الاثنين، 31 أغسطس 2015

تشكيل- رسومات للفنان إسماعيل فتاح تخطيطات تبوح بكتمانها-عادل كامل












  تشكيل

  رسومات للفنان إسماعيل فتاح
تخطيطات تبوح بكتمانها

عادل كامل

    ما الذي أراد الفنان إسماعيل فتاح ـ في هذه التخطيطات، المنفذة بعفوية ـ أن يبوح به...، بالأحرى ما الذي استحال عليه كتمانه، إن لم اقل: ما الذي كتمه...؟
     ها أنا أدوّن بالعوامل ذاتها التي سمحت للفنان بالتعبير عما كان يختلج في أعماقه، وما كان يعانيه...، ليس كذات حسب، بل لتاريخ تمتد ظلماته إلى قرون بعيدة...، أعود أدوّن لشعوري بان النهايات لم تعد محكومة بمقدماتها، بل بما تذهب ابعد من ذلك!
    فلغز (العمل) ـ أو الحرية بوصفها تنمية ، أو الزمن الذي يستحق أن لا يكون فائضا ً وضائعا ً ـ لم تعد معالجته بالكلمات تناسب الزمن الذي مازال يعمل بعناد على هدم كل ما كان بحكم الخراب ـ والأثر...، هذا إذا كان (الفن)  باستطاعته أن يدخل في نظام العمل ـ الإنتاج ـ وليس أن يكون جزءا ً من الاستهلاك، والاندثار...، فببساطة، ومنذ ألف عام، لم نعد نمتلك براعة اختراع واحدة تقارن بأكثر من ألف براعة اختراع أنجزتها عالم واحد عظيم مثل ادسون!، ذلك لأن العمل، أي عمل يتوخى الإضافة والتحرر من آليات الاقتصاد البري ـ البدائي، يعد فرية، بدعة، تهمة، شبهة، ليصبح: ذنبا ً أو إثما ً  لا يفلت من العقاب.

 





   ولأن ثمة دينامية طالما صاغت من إسماعيل فتاح قوة متدفقة، فانه، حتى في لحظات الاستمتاع، أو الاسترخاء، والاستراحة ، أن يفكر بتخطي حدوده، وان لا يدع الزمن يأخذ طريقه إلى الأفول، والغياب.
   كانت ثيمة (الموت ـ الحب) ترجع إلى زمن أقدم، من زمن تنفيذ هذه التخطيطات 1985، ولكنها لم تتبلور لديه، بإرباكاتها، وجدليتها، وبملغزاتها، إلا عندما اشتدت عليه العزلة، والوحدة، في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، إحساسه الدائم باستحالة الإمساك بما كنا نراه يدّب نحو نهايته: الخراب ـ والصمت.
    وعلى الرغم من أن فن النحت يقاوم (الهشاشة) ويعمل على منح الفراغ معادلا ً مع الكتلة، إلا أن ثمة لغزا ً لا يكمن في الزمن ـ كحركة ـ بل كجوهر: ذلك الذي يعمل على التفكيك ـ والتفتيت.
    وباعترافه لي ـ بعد أن كنت أوقدت فيه معضلة (إنانا) بوصفها سيدة الأقدار: الموت ـ والحب ـ انه لا يستطيع فصل الحدين عن بعضهما من غير شعور بتحول العالم إلى فراغ بلا حافات. فانانا، بالسومري، تعني (الحياة)، حاملة معنى (حواء) في أساطير الخلق العراقية القديمة، فهي لم تدفن حبيبها، بعد أن دفنته في ظلمات العالم السفلي، بل ستعمل على إنقاذه، وبعثه مجددا ً إلى الحياة.
عمليا ً، البذرة إن تُدفن، لن تنبت. وديموزي، مثال، عبر مواسم الحزن، والبكاء عليه، بانتظار عودته، وبعثه، عبر الدورات أو الفصول، لم يستبعد (القدر)، بل يحاذيه، بفعل غوايات (إنانا) أو (الحياة) أو (حواء)...

 





    هل ثمة عقدة تكاد تتجاوز ما سيشكل كراهية للعمل، والإنتاج، بل والابتكار، توازي علاقة الرجال بالنساء....؛ عقدة تبدو إنها تحولت إلى مرض لا شفاء منه إلا بديمومة هذا المرض! مكثت تنتج ما كان أعظم شعراء العراق الحديثين الملا عبود الكرخي قد لخصه في رائعته الفريدة( المجرشة)، ومعناها غير ملتبس، وغير مشفر، مع انه موجه ضد الواقع الاجتماعي ـ السياسي،  لكنه يضعنا ـ وجها لوجه ـ إزاء: انانا ـ الدنيا ـ  برمتها.
    لم يكن إسماعيل فتاح قد أقام معرضه (رجال ونساء) إلا بعد عقد ...، ولكنه طالما شعر بان الفجوة ـ التي تبلغ أحيانا ً حد الفجيعة ـ مازالت فعالة، بما كانت مجرشة الكرخي تعنيه وتقصده: الهواء ـ أو الفراغ. فالمجرشة لا تطحن شيئا ً ـ كما كانت الحياة تطحن ضحاياها.

 



    وقد تكون ثمة أسبابا ً أخرى مجهولة ـ جينية أو أسرية ـ غير التي أفصح عنها الفنان كانت تغذي إحساسه بالفراغ ـ والخديعة ـ وتنتهي به إلى: الوهم، سمحت له مقاومة الاستسلام للهزيمة، أو الرضا بالخمول.
    فديناميته ـ ضد مشاعره باستحالة حضور الذي لا وجود له، إن كان الكامن في لغز البذرة، أو الذي تمثله أساطير الخلق/ ديموزي، سمحت له أن يتلهى ـ غواية ـ بالحياة بمعناها النسبي،  فبعد أن عاش حياة طبيعية في أوربا ـ ايطاليا، حلم أن يستكملها في بغداد، فاصطحب معه فنانة مرهفة موهوبة لتشاركه مشروعه الفني. لكن تجاورهما لم يدم طويلا ً...، لتعود الفجوة تتسع وتعمل عملها...، وهي ذاتها القائمة بين النساء والرجال، كأحد أشكال المجتمعات التي لم تجد فرصة لمغادرة اقتصادها البري ـ البدائي.
    كان إحساسه بالعزلة محفزا ً له لاجتياز موضوع (الموت ـ الحب) متمثلا ً بعدد كبير من تجاربه في النحت، وفي الرسم...، إلى توكيد ـ يبلغ حد التكرار ـ لموضوع الرجال ـ النساء.

   في ذلك المساء (14/5/1985)، كالأيام التي كان إسماعيل فتاح محورها، في جمعية الفنانين التشكيلين العراقيين، ولا أتذكر إنني أنا من طلب منه أن يخطط، بل أتذكر انه هو من سحب الأوراق مني عنوة...، وراح يخطط، بانفعال مشوب بالقلق، والتوهج، فقد كان منتشيا ً بثمالة طائر يرقص بعد الذبح! فلم يكن موضوع الموت قد احكم انغلاقه عليه، بل وجد انه يحوّم في مكان آخر... هو ... الجسد.
   كان يحدثني عن حلم لم يفارقه ـ قبل رحيل ليزا زوجته وبعد رحيلها ـ بإقامة علاقة مع امرأة عراقية...؛ كأنه كان يرغب أن يحفر في أسطورة (انانا) نفسها، بالعودة إلى: الطين ـ مادة الخلق الأولى ...، وإعادة تمثل آليات سر دفن البذرة...، للعثور على أمل...، ما...،  لأن المرأة لن تصبح مشروعا ً مكتملا ً إلا بالآخر، مما يستدعي ابتكارات لردم المسافة ـ وفراغاتها ـ بينهما.


  


     في تلك الجلسة ـ وقد أرخها الفنان ووقعها أيضا ً ـ باح بكل ما كان يمثل عذابا ً حقيقيا ً يعيشه، ولا يفصح عنه بالكلمات...، فترك أصابعه تفصح عن قلب وحيد...، وعن ذات مقيدّة، وعن صراع غير قابل للخمول أو التسوية...

    ولم يكن الفنان يجهل  التاريخ الكبير المعروف، لمثل هذه الموضوعات، ومعالجاتها، وهي ترجع إلى المعابد السومرية، والهندية، ومتوفرة في تجارب أقدم، ترجع إلى الآلهة الأم...، وما كان ينفذ كتعويذات، وتعاليم سحرية، وطبية، كما إن العديد من المتاحف الكبرى، تضم مجموعات فنية نادرة تتناول تصوير الأعضاء، والوضعيات الخاصة بالممارسات الجنسية، خارج الأعراف، والرقابة، والمحرمات...، فالأنثى ليست جسدا ً يسعى له الذكر، ضمن ممارسة الكائنات الحية بلا استثناء، من اجل الإخصاب أو الاستمتاع، بل هي أقدم علامة حملت مفهوم: الخلق ـ الإنتاج. إنها (حواء) بوصفها: المولدّة. ولكن حواء من غير الآخر ـ وبعيدا ً عن مفاهيم الخطيئة وتأويلاتها ـ لن تستكمل مشروع الحياة برمتها، إلا بوصفها حاملة لبذرة الحياة وديمومتها: موتها الذي لا يموت!
   اعترف بأنني ـ في تلك الجلسة ـ لم احتفظت إلا بهذا العدد من الرسومات، لسوء تقدير مني وأنا أتلفها، لأجد ما تبقى منها، لدي ّ، بعد 30 عاما ً، توقد الرغبة ذاتها التي وجدت سكنها في هذه التخطيطات، والتي نفذها الفنان، بتلقائية، وعفوية، ولكن بالإفصاح عن كتمان اعتقد انه ينتظر من يعيد قراءته، في تاريخ مبدعنا الكبير: إسماعيل فتاح الترك.
*هناك تخطيطات مباشرة، فاضحة، يمكن الاطلاع عليها لدى من يقتني هذه الوثائق الفنية، على نحو خاص.
Az4445363@gmail.com


