تفكير أجابت:
ـ علمنا أن السيد المدير قد باعنا!
ـ لم يبعنا فحسب، بل هرب بما باع! والآن يبحثون عنه.
 تساءلت السمكة:
ـ وما الجديد في الأمر...، فأنت طليق تحّوم في الفضاء، ونحن سعداء في بركتنا!
ـ آ ....، قد يأتينا مدير يجهل نوايانا، أو نجهل نواياه!
فضحكت السمكة:
ـ وهل للمدير صلاحيات سوى تنفيذ الأوامر...؟
ـ وهذه هي مشكلتنا، يا عزيزتي، فليس لدينا إلا الطاعة!
ـ عندما لا نمتلك إلا التنفيذ، والتنفيذ، والتنفيذ...، فهل للتمرد معنى، غير منحهم صلاحيات أقسى!


ثقافات || بيكاسو وجيلو.. العجز عن تجنب الحب

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015