السبت، 4 يوليو 2015

السردية التعبيرية الشعرية-رشا السيد أحمد

السردية التعبيرية الشعرية
رشا السيد أحمد

( نقد في ولادة المدرسة السردية التعبيرية الشعرية العربية  )

  التعبيرية في الفن التشكيلي
التعبيرية في الفن التشكيلي نشأت بعد عدة مدارس فنية سبقتها كان آخرها المدرسة التأثيرية ,و تلتها التعبيرية مباشرة وهذا يعني أنها اسّتقتْ منها وكونت نفسها بفكر جديد وتشكيل جديد مختلف عما سبقه من مدارس . وفكرتها  تقوم على محاكاة الواقع الخارجي وتأثيره في النفس وانعكاس هذا التأثير على العمق الفني , والحسي الشعوري في أعماق النفس البشرية للفنان لتعيد نفسها للخارج بكل تأثيرها القوي على المتلقي مستقطبا في العمل , قوة التأثير الداخلي ومساحته على طبقة الشعور بحيث تنعكس بانفعالية  قوية .. لا تشبع إلا بألوان جد قوية ومسخ وتحويل للشكل الأصلي , بشكل يعبر عن قوة التأثر الداخلي , يتضافر فيها اللون الكثيف وتصنيع الخطوط حسب إحساس الفنان ، على أن تترك الخطوط أحيانا , حرة طليقة كما يشعر بها الفنان مكونة الشكل العام من تضافر الفكرة العميقة واللون القوي والخطوط المعبرة , وبالتالي التشكيل الهادف والحامل لرسالة ما , تقوض كل ما يمكن أن يحطم قيم المجتمع ومبادئه وسلامه .
نجدها متمثلة بقوة عند " فان غوخ " van Gogh  وهو أشهر ممثليها في الرسم  ، في كوكو شكا Kokoschka وفي المسرح جورج كايزر Kaiser وبرتولت بريشت Bercht ويوجين أونيل O'neill،  في السينما  شتراوس  Strauss  في الموسيقا.

إذا هي نهضة فنية متمردة على كل ما يحيطها , أثرت بجميع النواحي الثقافية من تشكيلية وأدبية وموسيقية لتكون اتجاه رائع يبحر في العمق الفكري للإنسان , يتلمس به تأثير العالم الخارجي , في مستويات الفكر العميق وفي مستويات الحس الإنساني وما أثرت به الحضارة وتطوراتها الاقتصادية والسياسية والبروجوازية التي نشأت بقوة مع التقدم التكنولوجي الحديث .

التعبيرية في الأدب
إذا المدرسة التعبيرية  هي تلك المدرسة الخاضعة للتأثيرات المحيطة والتي تنصب في داخل النفس وانعكاسها بشكل انفعالات فطرية قوية تحدث تغير في الخطوط والألوان وأشكال التشكيل الواقعي , لتصبّه في قالب يمثل تواجده ورؤيته التصويرية , والحسية في العمق الشعوري للفنان  ، ومنه انتقلت هذه المدرسة من الفن الألماني إلى الأدب الألماني إلى أوربا كافة , بحيث راحت تشكل القيم والمبادئ المعنوية أكثر من نقل للواقع بشكل مباشر .. فهي ترفض مبدأ التصوير الواقعي الأرسطي أصلا .. ترى العالم في اللوحة حرا طليقا بلا قيد أو قاعدة طبيعية تقيده , على اعتبار أن هذا الحراك الحر للخطوط والألوان وتشكيلها الفطري , يكون أكثر تأثيراً في الفضاء البصري للمتلقي , وأكثر وقعا في النفس كتلك الصدمة الفنية التي تحدثها رؤية غريبة , بكل ما فيها داخل النفس البشرية .
إذاً هي عملية إيقاظ قوية لداخلنا البشري وإبلاغ رسالة ما . امتدت من عام 1910إلى عام 1925 بقوة لتبقى ممتدة بعد ذلك بدرجات متفاوتة . وقد انطلقت هذه الحركة من ألمانيا إلى باقي الدول الأوربية . وقد تأثرت الحركة التعبيرية في ألمانيا أسلوبيا بالكاتب السويدى " أوجوست سترندبرج " والشاعر الأمريكي " والت وايتمان " والذي يعتبر مبدع قصيدة أمريكا الحديثة والمحدثة ، وامتد تأثيرها خارج ألمانيا ،  ففي روسيا مثلا نجد تشابها كبيرا بين التعبيرية ونظرية " يفيجين فاختانجوف " المعروفة باسم " الواقع الخيالى "
والتي تنتصر لمبدأ تشويه الواقع كوسيلة من وسائل الإبداع والخلق، وترى أن هدف الفن الشرعي هو التعبير عن مشاعر الفنان بدلا من محاكاة الواقع والمحيط الخارجي .
 أما في بحث المضمون , فقد استند الأدباء التعبيريون إلى الأدباء الروس مثل ليو تولستوي ودستوفسكي. كما أثرت الأعمال الشعرية للشاعر الفرنسي رامبو "الإشراقات" وديوان الشاعر الفرنسي بودلير "أزهار الشر" بشكل حاسم في الأعمال الشعرية المبكرة لعصر التعبيرية