مجلة المرفأ الاخير العدد السابع 2015


الجمعة، 28 أغسطس 2015

قصة قصيرة- حافات: عادل كامل

 قصة قصيرة


 حافات


عادل كامل


     بعد أن راقبه لزمن غير قصير، قرر الهدهد أن يذهب إلى الذئب، لعله يفك لغز ركونه إلى الصمت، ومعرفة أسباب اعتزاله. فوقف بجواره داخل القفص الكبير، وكما توقع الهدهد إن زيارته ستكون خالية من  اللياقة، وفيها الكثير من الفضول، فقد مكث الذئب ينظر بشرود إليه غير آبه لوجوده الغريب، وغير المبرر، بمحاذاته، وعلى بعد مسافة قصيرة عن عشه، وذلك لأن الهدهد، لم يره فتح فمه بشكوى، أو طلب  مرحمة، أو تظلما ً، ولم يره تذمر أو استنجد، ولا حتى نمت عنه رغبة بطلب الغفران. كان يمضي جل وقته نائما ً أو كالنائم، وبين مراقبة الزائرين، والغرباء، بلامبالاة تعزز رغبته بالصمت، حتى لم يسمعه عوى، أو اخرج صوتا ً عند تناوله للقليل مما كان يلقى له من الطعام.
    ولم يجد الهدهد وسيلة للدخول في حوار معه، فقد شاهد كيف أن الذئب لم يفتح فمه أبدا ً لا مع من كان معه، في القفص، ولا مع من حاول استفزازه، أو استنطاقه، من الآخرين، ولا حتى مع الطبيب، الذي عجز عن سبر سر هذا الموقف الغريب، فلم يجد لديه إلا رغبة أن يشاركه الصمت، وعدم بلبلة فكره بتأتات أو همهمات أو خشخشات لا فائدة منها إلا لهدر الوقت، فأغلق فمه، مكتفيا ً بإرسال نظرات قرأ فيها الذئب إنها غير قابلة للإفصاح عما تخفي، بعد أن وجدها غير شريرة إلا بما يوازيها من فضول سمح له بتبادل النظرات وعقد روابط قائمة على قراءة ما يدور في الذهن، وفي الجسد. فدار بخلد الهدهد انه لا يجهل شراسة الذئب وقوته ومكره طوال الفترة التي أمضاها في البرية، قبل أن يتم أسره، ووضعه في القفص، إنما كان ذلك قبل سنوات بعيدة...، ذلك لأن الذئب، بعدها، اكتفى بحياة الأسر، في منفاه، من غير عواء أو عصيان.
   حدس الذئب ما دار برأس الآخر، فسره أن يجد شريكا ً لا يعمل عملا ً قبل النظر له من الجهات كلها، مع انه لم يستنتج بان نهاية ما مغايرة قد يتخذها الهدهد، غير الابتعاد، والعودة إلى عشه. لكن الهدهد وجد أن حياة الذئب شبيهة بحكاية المخمور الذي التجأ إلى زريبة النعاج والحمير طالبا ً الحماية، والتخفي، تذكر الهدهد صوته الخفيض وهو يتضرع للنعاج والخراف بإخفائه بعد تهديد زمرة كانت تنوي قتله، فسألته إحدى النعاج: وماذا فعلت...؟ فلم يجب المخمور، لأنه وجد طمأنينة أدت به إلى فقدان الوعي، وما أن آفاق، في اليوم التالي، حتى غادر بهدوء من غير أن ينطق بكلمة، فتعجبت النعاج والحمير والخراف من حكايته، ولم ينشغل أحدا ً بفك لغز لجوءه إليها وهربه متسللا ً في اليوم التالي....، ذلك لان الهدهد شاهد كيف تم إلقاء القبض عليه، والدوران من حوله، ثم قتله، ورمي جثته إلى التماسيح، من غير أن ينطق بكلمة. لا يعرف الهدهد لماذا تذكر المشاهد المؤلمة وكيف راحت توخزه محدثة ألما ً في أعلى رأسه، ففطن الذئب للذي يحدث له، فرفع رأسه ثم أعاده إلى الأرض، ولكنه لم يجد وسيلة لمقاومة شعوره بالألم الذي يعاني منه الهدهد، فهو ـ دار بخلد الذئب ـ لا يقدر أن يمنع حدوث ما حدث، ولا يستطيع أن يتجاهل تأثيراته عليه أيضا ً. فالألم هنا ـ دار بباله ـ بليه تكاد تكون فائضة، مع إنها اشد وقعا ً من الحدث نفسه.
    فخطر بذهن الهدهد أن يحفر في الأسباب التي دعته لمعرفة مبررات صمت الذئب، بعد سنوات طويلة قضاها زعيما ً لعشيرة الذئاب، وسنوات أخرى عاشها مرفها ً في الحديقة، وهل ثمة ضرورة لم يقدر أن يتلافاها ويبقى بعيدا ً عنها، منشغلا ً بحياته الخاصة ...؟ لم يجد ردا ً، لأنه بدأ يتلقى ومضات من رأس الذئب تخبره أن النهايات كافة تذهب ابعد من محاولة الإمساك بها، فهي مبرمجة بأسلوب لا يدع من يراقبها  إلا أن يتتبعها ليجد إنها خارج أية خلاصة يظن انه استنتجها أو أدركها. كاد الهدهد يعلن عن نصر ما في العثور على مبرر لا يدعه يوغل في فقدان اللياقة، بإرباك حياة ذئب عجوز اختار عزلته، ذلك لأنه شعر بألفة ما معه...، كلا، قال انه عمليا ً مازال يفكر مع نفسه، وليس مع الآخر، فثمة لذّة سمحت له بمراقبة جسد الذئب النائم، والتسلل إلى المناطق البعيدة  التي يتجول فيها، رؤيته وهو يحلم بمراقبة ما مضى وما هو قيد الغياب، وانه ـ فظن بحرارة ـ لم يعد يؤدي الدور الذي طالما افسد عليه أحلامه، وأربك ضميره، حول فك العبور إلى المناطق المحرمة، والتجسس على نوايا الآخرين، فانا ـ كاد ينطقها بصوت مسموع ـ وجدت الأمر لا يقاوم طالما الأحداث تأخذ مسارات ملتوية، متقاطعة، ومتعرجة تجعل نهاياتها غير قابلة إلا للشروع بتدشين مسارات أخرى...
    ضحك الذئب رغم بذل جهد لاستحضار حالة المرح...، لأنه لم يصدق أن يجد آخر شبيها ً به تساوت عنده الأبعاد...، والحدود...، فوجد الهدهد فرصة لتبديد حاجز الصمت، فقال:
ـ مع إنني جئت بدوافع اجهلها....، فلا تظن إنني سأسألك لماذا اخترت الصمت...، ولماذا بادلتني هذه الابتسامة، بل الأمر يتعلق بقضية إن كلانا أدرك إنها خارج حدودنا....، فلا أنت بلغت ذروتها، ولا أنا استطيع تركها تحدث من غير ....
فقال الذئب بصوت مرتجف:
ـ عندما عشت في البرية تخيّلت إن نهاية حياتنا ـ هناك ـ لا علاقة لها إلا بنا....، ولكن عندما أسرونا، وقيدونا بهذه الأغلال، فقد شعرت إن الحرية  هي وحدها الوهم العنيد الذي  لا يدعنا نفقد حصول المعجزات.....، بالعودة إلى بريتنا!
قهقه الهدهد:
ـ لكن ليس هذا وحده هو الذي دفعك إلى الصمت...؟
ـ ها أنت تعود إلى السؤال الذي شغلك ومازلت بحثت عن إيضاح له...
ـ وماذا قبله..؟
ـ ليس هو المخمور الذي وقع بيد القتلة وهم يطلبون منه التوبة...، حتى قال لهم: توبوا انتم أولا ً من القتل  فانا لن اضطر إلى تدمير عقلي!
ـ آ ....، هل شاهدت ما حدث...؟
ـ وشاهدت ما هو أفظع....، لأن حديقتنا، يا سيدي، لم تعد الحياة فيها محتملة...
ـ ها أنت عدت تحلم بالعودة إلى الصحراء...
ـ أخبرتك ...، إن معجزة الخلاص من هذه الحديقة والفرار منها بحاجة إلى معجزات...
ـ ولهذا اكتفيت منشغلا ً بالأحلام...؟
ـ حتى الحلم بحاجة إلى أحلام تسمح له أن لا يدعك تموت...!
ـ الحلم بحاجة إلى معجزة...، والمعجزة بحاجة إلى حلم...، مثل قولنا لولا الباطل لما عرفنا الحق، ولولا الشر لما وجد الأشرار، ولولا الخطيئة لكانت البراءة صفر، أو وهما ، أو بلا وجود!
ـ بل هي تحديدا ً ذروته!
ضحك الهدهد مسرورا ً:
ـ استطيع القول أن كل ما يحدث هنا يقود إلى الصمت...؟
ـ ليس ما يحدث...، وليس ما سيحدث، بل ـ بالأحرى ـ  كل ما حدث لا يدعك إلا أن تكون مشاركا ً فيه...، فالشمس التي تتغنى بها الكائنات، هي، في الأصل...، من استحدث العفن...، هذا العفن، حياتنا برمتها!
ـ آ ....، أين ذهبت...؟
ـ لا..، أنا لم اجتز المحرمات...، ولا الممنوعات...، فانا، مثلك، مقيد  بهذا الذي يسمح لي أن أكون طليقا ً. فانا لم اكفر، ولم أجحد، ولم اعص، ولم أصر زنديقا ً...، لأن صمتي ذاته هو جزء من اللعبة...، أو قل: القانون!
ـ هكذا ...، يا شريكي، يصبح الواضح ملغوما ً...، والبسيط معقدا ً، وهكذا تختلط الحقائق، فيصير الأسفل أعلى، ويتحول الجور إلى عدالة...، فهذا يزعم أن الحقيقة هناك، وآخر يقول انه وحده يمتلك سرها، ولكنك عندما تعيد النظر في ما حدث ـ ويحدث ـ تكتشف إنها لم تكن هناك، ولا هنا...، ففي البرية كنتم تولدون وتموتون من غير ضرورة لمعرفة لماذا كنتم تموتون ولماذا كنتم تولدون...، أما هنا ـ في هذه الحديقة الغناء، الشبيهة بالفردوس، بل الأكثر شفافية منه ـ فالأسئلة توّلد الأسئلة، مادامت إجاباتها تنفي الإجابات، فإنها تكون شبيهة بالذي خلق الظلمات وقال كافحوا أن لا تسوّد وجوهكم، ومثل الذي يلقيك في المستنقع ويقول لك لا تتوسخ، بل وشبيه بمن خلق الشر قال انجوا فهذا امتحان للضمائر! لأنك، حتى عندما تمسك بالمعجزة التي تسمح لك بالحلم، وحتى عندما يأتي الحلم لك بالمعجزات فانك تدرك استحالة خلاصك من اللعبة، ومعناها، لأنها تكاد تجري خارجك، مع انك وحدك ضحيتها!
ـ قلت الفردوس ...، ولم تقل: الجحيم...؟
ـ لانك، مثلي، لم تعد تجد فجوة بينهما، ومثلي، لم يعد يسرك ما يسرهم، ولا ما يؤذيك يؤذيهم، فالبهائم او الانعام او المخلوقات عامة تولد كي تتقدم، وكي تخطو خطوة الى أمام، لأنها كلما تقدمت، كما تقول الحقائق، تزداد تخبطا ً بين الرجوع إلى بذرتها الأولى...، وبين ما هي عليه، عند خاتمتها...؟
ـ آ ...، أين ذهبت؟
ـ تقصد...، كم ارتددنا، وعدنا إلى ما قبل نشوء بذرة الخلق!
ـ مع انه لم يعد يعنيني التقدم، أو الارتداد، ولم يعد يعنيني ما إذا كان النهار خرج من الليل أم أن الليل خرج من النهار...، إلا إنني أراك أخفيت علي ّ، مثلما على الآخرين...، بل وانك أخفيت الأمر على نفسك...، سر انتظار معجزة تديم وجودك وأنت تمضي ما تبقى لك بين الحلم وغيابه...؟
ضحك الذئب بصوت أعلى:
ـ أنا لا انتظر معجزة ما، لسبب بسيط، هو لأنها قد وقعت! ولا انتظر شيئا ً ما لأنه بحكم ماضيه...، لهذا لم يعد لدي ّ إلا أن امضي حياتي بعيدا ً عن ـ نفسي ـ قبل أن أكون بعيدا ً عنكم....!
ـ هكذا ... تكون مثل الوليد الجديد إن صرخ جذب الأعداء والمفترسين إليه، وإن ركن إلى الصمت فسيكون بعداد الموتى ...، ويرحل وحيدا ً كمن لم يمتحن، أو يعاقب بالخروج!
ـ دعنا لا نختلف...، أرجوك، فأنت وأنا، لم تعد لدينا فواصل بين الحدود...، فالذي يذهب سيأتي، والذي يأتي سيذهب، فما من دورة إلا وهي جزء من دوره....، إن اتسعت فإنها ستتقلص، وتنكمش، وإن تقلصت وانكمشت حد الصفر فإنها ستنفجر! وخير مثال تعرفه، واعرفه، أن اكبر الشموس لا يقدر أن تحافظ على وجودها...، مثل الطاغية لا يدوم طغيانه إلا بديمومة الظلم...، والقانون لا يسمح بمثل هذه الديمومة، لأنها لا تستطيع أن تدوم!
عاد الذئب إلى الصمت، فخاطبه الهدهد:
ـ ها أنت تتحرى ـ في ذاتك ـ عن لغز القفل...، وليس عن لغز المفتاح...؟
قال بعد أن امتد صمته لزمن غير قصير:
ـ ها أنت تعمل العمل الذي بلغ ذروته!
ـ التفكير...؟
ـ لا! بل أن تفكر انك لا تستطيع إلا أن تفكر؟
ـ لو كان هذا، يا سيدي، حكما ً سليما ً  فان ما من قفل بلا مفتاح، مثلما لا بيت بلا باب، ولا سفر من غير مسافر...؟
ـ ها أنت، أيها الهدهد، تتحرى، وتنبش، وتبحث عما كنت أخفيته عنك...؟
ـ تقصد عن نفسك؟
ـ أحسنت! لأنني لو كنت اعرف ما في نفسي لعرفت ما في نفسك..؟
ـ وهل لي نفس، وهل تبقى منها شيئا ً، وأنا أوشك على الرحيل؟
فكر برهة:
ـ أنت جئت تنبش في قبر بائد، كالنابش عن الجمر في رماد،  وكالباحث عن ملاك في مستنقع، وقد كان الأجدر بك أن تتحرى عن فضولك هذا في نفسك قبل أن تبحث عن هذا الذي لم يعد له وجود...؟
ـ عدنا إلى القفل والمفتاح...، فأنت لم تختر صمتك إلا بعد أن أعياك العواء، والصراخ، والكلام...؟
وسأله:
ـ أم أنا أضعت المفتاح..؟
ـ لم تضعه...، ولم يضعك، فأنت لا تجهل حتى اللا أسباب أن لها أسبابها! مثل إدراك إن المصادفة لا تحدث إلا بوجود ما لا يحصى لها من المصادفات...! فالوضاعة شبيهة بالنتانة لها منافع اقل من مضارها! ولكنك الذي مازال يشغلك لم يستكمل دورته!
ـ اعرف ...، ولكن اخبرني هل اخترت صمتك كما كنت تختار فرائسك في البرية...، أم أن صمتك اختارك رغما ً عنك...؟
ـ لا ترغمني للاعتراف بكلام نهايته سابقة على مقدمته، مقدمته ابعد من نهايته!
ـ هذا ـ هو ـ ما قصدته...، فأنت  لم تختر صمتك، إلا لتخفي عويلك كي لا يفضحك...، ومع ذلك فانك تظن إن صمتك ـ هذا ـ سيزلل بوابات السماء، بعد أن دفن عميقا ً في الأرض...؟
ـ السماء، السماء، السماء....، دائما ً هناك الأعلى وهناك الأسفل...، هناك النار وما فوقها، هناك الأرض وهناك سراديبها...؟
ـ هذه هي خلاصة ما قلت... فماذا قصدت...؟
ـ أنا قصدت...، أيها الغريب، إنني سأفقد صمتي، أو قل، سينتزع مني عنوة في الأخير...؟
ـ ها أنت عدت إلى الصواب! لأنك ـ ببساطة ـ كنت مضطرا ً له.
ـ آ ....، ها أنت ترغمني لسؤالك: هل يصح وجود من يختار الذهب إلى المحرقة بنفسه...؟ هل يصح ارتكاب الخساسات والنذالات والدناءات بطيب خاطر...؟ هل يصح أن يتم اختيار الجحيم بعد أن زينت له الجنات بنعيمها....؟ أم هو أعمى، أو معتوه، أم لم يعد يميز بينهما...؟
ـ ماذا تقول أنت...؟
ـ أنا ليس لدي ّ ما أخاف عليه ...، فلم تعد الأسرار أسرارا ً إلا لأنها ذهبت ابعد من ملغزاتها، وظلماتها! فما جرى، يجري، وسيجري هو هذا الذي لن يترك قويا ً إلا وأهلكه، ولا خسيسا ً إلا وأذله، ولا متخما ً إلا وسلبه ما كان قد اغتصبه....، إنما هذه الأمثال تقال للتمويه...، في الغالب، فالمليارات، المليارات، المليارات تؤكد بطلانها! فمنذ تشكلت أول خلية وصولا ً إلى أعظم أستاذ يتحكم بمصائرنا لم تتغير قوانين اللعبة....، فالضحايا هم مادة ديمومتها...، كالعدل تراه سهل المنال إنما كلما دنوت منه ازداد بعدا ً...!
ـ آ ....، لديك ما تريد أن تخبرني به... أليس كذلك، وليس ما تتستر عليه، وتخفيه...؟
ـ تقصد ...، إنني لم اعد اقدر على حفظ السر؟
ـ هو لم يعد قفلا ً...
    رد بخوف ممتزج بالألم:
ـ ها أنت تدعني امسك بالمفتاح، وأنا سبق  لي بمعرفة انه لا يدور! فالقفل ُسمح لنا به كي يبقي أوار لعبته متوهجة!
ـ آن لك ...أن تقول كلمتك...
ـ وأموت..؟
ـ اجل! فلا معنى أن أخدعك...، لأنك لو لم تمت فهذا يعني انك غادرت قفصك، وما دامت حديقتنا مسورة، ومحمية، ومحروسة، ولا يمكن الهرب منها....، مثل الدنيا لا تخرج منها حتى لو ـ هي ـ غادرتك، فان دعائي لك بطول العمر يغدو سببا ً تاما ً لطردي...، كي تعود إلى صمتك!
ـ ألا ترى إن مرضنا لا يلتفت له إلا من يظن أن له عقارا ً ..، وانه يأمل بالشفاء؟
ـ لا تذهب ابعد من صمتك..!
ـ ها أنت تراني أتكلم بقوة أرغمت صمتي على التراجع...، فانا كالذاهب إلى الجحيم، طواعية، لكن اختياري ليس إلا كرها ً وبغضا ً... وعنوة.
ـ اعرف.
ـ ولأنك تعرف إن كلامنا لا يذهب ابعد من مسافته في التلاشي...، مادامت حديقة الفساد لا تقدر على قهر حديقة العدل...، فان حديقة العدل لن تقدر إلا أن تحافظ على ديمومتها...، فهي تعرف من تجرجر...، ومن تغوي!
ـ احد أصدقائي كان يقول لي إن لا معقولك غدا عدما ًمرحا ً! لأنه أراد أن يقول: إن لم تكن مع حديقة العدل فأنت ـ بالضرورة ـ تحت حماية حديقة الفساد...، فأنت ـ يقصد أنا ـ أتباهى بالذهاب إلى الجحيم كي لا اصدق إن هؤلاء سكان الجنان أبوا أن يبذلوا جهدا ً في خلاصنا.
ـ آ ...، بل أنت تريد أن تقول: أية حديقة هذه تجرجر أنعامها وطيورها وبراعمها إلى الجحيم، وتلقي بهم في بحارها المستعرة...، وأي صنف هذا الذي يخلص نفسه على حساب بهائم عمياء...؟
ـ دعك من سيدنا المدير...، استأذنا، وزعيمنا...
ـ ومن ذكره...ن وأنا شارد الذهن باستحضار ما أراه يقترب حتى أراه مندثرا ً... أم هذه علة العميان الأبديين...؟
ـ ها أنت تخلق جنتك رغم قيودك داخل هذا القفص...؟
ـ ها أنت أجبت...
ـ قسما ً بالفاسدين، الأنذال، الاخساء، الأنجاس، اللصوص، الـ ...، قسما ً بكل من أذلنا، وأعاقنا، وحفر لنا، ودس السم في زادنا، وانزل الوباء والخراب والموت فينا، قسما ً بهؤلاء ...، وقسما ً بالذين جرحوا قلوب أمهاتنا، ورملوا نساءنا، ويتموا أولادنا، وانتهكوا حرماتنا....
   لم يدعه يكمل:
ـ أتقسم باركان حديقة الفساد....؟
ضحك الهدهد:
ـ وما جدوى القسم بمن لا يؤمن لك حتى الأقل من القليل، كالزاد والأمن والشرف!
ـ وهذا ما فعله سيدنا الذي لم يحتمل هذه الحديقة...، عصى، تمرد، ثار....، فرفع رأسه حيث الأعالي...، وصرخ حتى زلزلت الأرض، فأخرجت أثقالها، ونزت بما حملت، تبعثرت جبالها، وتفككت هضابها، فسمعه صاحب الزمان...مديرنا الخالد، فأمر بقطع رقبته، وأمر أن يحمل رأسه فوق بالرماح! وقالوا إن من فعلها هم أهل الدار...، وما كانوا غرباء...، بل هم أبناء عشيرته...، فقد حثوه على الثورة، ثم انقلبوا عليه....، فتكلم فقطعوا رأسه...
، اعرف...، لكنك لم تصمت خشية الموت، أو إنزال ما هو أبشع منه؟
ـ ولا هو خاف من الموت...، فقد سعى لإقامة حديقة لا يموت فيها الضعفاء، ولا تسبى فيها الحرائر، ولا تنتهك فيها حقوق الماء!
ـ كأنك تتحدث عن أمراء سجوننا في هذه الحديقة الغناء، الباذخة....بالموارد، والثروات، والكنوز...؟
ـ الامثال تقال بغية التمويه، كما قلت لك...
ـ ولكنك تكلمت! فلم تخش ان يقطع رأسك، او ترمى الى المزابل، تتلهى بك الضواري، وتتعفن مع النفايات....، فلا احد يقترب منك، ولا احد يطالب بحقوقك...
ـ لقد أصغوا إلى صمتي، وسمعوه.
ـ ولم ينزلوا بك عقابهم..؟
ـ يا سيدي، انظر إلي ّ: لم يعد لدي ّ إلا هذا الجلد، وبقايا عظام، وخواطر شاردة....، داخل هذا الوكر، في هذا القفص، فما الفائدة من بتر رقبتي، أو برصاصة تكتم صوتي...؟
وأضاف:
ـ ثم إنهم اتخذوني ذريعة لمجدهم!
ـ لكنك لم تعد تقوى حتى على فتح فمك...
ـ لن أبوح لك بالسر الآخر إلا لأنه...، غدا يعمل عمل العواء!
ـ سر من لم يعص، يتمرد، ويعلن العصيان...، سر من كتم صوته، وأغلق بابه، وتدثر بالظلمات!
ـ اجل ...، فقد ظن انه امسك بالمفتاح، فمات كمدا ً...
ـ الم توص أحفادك بمثال الشاه إن خرجت عن القطيع مزقتها أنياب الضواري، وإن لم تخرج فان باب المسلخ  بانتظارها، لأنه الوحيد الذي لن يغلق أبدا ً!
ـ بل لم أوص إلا بتركي أموت من غير وصية...، فيا أيها الهدهد، الذي نبش في عتمة نفسي، ومدافنها، وعرف ما كان عليه أن لا يعرفه،إن لم تكمل ما أمرت به، قطع راسك، وإلا فأنهم سيرسلونك إلى الظلمات.
ـ لم افهم...
ـ ذلك لأن اشد البهائم غباء ً، يتصرفون تصرف أكثرها ذكاء ً، وحكمة، وذلك لأن أنبه الأذكياء، ما هم إلا، في النهاية، أما يحملون رؤوسا ً خاوية، تتبع أوهامهم، وأهواءهم،  وأما هم يتبعونها، لبلوغ الخاتمة ذاتها التي تذهب ابعد منهم، ومنا جميعا ً!
ـ ها أنت لم تعد تخشى موتك!
ـ وهل الذي حكم بالموت، قبل ميلاده، لديه ما يخشى عليه...، وهل لديه قدرة أن يفعل شيئا ً..؟
   كاد الهدهد، وهو  لا يستطيع منع منقاره من إصدار أصوات ذات إيقاع راقص، أن يعترف للآخر، بالنصر: النصر بوصفه متساويا ً ـ بل ومعادلا ً ـ للهزيمة، ولكنه تراجع، شعورا ً منه بان ما باح به الذئب، لا يذهب ابعد من حدود الصمت. فسأل نفسه: وماذا لو كنت لم انجح في استنطاقه....، هل كنت سأتذوق مرارة الهزيمة، وكأسها، الذي تذوقه سقراط، الذي لم يأبه  إن كان السم مرا ً حد الشهد، أم حلوا ً مثل العلقم، ما دامت القضية، بعد غيابها، كأنها لم تحدث، أو كأنها ـ دائما ً ـ حدثت قبل وقوعها؟ ولكنه حدس من غير تفكير انه لم يأت لاستنطاقه، ولم يكلف بمثل هذه المهمة الدنيئة أصلا ً، وانه لم يفعل شيئا ً مما نسب له، قائلا انه إن لم يكن يستحي من الخالق، فانه يستحي من نفسه! ليس لأن التستر على المعلومات لم يعد ممكنا ً، بفعل تقنيات قراءة ذبذبات الرؤوس وومضاتها، بل لأنها إن لم تكن لصالحنا جميعا ً، فان إخفائها لا يليق بنا أبدا ً. فقال الهدهد للذئب بصوت مرح:
ـ آسف...، آسف درجة إنني ابحث عن اعتذار غير الأسف... بل وأرجو أن تغفر لي... تطفلي...
ـ لكنك لم تفعل امرأ ً مشينا ً يا جاري، وشريكي في المحنة!
ـ لا...، بل سلكت معك سلوكا ً يثير الشبهات، مع إنني، في قراره نفسي، كنت أتتبع خطتك في اختيارك للصمت!
ـ آ .....، أصغ إلي ً برهة..، قبل أن تغيب، وقبل أن تتوارى، وقبل أن تختفي في أدغال هذه الحديقة وممراتها...، وقبل...، وقبل..
لم يدعه يكمل:
ـ اكرر اعتذاري، سيدي، مرة أخرى....
ـ دعك من هذا الوهم الآن...، ومن هذا التمويه، حتى لو كان صادقا ً....، آ ... لقد شرد ذهني! حتى إنني لم اعد أتذكر ماذا كنت أريد أن أقول لك ...
أجاب الهدهد حالا ً:
ـ كنت تريد أن تقول: الأول صرخ، استغاث، استنجد، ففصلوا رأسه عن جسده، أما الثاني، فتستر، كتم، وكظم غيظه، فتخلى عن رأسه أيضا ً، لكنه ترك صمته يرفرف، مثلما ترك الأول دمه يذهب ابعد من الجريمة...؟
ـ لا! صدقني لم يدر هذا بخلدي...، فانا لم أقع في المتاهة، ولم أترنح بين الليل والنهار، ولا بين الحياة والموت...، مع إن المتاهة شبيهة بانتصار النذل الخسيس والأكثر مكرا ً على الآخر المتخبط المجذوب إلى الظلمات..، فانا لم أساوم بين الأضداد، ولم امجد انتصار الأقوى على حساب المستضعف المقذوف إلى أسفل السافلين...، ولم أتراقص  بين الحدود، وحتى تلك التي لا يمكن فتح ثغرة فيها، كما لم اخلط بين من يموت دفاعا ً عن حفرته وبين الآخر الذي يردم الحفر على ساكنيها، ولم أكن لا أميز بين من يقتل نفسه ليقتل سواه، وبين من يقتل الآخرين كي ينجو بقتل نفسه ويتنعم بالجنان.....، لا، لكن ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث، يجعلك تتجرع أخس مرارات السموم التي تجعل من الموت نهاية شبيهة بالحياة!
هتف الهدهد:
ـ إذا ً أنت بلغت الذروة لتقول: لا معنى للموت..، ولا معنى للصمت!
ـ ليس تماما ً...، وإنما تكاد تدرك انك أضعت الذي كان عليك أن ألا تتنازل عنه، لتدرك في الأخير انك لم تخسر بإرادتك ما كان عليك أن تحصل عليه من غير إرادة!
ـ عدنا إلى الحياة الشبيهة بالموت..، والموت الشبيه بالحياة، وكأن الليل نهار معتم، والعتمة نور تجمد حد الصفر...، بل وعدنا للحياة التي لا تشبه الحياة، ولا بالموت الذي يماثل الموت...، ولا بالموت الذي يشبه نفسه! فالجميع ـ حتى الذين عملهم غدا إفساد الفاسدين والأبرياء معا ً وإغواءهم من ثم دفعهم كنعاج، خراف، ماعز، أبقار، بعران، جاموس، دواجن وأرانب إلى الموت ـ توحدهم النهاية ذاتها بما لا تفصح عنه ولا تبوح به أبدا ً...
صمت الذئب طويلا ً، ليرفع رأسه، وينطق بتردد:
ـ  ها أنت أربكت المسافة بين من كظم الأذى ورحل كظيما ً وبين من فضل  أن لا يفطس في حفرته ويتعفن بهدوء...، بهدوء...، فيها.
وأضاف بعد صمت:
ـ ها أنت أربكت صمتي! فأنت انتزعت مني سكينتي...، مع إنني لا افتخر أن أرى أحدا ً يتملقني، وينحني لي، ويمجدني!
   اقترب الهدهد كثيرا ً من الذئب:
ـ آن لك أن تفترسني! فتستريح مني...، وأستريح من نفسي! فانا هو من تحرش بك...، واعتدى، مع إنني صفحة بيضاء!
تراجع الذئب خطوة إلى الخلف:
ـ لو كنت أفكر بكل من آذاني، واعتدى علي ّ، وعاقبني، وشهر بي ظلما ً، وبكل من حاول جرحي، وقتلي، وإنزال اشد العقوبات......، بمن سرقني، ووشى بي، وتلصص علي ّ، وغدر بي....
صرخ الهدهد:
ـ اعرف...، سيدي، حتى أكاد أبوح لك بما يدور داخل رأسك، وبإحساسك إن كل مخلوقات هذه الحديقة وجدوا من اجل إنزال العقاب بك! وما من مخلوق فيها لم يؤذك، ويجرحك، ورام إرسالك إلى المحرقة!
هز الآخر رأسه:
ـ  حتى أنت... للأسف ... لم تدعني أكمل ما كنت أريد الاعتراف به إليك....
ـ آن لك أن تقرر، وان تنزل أقسى العقوبات بي...
ضحك الذئب بصوت مرح لا يخلو من التندر:
ـ هذه ليست هي العدالة! وهذا ليس هو العدل! فانا لست من يقرر معاقبتك...، ولكن الذي يؤلمني إنني لم أجد من يفسر لي كيف يصبح الأعرج مدربا ً للرقص، والعليل حكيما ً، والأعمى يقود، وفاقد الضمير مرشدا ً، واللص أمينا ً على بيت المال، والمأبون قدوة .....؟
     ما أن صمت حتى أحس بوخزات حادة تضرب أعلى رأسه، فتراجع خطوة أخرى للخلف، نحو مغارته، متابعا ً:
ـ الآن اخبرني...، ما الفائدة من إنزال العقاب.... بكل من أوشى بي، وشهر، وبالباطل سعى للنيل مني...، ما الفائدة من افتراسك، أو لو أغلقت بالتراب علي ّ نفسي باب هذا الشق ، الشبيه بحفرة الجرذان، التي لا تتسع لمخلوق لو عوى إلى الأبد فلن يخرج صوته ابعد من حدود هذه المسافة...؟
ـ حدست!
ـ أرجوك...، دعني أغلق باب مغارتي علي ّـ مغارتي الشبيهة بباب بيت الموتى، وأنا اسكنها بجوار عرين الليوث وأقفاص النمور ، وارقد لصق كهوف الدببة، مغارتي التي تشرف على جانب من ضفاف مستنقعنا الخالد...ـ وأتدرب على إغلاق فمي، لكن ليس كي لا احلم، بل كي يكون لهذا كله ذلك الفاصل الذي ما أن اندمج بينهما، حتى يكون انتصار الموت برهانا ً تاما ً على أن الحياة مازالت تحث خطاها، حتى لو كانت تتعثر بعثراتها....، قبل حضورنا، وبعد غيابنا!
27/8/2015

