الخميس، 2 يوليو 2015

مظاهر التعبير الأدبي في القصة السريالية ، مجموعة ( رواية حمزة الأصفهاني ) -للدكتور غالب المسعودي نموذجا-د أنور غني الموسوي


 مظاهر التعبير الأدبي في القصة السريالية ، مجموعة ( رواية حمزة الأصفهاني ) للدكتور غالب المسعودي نموذجا
د أنور غني الموسوي
تمهيد
الدكتور غالب المسعودي ، طبيب و قاص و شاعر و فنان تشكلي عراقي له مجموعة من المعارض الفنية الشخصية و الاصدارات الادبية ، و له تنظيرات فنية ، يكتب القصة السريالية ، بين ايدينا و محل الدراسة مجموعة من قصصه السريالية عنوانها  ( رواية حمزة الاصفهاني ) .
سنعتمد هنا آليات النقد التعبيري في التناول و القراءة. و ( التعبيري ) هنا مشتق من التعبير الادبي اي من المعنى اللغوي للكلمة و لا علاقة له بالمدرسة التعبيرية كما قد يُتوهم .
 يقدم النقد التعبيري اطروحة معرفية اساسها ان التميّز و التفرد التأليفي هو جوهر الظاهرة الادبية ، و ان وظيفة النقد تفسير الظاهرة الادبية و عملية الانبهار، و ان ملامح تلك الظاهرة اوسع من فكرة الانحراف عن المعياري  كما عن الاسلوبية ، كما لا يمكن اختزالها  بمناهج وصفية لطرق الدلالة اللغوية كما عن علم اللغة  . و بالقدر الذي يجد النقد التعبيري فكرته العامة الانتزاعية واضحة فانه ايضا لا يقصدها  الا في العمل الادبي و من خلاله فقط ، بمعنى ان الوجود النظري لنظرية النقد التعبيري متأخرة عما هو فعلا موجود و متحقق في العمل الادبي من انظمة و عناصر ابداعية  ، لذلك فان النقد التعبيري انساني و واقعي بخلاف الجفاء و التجريد الذي عانت منه مناهج اخرى .