 أهداف التعبيرية  المباشرة
من أهم ما تسعى إليه هذه المدرسة
1 ـ الثورة على مجتمع تسوده قيم مخاتلة , لا تحقق السوية الاجتماعية للجميع
2 ـ انتقدت بشدة التطور التكنولوجي والوضعية بالعلوم وما قد ينتج عنها .. حيث انفجرت الحرب العالمية الأولى نتيجة لكل هذه التطورات التكنولوجيا والسياسية الخطيرة , التي أرادت الإستيلاء على العالم لتضخيم برجوازيتها وقوتها العسكرية ’ وبالتالي هيمنتها العالمية
3 ـ ترى أن الإصلاح العام للمجتمع يبدأ من الخلية الأولى وهي الفرد  (إن العالم سيصبح صالحا فقط عندما يصبح الإنسان صالحا) "ك. بينتوس "
4 ـ أدباء التعبيرية همهم الأول والأخير هو المضمون والإرادة الشخصية والموقف الأخلاقى للفرد وللمجتمع ككل
5 ـ الانعكاس الداخلي للفنان , وللأديب , ما هو إلا صورة قوية جدا تنبثق مستفزة من العمق الشعوري , الصوري , والمعنوي والأخلاقي في الداخل للخارج مثيرة المتلقي للتغير الخارجي بعد هزه من الداخل وإيقاظ القيم الجميلة فيه ،بعكس المدرسة التأثيرية , والتي كانت نتيجة للتأثيرات الخارجية . إذا هما على النقيض تماماً , منعكسة من الداخل للخارج وهنا الفرق .
وبينما المدارس الأخرى قد تهتم بدقائق الأمور كالمدرسة الانطباعية نجد أن التعبيرية , حالة حسية وعقلية وشعورية تتكون في المراجل الداخلية للحس , وتنصب على الجزء المهم من الحدث , لتسكبه قويا في بقعة ضوء واضحة , وجلية حسبما تحسه وتراه وتحب أن تراه لتغير المجتمع للأفضل . وانصب الأدب والفن على مجريات العالم الواقعية , بكل قسوته في الفن والأدب, لتنعكس رؤى لنهاية العالم , والطوفان ويوم القيامة وما أبقته الحروب في النفوس والواقع من ألم وخيبات وقنوط .. فقامت بتشويه الواقع , تشويها صوريا كبيرا حسبما رآه الفنان والأديب حتى يبدي مدى تأثره الداخلي .وقد حاول النازيون إزالة هذه المدرسة كونها مدرسة مشوهة لما في الواقع ..  لكنها ظهرت بقوة بعد عام 1945 .إلى 1950 ،لتمتد فيما بعد للعالم اجمع وأصدرت الحركة التعبيرية عدة صحف منها: "العاصفة" نسبة إلى لوحة فان كوخ العاصفة و" الفعل" اللتين صدرتا في برلين، وصحيفة " الثورة" في ميونخ و" المسرح" و" الأوراق البيضاء" في لايبزج من أشهر روادها في الأدب أذكر منهم . إرنست بارلاخ ،جوتفريد بن ،جورج هايم ،جورج كايزر ،إلزا لاسكر شولر ،لتمتد فيما بعد إلى أمريكا بصورة التعبيرية والتعبيرية التجريدية .....والتي أثرت كثيرا في حركة الشعرالأمريكي , والأدب الأمريكي بكل مبادئها وتصوراتها وأهدافها وهنا مقال آخر يفرد ذاته .
وهكذا امتدت التعبيرية بكل فكرها , لتنشأ فيما بعد ذلك التعبيرية الجديدة الحديثة متمثلة بفكر هادئ في معظم الأحيان وشكل جمالي يصبه الفنان والأديب في لوحات أدبية وفنية وشعرية فمن " استشراقات رامبو " وقصائد بودلير " أزهار الشر " التي تأثرت بها أيضا , التعبيرية امتدت هذه المدرسة الأدبية التعبيرية الجديدة لتنبثق بأشكال حديثة .
وفي الوطن العربي أجد هذه الحركة قد تأثر بها كثر من الفنانين والأدباء والشعراء حتى امتدت لعصرنا الحالي لتنبثق لدينا (التعبيرية السردية) في الشعر لتشكل معنا قصيدة نثر بثوب جديد فيها من مقوامات الفن الصوري والتشكيلي والشعر والرسالة القوية   , بتمازج هادئ جميل تارة وتارة يتعالى النبض حسب حالة الشاعر الانفعالية  
وحديثا نراها بقوة تنبثق في
1 ـ أشكال تعبيرية في الشعر
2 ـ سردية شعرية تعبيرية رشيقة , تكون لوحات شعرية ايحائية مرمزة مكثفة ترمي لهدف داخلي غير ما تعكسه اللوحة الخارجية , أشبه بشيفرة داخلية للحدث المسرود , على المتلقي أن يبحث عنه ويستنبطه من اللوحة أمامه :
نجدها في شعر الناقد د . أنور الموسوي
(في البركة الجريحة )
" ظلّ أنا و مرآة شاحبة ، أنثر ألمه المرّ في كلمات غريبة ، ذلك النحيل الذي تدمي الصخور ركبتيه ، لقد اعتاد السير عليهما نحو البركة الجريحة بحبرها
الأحمر تدوّن جراحه "
هنا الاستعارة .. انتقلت من الصورية المعتادة إلى استعارة بانورامية , تحيط بالحدث وتقدمه باستعارة سردية , بصورة تعبيرية حديثة ، استخدمت الصورة الشعرية , كدلالة بعيدة المدى مكثفة أشبه بقطعة موسيقية مترامية الأبعاد رغم صغر حجمها , هادئة تعطينا تصور داخلي مكثف عن الحدث .
فالصورة الشعرية , تحولت من صورية عادية إلى استعارة منسابة مظغوطة , في وحدة صغيرة كاملة برسالية محددة وموجهة وهادفة .أحياناً قد تكون كتلة واحدة كما في النص السابق , أو أشطر منسابة كما سيأتي معنا ....و بتبنى السردية التعبيرية الشعرية , تنبجس أشبه بلوحة تدفعك للتفكير في مرماها الداخلي المتفجر
ـ و السردية الشعرية الحديثة لا تتبنى التشويه الخارجي للتصوير , كما كان مفعولا به في بداية التعبيرية .
ـ هنا مدرسة عربية حديثة , تنبثق بجمال السردية التعبيرية الشعرية الحديثة لو عدنا لقراءة النص نجده أشبه بسردية القصة التي ترتب أحداثها المتفجرة من المستوى الأول للعرض لتنتقل بنا إلى المستويات الباقية للحدث قال د . الموسوي ( ظلّ أنا و مرآة شاحبة ) أبتدأ الحدث بجملة مظغوطة يتابع السرد نتوقف بالتساؤل عنها علينا النظر إليها من الداخل وليس فقط من الخارج ففي الداخل الشيفرة المعنية للإرسالية
الحدث الثاني وهو ( أنثر ألمه المرّ في كلمات غريبة ) أجد هنا الانفعل قوي يتشحه الهدوء , يدعوني للتأمل لما تريد أن توحي إلي به الجملة الثانية , هناك حالة من التفاعل التصاعدي تتكون لدي المتلقي تتصعد معه مع الخوض بالنص للنهاية
ونجدها أيضا عند الشاعر العراقي الناقد الأستاذ ناظم ناصر القريشي في معزوفته الجميلة
روح مهجورة تصفق فيها الذكريات ...
والريح ...
أعشاش من الخوف
والشجر الشاحب
البعيد عن النجوم
يسأل الريح
التي تمارس متعتها اليومية
تتأرجح بصرير الأبواب
هل رأيت الروح المهجورة تصفق فيها الذكريات ؟ّ
أنها لوحة كاملة متكاملة قدمت موضوع روحي في سردية تعبيرية رشيقة جدا تستوقفك الإستعارة , بين طيات الحدث السريع وهو يرسم المشاهد واحدا تلو الآخر ولكن بنفاذية عميقة , ومكثفة جدا لا تجعلك تجيل بصرك هنا أو هناك أنت تركز فقط على ما قدمه الشاعر , من حدث بإنزيحات حداثوية تستجمع الذات في داخل الجملة , لتعكسها بناء آخر يستفز المتلقي
فبناء الجملة هنا يختلف عن بقية المدارس الأخرى , هو ذاك التكثيف العميق أن فككنا الشطر الشعري سنرى ذلك (روح مهجورة تصفق فيها الذكريات ) " روح " .. شخصية الحدث , " مهجورة " , صفة الحدث ," تصفق " , صفة ثانية , الذكريات .. تكوين داخلي استمد بعده من المحيط الخارجي لينصب قويا عميقا في الداخل . ليخرج كما رأينه ـ مكثفة جدا ( مميزات قصيدة النثر الحديثة ) تضعك مباشرة في قلب الحدث ولكن ليس الظاهري , وإنما تدفعك دفعا للوقوف والتفكير بالمشاهد الظاهرية الموصولة للترميز الداخلي للقصيدة .. هو لمس دواخلنا بالإيحاء والتشكيل , هنا حراك متبادل "شعر لا يحركنا ليس بشعر "
لم يعد الشعر الحديث ذاك المشهد الجمالي فقط , أنما هنا ابتكار آخر بطريقة العرض وتقديم الرمز والتكوين الداخلي والخارجي وتعانق الشاعر وتفاعله العميق فيما يقدم من قضية محورية تتمركز في الخارج منصبة للداخل تقول ما تريد بطريقتها حيث ترى النور البعيد و تحركنا
1ـ للتأمل
2 ـ للبحث
3 ـ للتقصي
4 ـ لإيجاد الحل وللتغير والتفاعل ( هل رأيت الروح المهجورة تصفق فيها الذكريات
والريح ...
أعشاش من الخوف
والشجر الشاحب
البعيد عن النجوم
يسأل الريح
)
وهنا استقدم جزء صغير من قصيدتي ( زهرة النرجس ) بحيث يشكل لوحة سردية تعبيرية فيها إسقاط تاريخي بعيد لصاحب أول ملحمة شعرية في التاريخ كلكامش , لتأتي اللوحة أبلغ بكل مكوناتها تستقطب في داخلها الحدث مع كل التفاصيل السابقة
" ما زال كلكامش ينسج الحلم ممزوجا بتشظي التراب
ينهض من صلصال الجسد .. حلم زهرة
يلتمس وجه الآلهة القديمة العتيقة .. علها تريح مداه "
هنا معنى خاص كشيفرة خاصة بالشاعرة ومعنى عام يتطرق , لشخص الفارس العربي الباحث عن زهرة الحياة رغم كل الأهوال المحيطة به .." ينهض .. من صلصال الجسد .. حلم زهرة " محاولا إنقاذ الحياة حوله مهما أظناه الأمر أنها رسالة موجهة أنها استفزاز للمتلقي ليعاني مع الشاعر , ويتلمس محيطه وما ينعكس على ذاته , ما يتفجر داخله ..هذه هي وظيفة كبيرة جدا لتحريك أعماق المتلقي للوصول لجو من السلام الداخلي والخارجي
وعند د . سجال الركابي
تقول : حين يشتعل المطر
يوقد روحي الغافية
لكنها " ثمبلينا "*
لا تتوقف
تبحث عن ملجأ
وروحي وسعها الأشجار والمطر .
  ثمبلينا  فتاة الزهور طولها لا يتعدى بضع سنتميرات
من ابتكار مؤلف قصص الأطفال هانز كريستيان اندرسن .هنا منحى آخر للتعبيرية , بكل ما سبق مع تناص لشخصية قصصية أدبية معروفة وهي ثمبلينا بكل أبعادها وما تعنيه  ،القصيدة لوحة صغيرة , تكاملت بها أبعاد السردية الشعرية المتأملة ببهاء آخاذ
ونجدها أيضا عند الشاعر العراقي كريم عبد الله
في قصيدته مزاميرٌ تناكدُ عذريتها نقتطف منها جزء
( كثيراً ما تسألُ أزهارُ شرفاتها العالية : هل مازالَ يحبّها ذاكَ المتولّهُ للآنَ ويتراكمُ في روحهِ عشقٌ حدَّ الجنون ..؟ ولماذا حبّاتُ البَرَدِ كلّما تتساقطُ تكسّرُ أوراقنا الفتيّة )
أن السردية هنا اعتمدت التباثق الصوري والفكرة القوية التي تطرق الحدث بقوة منذ البدء فبدأت بالسؤال
" كثيرا ما تسأل أزهار شرفاتها العالية "
كثيرا .ما تسأل . أزهار . شرفاتها . العالية . أنها كلمات توحي منذ البدء وتشكل تلك اللوحة الصورية التعبيرية بألوانها الزاهية عبر الأزهار , وتنضدها في الشرفات العالية
تثير لدينا التساؤل لنتتبع الحدث من أول كلمة , في موسيقا هادئة تنساب مع تدافق الخطوط والأفكار ونبحث عن الشيفرات المحملة مع الكلمت المنسابة .
نلاحظ أن تراكيب الجمل الشعرية هنا , تتخذ أسلوبا آخر غير
غير الطريقة الإعتيادية في التعبيرية القديمة والقصيدة النثرية الحديثة .. وهذا ما يعطيها نسقها الحديث في توالده الطازج
الشعر أن لم يغير فينا شيئا .. أن لم يجعلنا نتفاعل معه ومع الوجود . فهو لا يتعدى كلمات وصفية , أنها مسألة تعمل على التأثير في الحس العميق منا ..
أن التعبيرية هي مدرسة التأثير المباشر في العمق للتغير .. مدرسة تفتح آفاق المتلقي , ليدخل القصيدة مع الشاعر لأعمق نقاطها هي ليست مجرد عناية بالصورة واللون الصوري , ومداخلة خطوطه والنسق العام وسيمائية التراكيب الخارجية كل على حدا , هي بناء كامل للشعرية في القصيدة النثرية السردية التعبيرية بناء من الداخل والخارج ورسالة ترسل للخارج
و هي تكاتف شعري وصوري ولوني وخطي وتشكيلي شعري لبنى القصيدة وموسيقا تتباثق متبلورة من داخل التكوين العميق ..فالتأثير التعبيري حسي ومعنوي وروحي , لمسه شعراء التعبيرية وليس مجرد صور شعرية تقدم .. هنا وظيفة لخلق مجتمع جديد بكل ما فيه من قيم جمالية وحق وإصلاح . هي ثورة حقيقية أبتدا من تأثرهم باستشراقات رامبو الرائعة وبودلير " أزهار الشر" .. والتي هي لوحات تهزنا بعنف وتجعلنا نقف أمامها مشدوهين
بكل تكوينها القريب , والبعيد فالصورة هنا مهمة جدا في التكوين لكنها جزء من العمل المتكامل
فكما أقر علماء النفس بالمستوى الشمي والسمعي واللمسي والذوقي .. فانهم أشاروا أن التكوين الصوري لدى الإنسان ولدى الشاعر والفنان والمبدع , ما هو إلا عملية عقلية تتم في العقل الباطن يفتح فيه أجنحته , ليحلق بعيدا جدا .
لكن هنا تتم العملية من منطلق موجود , إلى ما هو غير موجود وبشكل موجه وهادف بشكل فطري تعبيري كثيف , ينطلق بالأرجاء الرحبة ليحقق ذاته رغما عن هرطقة الكون التي ينأ عنها بنفسه . لقد أضحى الشعر مسألة تقويم للمجتمع , وليس فقط معنى جماليا .
إذا التعبيرية لوحة كاملة متكاملة يحق لنا دراسة أجزائها كل على حدة لتصل بمفهومها التشكيلي الشعري الى حيث تريد .