غالب المسعودي - إرتياب..............!

السبت، 22 أغسطس 2015

في التشكيل العراقي-من الوجه إلى المجهول : تأملات في بورتريهات عدنان المبارك- عادل كامل



 في التشكيل العراقي

من الوجه إلى المجهول :
تأملات في بورتريهات عدنان المبارك



عادل كامل

إشارة
    قانون نشوء خلية الخلق، أو بذرة الحياة، قبل مليار عام، وتطورها، لم يدحض بخرافة إن الإنسان ظهر بالصورة التي ظهر عليها قبل عشرة آلاف عام، مع استثناء إشكالية لغز الدينامية، أو سر تكّونها، وتكّون ما سيشكل معنى الـ (النفس) أو (الروح)، بوصفها ذاتية الحركة، أو من غير علة، أو علة تامة..الخ، وقد أكد مسارها ـ مع تطوره ـ انه يتضمن مجموع النظريات الجبرية، والاحتمالية، والمتعددة النهايات.
    فخلية (الخلق) قائمة، في وجودها، على قانون دحض غيابها. على إن (الغياب) سيغدو ـ ذاته ـ المعضلة. فهو نقيض (التراكم) بعد تكّون البذرة ـ وجسدها ـ لأنه سيوضح حقيقة مفهوم الصراع من اجل الحفاظ على هذا المكتسب، وتراكماته، كأقدم نسق لتكّون  الملكية ، ولرأس المال بعد ذلك.
    ومن الصعب الحديث عن أولى التجارب الممهدة للفن (الأواني الفخارية/ الدمى/ رسومات المغارات/ القلائد والأساور...الخ) من غير الوعي المصاحب للعمل غير الحر في إنتاج الحرية. (الحرية/ كأقدم دفاع اكتسب شرعيته ضد اللا شرعية أو في مواجهة الحتميات). فالتشبث بالحياة، بعد الانتقال من اللا عضوي إلى العضوي، لم يجرد النبات، ولا الحيوان، ولا الخلايا المركبة، عن نشوء نواة (الدماغ)، ودور الأخير، بالانتقال من وجوده ـ كما هو عليه ـ نحو وجود راح يعدل وجوده، بالحذف والإضافة، نحو مصير لم يهمل انه نشأ بلغز وانه إزاء لغز آخر، هو المجهول، أو بقاء الدينامية لا تُغلق بخاتمة.
    عدنان المبارك، الذي ألهمته (السينما) أفق البحث عن (بيئة) غير التي باتت محدودة، حد الموت، في وطنه العراق، راح يطور أدواته، بدراسة اللغة ـ اللغات ـ وصلتها بمكوناتها، كالأصوات والإشارات وكل ما يخص الحواس، والقدرات الحدسية، ومنها القبلية ـ لبناء مشهد سردي/ وصفي/ تأملي/ ونقدي في الأخير. وعندما أقول: عدنان المبارك، فلا أصفه ناقدا ً، أو مترجما ً، أو قاصا ً، أو روائيا ً، أو باحثا ً، أو رساما ً..الخ، بل نموذجا ً مكث يبرهن انه حصيلة علوم وفنون وآداب مختلفة، كالتي تميز بها فلاسفة سومر، مصر، الصين، الهند، اليونان، ومن ثم انتقالها إلى الشرق، مرة أخرى،  واستقرارها في القارة الأوربية، لتبلغ ذروتها ببلوغ الحداثة نهايتها، وتتيح المجال لأدوات تستحدث تطورها بالمكتشفات الهائلة لقوانين الكون ـ والحياة ـ عبر (الذات) وهي تواجه مصيرها الأول: مقاومة غيابها بمزيد من الحث نحو: دينامية تقلب مبدأ: الافتراس/ العدوان/ العنف إلى:جماليات مغايرة لمفهوم (السلعة) نحو مشاركة لأجيال رآها تقاوم مبدأ (الهرم)، أي سلطة المركز القائمة على قاعدة عريضة من العبيد، أو من النمل البشري.
    بمعنى إن نصوصه المركبة، حتى وان تحددت بالأشكال ـ الرسومات ـ أو بأدوات اللغة ـ القصة/ الرواية والسرد عامة ـ فإنها لم تعمل على ترسيخ الثابت، كفن، بل التحرر منه، بمنح الفن مداه الأبعد...، حيث (المعضلة) المتجّذرة في نواة (الخلق) مازالت تحافظ على آليات عملها، حتى بعد أن غدا (الوعي) شبيه بهيمنة لا تجعل رأس المال، وحده يعمل جذرا ً أو أسا ً للتقدم، فالجمال غدا ينتج جمالا ً، بفعل الوعي المستحدث المراقب لتاريخ (الوعي) وهو الذي ـ على صعيد رأس المال ـ الذي راح يبلور لغز القانون، ويذهب به ابعد من قانون: التشبث بالوجود ـ الملكية.
    ومع إنها فرضية تتضمن فتح المجال لطرق غير معبدة بعد، إلا إنها تعلن قطيعتها مع تاريخ (التمويه) و (الأبدي) و (الثابت) ولكنها، كلما حث العلماء تقدمهم في سبر المناطق غير المكتشفة، تساعد على إرساء مبدأ أن (الحرية) لا يمكن عزلها عن حق المكونات الأخرى بحريتها أيضا ً. فاستبدال حتمية (الاغتصاب والعدوان وأي شكل من أشكال الأحادية والغلو ) يسمح للإنتاج أن يستحدث أدواته (للتحرر) وليس للعبودية، وفق النظام التراتبي السائد، ولمد الحياة بوعي  يجعل القانون القديم نفسه وقد أنتج نقيضه ـ: نفيه.
   لقد تشبث عدنان المبارك بالوجه (البورتريه)، مثلما بنظام السرد الذي وازن بين ألشفاهي والكتابي، العفوي والفلسفي، البدائي والمعقد ...الخ، ليس نقيضا ً للتطرف ـ منذ الدادا وصولا ً إلى اللا فن والظواهر المواكبة لحرية السوق أو تيارها القائم على اللا متوقع والعشوائي ـ بل توخيا ً لاستبعاد (الاستهلاك) ومنحه ديمومة ترتقي بالتجربة الجمالية إنسانيتها المهددة بالتلف ـ الخراب ـ والمحو. فأزمات عالمنا في فاتحة الألفية الثالثة، المنذرة بتصادمات كمسار لخطة مبرمجة نحو ذروتها، تجد من يتعارض معها، ويدحضها، ولكن ليس بأسلحتها، ومنها العنف (حد بعث واستحداث جرثومة الفتك ونزعة العدم)، بل بما أنجزته التجربة الفنية/ الجمالية، لتشكل رأس مال مستقبل من سيولدون في عالم اقل خرابا ً، وتلوثا ً، واضطرابا ً، ووحشية، لعل ثمة ما يعّول عليه يكمن في الجمال، ولغز حضوره في مواجهة المجهول.
   فاختيار البورتريه، كأقدم صدمة جعلت الذات إزاء قدرها،  وتاريخها، منح عدنان المبارك قدرة استبدال التباهي بالانتصار على الآخر، لصالح أن لا يفقد الفنان حريته: الأمل باستحداث طرق لتحرر (الحرية) ذاتها من قيودها، كي تكون المقارنة، ابعد من المثنويات، والجدل بأنساقه التقليدية، حيث الكامن في اللغز ـ لغز الحياة ـ يبقى يتدفق ابعد من  المتوقع، والافتراضي، لكن لصالح الجمال، وليس لبناء عالم يتأسس فوق بركان.

[1]: مكونات، تتابع/ تحولات


لم يكن للبورتريه ـ الرأس تحديدا ً ـ أهمية تذكر لا في تماثيل الآلهة الأم، ولا في رسومات الكهوف ـ بين 100 ـ 20 ألف عام ـ فلم يكن الرأس قد استقل بعمله، كمركز. كان الجسد مأوى اللغز، لغز بذرة الخلق، كتاريخ للعصور اللا تاريخية، وهو اللغز المزدوج: للغذاء ـ وللخصب. فلم تدجن الحيوانات، وتروّض، ولم يتم انتقاء المحاصيل، وتحديد قيمتها، إلا كجز من آلية البقاء. فكيف انبثق مفهوم التدوين من اللا تدوين، والزمن الأرضي من اللازمن ـ أو من الزمن الكوني، أو من العدم..؟ فلا رؤوس للدمى، إلا كعلامة فائضة. وفي رسومات الكهوف، إشارات نادرة لنقاط تمثل الصياد، فالحواس مازالت تؤدي ما عليها من وظائف، ولم يتح التراكم لها ان يتحول الرأس إلى مركز. فكانت العصور البدائية السابقة لعصر التدوين، تدوّين تاريخ (القلب) ـ الجسد/ الدم/ وطقوس القتل ـ من ثم، عندما لم يعد (القلب) وحده لغزا ً، ولا الرحم، تربع الرأس على العرش. انه أقدم شكل للمثلث: الهرم، النظام وقد أعاد للمركز سطوته على القاعدة. ولم يتأسس هذا النظام ـ التشكيل ـ بمحض الخيال، أو بقوة خارجية مستقلة عن (التجريب ـ التاريخ)، بل غدا التدوّين أقدم عمل لقلب الاقتصاد (العشوائي) إلى الاقتصاد المنظم. فالهرم لم يتخذ المثلث علامة له إلا إيجازا ً لنظام: الصياد ـ الطرائد. فالهرم ليس رمزا ً للموت، بل لقوته، وقوة الموت، ـ منذ مقتل ديموزي وانبثاقه، دون إغفال اشتغالات مراثي سومر، ومراثي أكد للنسق ذاته، لكن جمعيا ً، بعد ان كان بحدود الإله الواحد ـ هنا، مستمدة من التركيب المعقد للمتناقضات الخاصة بالرب القدير، وهو يستعين بالعناصر الأرضية في خلق الإنسان، الطين والماء، وفي الأسطورة البابلية، الطين والدم. قوة الهرم تعد أقدم (بورتريه) للوعي الجمعي ـ وآلياته ـ بالتجريد الهندسي. فهو رمز الإله، ولده، وهو الإله ـ الفرعون، الذي لا يموت، وإن مات ـ كجسد ـ فالروح ستعود له. فهو قوة كامنة، قوة دائمة، قوة لا يمكن قهرها. بمعنى غدا (البورتريه) مركزا ً لاواعيا ً للصراع ـ العام والخاص ـ الصراع مع الطبيعة وضواريها وقسوتها، ومن ثم الصراع مع البشر ضد البشر، صراعا ً تطوريا ً لخص تاريخ صنع الأدوات، وتقدمها. تاريخ تبادل السلع من الفوضى إلى حرية السوق. وليست أسطورة (نرسس) إلا مثال يؤكد ان ما رآه نرسس، فوق سطح الماء (المرآة)، ليس محض اكتشاف للرأس، فحسب، بل دافعا ً لمنحه كيانه الجديد. انه ليس أنانية محض، وإفراط في الإعجاب، وغلو إلا للانتقال من (المخفي) نحو المعلن: من الجسد/ الأم، الكهف، البذرة، النواة ..الخ، نحو المفتاح. فإذا كانت تلك الكيانات تمثل القفل، فان انشغاله بالبحث عن المفتاح، سيسمح له بصناعته، وليس بالتنقيب عنه. انه عمليا ً أقدم تعريف لنظرية المؤامرة: القصد المخفي وقد غدا يعمل بالحتميات في مواجهة العشوائية، والاضطراب. على ان نرسس لم يكتشف وجهه في الماء ـ كمرآة ـ بل أصبح الوجه يحمل تاريخ الوجوه منذ تشكلت جرثومة الخلق ـ بما تمثل فيها من إرادة للديمومة ـ وصولا ً إلى لحظة: الدهشة، الصدمة، المعرفة، والمزيد منها. فالهيئة (الوجه) ـ كما الهرم ـ خلاصة أزمنة بلغت ذروتها بالأداة ـ الاكتشاف: البصر أولا ً، ومن ثم الحواس المرافقة، ليعّبد دربا ً ليس هبة ـ كما يهب الجلاد الحرية لضحاياه، وكما يهب القائد أوسمة لأبطاله الموتى ـ بل ضرورة تدحض حواجزها، وحجاباتها، كي يكف نرسس عن الإعجاب بذاته، ولكن ليس نحو الإعجاب بالوجه البشري، بل لتعديله، كي لا يكون حضوره محض وجود حدث مصادفة، أو عرضا ً، بل بما تتطلبه دينامية التدشين، والممارسة، لمنح الديمومة منطقها، وآلياتها، وغوايتها، ولغزها، وجمالها، وكي يغدو الفن ضرورة محركة للحريات؛ حرية تهدم مرآتها، في هذا النسق، كي لا ترتد، أو تنغلق. كان البورتريه، في الماء، وسطا ً بين الأرض والهواء، بين: الأسفل وبين الأعلى، الماضي وما سيولد، المرتد والمتقدم ...الخ، ولكنه سيغدو، عبر الأزمنة، لصيق القوة الأكثر تحكما ً في المصائر، مصائر البشر كافة. فأولى (الصانع/ الحرفي/ الساحر) ـ في النحت والرسم والفخار ـ هذه العلامة، أبعادها كاملة: بورتريهات ملوك، رجال معابد، تجار، قادة، سحرة، كاهنات ..الخ، بما تمثله من هيمنة على الموارد، أي الاقتصاد المنظم، والقطيعة مع العشوائية. على ان التحريم لدى عدد من القبائل، يؤكد منحى مزدوجا ً لرأس المال ـ الثالوث المكون من: الخطاب/ القوة/ الثروة ـ فهو يحافظ على سرية (التراكم) ومنحه لغزه البدائي ـ الماورائي/ المثالي .. الخ، ومكانته العليا أيضا ً. فالتحريم لم يدم طويلا ً، بعد ان غدا (البورتريه/ علامة المركز؛ السلطة) المتحكم بالسياق الجمعي للتراكم. فهو صراع خفي بين القلب، وبين العقل. بين الجسد والصورة، بين المخفي والممكن، وأخيرا ً، بين: الظلمات ـ والنور. فالبورتريه أرخ، عبر النصوص الفنية، وما تبقى منها، اعقد الصراعات، والتحولات، بما يمثله (الرأس) من مكانة في الديمومة، في مواجهة الاندثار، والغياب. فالموت ليس محض ملكية ضائعة، مع انه يمثل الخسران، والفقدان، والتوقف عن العمل (الإنتاج)، بل سيمتلك قوته بلغز ان: الحياة لا تنبثق إلا منه. فلا زوال للملكية، في الأخير، مادامت الشمس ستشرق مجددا ً، ومادمت البذرة، لن تنمو إلا بالدفن. آليات ظاهراتية تمتلك أنساقها مهما استقلت الأشكال عن مكوناتها، كما في الفن الحديث. فالرأس لم يعد (الطاغية) أو (الإله) بل هو الضحية. والأمثلة ناصعة، وفي مقدمتها السيد المسيح، بعد قصة حلم إبراهيم وهو يرى انه يذبح ولده إسماعيل. فالضحية ـ هنا ـ غدا الفعل المقدس: الذي تكمن فيه سرية الديمومة، في مواجهة الفناء. فالاشتغال الرمزي، بواقعيته، خيال صاغته الأسس التجريبية، وخضعت لمنطقها، حتى ان استقلاله ـ بل وعزله عن الجسد/ البدن ـ شبيه بالعملة ـ النقد ـ كقوة دالة على ما فيها من متراكمات، مادية ورمزية ومشفرة، تؤدي دورها كآلية للاختزال، والتحكم بالزمن. فإذا كان البورتريه قد بدأ صفرا ً ـ من غير رأس تقريبا ً ـ في الاقتصاد البري، وصولا ً إلى الحداثة ـ والعولمة، فان هيمنته ستتضاعف، مع تحول العنف، من تلقائية الغريزة ـ إلى تنظيمها، ومن عفوية القصد، وبرمجته، كنظام لا يعرف الرحمة، بعزل الهوى عن العقل، وعزل التبذير عن التراكم، فان المجهول وحده سيأخذ موضوعات الوعي، بالأهمية ذاتها للحياة كاملة. انه السلطة، بتراكم خزينها الطويل. سلطة تراكمت فيها عصور: الزواحف/ الثدييات/ والإنسان الحديث/ مقننة بطبقات الدماغ الثلاث. ومقولة ديكارت: أنا أفكر فانا موجود إذا ً، دالة على ان عصر (الجسد) برهن ان الوعي اقترن بالوجود، وليس بماضيه، ولا بغيابه، ولا بما يتعرض له من تهديدات بالزوال. انه صراع بين عناصر ما تحت النظر، مع عناصر ما فوق النظر: الثقيل/ الخفيف، الكثيف/ الشفاف، الخفي/ المعلن ..الخ، كي يمثل البورتريه التاريخ الذي سيعيد (الرأس) نبشه، ووضعه كقوة للديمومة. ومرة أخرى يغدو الموت مركبا ً من فعله وما ضد هذا الفعل، فالمفكر ـ الذي يدير الإنتاج ويتحكم به ـ آليا ً، ووفق اللاوعي الكلي ـ الكوني، الإلهي، والأرضي، هو الموضوع بتاريخيته، مجده، وأبهته. وهو، في الوقت نفسه، سيغدو: الأثير. فالا صورة، بعد تفكيك الذرة، وصولا ً إلى المناطق اللا مرئية فيها، قوة تماثل اتساع الكون إلى لاحا فاته، كلاهما شكل مكونات (الدماغ) ـ العقل أو ماكنة التفكير ـ بالأشياء لذاتها، وفي ذاتها. وبعيدا ً عن التجربة المعقدة للتصوف، فان قراءة تاريخ البورتريه، بمعنى من المعاني، قراءة لتطور الدماغ، وقدراته على النمو. ومع ان (فوق كل ذي علم عليم) بالغة الدقة بتجريبيتها، فان البورتريه، لن يتخلى عن توثيق ان (الرأس) غدا صورة رمزية للكون، في حضوره الذاتي ـ بل والفردي الخالص. فهو ليس علامة للتاريخ، أو علامة تاريخية، وحضارية، فحسب، بل تمثلا ً للأسرار بانتقالها من المخفي إلى الظاهر، ومن العدم كمفهوم يماثل الصفر في قوته الديالكتيكية ـ قوة تماثل حضور الزمن من اللازمن، والوجود من اللا وجود، ذلك لأن العناصر التقليدية ـ منذ اليونان ـ لم تعد تسد التركيب الذي تقوم عليه المادة. فإلى جانب الزمن ـ كعنصر حاسم ـ هناك المضادات لها، الداخلة في تركيبها، كقوة غير أحادية تتحكم بما رصده (الدماغ) من اكتشافات، فلا العناصر الأربعة ـ الماء/ التراب/ النار/ الهواء ـ وحدها تمد الخيال بما هو ابعد منه، بمفاتيح لا تتقدم ـ عشوائيا ًـ وإنما ثمة عناصر لا مرئية كامنة في كل خلية من الخلايا ـ خلايا الدماغ، ومشفرات الجسد برمته، مع إنها، بما نعلم، تلقي الضوء على ان ألجين الواحد يتكون من ترليونات الوحدات! فالعناصر التي كونت البورتريه، لا تكمن في مواجهة الغياب حسب، بل لتأسيس حضور آخر يبتعد عن (الملكية) والوجود التراكمي للمادة. انه الحضور الرمزي للتشفيرات ذاتها التي ستمنح، كل ذات مفكرة، القوة ذاتها لدى كل من كان له الحضور في الشهادة ، وفي الوجود؟ فهو شهادة غياب استحال إلى مد الحضور بما لم يُدشن بعد.

[2] اختلاف ـ ووحدة


هل تتماثل الذرات، في حركتها، وتتشابه...؟ كلا، مادامت وثبات الإلكترون غير منتظمة، بأدواتنا وبمقاييسنا. كذلك العناصر، بذراتها، من الماء إلى النار، ومن التراب إلى الهواء، والى الأثير، لا توجد ذرة مستقلة بعملها بمعزل عن الكل الدينامي. فلا مجال لوجودها في ذاتها عدا انها تنتمي إلى خواصها: ذرات ذهب أو ذرات غبار. والأمر، في الكائنات، لا نملة تشبه نملة أخرى، ولا عصفور يماثل آخر. فبوجود ترليونات الترليونات من البذور، والخلايا، والوحدات الأصغر، في مساحة مختارة، لا يمكن هدم الاختلاف. صحيح، عندما ينظر العربي الشرقي، للوهلة الأولى، يتساءل: كيف يعرف الصيني الصيني الآخر؟ انه اختلاف لم يُكتشف إلا عندما بدأت الذرات تعزل ـ لتؤسس ـ كيانها: هويتها كوجود مستحدث، بفعل العمل: التراكم ـ النوع ...الخ، وعبر قوانين الصيرورة، والاندماج، والانصهار، والانبثاق. فالوجه برز كعلامة أخذت تعزل كيانها عن الكل، في محاولة للاختلاف عن التماثل العضوي، نحو التأمل: فانا موجود بكياني كاملا ً، من (الفكر) إلى (الشكل)، ومن الشكل إلى التفكير. هذا المنحى سبق المرآة ـ الماء ـ والانا، كي يأخذ دوره بصفته مغادرة من التماثل، إلى التشخيص، ومن الكل إلى الفرد. فإذا كانت الفلسفة المصرية القديمة تحافظ على الوجه، كي تستدل الروح عليه، في العودة، فان اللاوعي في التصوّر، يذهب ابعد من الحافظ على الملكية ـ المركز ـ نحو ديمومة النوع. وفي الأخير فان البورتريه ليس إلا (أبجدية) مصغّرة للمطلق. فالرب لا صورة له! ولكن للأنبياء سمات، وملامح، وأبعاد تعبيرية وجمالية. وليس تحريم التشبيه ـ هنا ـ إلا محاولة للخروج من التاريخ ـ الزمن ـ إلى المطلق. فالا مسمى لا شكل له، لأنه غير قابل للتأطير، بحدود الحواس، أو العقل، فهو سابق على التجربة، وابعد من ان تكون له خاتمة. لكن البورتريه سيطمح للعثور على فك شفرات هذا اللغز، للعثور على تساميه، وملغزاته، بالمهارات الاستثنائية. لأن (الإبداع) لم يحصل بمحض الحدوث، تلقائيا ً، ما لم يمتلك أسبابه، حتى لو كانت كامنة في اللا سببية. بهذا المعنى فان العناصر، شبيهة بالحروف، لها عدد (بحسب المكتشف)، فإذا كانت كلمات كل لغة تبقى توليدية )حتى بإخفاء اللغة، وظهور أبجديات أخرى) فان كل كلمة، لا تشبه أي كلمة، حتى لو تماثلت في الحروف، بالعدد، والرسم، فإنها تبقى تمتلك قدرات متجددة على التأويل. إنها شبيهة بكل وجه مكون من عناصره ـ المركبة ـ تتميز بحسب الزيادة، أو النقصان، بالبرنامج الكلي، وباليات عمله الكلية. فلا توجد لحظة تماثل أخرى. لأنها مقننة بكلية القانون، وليس بالمحاكاة أو بالتكرار. كذلك فكل ذرة، ما ان تتعرض للتفكيك، الهدم، فإنها ستكّون غيرها عند التشكل. فالميت إذا ًسيفقد وجهه، والروح، بعودتها، لن تجد وجهها القديم، مما منح التطور، مسارا ً للاختلاف، والتجدد، في تعددية الأساليب، والمناهج، والنتائج. وما دامت القناعة المشتركة بين المذاهب، الفلسفات، كامنة في استحالة الديمومة، فان لغز المفارقة سينشطر بين التاريخي، الظاهرة، وبين استحالة تصوير هذا الذي هو قيد الغياب، وقد غدا بحكم اللا وجود، لكن التشبث بالمرئي، سيتشبث بلغز محركاته، ومخفياته أيضا ً. حتى لو كانت غير قابلة للدخول في العدد ـ أو في المرئيات. انه منحى يبقى يحافظ على أبجديته، إلا انها تبقى احد دوافع دينامية الانبثاق، كبرنامج عمل لكل ما هو غير قابل للدخول في آليات الموجودات ـ وتاريخها. على ان دوافع التجربة كعلاقة بين عودة الروح إلى الوجه، والدوافع المادية المقترنة بالأنا ـ ومنح الذات كيانها الانطولوجي ـ تسمح بالعثور على تداخل الدوافع لأجل: علامة تتضمن مهاراتها الفنية. فالحرفة ـ بحد ذاتها ـ تنتمي إلى مهنة اقترنت بمواجهة الغياب، وهي عودة دائمة للحفاظ على تميز التراكم؛ وعيا ً مقترنا ً بهذه الإرادة، وتقسيما ً لتراتبية النظام.