الخميس، 2 يوليو 2015

مظاهر التعبير الأدبي في القصة السريالية ، مجموعة ( رواية حمزة الأصفهاني ) -للدكتور غالب المسعودي نموذجا-د أنور غني الموسوي


 مظاهر التعبير الأدبي في القصة السريالية ، مجموعة ( رواية حمزة الأصفهاني ) للدكتور غالب المسعودي نموذجا
د أنور غني الموسوي
تمهيد
الدكتور غالب المسعودي ، طبيب و قاص و شاعر و فنان تشكلي عراقي له مجموعة من المعارض الفنية الشخصية و الاصدارات الادبية ، و له تنظيرات فنية ، يكتب القصة السريالية ، بين ايدينا و محل الدراسة مجموعة من قصصه السريالية عنوانها  ( رواية حمزة الاصفهاني ) .
سنعتمد هنا آليات النقد التعبيري في التناول و القراءة. و ( التعبيري ) هنا مشتق من التعبير الادبي اي من المعنى اللغوي للكلمة و لا علاقة له بالمدرسة التعبيرية كما قد يُتوهم .
 يقدم النقد التعبيري اطروحة معرفية اساسها ان التميّز و التفرد التأليفي هو جوهر الظاهرة الادبية ، و ان وظيفة النقد تفسير الظاهرة الادبية و عملية الانبهار، و ان ملامح تلك الظاهرة اوسع من فكرة الانحراف عن المعياري  كما عن الاسلوبية ، كما لا يمكن اختزالها  بمناهج وصفية لطرق الدلالة اللغوية كما عن علم اللغة  . و بالقدر الذي يجد النقد التعبيري فكرته العامة الانتزاعية واضحة فانه ايضا لا يقصدها  الا في العمل الادبي و من خلاله فقط ، بمعنى ان الوجود النظري لنظرية النقد التعبيري متأخرة عما هو فعلا موجود و متحقق في العمل الادبي من انظمة و عناصر ابداعية  ، لذلك فان النقد التعبيري انساني و واقعي بخلاف الجفاء و التجريد الذي عانت منه مناهج اخرى .