[3] مدخل آخر


بعد نصف قرن من مزاولتي للعمل المزدوج بين الكتابة حول الفن، والعمل الفني، بات علي ّ دمج المسافة بينهما، فالناقد إن لم يكن فنانا ً، فانه سيماثل الفنان الذي لا يمتلك تحديا ً ما. على ان تحديد من هو الناقد ومن هو الفنان، في عصر سمحت حريات التعبير بالتعددية، حد العشوائية، وإثارة البلبلة، ستجعل من بائع (الخردة) فيلسوفا ً، ولكنها قد تفشل بدفع العالم إلى التزوير، بل تضطره إلى امتهان بيع (الخردة)! فهل الحرفة تفسد الفن، وهل الفن يفسد النقد ..؟ سؤال نجد له أمثلة متعددة، فهناك من لم يدرس الفن نهائيا ً، ككل الفطريين، والبدائيين الكبار، رسّخ قناعة بان (الصدق) ذاته، بما يعنيه من قدرات على البناء، بناء النص الفني، ومغزاه الخلاق في نهاية المطاف. صحيح لا تقارن هذه التجارب بتجارب الأساتذة الكبار، ولكن في عصرنا، فان كبار الزعماء كانوا أمثلة لبائع (الخردة) الذي سيتحكم بالمصائر، فعن أية فلسفة سنتحدث، وكيف سيتم التمييز...؟ إلا ان إعادة تفكيك بعض اعقد المسالك وعورة، كالعلاقة بين المحترف والفنان، لن توسع الهوة بينهما، مادامت الدوافع النائية قائمة ومن الصعب قمعها، فإنها لن تنتظر إلا مهارة غير متحذلقة، كالتي يتعلمها الحرفي، بإمكانها البرهنة على بناء نصوص ذات شأن. لم يدرس فان كوخ الفن، ولم يكن بحاجة لتعلم التشريح، كي يحافظ على النسب! بل الصواب انه لو كان فعل ذلك، لكان في عداد المجهولين. فهل هذا وحده سيطلق المارد من قمقمه، كي يتحول أي إنسان إلى (أسطورة)..؟ قد يتحول أي فنان ـ لأن كل ذات بشرية لديها الكثير من المشتركات مع سقراط، أو ماركس، أو بتهوفن، إنما هل حقا ً باستطاعة باع (الخردة) ان يمتلك تقنيات بوشكن أو بروست أو موزارت كي يجعل من (العام) فنا ً متفردا ً عابرا ً للزمن...؟ مادام الفن ـ بعد موته إلى جانب موت الفلسفة وموت الإنسان نفسه ـ سلعة، وهيمنة السوق، وجني المزيد من الإرباح، بأية طريقة من الطرق، فان المعايير النقدية ـ إزاء الإبداع النقدي وإزاء الفن ـ ليس باستطاعتها ان تواجه تحولها إلى ذرات، وتزول، مادام ثمة قوة غير قوة (الربح) تهيمن على 90% من مصائر البشر. إنها إشكالية عصية، وليست إشكالية وجود محض. فالعودة إلى معايير تقرب الذائقة لدى السكان، بشكل أو آخر، لن تفرط بأية (ذات) تغادر انغلاقها، ومحدوديتها، كي تشكل مكّونا ً لاغناء الفن. من يضع أسس هذه المعايير ...؟ ثمة طرفة تتحدث عن مأساة عانى منها شعب من شعوب الفئران، إزاء (هر) طالما تلاعب بمصائرها، حتى قرروا التوصل إلى حل لهذه المعضلة، فاقترح احدهم ان المشكلة في غاية اليسر، وذلك بتعليق جرس في عنف الهر، فما ان يدخل المغارة، حتى يكون الجرس قد نبههم إلى حضوره. صفق شعب الفئران طويلا ً، وفي النهاية، سأل احدهم: من يعلق الجرس..؟! مثال يخفي عصور من السلب، والرياء، ليفصح عن لغز استخدام (الأقنعة) في المسارات البشرية. لا لأن كل من يستخدم هذا الدافع لديه مبررات ما ان تسندها القوة، حتى لا تعمل إلا على تدمير الآخر، ومحاولة محوه، واجتثاثه من الجذر! فحسب، بل لأن الطرف الآخر ـ أي الأطراف الأخرى وهي بعدد المراكز المتصارعة ـ سيضطر لاختراع وسائل يحولها من صفتها الدفاعية إلى أسلحة للمحق بسبب آليات الوجود نفسه: التصادم ـ والديمومة. فعلى مدى عصور التدوين، ظهر آلاف الحكماء، الفلاسفة، المصلحين، إلى جانب آلاف آلاف الذين حصنوا رسائلهم بالقواعد والأسس والبرامج، وعند تتبع الأصول، فان كل من هؤلاء الأساتذة الكبار، أو الأقل سطوة، كان أشار إلى الاقتراح بوضع الجرس في عنق الهر! لكن من هو هذا الهر ...؟ هل هو تراكمات الجهد البشري، أو غريزة الموت، أم القتال حد الفناء من اجل: الانعتاق أو الحرية؟ لا احد باستطاعته ان يمسك بأي حل، صائب، بعد ان ازدادت آليات المؤسسة البشرية تعقيدا ً، وتحولت من مؤسسة: يقتل فيها قابيل اقرب مخلوق له بالدم والمصلحة والمصير ـ وهو جذر العنف ولغزه ـ إلى أمم تعمل على محو شقيقاتها، لأنها اتخذت من الجرس حلا ً لمعضلة الوجود! هل لا أمل لمليار إنسان مثقل بالحرمان ـ أو تحت خط الفقر ـ وهل لا أمل لمليارات أخرى تولد، وتعيش، وترحل كأدوات، كأشياء، في الماكنة (المطحنة) التي يديرها عدد من أصحاب الشركات عابرة للقارات، وهل حقا ً لا أمل إزاء وجود تعددت أسبابه ـ بعدد من يمسك بالقوة والمال والدعاية ..الخ ـ عندما يحافظ على شفرة انه لا يمكن ان يكون كما هو عليه: فائضا ً، ولا معقولا ً، وبلا غاية، سوى انه لا يعرف أكثر مما يوجد في: الأشياء في ذاتها، مادامت الإشكالية، في الأصل، لا تكمن في التعبير ـ الفني أو بأي مستوى من مستويات الاستغاثة ـ وإنما لأنها ذات جذر ابعد، شبيه، نسبيا ً، بالثقوب البيض أو السود ـ تعيد إنتاج الأكوان التي التهمتها مرة ثانية! فهل باستطاعة عدد قليل من هؤلاء الذين تجاوزوا مصالحهم الشخصية، وعملوا للحضارة، ان لا يعيروا حكمة غوته: التمسك بالإرادة حتى لو كانت تذهب إلى العدم، واستبدال قانون(الحركة) أو الإرادة العمياء، أو العدم الممتد، أو الدهر والقدر، أو المصادفات اللا متوقعة ...الخ، بدوافع ديمومة هذا المحكوم بالزوال، بدل القبول بالهزيمة حتى لو كانت المعركة زائفة، وقائمة على مباديء مضادة للعدل ـ والمنطق..؟ فرويد رأى ان مشروع الإنسان تنقصه الاستعدادات لبناء حضارة. ونيتشه رأى ان الإنسان شبيه بالمرض، سارتر رآه جذاما ً، وحكمة برنارد شو ليست مرحة عندما أكد انه كلما تأمل الإنسان ازداد إعجابا ً بالكلب...الخ أمثلة كثيرة تجد بائع (الخردة) الذي أصبح (ناقدا ً) أو (فنانا) لا يتصدى لها ـ عبر امتلاكه لوسائل الدعاية فحسب ـ بل بقوة القمع الأكثر خفاء ً، من الإعلان إلى الرياضة، ومن التصورات إلى صناعة الرموز ...الخ ـ وصولا ً إلى تدمير الهندسة الوراثية ذاتها، والتلاعب بإعادة إنتاجها، وفق نظرية: انه وحده علق الجرس! على ان الأمل بنهاية وشيكة للوجود البشري مازالت مؤجلة. فمنذ كانت القرارات تصدر عن الآلهة، في العصور السحيقة، وممارستها لحقها بالإبادة، والمحو، والاجتثاث، كالطوفان، والكوارث المماثلة، بسبب لغط البشر، وفسادهم المشين، وخساسة طباعهم، وافتراس بعضهم البعض الآخر، واستحالة تحقيق أوامرها، وصولا ً إلى أي حل كارثي آخر كالاستخدام المروع للأسلحة الفتاكة الكبرى، أو قيام حرب تشترك فيها القارات، إلى جانب خطر سريان فعالية ضعف المناعة، بسبب التلوث البيئي (الايكولوجي) وتحول السكان إلى أسراب من طيور مهاجرة، أو شعوب من النمل التائهة في المنافي..الخ، فان عدم قدرة احد ـ لا الآلهة القديمة ولا من يتربع على أهرامات عالمنا المعاصر ـ على المحو تبدو ليست خيالية، إلا ان اينشتاين لم يفقد الأمل ـ بعد ان تزول حياتنا ـ لتبدأ الحياة من الصفر! ذلك لأن (الهر) ـ ككائن رمزي ولد مفترسا ًـ ما ان يأخذ كفايته من الطرائد، يهمد، ويستكين، عدا (الوعي) الاستثنائي للبشر، ما ان يمتلك أدوات صناعة الأدوات، حتى لا يكف عن تحقيق نزعة محو كل من يعمل للحفاظ على الحلم!

[4] ما الفن ـ اقتراحات



يمكن اختزال عدد من تعريفات الفن بأنه: صياغة بدائل تستبدل الوجود ـ بقسوته وبغياباته ـ بحضور تتداخل فيه مقدمات الزمن (الدهر)، بنهاياته (الأزل)، كلحظة تتزامن فيها لا نهائية المسافة في هذا الحضور: الفن! بمعنى انه ليس دفاعات ضد الغياب، بل إعادة غزل الغزل ونسج النسج للارتقاء بالخامات الواقعية نحو معمارها الروحي ـ الجمالي، في نهاية المطاف. هذا الامتداد من الطبيعة إلى الفن سيحافظ على لغز دوافعه بدينامية لا يمكن عزلها عن اشتغالات المخيال، ولا عن آليات الوعي، ولا عن السياق التجريبي. لكن هذا لا يعني إعطاء اللا معنى ـ معناه، إلا بحدود الحفر بحثا ً عن المعنى الكامن، وصياغته بحسابات العوامل كافة، بدءا ً بلحظات التحول، وبنسيجها البنائي، مرورا ً بالعوامل الكامنة، المتنوعة، والمتعددة، وانتهاء ً ببنيوية النص الفني ـ برهافة الفنان ـ وبلحظة الخلق التي تتجانس فيها العناصر بالأسس، المشفر بالعلامة، والظاهر بمخفياته.

[5] تعددية


إلى جانب تنفيذه لرسومات موضوعات موقع (القصة العراقية)، واضب عدنان المبارك بنشر صورة شخصية في كل أسبوع، تحت عنوان: بورتريه. وإذ ْ تعود ذاكرة المبارك إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث تبلورت ملامح جيل استحق مواصفات الريادة، ليس زمنيا ً حسب، بل نموذجا ً لمكانة الثقافة في المجتمع العراقي/ البغدادي. فعدنان المبارك، القاص والروائي والمترجم، بالرهافة التي امتلكها، عمل على وضعها شرطا ً لبنائه الفني ـ في الرؤية وفي تقنياتها. فالانتساب إلى الرواد مهد له الابتعاد عن الأحادية، والتزمت، والحفاظ على (ديمقراطية/ مرونة) متأصلة في كل جهد يتوخى ذروته: الجمال. ولعل استذكار الأسماء ـ من اليساريين إلى الواقعيين، ومن المحسوبين على اليمين إلى المعتدلين، ومن الوجوديين إلى المتطرفين أو الراديكاليين ـ نجدهم قد اشتركوا جميعا ً بإغناء تجاربهم بروافد معاصرة، متعددة، إلى جانب حفريات في الثقافات القديمة ـ القومية والوطنية مع حرص صريح على بنائية النص ـ بمعالمه في التجارب الفنية على صعيد الرواية، المسرح، النحت، الموسيقا، الرسم، إلى جانب الحقول الأخرى كالطب، والقانون، والآثار، والدراسات الفكرية، والاجتماعية، واللغوية. من هذا المعطف، لم يخرج عدنان المبارك حسب، بل راح يولي مفهوم النسج أهمية المغزل وهو يغزل معادلات النص الفني ـ جماليا ً، من غير تفريط بالموقف الفلسفي/ الاجتماعي/ السياسي، لكن ليس على حساب آلية تحديات الزمن، بجدلية الأشكال مع محركاتها، بل بالحفر في ملغزاتها. فالإحساس الجمالي، بجذره الموغل في أقدم التماثيل، والرسومات، والفخاريات، في الحضارات الأولى، شكل هاجس هذا الجيل، مبدئيا ً في الأقل. فنرى أكثر الأسماء ريادة عالجت أكثر من جنس، في تجاربها، والأمثلة امتدت إلى الجيل التالي. فكان قحطان المدفعي معماريا ً وشاعرا ً ورساما ً وباحثا ً وناقدا ً، وقحطان عوني رساما ً ومعماريا ً، ومظفر النواب رساما ً وشاعرا ً،وجبرا إبراهيم جبرا ً قاصا ً ورساما ً ومترجما ً وروائيا ً وناقدا ً، جواد سليم نحاتا ً ورساما ً ومولعا ً بالموسيقا، يوسف الصائغ كاتبا ً وتشكيليا ً وشاعرا ً ومسرحيا ً، محمود صبري منظرا ً ورساما ً، جميل حمودي نحاتا ً وناقدا ً ورساما ً، شاكر حسن آل سعيد كاتبا ً ورساما ً وصاحب رؤى، إبراهيم زاير صحفيا ً وشاعرا ً ورساما ً، مؤيد الراوي كاتبا ً وشاعرا ً، فاضل العزاوي روائيا ً وشاعرا ً وصحفيا ً، إلى جانب عدد من ابرز الأطباء وقد مارسوا الرسم مثل خالد القصاب، ونوري مصطفى بهجت، وعلاء بشير. عدنان المبارك، لم يغب عنه مفهوم (الصوت) على صعيد الكلمة، كي تأتي الصورة، مكملة للمحركات بأشكالها المعلنة. كان يتمتع بدوافع الهواية، وليس محترفا ً، على صعيد الرسم، إلا إنها هواية وجدت ـ في أوربا ً ـ دعوة للتخلي عن الدراسة في معاهد الفنون، استثناء ً لمنح اللاشعور/ اللاوعي، آليات التحرر من العادات، والقيود، والثوابت، وترك المخيال الكلي للكون ـ وللذات ـ ان يغادر مدافنه. إنها دعوة راديكالية، ككل موجات التحرر، أسهمت بمنح الإبداع مغامرته، حتى لو لم تقدر على مواكبة موروثات صناعة الفن. فالهواية تغدو برنامجا ً للخلاص الأعراف وأطرها العتيقة، نحو اكتشاف المخفيات، في الذات، أو في فضاءات الكون.

[6] استذكار ـ وتراكمات


لا مناص من تذكر أو استحضار كل صورة شخصية رسمت بمجموع دوافعها كي تغدو علامة. فإذا كانت كل علامة هي سلاسل من تراكمات، انصهرت، عبرها، فان العلامة، في الحاضر ـ الآن أو قيد المشاهدة ـ غير منفصلة عن صفتها في الشهادة. إنها ليست نزوة، أو رغبة، أو إيضاح، أو تعبير، أو هوى، إلا بمهارة التشذيب لمنحها حضورها بصفتها: فنا ً. فمنذ المومياءات، ورسومات القبور، والمعابد، في الكثير من الحضارات القديمة، مرورا ً بالأقنعة، والتماثيل، والصور الشخصية، وصولا ً إلى عصر (المرآة) و (المرايا)، ومنذ بورتريهات عصر النهضة، عند روفائيل وتتيان ومايكل أنجلو ودافنشي، وعصر رامبرانت، وروبنس، وغويا، وفلاسكيز، وليس انتهاء ً ببورتيهات فن كوخ، وجوجان، ورو، ونولده، ومونخ، وبيكاسو، وفرانز بيكون ..الخ تكون الذات قد تمثلت مستوياتها المتعددة والمتنوعة في هيمنة الانشغال بعالمها الخاص. فالعلامة اقترنت بالزمن، إنما، في الفن، أخذت الأسئلة مداها الأبعد. فكتابة التاريخ غير منفصلة عن فلسفته، الأمر الذي منح الفلسفة قدرة نسج النسيج وغزل الغزل، في محاولة لمنح (الحركة ذاتها) موقعها في تسلسلها، حتى عندما تتمثل الاضطراب أو الارتدادات. فالبورتريهات رسمت كعرف يخص الفلسفة وهي تنتقل من التاريخ إلى لغزه: سر الحضور، في مواجهة الضرورة، لكن بارتقاء الأخيرة نجو مجال يمنحها درجات في التسامي، نحو (الرأس) ـ الذي هو الهرم ـ بمعالجة ديالكتيكية تسمح للفن ان يقترن بما يقوم به المنقب، لكن ليس بحثا ً عن اثر مخفي، بل عن اثر يُصنع من المخفيات علامة في الحضور ـ وهنا يتشكل الناقد في رأس المصور، كي يكف عن المحاكاة، ولكن ليس بدونها، وهنا يأتي دور الناقد ـ الآخر ـ في تتبع أقدم مفهوم للبناء ـ الاستحداث ـ والانتقال من البرية إلى التراكم، ومن الرغبة إلى المعمار. إننا إذا ً لسنا إزاء تأملات ذاتية للذات، ولا إزاء تاريخ مرايا، ولا إزاء مهارات، بل ثمة معمار اجتمعت فيه الأصول: المعرفة. فالزمن لم يعد متسلسلا ً، في الصورة، بل كامنا ً فيها، حد استحالة فصله أو عزلة عن بنية العلامة، كوحدة قاومت فعل الزمن ـ في إعادتها إلى عناصرها البكر. انه ضرب من إرادة تحول الإرادة إلى ما تمتلكه من الحضور ـ وهي شاخصة بما يهددها من عوامل التآكل. فما تبقى من الدمى، الوجوه والأقنعة والمومياءات بما عليها من طلاء ومعالجات طبية وفنية، إشارة تحكي جانبا ً يبقى يحافظ على لغز هذا الحضور، فعله ـ وما هو عليه ـ وما يمهد لصياغات تتطلب فتوحات لا تتعثر عند أزمات عصر من العصور.

[7] أصول ـ شرق/ غرب.


ينحدر عدنان المبارك من أصول شرقية، فقد ولد في مدينة البصرة، في العراق، وهي مدينة تطل على البحر، من ناحية، وتحاصرها الصحراء من ناحية ثانية. على ان المدينة بهويتها المتنوعة، عبر القرون، وجدت معادلها بخلق ثقافة قائمة على التعايش، وليس على الصدام. إنها مفتاح حضارات تراكمت عبر الطوفانات، وأزمنتها، كي يأخذ الماء شفرته بفتح المخفيات، والمندثرات، ويتحول إلى علامة معرفية، وجمالية معا ً. فلم يروّض البحر طبائع الغرباء عليها، ومن أجناس مختلفة، آتية من البادية، غالبا ً، وأحيانا من القارات النائية، بل منحهم دينامية الحفاظ على واقعية المدن غير المنغلقة. ولكن اغتراب عدنان المبارك لم يتشكل بسبب تأملاته لواقع مدينته، أو لبغداد التي سكنها فترة من الزمن، بل للإنسان في عالمنا المعاصر، وفي أوربا بحداثتها، وتحولاتها، وألغازها. فالصدمات تتوالى بمعناها الثقافي عليه. فشغفه ان (يعرف) وان (يُدشن)، واختياره للأدب، واللغات، سمح له ان يعيد سؤال أسلافه سكان سومر وأكد: ما الذي يستحق ان ينجز...؟ فكانت الكتابة أداته للحفر في المنجز الفني، وهو يصطدم بأوربا وقد بلغت حداثتها ذروتها، في ستينيات القرن الماضي، وبدأت موجات التمرد: كالثورة الطلابية في باريس، والكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية، والثورة الثقافية في الصين، صدمات فكر، تهدم بلا رحمة، وتحدق في المجهول بعناد، لأنها صدمات حرية، في الأخير. ففي بولونيا لم يواجه الإشكاليات التي عرفها وخبروها في وطنه، بل غدت أكثر اتساعا ً، وتعقيدا ً، لتغذي لديه فكرة إعادة رؤية ماضيه، في مدينته الأم ، البصرة ووادي الرافدين عامة ـ إزاء العالم بأسره. فمدينته ليس لديها إلا ان تحافظ على احتضارها، وفي الوقت نفسه، ليس المستقبل (في أوربا) إلا نسقا ً آخر للاحتضار، وليس للفردوس. ثمة جذور لـ: (كافكا) تمتد إلى إنسان السواحل: العفن، ولكن الذي سينشغل بالتطهر. فالمناهج، وفلسفاتها، ليست أدوات تأمل، أو دهشة، أو معرفة حسب، بل أدوات عمل. فكانت بنيوية عدنان المبارك شبيهة ببنائية أسلافه الذين وضعوا أسس الكتابة ـ المعرفة، بالمعمار إلى جانب بناء مخيال للدورات، والعالم السفلي، ومصائر البشر، بعد محاورات لتفكيك الغاز الآلهة. انه لم يعد خياليا ً، ولم يترك الأسطورة تسكنه كثيرا ً، ولكنه سيحافظ على الديالكتيك الواقعي في مواجهة الاغتراب: تأمل الزائل إزاء الذي لا يزول. ولم يكن لديه غير (الوعي) الكامن في (المركز) ـ الوجه ـ للنظر إلى الخارج. انه ـ هنا ـ ليس رساما ً، ولم ينظر للعالم كمجموعة من الصور، ولا أحداثا ً مسرحية، أو سينمائية، بل علامات (معرفية/ ثقافية) منحت الرأس دوره في صياغة أداة التفكير، والتأمل. فالبورتريه إذا ً ليس ما رآه في المرآة (الذاتية)، بل غدا هو ذاته مركز الجذب للعالم كأثر تكوّمت داخله المشاهد، ليبلور، كرد فعل، مرآة تشظت، وتناثرت أجزاؤها، كي تغدو علامة تمثلت فيها إشكاليات التصادم، لكن ليس بين الشرق ـ الغرب، وليس بين الأنا والآخر، أو بين منفاه القديم والمنافي الجديدة، حسب، بل لنسج رقعة شبيهة بالأختام السومرية/ الأكدية، في مجدها وفي موجهتها لقدرتها بالغياب. فالمرآة ستؤدي دور (البحر) أكثر مما تؤديه (الأرض)، لأن الأخيرة ستحافظ على العنف، فيما البحر ـ كمدفن ـ سيعيد للحياة لغز تجددها بما للماء من أصول في ولادة الحياة ـ الإنسان. هذا الشرق ـ الغرب، سيشكل تركيبة الصورة الشخصية ـ بصفتها خلاصة واعية للتأمل الانطولوجي، للحفاظ على اللغز ذاته للديمومة. فالبحر سيحافظ على توغله في الأشكال، وكأن غبار مدينته، والاغتراب في أوربا، وعشوائيات عالمنا المعاصر، ما هي إلا بذور ستنمو ليس في الأرض (المكان) بل في (الفكر) كأحد أنظمة البحر. فالصور الشخصية، بهذا المعنى، لا تحكي ـ كما في نصوصه الكتابية ـ بل ستتحول إلى مثابات، علامات، إشارات، أجزاء، شظايا، إلا إنها ستحافظ على أسرار الغمر القديم، والمتجدد، لأن الكون برمته لم يتخل عن لغز ديناميته: الانبعاث ـ منذ الآلهة الأم ـ وصولا ً إلى مقاومة عوامل الاندثار، بموازاة الدورات، والزمن.

[8] البورتريه ـ الحفاظ على الروح



جاء في المعتقد المصري القديم، ان الحفاظ على الوجه يعني الحفاظ على الروح. لكن إذا استبعدنا الجانب الرمزي فان التأويل المقبول بديمومة السلطة؛ سلطة (المركز)، يتمتع بالواقعية التي منحت الهرم ـ المثلث ـ تراتبيتها. فالديمومة المتخيلة تفرض آلياتها بالحفاظ على الوجه: وجه الراحل الذي ستعود له الحياة، كي لا تغتصب منه، وكي تواصل السلطة أبديتها. على ان التأويل الذي منح القراءة المتجددة، بعد ثلاثة آلاف سنة، يتجاوز تلك الدوافع، نحو إعادة صياغة السؤال: ما المعنى من الوجود ـ وجود السلطة وقاعدتها ـ لعبتها بهذا الإحكام..؟ فهل ستبحث أرواح الراحلين عن وجوههم، بعد القطيعة، ومن لا وجه له فان روحه ستبقى بلا مأوى ـ وغير مشخصة، وتائه في الفضاءات ...؟ عدنان المبارك لا يهمل أي سؤال تمت صياغته بالكلمات. فعمله ـ في اللغة ـ سمح له بمنح الصورة جانبها المخفي ـ المحرك ـ وتشكلها مع الكلمات: الرموز، كي ينظر بموضوعية إلى الأشكال بوحدتها، وبتفاصيلها أيضا ً. فهو يصوّر ذاته داخليا ً، ليراها متوازنة، وغير منفصلة. فهو يشخص في البورتريه ذاته: مكونات الوجه، ولا يتوقف عندها كما هي عليه في الخارج حسب. بمعنى لا مسافة بينهما، بين الأجزاء ومحركاتها، ظاهرها ولغزها النائي. فهل الحلم مصدر الفكر، بمعنى: هل الفعل المتخّيل له فعله المعرفي، بحسب باشلار، أم ان القطيعة مستحيلة بين المرئيات ومخفياتها، عندما راح المبارك يتحرى عن ذاته، لا كي يكتشفها، أو يزيح الغبار عنها، بل كي يعيد بناءها، وأحيانا ً ترميمها، كي يحدث التطابق بين المتخيّل، والنص الفني...؟ ذلك لأن منهجه الديالكتيكي، التجريبي، لن يوهمنا بالمواعظ أو بالوصايا. لأن فعل الرسم يغدو تحديا ً. وهذا هو الدرس الذي استمده من تأملاته لمكونات الوجه: ليس كإعلان معاصر لموت الإنسان ـ بعد موت الفن وموت الفلسفة ـ بل المغزى السيزيفي لإنسان يدرك استحالة الإمساك بهذا الذي بدا له يتمتع بالثوابت، وبعلاماتها. وهنا لا يمكن إغفال التجارب السابقة، القديمة قدم الختم السومري الاكدي في حضارة وادي الرافدين، وصولا ً إلى الإعلانات الضوئية. فعدنان المبارك يستبعد الخوف مثلما يستبعد أقنعة الحرية وأوهامها. فهو ـ بالدرجة الأولى ـ يحاور الكائن الذي سكنه، وليس الآخر الجحيم ـ بحسب سارتر، فلا جحيم ولا فردوس، بل ثمة لا مبالاة جادة ـ كالتي سمحت لصموئيل لبيكت ان يكتب بانتظار لا احد (غودو) وهو مثال مستمد من آليات أساطير البعث ـ لأن مغامرة الكاتب بالرسم، هي مغامرة المتصوف وقد ترك (الأزل) و (الأبد) يلتقيان في بؤرة: الفناء. هذا المجال الدينامي لا يخفي مهمات التعبير، عن حالات الترقب، التوجس، الأسى، القنوط، الاغتراب ..الخ، ليؤدي البصر، دور (العين) التي ترى؛ عين الإله المصري القديم، ولكن بعين شهدت انهيارات كبرى تتبعها عدنان المبارك، في منفاه الأول، وفي منافي أوربا أيضا ً. فالكاتب غير معني ان يكون دليلا ً، مثل أعمى يقود أعمى داخل ظلمات بلا حافات، ولا هو مسؤول عن رصد حركة أو عن وجود محصور بين عدمين، أو مجهولين، بل هو يعلن عن أخلاقيات كادت، هي الأخرى، تلحق بالإنسان نفسه: موته، وتحولها إلى سلعة. فالدافع الأخلاقي لا يتمثل بالعودة إلى لغز تكون بذرة الحياة، إن كانت (نفسا ً) من الآلهة، أو عفنا ً من سواحل المستنقعات، لأن الوجه غدا شهادة على الحياة، وعلى العصر، شهادة لمليارات الوجوه التي أكدت أهمية اللا متوقع، اللامعقول، المصادفات، كي تأخذ هذا الترتيب، للكائن، وهو يعيد بناءه وسط حرية (القتل)، الشبيهة بحرية السوق، والفوضى العدمية، لمكاسب لم تدم أكثر من زمن زوالها. إنها حرية جمالية تأمل الكاتب/ الرسام، حضورها ضمن الوجود ذاته الذي أسس المرآة، لكن المرآة التي لا تبث، أو تعكس، بل التي تعمل عمل الجحيم: هل من مزيد...؟ فالوجه غدا علامة مواجهة بين اللحظة ـ التي تجمدت فيها الأزمنة ـ إزاء اللازمن: هذا الانشغال بما بعد المعنى، ولكن عبر البورتريه كجزء ليس فائضا ً، حتى لو تضمن خلوه من المنطق، وغدا عبثا ً. فثمة تاريخ للفوضى، وهو تاريخ الاغتراب برمته، تاريخ اكتشاف الذات بصفتها وجدت كباقي الموجودات، كالنبات أو العناصر، وتحولاتها، إلا إنها ذات تعرضت للانتهاك، وللهتك، ضمن قوانين الديمومة؛ ديمومة: صوب، وامض..! لكن الوعي راح يصوّر تشكله للحفر في لغز البذرة: دفنها ـ وبعثها، حيث عدنان المبارك، لا يطلب منا ان نراه، كما تحولت ومضاته الداخلية إلى بورتريه فحسب، بل قراءة هذا كله كوجود ـ بنسبيته ـ تضمن ديمومة لغزه.

[9] من البصر إلى: البصيرة

عند تأمل (البورتريه) بقراءة لا تمنح التعبير مظاهر خادعة، أو هشة، فان شيئا ً ما سابق على (الصورة) يكمن فيها. وهنا نواجه سؤال: لماذا كان الزمن مهما ً في التعبير، لكن ماذا عن: الزمن السابق..؟ بمعنى: ما قبل الزمن، الذي هو امتداد ـ خلاصة ـ وتحول. فالتعبير تزامنت فيه وتداخلت، مثلما انصهرت، وتوارت، كي يؤدي التعبير دور العبور من ـ إلى، وإلا فان المحاكاة تعوض، أو لا تدعنا نحفر في لغز: الوعي ـ وما يمثله كاستحداث لا تعبيري كامن في التعبير، ولا يتوخى إلا مغادرته ـ كقوة باثة ـ لاستكمال التسلسل، وحلقاته. البورتريه ـ هنا ـ هو الوعي وقد تجمد، فهو كثافة قصوى؛ كثافة تتضمن الإنساني في قراءة اللا أنساني، مواجهة متواصلة بين الصورة وخطر زوالها. فالكاتب/ الرسام، لا يعبر، ولا يعبّر، بل يسكن، إن لم اقل يعيد بناء البناء. فالفراغ ـ المجهول ـ السابق على الوعي، يبقى يشتغل كالنسغ، كالزمن، في الصورة، ينتقل من وجود سابق ـ باتجاه وجود غير قابل ان يغدو صورة ـ مركزا ً. فالهرم ـ المثلث ـ السلطة تسرد، من غير كلمات، أقسى ما يمكن تلخيصه بالغياب. لأن الرسام لا يمجد، ولكنه لا يستجدي، ولا يستغيث. فالتعبير لم يعد أسلوب معالجة ولا مدرسة أو فلسفة، بل هو احد عناصر الرسم ـ وما بعده. ثمة ما هو ابعد من المحنة، وخارج نطاق معالجتها أيضا ً. لأن الكاتب/ الرسام، الملغز بالماء، لا يتشبث بالرأس ـ رأسه ـ إلا كعلامة حاول تشذيبها ودفعها كي تقول شيئا ً ما غير: الاستغاثة. ولأن ذهن الرسام مزدحم بالأبعاد ـ من المتضادات المثنوية إلى الأبعاد الأخرى/ ومن الأساطير إلى ما بعد الحداثة/ ومن الأخيرة إلى العولمة/ ومن اللازمن إلى المجهول ..الخ ـ فان تأويلنا بالكلمات قد يبدو حجابا ً، الأمر الذي يجعلني كأنني لم اقل شيئا ً، وأنا أردت ان أعيد قراءة تاريخ (البورتريه) منذ صدمة نرسيس، مرورا ً بالهرم، وهشاشة الإنسان، وصولا ً إلى عصر آخر أكثر استحالة على الفهم، ولكنه ليس مبتورا ً عن النشأة البكر: المجاميع، وليس الأفراد، الكل وليس الأجزاء. إنها مفارقة تكمن في وعي يصوّر الوعي بصفته مواجهة بين الذات والنوع، بين الأنا والعناصر، بين الواحد واللا عدد، وبين الحاضر وما سيشكل غيابه. فالإشكاليات النفسية، الاجتماعية، الأخلاقية هي جزء ـ وليس كلا ً ـ لهذه الأنا، في الدينامية. عدنان المبارك يلتقط ملامح هذا المحدود وقد اتسع كي يواجه امتداده. وكأنه يوثق ـ يدوّن ـ الفجوة ذاتها التي يقهرها الزمن، إن لم اقل ما هو كامن فيه، أي ما هو محرك للحركة، وموجه لها، ليحافظ على نظرة لا ارتداد فيها، بل تبقى تتجه إلى الأمام. فليس ثمة عقدة (تعبيرية) أو (أيديولوجية) أو حتى (إنسانية)، بل ثمة تكرار تتمثل فيه نزعته الاستحداثية. فـ : لا جديد تحت الشمس، لسقراط، لا تجعل الجديد معادا ً، بل لابد من قلبها. فكل تكرار ما هو إلا استحداث يتجاوز (البصر) نحو (البصيرة)، مثلما يتشكل المرئي من مخفياته اللا مرئية. فهو انتقال دائم لدحض التكرار عبر الصورة ذاتها بما يدعونا لإعادة قراءة ما لم تبح به، كقراءة متجددة للأثر، وليس لعناصره التكوينية حسب. فالبورتريه، بصفته صورة تشخيصية ـ كما تأمل رامبرانت ذاته أو جورج رو أو فان كوخ أو بيكاسو ـ تهشم سطح المرآة للامساك بما لا وجود له ـ في هذا المدى أو الامتداد. واللا وجود ـ هنا ـ هو جزء من مكونات الوعي ـ لذاته ـ عبر التكرار الذي يجدد فعالية الحضور؛ شهادة اثر صاغها مسمى امتد بصره من الوجه إلى المجهول.