مستويات الظاهرة الأبداعية
لقد بينا في مواضع مختلفة تصورات تفصيلية عن الاطار النظري للنقد التعبيري منها ما في مقدمة النقد التعبيري (الموسوي  2015 ) ، و سنعمد هنا الى تطبيق ادوات النقد التعبيري الاجرائية على النصوص .
 في كل مستوى انساني متعلق بالادب و في كل موضع و نظام  متعلق بتركيبة العمل الابداعي هناك مظاهر ادبية ، وظيفة النقد الادبي البحث عنها و ابرازها و تبيينها ، كخصائص اسلوبية فريدة ، تحاول الاجابة على السؤال المهم  عن سبب تميز العمل الادبي و سرّ تأثيره على المتلقي . في النقد التعبيري  محاولة حقيقية  لتجاوز الاشكالات التي عانت منها المناهج السيميائية و تعاني منها مناهج النقد الاسلوبي كما سيتضح بجلاء . فبينما تكون مادة السيمائيين واسعة تتمثل بالنص و ما ابعد منها ، فان اداتهم ضيقة تتمثل بالدلالة و المداليل المعنوية ، و بينما تكون اداة الاسلوبيين واسعة تتمثل بالاسلوب و التفرد اللامحدود فان مادتهم محدودة تمثلها تركيبة النص و ابعاده الظاهرية . اما النقد التعبيري فانه يشتمل على اداة واسعة و مادة واسعة ، فانه يتسع في مادته سعة التجربة الانسانية مشتملا على النص و المؤلف و القارئ واللغة و ما هو خارج ذلك فكل ذلك ميادين للنقد التعبيري ، و اداته واسعة سعة التفرد و التنوع و الاشتراك و الاجتماع .
ان وظيفة النقد التعبيري رصد العناصر الفنية و الجمالية و الرسالية التي بحثتها في قانون الابداع و ما يتعلق به ( الموسوي 2014) . و سيأتي التطرق الى ما هو متجسد  منها في هذه المجموعة القصصية ،  في كل نظام تركيبي كلامي من المفردة الى الاسناد اللفظي الى الجملة الى الفقرة ثم الى النص كله ، و تلمّس و تتبع تجليات المستويات الانسانية في العمل الابداعي من حيث تجلّي المؤلف و القارئ و نظام اللغة و النص نفسه .
المظاهر الفنية في العمل الأدبي
المظاهر الابداعية التي يبحث عنها النقد التعبيري في العمل الادبي تتمييز بميزتين الاولى الاستقرار و الثانية الحركة اما الاستقرار فمن حيث الانطلاق من المظاهر الابداعية الاكثر رسوخا و استقرارا ، وهي ما يمكن ان نسميها ( المعايير الابداعية )  و تمثل الاصالة ، و اما الحركية فتتمثل بملاحقة و متابعة النص و التفرد الذي خلِق به و ما وجد فيه من مظاهر ابداع وهو ما يمكن ان نسميه ( الاضافات الابداعية ) و تمثل التجديد . و المظاهر الابداعية اما فنية او جمالية ، فيبحث الابداع المعياري و الاضافي في الجهتين  الفنية و الجمالية ،  وهذا ايضا من تفردات النقد التعبيري حيث يميز ما بين الفني و الجمالي .
المطلب الفني هو بحث توفّر الحد الادنى من الشرط للحكم بأدبية العمل و تجنيسه ، و لا يعتقد ان ذلك يعني اشتماله فقط على امور معيارية راسخة ، بل النقد التعبيري ينفتح على كل ما يمكن ان يؤسس لمعايير فنية جديدة وهذه صفة تمنع الجمود و التخلف في النقد التعبيري و تعطيه القدرة ليس فقط على مواكبة تطور الابداع و انما ايضا المساعدة على اكتشافه و بيان ملامحه .
مجموعة ( رواية حمزة الاصفهاني ) مجموعة قصص سريالية ، و القصصية متقومة في السرد الحكائي و ،السريالية متقومة في تجاوز المنطق و الزمن الفقراتي . لذلك عد البعض النص السريالي من السردية التعبيرية التي هي قوام قصيدة النثر ( دانييل ميتشل 2014).
مظاهر السردية واضحة في النصوص بحيث ان جميع النصوص شواهد عليها  ، اذ ان تعدد الشخوص و الاحداث و تعدد الرؤى و نقاط التبئير و الحواريات طاغ في النصوص ،  و في تجل قوي للسردية في قصة (هذيان) :
((كان كعادته عندما يجلس أمام لوحة الحاسوب, يتابع ما أشتهى أن يتابع, في الخلفية التلفزيون, على احدى القنوات الاخبارية , عقله الاول منشغل بالحاسوب, عقله الثاني يتابع التلفاز بشكل مستقل, هو يتابع مقطوعة جاز ل ب.ب. كنج,على اليو تيوب, أخذته إغفاءة , إذا به يحلم مرة اخرى......! شرب كأساً من عصير الليمون ناجى حبيبته ... النص))
تتجلى السريالية في نصوص المجموعة بوضوح كاسرة المنطقية ، و من اقوى تجل لها في قصة ( الأفاعي لا تبتسم ):
((كان الحد الفاصل لنهاية الجدل, هو إصرارها على إستخدام قالب الشمع وتقدمه كحلوى لغريمي, إني أعرف جيداً إنه لا يفرق بين البوظة والشمع, لكن هذا رأيها , إحترمته , لم أطلب منها الرحيل , إلا أنها آثرت أن تقف في بداية الزقاق ,في بيوتنا الشرقية غرفة صغيرة تستخدم لحفظ المؤونة, يوجد بداخلها موقد وأحينا تنور, إتكأت على كيس الفحم بجوار كيس الحطب, مددت رجلي على الارض ,لم أكن أنتعل شيئا , تعباً من حدة النقاش, أسلمت نفسي  إلى نوم عميق كأنه الموت, بين الحلم و اللاحلم ,وجدتها فاغرةً فاها, أفعى كوبرا الملك كما يسموها, تبتسم لي, تمد لسانها المشقوق تلاعبه في الهواء تمسح جبهتي بلعابها الناعم, كنت متعباً جداً من النقاش, أصابع الفحم وشوك سعف الحطب مستمرة في لعبتها الموجعة كانها مسامير حادة ,يحركها سجان إختص بالتعذيب قبل أن يطلق القاضي حكمه بألأعدام ... النص ))
  و في تجل قوي اخر للسريالية في  قصة(( الضفادع تتبختر في الماء ) 
 ((   إفتتح مسؤولٌ رسمي كل الدوائر , وجدها خالية إلا من أشباح, تركض بين ألأزقة, تصطاد ألجرذان , تسير بكل الأتجاهات ,بعضهم يركز فوهة بندقيته على ذيل جرذ, أصابه بدقة متناهية, لكن الجرذ إستمرّ في الركض, يبدو أن ذيله لا يهم , منظمات إنسانية تدخل على الخط ,قالوا لنا إنهم مرسلون من منظمة رعاية الحيوان, الضفادع تتقافز, تمارس حيلتها المعروفة, العيش خارج  وداخل الماء, تصور تدريب الضفادع ,يكفي لك أن تعيش مزدوجاً وتصبح ضفدعاً ممتازاً, تحقق إنتصاراً... النص))
 و هكذا جميع نصوص المجموعة فانها شواهد على السردية و السريالية المتكاملة فتكون المجموعة محققة للشرط الفني للوصف ، اضافة الى تكاملها في الابعاد و الشرط الكتابية الاخرى المقومة للكتابة الفنية عموما .

مظاهر الرسالية في العمل الأدبي
  الرسالية الأدبية اي الهدف و القضية عامل جوهري في أدبية الادب ، و الرسالية قد تكون اجتماعية اخلاقية و قد تكون فنية ادبية .أما الرسالية الفنية فظاهرة في المجموع من حيث التصدي لهذا الشكل الحداثوي و المعقد من الكتابة مما يحقق اضافة في العملية الفنية النوعية . و اما الرسالية الاجتماعية فان نصوص المجموعة مشحونة بالرسائل الاجتماعية و الانسانية و الاخلاقية .  و كما ان هناك الرسالة التصريحية فهناك الرسالة الضمنية الايحائية.و الرسالية هي مظهر من مظهر تجليات المؤلف في النص .
من الرسائل الاجتماعية  التصريحية في المجموعة ما في قصة ( الضفادع تتبختر في الماء الأسن) (هناك مصطلحات شبعنا من أكلها حتى التخمة, لكن الوطن لازال يتلاشى, ) و في  قصة (( المعاريض ))  (لابد من النوم بعد متابعة حلقة ممتعة على تلفزيون الحياة عن الكذب مشرعناً, نحن نعيش الآن في وهم الصدق ) و في قصة (القمر يرتفع عاليا في السماء ))( في ملاحمنا الحالية لا توجد بطولات , أحلامنا لا تتجاوز تحليق حمام, نعرف ألآن ,أن حضارة ألعالم تحلق في الفضاء وبين المجرات ,و الصحراوي لحد هذه ألثانية , غير قادر أن يتسلق شجرةً أو ربوة ) بل ان الرسالية حتى تطغى بتصريحية في العناوين كقصة ( عندما تمطي الاعراب ذيل السلطة ) و قصة ( الافاعي لا تبتسم حين تعض ) .
و اما الرسالية الاجتماعية الايحائية  فنجدها ايضا مبثوثة في النصوص ففي قصة (أشباح ) ((إنها تعوي في جسدي , كأنغام كَيتار حزين يعزف على المنفرد, له إيقاع خاص, يجترّ خاصرتي, أشكو لمن , وحدتي )) ان قاموس الالفاظ ( تعوي ، حزين ، يجتر ، اشكو) كما ان مفاد التعابير و دلالتها يشير الى شكل عميق من الأسى و الغربة و الحزن ، و اعتراض و طلب للتغيير و الخلاص . وفي قصة ( متاهة التماسيح)  بوح على مستوى الفكرة ، و على مستوى السرد ، و على مستوى الصور و الايحاءات .فاما الفكرة فمن الظاهر ان المؤلف قد عبأ نصه بافكار و هواجس و رؤى كثيرة ، نقلها النص بلغة واضحة و صريحة و احيانا ايحائية .فبين التيه العريض و على مستويات مختلفة و التي تذهب فيه الارواح و السنين ، فالحيرة و الوهم و اللامعنى ، و الوحوش البشرية و من يعتاش على دماء الناس و حياتهم ، كلها نجدها حاضرة في مراجعة و طلب مراجعة للفكرة و الفكر . و اما البوح على مستوى السرد فمن الواضح ان سريالية النص تمثل طبقة للبوح و شكلا تعبيريا اخر عن التيه و الضباب  و الوهم و حياة كالحلم في عدم منطقيتها و التباس امورها ، فينتقل السرد بشكل عشوائي لا منطقي بين المقاطع و الاحداث بشبكة ترابطات بعيدة تحقق سريالية واضحة في النص .و اما على مستوى الصور ففي النص مقاطع و عبارات اعتراضية و جزئية تتسم بايحائية و توظيفات بوحية عالية كما في قوله :(وأراد مينوس أن يجعل منها سجنًا للوحش الذي يسمى الميناتور, إذ كان يضحَّى بسبعة من شباب أثينا، وسبع عذارى لهذا الوحش كل سنة(ملاحظة نحن نضحي أكثر). فبعد مقدمة تعريف المتاهة بين سبب وجودها الاسطوري ، و يبين انها لاجل الحماية من الوحش و باسلوب ارتدادي ينقدح استفهام مبطن بانه ما السبب الحالي لهذه المتاهة ؟ و تغير عنوانها و معناها فصارت و سيلة الوحش البشري  لصيد الضعفاء في عالم الغاب الجديد . و يقول : (لكنه لم يعرف أن التماسيح تبني تحت الماء متاهة, تصور أنها تبنيها لأجل أن تسحب فريستها وتأكلها بهدوء, دون تطفل الأخرين وخصوصاً الحيوانات ألقمامة, إلا أن الباحثين أثبتوا أنها لاتستعملها لهذا الغرض(التماسيح لاترى في الظلمة وهي تحت الماء), هنا شعور و اشعار بامور خفية و ان الامور في عالم المتاهات ليست كما تبدو ، و ان الظاهر ليس كل شيء ، كما ان هنا يظهر سلطة العلم في عصر العولمة و عدم كفاية الافكار الموروثة و الاسطورية . كما فصلناه في مستويات البوح في القصة السريالية (الموسوي 2015 ) 

المظاهر الجمالية في العمل الابداعي
  الجمالية هي المكان الرحب الواسع للنقد التعبيري و الذي يكشف فيه و بحيوية فذة عن مواطن الابداع و الجمال في النص مستعينا بالواقعية و الوجدانية من دون ادعاء او تزييف ، انه رصد لمظاهر الجمال و التي تسبب الاثارة الجمالية و تحدث الاستجابة الجمالية لدى المتلقي ، و بهذا يظهر البحث الجمالي التعبيري اكثر واقعية و موضوعية و علمية من كثير من الاطروحات التي تدّعي الكشف عن الجمال ، و لقد اثبتت المقالات و القراءات المتعددة التي قدمناها بنقد تعبيري لأعمال ابداعية ( الموسوي 2015) صدق و واقعية و حرفية و جوهرية العناصر الجمالية التي يتلمّسها النقد التعبيري .
ان أهم ما يشير اليه النقد التعبيري في البحث الجمالي هو ( المعادل الجمالي ) حيث ان الاستجابة الجمالية تحدث بسبب ( عامل جمالي ) عميق . من وظيفة النقد بيان ذلك العامل ، وهذا العامل هو سرّ ابداع و اكتشاف المبدع ، الا ان ذلك العامل الجمالي يحتاج الى شكل و صورة لكي يظهر بها الى الخارجي ، المبدع يعمل على ايجاد ذلك الشكل  بمظهر ادبي نصي وهو ( المعادل الجمالي ) .و هذا ايضا من تفردات النقد التعبيري فان المبدع ليس فقط مبدعا في ايجاد المعادل الجمالي وهو المظهر و العنصر الادبي النصي الذي يعرفه و يدركه المتلقي و الذي يشير اليه النقد التقليدي ، و انما و قبل ذلك فان المبدع يكتشف العامل الجمالي ،و الذي يحكيه و يصوغ الدال عليه بشكل مظهر خارجي نصي هو المعادل الجمالي في نظام الدلالة الجمالية .