 

[10] الصلب ـ جمعية الرمز

    الصليب ـ بوصفه علامة ـ لم يعزل وظيفته عن الرمز؛ فالعلامة ليست للمباهاة، بل للترهيب. وظهور أقدم هذه العلامات سبق صلب المسيح، ومقتل (ديموزي) تموز، دانيال والحسين، بأكثر من ثلاثة آلاف عام. فالعلامة لم تستبعد اشتغال لا وعيها إلا عبر توكيد إنها تؤدي دور: ديمومتها. فمنذ ظهور مراكز السلطة، في حضارات تجاوزت حدودها الجغرافية، التاريخية، في أعالي وادي الرافدين، وحتى جنوبه، كانت العلامات تؤدي دورها المغاير لدور (المثلث) ـ الهرم المصري ـ ومع وجود الاختلافات إلا إنها تؤدي الغايات ذاتها: المركز، حيث أصبح (الصليب)، عبر الزمن، مغايرا ً لدور (الهلال) الإسلامي ـ في اختلاف العلامة وليس في جوهرها. وبالعودة إلى لا وعي السلطة، وتكونها، فالصليب لم يصبح مدفنا ً، ضريحا ً، بل واسطة أو جسرا ً بين  السماء والأرض.
    عدنان المبارك، بعد ثمانية آلاف عام، يعيدنا إلى الأشكال التي نقشت فوق الفخاريات، والجدران، في حضارة العراق القديم، ولكنه يستبدل معنى الرمز ـ للقوة والهيمنة والرهبة ـ بالاستلاب بمعناه المباشر، واليومي. فالبورتريه يتكرر ـ في الأعلى وفي الوسط وفي الأسفل ـ إشارة تحفز معناها للتأويلات ذاتها بدفن (البذرة) كي تنبثق/ وتخرج يانعة من الظلمات. فالبورتريه الشخصي للكاتب/الفنان، لا يتوقف عند الصلب ـ الضحية/القسوة/ الموت فحسب، بل يسمح للصليب برؤوسه الأربعة حقيقة الانتشار، من الواحد إلى اللا عدد. فالموت يغدو مقترنا ً برمزية الصلب، متجها ً إلى الجهات الأربع، وليس  نحو المركز، كما في المثلث المصري: الهرم.  فلم تعد وظيفة البورتريه تعلن عن ذاتية منغلقة ـ ولا عن قدرتها على الكبت/الصمت ـ بل عن: الامتداد.
   إن (النقش) يستعيد لاوعيه السحيق. فكما لم يمت (تموز) أو (المسيح) أو (الحسين) ـ بوصفهم شخصيات واقعية ـ ولكن الرمز سيحافظ على ديمومة الموت ـ بنفيه: بطش أو جبروت أو جور السلطة ـ وما يقابلها من دحض ـ واستبسال عنيد في مقاومة الغياب.
   فالرسام لا يلصق (صورته) فوق الخشبة، لأنه لا يعيد سرد الحكاية، بل يدمجها، ويصهرها بالخشبة، حيث (الموت) يغدو وحده قد تضمن أبديته بتجدد وبتجديد، لا الحياة ذاتها، بل استحالة وضع خاتمة لها.
    انه تشخيص يعيد رصد ما أفضت إليه (المراكز) ـ بتحولها عبر تطور أدوات الإنتاج ـ بما تؤديه الطبيعة ذاتها: لأنها لم تخلق كي تمتد أكثر من زمن زوالها. ومع إن الإنسان تعلم لذّات (الخمر/ الأفيون) من الطير، كمعادل، إلا انه سيجعل من هذه اللذات، مرارات شبيهة باستخدام السم كعقار بمعالجة العلل.
    فالرسام يعيد إنتاج (المأساة)، في الألفية الثالثة، بوصفها لا زمنية، ولا تاريخية، لأنها بدأت مع قانون: المركز/ السلطة/ العنف، ولم تنته إلا بإعلان جبروتها اللا زمني ـ واللا تاريخي. فالصليب لم يعد مرآة للمصلوب، بل مساحة تجاوزت حدود الخشبة. والضحية لم يعد غائبا ً ـ وفق الحدث التاريخي ـ بل حاضرا ً مادمت الرحمة ذاتها هي أصبحت قناعا ً لجبروت السلطة ـ سلطة القهر ـ وهي سلطة الموت التي برهنت إنها غير قابلة للقهر.
Az4445363@gmail.com

21/8/2015

غالب المسعودي - قابالا.....!

الجمعة، 21 أغسطس 2015

شهيد التراث العربي السوري: خالد الأسعد:

شهيد التراث العربي السوري: خالد الأسعد



Dear Archaeologists and Friends,

Our deepest condolences go to the family and friends of the martyred Syrian archaeologist, Khalid Muhammad al-Asa'ad, who paid with his life yesterday because of his stand against the so-called "Islamic State" and its plans to destroy Palmyra. He was beheaded yesterday and his body was hanged from a traffic-light post in the city ( I refrain from showing the published photographs).  Khalid, born in 1934, became the Head of Palmyra Antiquities back in 1963 and became the undisputed authority on the history and archaeology of Palmyra, published numerous papers, and was well known by his friends for his professionalism and integrity.

His tragic loss in this horrific manner should be a great inspiration to all of us to stand united against this awful enemy of cultural heritage.