المعادلات و العوامل الجمالية

 لأجل تصور متقدم و مضيف للفكر الجمالي الادبي لا بد من بيان المعادلات الجمالية المتحققة في النصوص سواء كانت معهودة او غير معهودة ، و بيان العوامل الجمالية التي تقابلها ولو اجمالا   . واهم المعادلات الجمالية هي التوظيفات و اللاألفة او الانحراف  و التناغم ، و قد بينا سابقا بعض النماذج و سنبين فيما يأتي صور أخر لذلك ، يقابلها عوامل جمالية مهمة عامة مثل الأنس و الاكتشاف و الصدمة و العجز و الابتكار .
البحث الذي يمكن ان يستوفي وجودات المعادلات الجمالية و تجليات العوامل الجمالية هو البحث التدريجي و نقصد به الابتداء من المفرد ثم الاسناد اللفظي ثم الجملة ثم الفقرة ثم النص ، و مع ان هذا البحث في حقيقته استقرائي  مطول حتى في النص الواحد الا انه يمكن بعملية انتخاب النماذج التمثيلية معالجة ذلك ، كما انه بنفس الطريقة يمكن بحث نصوص متعددة في مقام واحد . و مع ان عوامل جمالية مهمة هي الغالبة كمؤثر في الاستجابة الجمالية مثال الأنس و الاكتشاف كمقابل للتناغم و الصدمة العجز و الأبتكار كمقابل للاألفة ، الا انها تكون اكثر وظيفية في بعض الوحدات و الانظمة الكلامية من غيرها كما سنبين . كما انه في كل موضع  و وحدة كلامية يمكن تلمس تجليات المؤلف و القارئ و اللغة و النص . من هنا سيكون البحث التعبيري مقسّم على الانظمة الخمسة المتقدمة .
1-   نظام المفردة
أهم الابحاث التعبيرية على مستوى نظام المفردة هو القاموس المفرداتي و قدرته في خلق مزاج النص و الذي من وسطه تحصل التوظيفات الابداعية الاخرى ، اذ انه لا بد من خلق مزاج للنص عام يكون كالسماء للنص ،  لاجل ان تبرز و تظهر التكتلات الداخلية كنجوم و كوكب فيه . العامل الجمالي المقابل لهذا المعادل يكون بشكلين الاول عاطفي انفعالي اتجاه القاموس ، فالحقل المعنوي الذي يحقق القاموس و المزاج العام  له مقابل عاطفي ،  فقاموس و مزاج الحزن له مقابل يختلف عن قاموس و مزاج الفرح ،وهكذا . الشكل الثاني انه بتحقق المزاج و القاموس و المقابل العميق ، فان الكتل و التعابير المنبثقة في النص تحقق تجاورية تحليلية تشبه في تأثيرها التجاورية الشكلية  التي سياتي الحديث عنها و لها نفس مقابلاتها العميقة  .
وقد تقدم بيان كيف ان القاموس المفرداتي خلق تعبيرا وبوحا بالاسى و الحزن في مقطع من قصة ( أشباح ) و في قصة  ( سفر ) نجد قاموسا مفرداتيا في مقطع منها ينقل القارئ الى الحقول المعنوية في السفر و يخلق مزاجا عاما بالاكتشاف  (أتذكر غاندي ومسيرة الملح ,المقاومة بلا عنف, أرى شوارع مدينتي, فيها الناس يقتلون أنفسهم ويقتلوننا, حتى أصبحنا نعيش في مدن الأشباح,  إنه نموذج لخداع البصر والبصيرة ,تمتعت بإجازة من عملي, قال البعض زارَ جزيرة  كيش , البعض الآخر قال زارَ مدينة الالعاب في أعلى ناطحة سحاب  في العالم, والذين يتمنون لي الهداية, يقولون ذهب للعمرة ,لكني في الحقيقة لم أنقل جسدي من مشغلي, لدي مفهوم فيه بعض الشذوذ, أفلسفه  كما يلي.....!, أحيانا اللذة ألروحية و الجسدية لا يستوعبها المكان, إن كنت تريد أن تسافر, سافر إلى روحك, دغدغ ضفائرها ستجيبك ) فألفاظ ( مسيرة ، شوارع ،مدينتي ، اجازة ،زار ، جزيرة ، العمرة ، سافر ) هذا القاموس ينقل القارئ الى حقول المعنى الخاصة بالسفر و الانتقال ، و هناك الفاظ تخلق جو العلو و مزاج التعالي و الاشراق ( غاندي ،مقاومة ،جزيرة كيش ،اعلى ،  ناطحة سحاب   ،اللذة ،  الروحية ، روحك ) . قاموس المفردات و ما يخلق من مزاج وجو للنص هو نموذج للتناغم الفني  وهذه المعادلات الجمالية يقابلها عوامل جمالية اهمها الانس و الاكتشاف كما انه يمثل تجليا للغة و انثيالاتها .

2-    نظام الاسناد
اهم الابحاث التعبيرية في نظام الاسناد هو التوجيه المعنوي ، بان يضيف المؤلف صفة او نعت او اسناد معين يخصص اتجاه المفردة المعنوي  و الالفة و اللاألفة الاسنادية  اي المنطقية الكلامية حيث ان لكل مفردة مجال توقع تجاوري ، باللاألفة يحصل كسر له . و بألفة التجاور او لاألفته  تتحدد سرع الكلمات ، اذ كلما زادت الالفة بين الكلمات المسندة قلت سرعة المفردات و كلما قلت زادت سرعتها ، و ادراك هذه العلاقة او النظام التجاوري هو جزء من نظام التجاورية الشكلية الذي يشمل ايضا الجمل المتجاورة و الفقرات المتجاورة . اللاألفة و الانحراف و السرع الكلامية معادلات جمالية توظيفية ، يقابلها عوامل جمالية ابهارية اهمها الصدمة و الابتكار و العجز العملي بان يحصل لدى المتلقي شعور بالعجز تجاه المنجز .
في المقطع المتقدم من قصة ( سفر )  نجد توجيها معنويا اسناديا ظاهرا في اسنادات مثل ( مسيرة الملح , المقاومة بلا عنف, شوارع مدينتي,  الناس يقتلون أنفسهم  ، مدن الأشباح ، خداع البصر والبصيرة , مدينة الالعاب في أعلى ناطحة سحاب  في العالم,  مفهوم فيه بعض الشذوذ ) من الواضح ان المفردات المركزية في تلك التعابير قد اقتص المؤلف منها حصص خاصة فالمسيرة هي مسيرة الملح و المقاومة هي مقاومة بلاعنف و مدينة الالعاب في اعلى ناطحة سحاب في العالم و هكذا ) .
اما اللاألفة الاسنادية فهو الانحراف و الانزياح و المجاز و الشعرية وهي طاغية في المجموعة  حتى انها تصل الى العناوين مثل  ( الضفادع تتبختر في الماء الآسن ) و ( زمان الصفر ) ( عندما تصحو التنانين ) ( حلم سريالي ) ( عندما يمتطي الاعراب ذيل السلطة )  . و انظمة التجاور و الاسناد تتأثر كثير بغايات النص و تجلياته كما لا يخفى .

3-   نظام الجملة
اهم الابحاث التعبيرية في نظام الجملة هي الافادة ،و التوظيف  فالافادة قد تكون قريبة او بعيدة مباشرة او غير مباشرة ، توصيلية او ايحائية ، وهذا انعكاس التوظيف فيها ، و من المعلوم ان الجملة تحتل مكانة مهمة في القراءة الادبية اذ انها في الشعر الصوري  تحقق الصورة الشعرية و في السرد القصصي تحقق الحكاية ، و اما في السرد التعبيري المقوم لشعر النثر و قصيدة النثر فانها تحقق التعبير .
و نصوص المجموعة كلها شاهدة على حكائية الجمل بسردية حكائية ، كما ان السردية الحكائية بوصفيتها و تشخيصيتها مهمة هنا لاجل خلق العمل السريالي ، لانه يعتمد على التجاور اللامنطقي بين المنطقيات . و لذلك يكون من المستبعد امكانية النص السريالي في الشعر الصوري المعتمد على الصورة الشعرية نعم الرسالية ممكنة في السردية التعبيرية لقصيدة النثر .

4-   نظام الفقرة
ربما يغفل احيانا عن اهمية نظام الفقرة في النص ، الا انه في الواقع هو من اهم ما يحدد الطبيعة التجنيسية للنص ، اذ ان المنطقية المطلوبة بين الجمل ايضا تؤثر بل هي اساسية في مظهر النص ، و كما ان التجاور الفقراتي يميز بين السرد و التصوير ، فانه ايضا يميز بين السرد المنطقي و السرد اللامنطقي المتمثل بالسرد السريالي ، و السرد التعبيري  ، و من هذه الجهة اي اشتراك السرد السريالي مع السرد التعبيري في كسر المنطقية الفقراتية وان كانت هي أشد و اعنف في السريالية ، فانه يعد احيانا من قصيدة النثر كما اشرنا .
من الواضح ان العلاقات الفقراتية بين الجمل مهمة في قصص مجموعة ( رواية حمزة الاصفهاني ) ، اذ باللامنطقية التجاورية بين الجمل تتحقق السريالية ، و من الواضح ان جميع فقرات قصص المجموعة شواهد على ذلك .
5-   نظام النص
اضافة الي البحث الفني في رسالية النص الجمالية و الاجتماعية فان البحث التعبيري الجمالي في النص يبحث في تكامله الجمالي ،اي في قيمته و ثراءه و هو مجموع ما فيه من تنوعات ابداعية ، و لا يعتقد ان ذلك يتناسب مع طول النص ، لان القيمة الجمالية للنص ليس مجموعية و انما نسبية اي بمعنى انها تساوي مقدار ما يحققه النص على مستوى الوحدة الكلامية ، و من المعلوم ان هذا الفهم اصافة الى  انه يفسر التقليل الجمالي من الزيادات الضارة في النص فانه من تفردات النقد التعبيري .
ان عملية تتبع قيمة النص و ثراءه هي عملية احصائية ، احصاء فني و جمالي ، كما ان النسبية و توزيع الوحدات الابداعية على الوحدات الكتابية ايضا من وظيفة البحث في قيمة النص ، و من نتائج البحث النصي هي الاضافة التي يحققها العمل .
في القصة السريالية و بما تشتمل عليه من مستويات تعبيرية و عناصر ادهاش و ابهار و تكثيف و لاألفة و لا منطقية كلامية فانها تحقق مقادير عالية من الثراء النصي و البوحي و الاضافة الفنية .

ما وراء الظاهرة الجمالية
ان الظاهرة الجمالية بمعادلاتها وعواملها هي عناصر فاعلة و خالقة للتأثير في نفس المتلقي ما يحصل لدى المتلقي الاستجابة الجمالية اضافة الى امور اخرى خارج ألتناول النقدي الادبي كالاضافات المعرفية لغوية و فكرية . و العالم الذي يحصل فيه التأثر ممكن ان نسميه بنظام الاستجابة الجمالية ، و الذي يمكن النظر اليه من جهة النظرية و التطبيق ، تشتمل الجهة الاولى على بحث حقيقة الاستجابة الجمالية و الابعاد الجمالية و الجهة الثانية القراءة الابداعية و التي هي مظهر من مظاهر تجلي القارئ في النص ، هذا الفهم لظاهرة التعبير الأدبي هو من تفردات النقد التعبيري وغناه .
1-     الاستجابة الظاهرية و العميقة   
في الطرف الآخر من عملية التمتع بالقراءة نظام الاستجابة الجمالية ، و بالقدر الذي تكون كثير من مظاهر الاستجابة الظاهرية معقدة ، فانه ايضا هناك وضوح في مديات و اشكال الاستجابة الجمالية . ان تأثير العمل الابداعي على المتلقي اما ان يكون بحركة شعورية ظاهرية وهذا هو الابهار الظاهري و الذي يتصل كثيرا بالتناغم الحسي المادي للعمل سواء على مستوى الشكل ام المضمون ، اذ كما ان للشكل تناغما فان للفكر و تعامله مع المضمون متطلبات تناغم ، و يمكن ان نسمي هذا الشكل من الاثارة بالاثارة التناغمية . و هناك استجابة و اثارة عميقة تتجاوز التناغم الشكلي و المضموني تكون اساسا في الصدمة و المفارقة و كسر التوقع ، وهذه الاثارة الشعورية تكون عميقة ، و لها ايضا عناصر شكلية و مضمونية ،و يمكن ان نسميها الاثارة الصادمة . ان هذا الفهم يتجاوز و بلا ريب اشكاليات الفهم السيمائية للاثارة المرتكز كثيرا على  التوافق و الاشتراك و  الابهار التناغمي ، و يتجاوز ايضا اشكاليات الفهم الاسلوبي للاثارة القائم بشكل شبه كامل على الانحراف و التفرد و الابهار الصادم ، كما انه يعطي تصورا متقدما عن المادة المثيرة و انها ليست امرا مستقرا في العمل بل انها مترامية الاطراف و تدخل القراءة كعامل جوهري فيها .
لكل من الاستجابة الظاهرية و العميقة محدثات و منتجات خاصة  ملحوظة من المعادلات الجمالية و المظاهر و العناصر النصية ، او بمعنى ادق ان لكل عنصر نصي جمالي تأثير متميز خاص في جهة معينة منهما ، فعناصر التناغم  كالموسيقى الشكلية مثلا تحقق الاستجابة و الاثارة الظاهرية ، بينما الانحراف و اللاألفة و الصدمة تحقق الاستجابة و الاثارة العميقة .
في قصة ( حلم سريالي) عناصر تناغمية و لاتناغمية .
(( اليوم أنهيت كتابة الرواية, لي بعض الملاحظات التعبيرية, كونها لاتمثل كل ما في وجداني, لكني بكيت, عندما إنتهيت من تنضيد الأوراق  كانت دموعي غزيرة , تناولت قطعة من الورق الصحي , مسحت عيني , كان الورق نظيفاً, تمنيت لو أن الكل تمسح دموعها به حتى لو كانت دموع تماسيح, حزنت على مصير  جورية , خلقتها في خيالي ,لكن الكثير يعتقدون إن كل ما أكتبه هو من وحي الواقع, أعترف إن كلّ ما أكتبه هو من وحي أحلامي , عندما أنظر الى الجدار أحلم, عندما أنظر الى البحر أحلم, ما المشكلة إنني أحلم دائما, الحلم مملكتي الخاصة, يوما ما حلمت بإلآهة سومرية, أسميتها رغم أنها لا تحمل المستمسكات الأربع, النص ))
عناصر التناغم تتجلى في النص في مراعاة التداولية و الموسيقى الشكلية وفي القصص يكون الاول غالبا ، فمن صور التناغم الاسلوب السردي اذ انه تداولي و قريب للنفس من التصوير الشعري فيحثث الالفة ، و الصورة الاخرى الالفاظ الاليفة ( اليوم ، وجداني ، بكيت ، دموع ، ورق صحي  وغيرها ) ، و ايضا الوصفية و الحكائية الواضحة ،  كما ان الخطابية في (الكثير يعتقدون إن كل ما أكتبه هو من وحي الواقع, أعترف إن كلّ ما أكتبه هو من وحي أحلامي , عندما أنظر الى الجدار أحلم, عندما أنظر الى البحر أحلم, ما المشكلة إنني أحلم دائما )  هذه كلها من حيث الالفة و القرب التي تحقق انظمة تناغم فكرية و أنس و تلذذ ظاهري . اما انظمة اللاتناغم فالسريالية و القفز اللامنطقي ، و التراكيب الانزيحاية ، و كذلك الرسالة الصادمة كما في (تمنيت لو أن الكل تمسح دموعها به حتى لو كانت دموع تماسيح ) اضافة الى الخيالية التصويرية الصادمة وهي شيء اخر غير الرسالية مثل (لكني بكيت, عندما إنتهيت من تنضيد الأوراق  )   و كذلك عبارة ( كانت دموعي غزيرة , تناولت قطعة من الورق الصحي , مسحت عيني ) .اذ ان السريالية تتجلى في العلاقة التجاورية بين الجمل ، اما داخل الجمل فالانزياح الخيالي التصويري وكلها تحقق الاثارة العميقة .

2-   البعد الجمالي
نظام الاستجابة الجمالي و الاثارة دوما مركب من الشكلين الظاهري و العميق وان كانت الغالبية لأحدهما لانهما شبه ضدين ، بمعنى آخر ان التركيبية في الاستجابة و الابهار الجمالي لازم ، بحيث ان هناك دوما مقدار من الابهارالتناغمي الظاهري و مقدار من الابهار اللاتناغمي العميق . و نظام المتعة و الاثارة و الانبهار يتحدد كمحصلة نهائية لمجموع مقداري هذين الشكلين .
ان مقدار الانبهار مع حقيقته الكمية فانه ايضا كيفي ، يعتمد في كمه و كيفه على النقاط الشعورية التي يحفزها ، فلدينا كم من مناطق الشعور المحفزة و كيف و نوعية منها ، مساحة المناطق المحفزة يحقق البعد الكمي ، و توزع و تنوع المناطق يحقق البعد الكيفي ، و كما ان المقدار الكمي يتجسد بكتلة المنطقة و المساحة فان البعد الكيفي يتجسد بشكل اشكال من مستقيم و مستوي و مجسم . وكما ان هناك فرقا في المقادير الكمية فان هناك فرقا في التجسيدات الشكلية من حيث كون الاستجابة مستقيمة ام مستوية ام مجسمة . وكما ان لكل من شكلي الاستجابة الظاهري و العميق عناصر نصية غالبة فان في اشكال الابعاد الجمالية ايضا عناصر مناسبة تحدثها .