Ihsan Fethi



قصة قصيرة ممرات-عادل كامل

 قصة قصيرة

ممرات

عادل كامل
     صدر الأمر للطيور كافة التي لم تغادر أقفاصها، ضمن جناحها، لحضور الاجتماع الطارئ، بغية الاطلاع على ما يجري، ودراسة التقارير والمعلومات المتوفرة، للبت في اتخاذ قرارات يقوم رئيس الجناح ببلورتها وإرسالها إلى إدارة الحديقة، باستثناء الغراب، الذي أرسل للتعرف على ما يجري، بالجوار، وفي المناطق النائية. على أن آمر الجناح، وهو نسر عجوز، طلب التريث، والانتظار، وعدم التعجل بإصدار تصريحات، وإشاعات، وأخبار غير مؤكدة غايتها خلط الأوراق، والتمويه، كي يكون تقريره للإدارة دقيقا ً، أو في الأقل، لا يحتمل التأويل، والتفسيرات المخادعة. فراح يعيد سرد الحكاية التي حفظتها الطيور عن ظهر قلب: إن السفينة العملاقة التي نجت من أعاصير الطوفان وأمواجه، إبان العهد القديم، هي التي بذرت بذرة الحياة وحافظت عليها من التشتت، والزوال. وانه لولا هذه السفينة، فالماضي لم يكن باستطاعته أن يمتد، ويؤسس حاضره العنيد.
فسألته حمامة:
ـ ولكن سفينتنا، اقصد جناحنا في هذه الحديقة، يكاد يتعرض للخطر ذاته، لأن الأعاصير تنذر باقتلاعنا من الجذر...بل بمحونا..؟
   ضحك البوم، وأجابها بمرح:
ـ جميع الطيور عادت...، لأن أحدا ً منها لم يجد موقعا ً أمنا ً له...، يخبرنا به.. عدا السيد الغراب...، فانه لم يعد...
ردت الحمامة:
ـ لا تتعجل...، لم يمض اليوم الثالث... بعد...
فقال النسر:
ـ  ليس لدينا إلا الانتظار...، فأما أن نهلك معا ً، هنا، في أقفاصنا، وأما انتظار حصول معجزة ...
ـ سيدي، المعجزة لن تحدث إلا بمعجزة، وقد ولى زمن المعجزات.
ـ هذا الاعتراف المؤكد بعدم وجود معجزات لا يدل إلا على أن معجزة ما ستقع...
اقترب الهدهد منه وسأله:
ـ سيدي، بوصفك احكمنا، وأكبرنا سنا ً، أعقلنا وأكثرنا خبرة، وأكثرنا دراية وصبرا ً...
   لم يدعه النسر يكمل:
ـ أوجز...، فالزمن يتسرب، ثم إنني أكاد اعرف قصدك...؟
ـ اقسم لك انه ليس الذي عرفته، فما دار برأسي غير الذي تعنيه!
ـ اكرر ـ ومن غير اعتذار ـ لا وقت لدينا نهدره في الكلام...
ـ آ ....، ها أنت فتحت كوة في الجدار المظلم...
ـ ماذا تقصد أيها الهدهد ..؟
ـ اقصد ...، تماما ً: انك أمضيت حياتك تتكلم، مثل وعاظ المدراء، والأمراء، والساسة، حتى يكاد الجميع يعرف ماذا ستقول... وها نحن نكاد نفقد قدرتنا على سماع ما سمعناه....
صاح النسر بصوت مرتجف:
ـ  ما العمل إذا ً...، والجميع يسأل السؤال ذاته: إذا كان العمل منح الأشرار امتيازاتهم بالانفصال عنا، واستعبادنا، وببناء أجنحتهم الحصينة، الآمنة .... فماذا كان علينا أن نفعل غير البحث عن وسائل للخلاص....
قال الهدهد:
ـ سيدي، العمل هو سر استقلالهم عنا، وهو الذي سمح لهم بركلنا، ورفسنا، والهيمنة علينا، من ثم وصولنا إلى هذا الذي نحن فيه: لا نوافذ ولا أبواب، سوى الكلام، والكلام...داخل هذه الأقفاص، المحمية بالأسوار..
ـ أتقصد، أيها السيد الهدهد: إننا انشغلنا بالثرثرة، واللغو، وعمل الأشياء كافة عدا العمل...؟
ـ ليس تماما ً...، فسيادتك أفضل من حفظ الحكاية ورواها حول لغز نشوء الكلام، بعد الإشارات، فقد تحولت الأصوات إلى علامات...فيما المعضلة في مكان آخر...!
ـ آ ....، حكاية قديمة قدم ماضيها، لأنها ترجع بنا إلى الصفحات الأولى في هذا السفر العتيد: اجل...، ففي الزمن السابق على الزمن...، عندما لم تكن هناك اشتباكات، كانت هناك قوة غامضة تمهد لوجود هذا الذي آلت إليه بذرة الخلق.... قوة راحت تتحكم بالمصائر...، وقررت كل ما كان علينا أن لا نتوانى في إغفاله....
   وصمت، تاركا ًالطيور بانتظار ما سينطق به، فقال:
ـ إن استخدام القوة، والقوة بإفراط، ومن غير شفقة، أو رحمة، لم يفض إلا للمزيد منها.
وسكت، فصرخ طير كان يراقب بانتباه:
ـ  نعرف ذلك... فأنت لا تأتي إلا بالقديم وتنثره علينا...، فما الجديد...؟
  ارتفعت همهمات أيدته، ممتزجة بغضب وفزع مكتوم، فقال النسر متابعا ً:
ـ لا جديد...، ومن قال هناك جديد...، عدا إن الجميع اضطروا إلى المصالحة، واستبدال الفوضى بالأعراف...، والعادات، أو ما يسمى بالقوانين...، فتم استبدال القسوة بالمودة، والعنف بالحوار، فولدت اللغة!
ـ درس بليغ! درس ممتاز في السفسطة، أستاذ...، فأنت تدفن المعضلة كي نراها من وراء التراب! مثل الكلام لا فائدة منه إلا كي يذهب ابعد منا، ومنه!
ـ اجل! وإلا بأية أداة تم العبور، والسفر، والانتقال من البراري والغابات والوديان والمستنقعات إلى ...هذه الحديقة؟
ـ بالخديعة، والوهم، والتمويه، والقسوة...؟
ـ ليس تماما ً...، فاللغة ـ عدا ما تمتلكه من أسرار ـ حتى لو كانت من أكثر الأدوات لا تصلح لتنفيذ ما كنا نحلم بانجازه، وتحقيقه...، إلا إنها تتمتع بعدد من الفوائد التي لا يمكن الاستغناء عنها. إنها شبيهة بخيوط العتمة التي لا يمكن للضوء الاستغناء عنها! بل ومثل الحياة ستفسد من غير موت، وهلاك!
ـ آ ...، كم هي ضارة! ومع ذلك فإنها تمتلك القليل من الحسنات!
ـ هذا ما أكدته الوقائع، أيها الشركاء، في هذا الجناح...
وأضاف النسر بعد فترة صمت:
ـ لكن ما علاقتنا بهذا كله...، ونحن مخلوقات واهنة، هشة، ناعمة...، وبلا تاريخ...، فنحن لا ندوّن أسانا، وأحزاننا، ونكباتنا...، ثم ما معنى إضاعة أعمارنا بكتابة حكاية غير جديرة بالسرد...، حكاية تأتي مع الريح وتذهب معه...، فهل لو كتبناها، ودوّناها، سنتحول إلى ذئاب، أو إلى اسود، أو إلى ديناصورات؟
   ساد الصمت، ممتزجا ً بالخوف. فقال احدهم:
ـ لكن الأشرار ـ وباللغة ـ استقلوا عنا، وبها شيدوا مدنهم، وهم الآن يعلنون الحرب علينا، لأبادتنا، واجتثاثنا، ومحونا، للاستيلاء على .... مصائرنا، بعد سرقة أحلامنا، وآمالنا...؟
ـ  ولكن، أيها العزيز، ستكون اللغة هي الشاهد الوحيد على زوال كل قاموا به، والشاهد على نهاياتهم أيضا ً..!
ـ لكنكم قلتم...، إنها كانت السبب بتحولهم إلى متوحشين، تنقصهم البصيرة، ويفتقدون إلى الرحمة......؟
ـ أكمل .. أيها الطاووس...
ـ  لا استطيع أن أجد كلمة وافية للتعبير عن المعنى...، فانا عندما ذهبت للبحث عن ملاذ امن لي  وجدت النيران تلتهم المدينة، وتحولها إلى رماد، فعدت احتمي بقفصي...
   فتساءل عصفور:
ـ سيدي...، لقد تأخر الغراب كثيرا ً...؟
نظر النسر إلى لطيور، واحدا ً بعد الآخر، وقال بصوت لا يخلو من الأسى، والحزن:
ـ ليس لدينا إلا أن ننتظر...
  تساءل احد البلابل، متذكرا ً الحكاية التي لم يكملها النسر:
ـ وماذا بعد أن اضطروا للدخول في الحوار...؟
ـ بدأت الجريمة تأخذ موقعها في الرواية...
ـ هذا يعني ـ إذا ً ـ لو إنهم لم يخترعوا اللغة، لكانوا يعيشون مثلنا..؛ بلا عنف، وبلا فساد، وبلا أوهام؟
ـ اسمع أيها الباز وأنت أيها القبج، أنت أيها الديك وأنت أيها اللقلق...، اسمعوا جميعا ً...، إن كانت هناك لغة أو لم تكن...، إن كانت هناك إشارات أو رموز أو علامات أو لم تكن، فالمخلوقات وجدت لأنها لو خيرت بين وجودها وعدمه لاختارت حكاية مغايرة، ومختلفة، ولا علاقة لها بما حصل...، وصار تاريخا ً، فإذا كانت اللغة أساس الحوار الذي وحدهم، جمعهم، وصهرهم، فإنها هي التي حافظت على لغز ديمومتهم، وهم حافظوا على لغز وجودها أيضا ً....!
   انقضى الليل، وبزغ الفجر...، ومازال الجميع يتجادلون، يتحاورون، يتناقشون...، فقالت نعامة أفاقت من النوم:
ـ  لم تتخذوا قرارات حاسمة بعد...؟
رد النسر:
ـ لم يأتنا الغراب بخبر سعيد أو ....
ـ لكننا سنهلك...؟
    فعاد النسر إلى الكلام:
ـ ليس لدينا إلا أن ننتظر..، كما فعل أسلافنا، وأجدادنا، وآباؤنا...، لأن المجازفة بالمغادرة قد تقضي علينا لنصبح هباء ً منثورا ً ونسيا ً منسيا....؟
   صرخ الطاووس:
ـ لا مناص من القبول بالتسوية...؟
ـ مع من... والحصار لن يسمح لنا حتى بالهرب...؟
ـ آ ...، فهمت، فأنت ترجعنا إلى أصل الحكاية، يا سيدي....؟
ورفع صوته:
ـ لكن السفينة تغرق...؟
قال البوم مؤيدا ً:
ـ إنها تحترق... أيضا ً.
  وأضافت حمامة بصوت متلعثم:
ـ إننا نتعفن!
   ومضى يوم آخر، وحل اليوم السادس، قال النسر الذي أفاق من كابوس:
ـ أيها الجمع الطيب، إننا لم نعتد على احد، وليس لدينا نوايا بالاعتداء، والإغارة، وسرقة حقوق الآخرين...، فلماذا الفزع...؟
وأضاف:
ـ فهل علينا أن نهرب إلى الموت ونلفت نظره إلى وجودنا...؟
ـ لكن حديقتنا محاصرة، والنيران تشتعل من حولها، ولا أمل لنا بالخلاص منه ..؟
أجاب النسر:
ـ أيها العصفور ...، أيها البلبل...، أيتها الحمامة...، لنعد إلى أصل الحكاية..... فالغراب آت آت ولا ريب في ذلك، وإن لم يأت ...، فهذا يعني انه ذهب من غير رجعة...، آنذاك ليس لدينا إلا ارتكاب حماقة نجهل خاتمتها...
ساد الصمت، ولم يفتح احد فمه بصوت أو كلمة. ليمر النهار، ويحل الليل. قالت النعامة:
ـ ربما لم يجد موطأ قدم فصعد إلى الأعالي....، لأنه طالما كان يود أن يفعل ذلك!
اجابت البوم:
ـ هذا يعني انه تنصل عن مهمته، وارتكب فعل الخيانة، فهو آثم، بحكم الخارجين على شريعتنا....، وقوانيننا...؟
   ضحك اللقلق:
ـ أيها السادة، يا حكماء هذا الجناح...، اقترح أن نستنجد برفاقنا في الجناح المجاور...
ضحك النسر بصوت متلعثم:
ـ  يا أحمق...، الكل بانتظار قرارنا...
ـ وماذا سنقرر...؟
ـ أن نصمت، ولا ندع الكلمات تخدعنا، أو تغوينا، أو تموه علينا...
رد اللقلق حالا ً:
ـ إن غادرنا نهلك، وإن مكثنا فالموت آت ٍ..، فماذا نفعل...؟
 صرخ احد العصافير:
ـ الغراب... الغراب... الغراب ...
    ساد الصمت، وهم يشاهدون الغراب يقترب ليحط بجوار النسر:
ـ أيها السادة، أيها المجانين، أيها الغرباء.....، ذهبت إلى نهاية الأرض فلم أر موقعا ً لا دخان فيه،  فالقرى، والغابات، والمدن، كلها تحترق...، حتى لم استطع أن أرى السماء!
   فسأله النسر:
ـ لكن لماذا تأخرت...؟
ـ أنا لم أتأخر، سيدي، بل جئت مبكرا ً!
ذهل النسر:
ـ ولماذا عدت مبكرا ً إن لم تكن أنجزت مهمتك، أيها الغراب...؟
ـ ظننت ذلك، فعدت، خشية بقاءكم بانتظاري...؟
ـ نعم، نحن كنا بانتظارك...، لكن مادمت لم تأتنا بنبأ سار....؟
ـ ومن قال إنني لم آت بهذا النبأ السار....، سيدي؟
    راح الجميع يراقب بما سينطق به الغراب، بذهول، وصمت. لم يتكلم.  وامتد الصمت حتى انتصف الليل، وحل فجر اليوم الثامن. لكزه النسر:
ـ  متى تنطق ...؟
فقال الغراب بتردد:
ـ لا فائدة من الكلام!
ـ هل تطلب منا أن نستعد للمواجهة، وللدخول في الحرب...أم الفرار.. أم ....؟
أجاب ساخرا ً:
ـ نحارب من.....، والعدو توغل فينا، ولم يترك فجوة إلا وشغلها!
بكت كبيرة الحمام بهديل حزين:
ـ ماذا تقول يا احكم الحكماء...؟
ـ سيدتي، العدو لم يتسلل، ولم يخترق أسوارنا، ولم يداهمنا، ولكنه سبقنا في الهيمنة...، فخلال العشرة آلاف سنة الماضية...!
   هز النسر رأسه وقال بصوت واهن:
ـ كأن سفينتنا لم تعد تقوى على الإبحار...
ـ أية سفينة...؟
ـ حديقتنا التي ولدنا فيها...
ـ آ ....، تقصد هذه الأقفاص، أم تقصد هذه المستنقعات، وهذه الزرائب، والحظائر، والزواغير، والشقوق، والحفر، والجحور ....؟
ـ  ليس تماما ً...، فهناك أجنحة مازالت  بالرفاهية...!
ـ دعني اعترف لكم ...
  ومر النهار سريعا ً، وحل الليل، متابعا ً:
ـ  صحيح، أنا تأخرت، لأنني بلغت المكان الذي لم أر فيه كائنات شبيهة بنا، أو بالأشرار البشر، أو بالزواحف، ولا بالثدييات، ولم أر أثرا ً للمنقرضات أيضا ً....،  فشرحت لهم أمرنا، وما يحدث في حديقتنا، وجناحنا تحديدا ً، وقلت لهم: ماذا لو حل السلام ـ وهذا محض افتراض شبيه بأثر الكلمات لدى السامع ـ فما المعنى من وجودنا....، فقالوا: ما الذي تسعى إليه، أيها الغراب ...؟ لم اجب....، لأنني كنت لا اعرف ماذا أريد...، وعندما أعادوا علي ّ السؤال، وفكرت في الأمر، فضلت العودة إلى بلادي!
ضحك النسر العجوز:
ـ هذا يعني انك تخليت عنا أيها اللعين...، لأنك لم تعد تؤمن بالنصر....؟!
ـ لا...، سيدي، أنا لا أؤمن بالهزيمة...، ولهذا لم أؤمن بوجود نصر يستحق الكد والعناء... وفي الأخير فانا لا أؤمن بالنصر ـ أي نصر كان ـ يحصل على حساب قهر الأخر، وتدميره، ومحوه...؟ وإلا ما معنى حكاية قائمة على التصفيات، والتنكيل، والسحق...، وهل يليق بالحكاية أن يكون لغزها شديد العتمة، ومموه حد الفكاهة وقد اتخذت كابوس الذبح، والإبادات...؟
قالت النعامة:
ـ  هذا جيد....، شرط أن يتم استبدال القانون ....، وهذا بمثابة دحض للتاريخ برمته...، تاريخنا، منذ البدء...، حتى حاضرنا الملطخ بالقاذورات، والأوساخ، والدناءات!
تنهد الغراب:
ـ  بالتحديد...، في حواري معهم أخبرتهم إننا أمضينا حياتنا نخرج من حفرة للدخول في اخرى، ونخرج من قفص للدخول في اخر، نولد لنموت، ونموت لنولد...، فالشعارات لدينا هي دحض الاخر، وتدميره...، وفنوننا استندت الى نظام لا مجال للرحمة فيه...، فالمنتصر وحده يدوّن هزائم الاخر، والاخر لا يمتلك الا ان يتوارى، ويغيب، او يتول الى مكنسة، او خرقة عتيقة لمسح الاوساخ!
ـ ولهذا لم يمنحوك حق اللجوء...، والاقامة..؟
ـ كلا! لقد منحوني هذا الحق...، انا هو من رفض ذلك، لانني لم استطع ان افهم لغز تلك الحديقة واهدافها ....، فانا لم اسمع صوتا ً، ولم ار اشكالا ً، ولا عراكا ً، ولا لغطا ً...
ـ غريب!
وأضاف كبير البلابل:
ـ أيها الغراب...، يبدو انك تعمل لصالح جهة ما تضمر العداء للفصائل كافة، وذلك بالتستر أو بفعل الغباء المعروف عنك...؟
ـ كلاهما، الجهل المقدس والغباء الأبدي يمثلاني بالدقة التي يصعب تفنيدها!
   ضحك النورس:
ـ ها أنت تنبش تاريخك، وتتركه بلا غطاء...؟
ـ أنا لم اشترك في التحريض على العدوان، ولم ارتكب سوءة تذكر، ولا فعلا ً آثما ً...، كل ما قمت به هو إنني علمت القاتل كيف يتستر على فعلته الشنيعة...!
تساءل كبير البجع:
ـ الم تصبح وسيطا ً بين القاتل والضحية...؟
حوّم الغراب واقترب منه:
ـ دعني اشرح لك المعضلة غير القابلة للشرح...ن كانت هناك قصة قديمة كادت تكون فاتحة لعصر سفك الدم...، لكنها انتهت بالمصالحة بين الراعي والمزارع، هنا، فوق ارض هذه الحديقة...
ـ ومن خربها، وحرفها، ودفع بها إلى ....
   مضى اليوم بأسره ولم يجب الغراب. فسأله النسر:
ـ كأنك تكتم سرا ً...؟
ـ مع ان فضح السر هو بمثابة تمويه له..، إلا ان كتمانه لن يصبح حلا ً..، فأسوء الاختيارات هي بمثابة أفضلها، لحلول جميعها سيئة...، لكن الصلح حدث لأن أسبابه كانت بانتظار من يدحضها، فكان الشر يمهد للضحية ان تلعب دورها...، وهذا كل ما في الأمر!
   وساد الصمت مرة أخرى، حتى نهاية اليوم الحادي عشر، حيث بدده النسر:
ـ لم تخبرنا بوضوح عن أسباب عودتك، أيها الغراب...، مادامت الحرب لم تجد من يضع حدا ً لنهايتها...؟
ـ آ ...، أولا ً: أنا لم اعد...، لأنني لو كنت وجدت ملاذا ً لكنت اخترته...
ـ ولكنك أخبرتنا إنهم يعيشون في عالم مختلف، وغير قابل للوصف...؟
ـ سيدي، لا أنا، ولا انتم، نصلح للسكن هناك. لماذا...؟ الجواب هو ان الحياة ذاتها غائبة، أو بالأحرى إنها شبيهة بحياتنا، من الموت إلى الحياة، ومن الحياة إلى الموت! فما الفارق بين حضور غائب، وبين غياب ليس له نهاية...؟
ـ ماذا تقصد...، لأنك تكاد تجدف....، فهل أنت هو .... ؟
ـ لا...، أنا ليس الذي دار ببالك، فانا لست النار، بل قصدت إنها هي الحياة التي لا توصف، بالأحرى غير القابلة للوصف...، لأنها بمنأى عن البصر، وعن البصيرة! فهي شبيهة بما يحلم به الحالم الذي يدرك ان أحلامه كلها حلم لا وجود له! أي مثل منزله الرائي الذي يرى المسافة بين السراب والسراب فيضنها هي الماء...؟  فالحياة هناك تكاد تدحض الحياة، حتى لا تشبه ما كنا نتخيله عن الجنات في الأعالي...؟
ـ لا يموتون ولا يولدون... ولا....؟
  هز الغراب رأسه، ولم يجب. قال البوم:
ـ لا مفر من الاستسلام بوصفه النصر الوحيد المتاح لنا! سيدي النسر العجوز...، وما عليك إلا ان تخبر إدارتنا الحكيمة بأننا سنواجه عدوا ً تتجاوز قدراته أضعاف أضعاف ضعفنا، وهشاشتنا، ووهننا...
لكن تلثم وقال في الحال:
ـ أنا قصدت ان تخبر إدارتنا الحكيمة التاريخية  إننا سنواجه هذا العدو حتى آخر واحد فينا...، فما معنى الحياة بلا كرامة...؟
   أجاب النسر بتردد، وهو يراقب انسحاب الطيور، واختفائها، وتسربها، الواحد بعد الآخر، وجماعات جماعات...
فردد بالصوت المتردد نفسه:
ـ هذا يعني القبول المشرف بقدرنا....!
   في اليوم التالي، اكتشف النسر انه أصبح وحيدا ً، لم يبق معه أحدا ً، إلا الغراب والبوم ومالك الحزين. فسأل الأخير:
ـ ماذا تقول...؟
ـ سيدي، لا جدوى من الكلام...، فالحكاية ولدت  باعثة على الأسى، والفكاهة!
ـ الأسى والفكاهة...؟
ـ كما اخبرنا السيد الغراب...، فهو لم يختر مدينة الحلم، ولم يدلنا عليها.....، مما يفسر انه لا يمتلك إلا ان ينتظر ـ مثلنا ـ حتفه...؟
نعب الغراب، قائلا ً:
ـ  إنها حكاية ولدت من الوحل...، فإذا كنا أمضينا ملايين السنين نتشبث بالنصر...، وبالعثور على حلول لها، فان أي حل عدا التشبث بهذا الأمل يبدو صفرا ً...؟
  رد البوم:
ـ  عدنا إلى الكلام...، عدنا نتكلم، نهذي...، لأن الكلمات أتعس بل أبلد أداة عمياء لنسج حكاية أصلها باطل...؟
  قال الغراب مؤيدا ً كلمات البوم:
ـ عندما كنا نقصد ان الجهل وحده كان ينسج حكايتنا، فكنا نظن انه بمثابة تبرير غير لائق لتلك العقول الأذكى التي عملت على ديمومته...
ـ ها أنت تتحدث عن ...
ـ ليس تماما ً...، بل قلت: ان أذكى  العقول لديها الكثير الذي ترفض انجازه ...، بل وتصر بذكاء مشفر وغامض عنيد وغريب على ترك الملايين تحافظ على ما هي عليه...! فليس الجهل هو  سبب البلية، وهذه المحنة...، بل المعرفة!
ـ ها أنت عدت إلى أصل الجرثومة... إلى العفن... والمياه... والشمس... وباقي العناصر.....!
قال الغراب:
ـ ليست اللغة ـ سيدي ـ هي أصل الشر، ولا الأصوات، بل تلك الأفواه التي إن لم تجد ما تلتهمه فإنها ستفترس الحجارة...! انه الفم، فمنا، هذا الشق الشبيه بتلك الشقوق والفتحات التي خرجنا منها، مع البراز والبول، كي نبدو وكأننا ملائكة، ورؤوس خالية من الشوائب، والعفن...؟
ـ ها أنت تكتم علينا السر...؟
ـ أنا لا اكتم سرا ً...، السر ذاته لم يعد يمتلك مناعة الكتمان!
ـ كأنك تدعونا إلى العصيان....؟
ـ من أكون...، سيدي، وأنا لست أكثر من غراب شبيه بباقي المخلوقات الواهنة، يحسب انه صقرا ً، والصقر نفسه ليس إلا من تراب هذه الأرض ونجاستها! فهل اقدر ان اعصي، ها، أنا اعصي...، أو أتمرد، أو أجحد..، ثم هل هناك معنى ما لو استنجدت طالبا ً للرحمة، والأبواب كلها وجدت مفتوحة بحدود انغلاقها! وهذا لا يتقاطع مع وصفها موصدة على اتساعها!
ـ إذا ً لم يبق لدينا...، إلا ان نغطس داخل هذا المستنقع...، في هذه الحديقة، حتى بعد ان حطمنا بعض قيودها، وحتى بعد ان فتحنا فجوات في جدرانها....
ـ لكن الجميع لاذوا بالفرار...، وكأن الهزيمة وحدها أعلى مراحل المجد .
متابعا أضاف:
ـ رغم إنهم سيهلكون في الطريق... أما الباقي فلا يمتلك إلا ان ... يتصالح!
سأله النسر بشرود:
ـ مع من...؟
ـ  لا اقصد التصالح مع أذكى العقول التي حاكت هذا النسج...، بل مع ما تبقى منها...! لأن أذكى العقول لا تمتلك حق المصالحة!
ـ ها أنت ترجعنا إلى العفن...إلى الأصل!
هز رأسه:
ـ نحن انحدرنا منه...، فهو وحده لن يسمح لنا بالانفصال عنه. انه الكامن في ذاته. فهو يجهل انه عفن!
نظر النسر إلى مالك الحزين بفزع:
ـ ابك! لك الحق بالبكاء حتى نهاية عصر الحدائق! أما إذا استبدلت أساك بالفكاهة، فلا بد إنها ستكون خالية من اللون...! أي مثل وجودنا تماما ً كلما عثرنا له على ممر ضاقت المسافات بما اتسعت...؟
 أجاب مالك الحزين:
ـ أنا ابك على ما يجري في الزرائب، وعلى ما يجري في الحفر، وفي الحظائر، والجحور....، فالجميع مازالوا اسري أقفاصهم!
   فرد النسر:
ـ آن لنا أن نعمل على كسر القيود....
هز مالك الحزين رأسه بلامبالاة:
ـ كما فعل أسلافنا...
  فسأل البوم النسر:
ـ سيدي، الحديقة محاصرة...، فبعد أن نحررهم من أقفاصهم سيفترسوننا!
ـ كأنك لا تريد لحكايتنا ان تمتد....؟
ـ سيدي...، حتى لو امتدت، فالنهاية وضعت قبل أن توضع مقدماتها.
اعترض النسر:
ـ سنبقى نحلق عاليا ً، بعيدا ً عنهم، كما فعلت النار عندما انفصلت عن الوحل...!
ضحك مالك الحزين:
ـ وهل لدينا غير البحث عن أمل...؛ الأمل الذي يوهمنا بوجوده...؟
ـ عدت تحلم..؟
ـ مع إنها حكاية ستذهب مع أبطالها، في التيار... إلا أن هذه الـ (مع) اللعينة ليست فائضة، فالذي اخترعها، وحده، وهبنا الكثير، لكنه لم يهبنا إلا هذا الأمل...؟
ـ الأمل ... بماذا ... وأنت لم تقدر أن تختار إلا العودة إلينا...، لتنذرنا...، وتخبرنا بان أذكى العقول هي ـ وحدها ـ تحرص أن تلوّح لنا بهذا الأمل...؟
قال الغراب:
ـ إنها تعمل بدافع الحلم، لأنها تحلم كي تعمل، وحوارنا هذا هو الخطيئة الوحيدة التي نرتكبها من غير أسف! بل حتى الأسف، أيها السادة، أصبح لذّة، ربما لذّة خالصة، كالغفران لا معنى له من غير الغواية، والوقوع في الإثم. وهكذا أنا رأيت حديقة لا احد فيها سوى الأثير....،  فلم استطع أن أتصالح معه! فهل سنتصالح مع الذئاب أم مع العقارب، مع التماسيح أم مع بنات أوى، مع الذباب أم مع البرغوث، مع أبو جعل أم مع الصراصير.....، وإدارة حديقتنا ما انفكت تتشبث بالأمل ذاته الذي أبى أن يغادر حدوده، وفراغه العنيد....، فهل ثمة أمل لنا غير البحث عن ....؟
ضحك النسر:
ـ إن لم نذهب إلى الموت، طواعية، فهو الذي يأتينا كرها ً..!
ـ لا.. سيدي، الموت ليس لغة؟
ـ وضّح...؟
ـ هو وسيلة لغاية رحنا ننسج أوهامها بألف ألف ألف وجه...، لكن الحقيقة لا علاقة لها بهذا الذي نراه....، ونتنفسه، ونتحسسه....، وندركه...، فهو لا يترك حتى أثرا ً لأثره...؟ لأن غياب الموت هو حضوره، وهو حضورنا، آنذاك تغيب اللعبة، وبغيابها تكون مهدت للذي لا علاقة له بأحلامنا، ومخاوفنا، وفزعنا، وأوهامنا، ولا بموتنا أيضا ً!
Az4445363@gmail.com
19/8/2015