القراءة الابداعية وحركة النص .
ان للنص الادبي بابعاده المتقدمة - اضافة الى بعده  النصي البنائي كنص بمفردات و جمل و فقرات متجاورة   -  بعدا  ابداعيا اسلوبيا  يتمثل بالفنية و الجمالية   و له ايضا بعد  دلالي تجلياتي يتمثل بتجلّي اللغة و النص و المؤلف .    بينما يكون قاصرا تتبع عناصر البعد الابداعي الاسلوبي فقط او  تتبع عناصر البعد الكتابي الدلالي فقط  ، فان تتبع نقاط تلاقيهما التعبيرية الجمالية يكون بالقراءة التعبيرية الابداعية ، و التي تتجاوز جميع اشكاليات الشكلين المتقدمين من قراءة النص  . هذه القراءة بهذه الابعاد هي ما يحصل لكل قارئ و نتاجها وان كان اجماليا و عميقا و ضبابيا الا انه يحدث دوما وحسب استعداد القارئ ، وما القراءة الاحترافية الا جلاء و بيان لتلك الحالة الموجودة ، فالنقد ليس خلقا للقراءة و انما كشفا عنها .  
ما يحدث في عملية القراءة انها تتطور من مستوى المفردة الى مستوى الاسناد او التجاور المفرداتي الى مستوى الجملة الى مستوى الفقرة ثم الى مستوى النص بكله ، و اثناء كل مستوى يحضر البعد اللغوي الدلالي  و البعد الابداعي الاسلوبي ، و بمجموع ما يتم من انظمة احتكاك و تقابل و التقاء و تقاطع ، يحقق العمل الابداع في ذلك الموضع او النظام النصي المعين  نقطة تعبيرية جمالية تحصل في الفكر و النفس ، يمكن ان تفهم كمقابل كم للعملية الابداعية ، و من هنا و بالنقطة التعبيرية يقدم النقد التعبيري فهما كميا للجمال وهو من تفرداته في هذا الشأن . يقابل تلك النقطة  في كل وحدة كتابية بعد خاص بالقراءة هو البعد الشعوري و الاستجابة الجمالية  وهي خلق خاص بالقارئ للنص يختلف فيه عن غيره   .  بعبارة اخرى بينما يكون النص ككيان مكتوب شكلا ساكنا لا حراك فيه ، فانه ككيان مقروء يكون كيانا متحركا له بعده الحركي هو البعد القراءاتي الشعوري ويمثل بعد الحركة الذي يخرج النص من السكون ، كما ان لاستعداد القارئ و تصوراته تأثيرا على سرعة تلك الحركة ، وكلما كان النص ذا حركة سريعة بثراءه و ثراء القارئ كان أكثر ابهارا .  
القراءة ما هي الا عملية مشاهدة و تلقي تبحر فيها النفس في 1- عوالم النص و الكتابة ، و 2- عوالم الفكر و اللغة ، و 3- عوالم الخيال و الابداع ، و 4- عوالم  الشعور و المتعة . بينما العوالم الثلاثة تخلق الشكل المجسم للنص ، فان العالم الرابع اي القراءة  هو البعد الحركي الذي يكتسبه النص روحا و حركة تخرجه عن السكون  . هذه العوالم الاربعة الحاضرة دوما في الكتابة الابداعية هي التي تضرب في عمق النفس و تجعل الكتابة الادبية مميزة ،  و بمقدار تجلي عناصر و اشياء تلك العوالم و تلك الابعاد يتحدد وقع القراءة و مقدارها التعبيري .  وان القصص السريالية في مجموعة ( رواية حمزة الاصفهاني )  كانت موطنا لتجليات فذة و عالية للمؤلف و القارئ و اللغة و النص ، انها نصوص تبلغ اهدافها و تحقق الاضافة الادبية و الرسالة المرجوة . و النقد التعبيري هو الاداة الصادقة و المجال الفسيح الذي يدرك و يرى تلك الانظمة و تلك الابعاد بواقعية و صدق و وضوح .



التناسب والمقياس- د.إحسان فتحي





التناسب والمقياس


   د.إحسان فتحي

    تشكل قضية التناسب بين العناصر المعمارية ومقياسها أهمية أساسية لا مفر منها لأي مصمم سواء كان طالبا أو أستاذا أو ممارسا في المهنة. لا مفر من فهم النسب الجمالية المألوفة لان "منظومة القيم الجمالية" عند جميع الحضارات كانت ولا تزال تعتمد عليها.  طبعا هناك من يرفض وجود أي قواعد أو أسس أو حتى قيم كما نراه حاصلا الآن عند عدد معين من كبار المعماريين، ولكن التفحص الدقيق لأعمالهم يكشف تبنيهم لنسب معينة و مقاييس معينة أيضا.  وبرأي إن احد أهم أسباب الخلل الواضح في فهم أهمية التناسب والمقياس هو الجهل في الثقافة المعمارية التاريخية والتنظيرية أولا، ثم الاعتماد الكلي على البرمجيات الحاسوبية في التصميم المعماري كما هو واضح جدا في أعمال طلبتنا وحتى الكثير من معمارينا الممارسين في سوق العمل.   إن هذه البرمجيات تسبب فصلا كاملا بين عناصر التصميم والفراغات المختلفة، وتفقد النظرة الشمولية للتصميم ككل، كما هي غير معنية بالمقياس أبدا. 
 الطالب الآن يرتب الفعاليات والوظائف لأي تصميم دونما أي اعتبار   للمقياس إطلاقا ولا للعلاقات البينية بين الفضاءات المختلفة.  الدليل على ذلك هو طبع المخططات بمقاييس غريبة جدا لكي تلاؤم مساحة الورق ليس إلا! فعندما أسأل الطالب ما هو مقياس هذا المخطط يقول انه تقريبا 1:240 مثلا!  أما المقياس فذهب هو الآخر ضحية لهذا "التطور" التقني! فكثيرا ما اكتشف بان الطالب لا يدرك أهمية الأبعاد واختلافها والفرق بين باب المدخل الرئيسي والأبواب الأخرى، أو الطابق الأرضي والطوابق الأخرى. كما إن اغلب الوقت التصميمي يخصص على المخططات الأفقية وقليلا على المقاطع التي قد تكون هي الحاسمة في الكثير من الحالات.
ولكي اقرب الصورة لكم أكثر، فالعديد من الطلبة يطلبون مني أن اخبرهم بأفضل نسبة بين القبة والمأذنة في تصميم المساجد، ذلك لان هذه "القضية" ليست محسومة ولا يوجد من أفتى بها حتى الآن.  وكما هو معروف للجميع بان النسبة المفضلة في العمارة الإسلامية هي الجذر التربيعي للعدد 2 وهي اقل بقليل من النسبة الذهبية الشائعة في الغرب. لكنني بعد دراسة العديد من الأمثلة التاريخية والمعاصرة وجدت بان أفضل نسبة بين ارتفاع القبة والمأذنة هي بين (1 إلى 1.5) و(1 إلى 2.5). وبمعنى آخر، فان هذه النسبة بالذات لا تلتزم بنسبة 1.414 بل تتجاوزها أحيانا لتصل إلى ضعفها!  ووجدت بان هذه النسبة في احد أجمل الجوامع الإسلامية، وهو جامع ومدرسة السلطان حسن في القاهرة، تبلغ الضعف فقط، وهي نفس النسبة التي اعتمدها سنان في جامع السليمانية المذهل. 
وفي الكثير من الجوامع المعاصرة نرى اختلالا واضحا ومزعجا في هذه النسب حيث وصل ارتفاع المأذنة إلى 6 أضعاف ارتفاع القبة في احد جوامع عمان كما هو واضح في الصورة المرفقة!  ويبدو إن مسألة التناسب لا تعطى الأهمية الكافية في التعليم المعماري، بل تهمل تماما أحيانا وهو مؤشر خطير يدل على الضياع أو التخبط في احد أهم أركان التصميم المعماري.