مستويات الظاهرة الأبداعية
لقد بينا في مواضع مختلفة تصورات تفصيلية عن الاطار النظري للنقد التعبيري منها ما في مقدمة النقد التعبيري (الموسوي  2015 ) ، و سنعمد هنا الى تطبيق ادوات النقد التعبيري الاجرائية على النصوص .
 في كل مستوى انساني متعلق بالادب و في كل موضع و نظام  متعلق بتركيبة العمل الابداعي هناك مظاهر ادبية ، وظيفة النقد الادبي البحث عنها و ابرازها و تبيينها ، كخصائص اسلوبية فريدة ، تحاول الاجابة على السؤال المهم  عن سبب تميز العمل الادبي و سرّ تأثيره على المتلقي . في النقد التعبيري  محاولة حقيقية  لتجاوز الاشكالات التي عانت منها المناهج السيميائية و تعاني منها مناهج النقد الاسلوبي كما سيتضح بجلاء . فبينما تكون مادة السيمائيين واسعة تتمثل بالنص و ما ابعد منها ، فان اداتهم ضيقة تتمثل بالدلالة و المداليل المعنوية ، و بينما تكون اداة الاسلوبيين واسعة تتمثل بالاسلوب و التفرد اللامحدود فان مادتهم محدودة تمثلها تركيبة النص و ابعاده الظاهرية . اما النقد التعبيري فانه يشتمل على اداة واسعة و مادة واسعة ، فانه يتسع في مادته سعة التجربة الانسانية مشتملا على النص و المؤلف و القارئ واللغة و ما هو خارج ذلك فكل ذلك ميادين للنقد التعبيري ، و اداته واسعة سعة التفرد و التنوع و الاشتراك و الاجتماع .
ان وظيفة النقد التعبيري رصد العناصر الفنية و الجمالية و الرسالية التي بحثتها في قانون الابداع و ما يتعلق به ( الموسوي 2014) . و سيأتي التطرق الى ما هو متجسد  منها في هذه المجموعة القصصية ،  في كل نظام تركيبي كلامي من المفردة الى الاسناد اللفظي الى الجملة الى الفقرة ثم الى النص كله ، و تلمّس و تتبع تجليات المستويات الانسانية في العمل الابداعي من حيث تجلّي المؤلف و القارئ و نظام اللغة و النص نفسه .
المظاهر الفنية في العمل الأدبي
المظاهر الابداعية التي يبحث عنها النقد التعبيري في العمل الادبي تتمييز بميزتين الاولى الاستقرار و الثانية الحركة اما الاستقرار فمن حيث الانطلاق من المظاهر الابداعية الاكثر رسوخا و استقرارا ، وهي ما يمكن ان نسميها ( المعايير الابداعية )  و تمثل الاصالة ، و اما الحركية فتتمثل بملاحقة و متابعة النص و التفرد الذي خلِق به و ما وجد فيه من مظاهر ابداع وهو ما يمكن ان نسميه ( الاضافات الابداعية ) و تمثل التجديد . و المظاهر الابداعية اما فنية او جمالية ، فيبحث الابداع المعياري و الاضافي في الجهتين  الفنية و الجمالية ،  وهذا ايضا من تفردات النقد التعبيري حيث يميز ما بين الفني و الجمالي .
المطلب الفني هو بحث توفّر الحد الادنى من الشرط للحكم بأدبية العمل و تجنيسه ، و لا يعتقد ان ذلك يعني اشتماله فقط على امور معيارية راسخة ، بل النقد التعبيري ينفتح على كل ما يمكن ان يؤسس لمعايير فنية جديدة وهذه صفة تمنع الجمود و التخلف في النقد التعبيري و تعطيه القدرة ليس فقط على مواكبة تطور الابداع و انما ايضا المساعدة على اكتشافه و بيان ملامحه .
مجموعة ( رواية حمزة الاصفهاني ) مجموعة قصص سريالية ، و القصصية متقومة في السرد الحكائي و ،السريالية متقومة في تجاوز المنطق و الزمن الفقراتي . لذلك عد البعض النص السريالي من السردية التعبيرية التي هي قوام قصيدة النثر ( دانييل ميتشل 2014).
مظاهر السردية واضحة في النصوص بحيث ان جميع النصوص شواهد عليها  ، اذ ان تعدد الشخوص و الاحداث و تعدد الرؤى و نقاط التبئير و الحواريات طاغ في النصوص ،  و في تجل قوي للسردية في قصة (هذيان) :
((كان كعادته عندما يجلس أمام لوحة الحاسوب, يتابع ما أشتهى أن يتابع, في الخلفية التلفزيون, على احدى القنوات الاخبارية , عقله الاول منشغل بالحاسوب, عقله الثاني يتابع التلفاز بشكل مستقل, هو يتابع مقطوعة جاز ل ب.ب. كنج,على اليو تيوب, أخذته إغفاءة , إذا به يحلم مرة اخرى......! شرب كأساً من عصير الليمون ناجى حبيبته ... النص))
تتجلى السريالية في نصوص المجموعة بوضوح كاسرة المنطقية ، و من اقوى تجل لها في قصة ( الأفاعي لا تبتسم ):
((كان الحد الفاصل لنهاية الجدل, هو إصرارها على إستخدام قالب الشمع وتقدمه كحلوى لغريمي, إني أعرف جيداً إنه لا يفرق بين البوظة والشمع, لكن هذا رأيها , إحترمته , لم أطلب منها الرحيل , إلا أنها آثرت أن تقف في بداية الزقاق ,في بيوتنا الشرقية غرفة صغيرة تستخدم لحفظ المؤونة, يوجد بداخلها موقد وأحينا تنور, إتكأت على كيس الفحم بجوار كيس الحطب, مددت رجلي على الارض ,لم أكن أنتعل شيئا , تعباً من حدة النقاش, أسلمت نفسي  إلى نوم عميق كأنه الموت, بين الحلم و اللاحلم ,وجدتها فاغرةً فاها, أفعى كوبرا الملك كما يسموها, تبتسم لي, تمد لسانها المشقوق تلاعبه في الهواء تمسح جبهتي بلعابها الناعم, كنت متعباً جداً من النقاش, أصابع الفحم وشوك سعف الحطب مستمرة في لعبتها الموجعة كانها مسامير حادة ,يحركها سجان إختص بالتعذيب قبل أن يطلق القاضي حكمه بألأعدام ... النص ))
  و في تجل قوي اخر للسريالية في  قصة(( الضفادع تتبختر في الماء ) 
 ((   إفتتح مسؤولٌ رسمي كل الدوائر , وجدها خالية إلا من أشباح, تركض بين ألأزقة, تصطاد ألجرذان , تسير بكل الأتجاهات ,بعضهم يركز فوهة بندقيته على ذيل جرذ, أصابه بدقة متناهية, لكن الجرذ إستمرّ في الركض, يبدو أن ذيله لا يهم , منظمات إنسانية تدخل على الخط ,قالوا لنا إنهم مرسلون من منظمة رعاية الحيوان, الضفادع تتقافز, تمارس حيلتها المعروفة, العيش خارج  وداخل الماء, تصور تدريب الضفادع ,يكفي لك أن تعيش مزدوجاً وتصبح ضفدعاً ممتازاً, تحقق إنتصاراً... النص))
 و هكذا جميع نصوص المجموعة فانها شواهد على السردية و السريالية المتكاملة فتكون المجموعة محققة للشرط الفني للوصف ، اضافة الى تكاملها في الابعاد و الشرط الكتابية الاخرى المقومة للكتابة الفنية عموما .

مظاهر الرسالية في العمل الأدبي
  الرسالية الأدبية اي الهدف و القضية عامل جوهري في أدبية الادب ، و الرسالية قد تكون اجتماعية اخلاقية و قد تكون فنية ادبية .أما الرسالية الفنية فظاهرة في المجموع من حيث التصدي لهذا الشكل الحداثوي و المعقد من الكتابة مما يحقق اضافة في العملية الفنية النوعية . و اما الرسالية الاجتماعية فان نصوص المجموعة مشحونة بالرسائل الاجتماعية و الانسانية و الاخلاقية .  و كما ان هناك الرسالة التصريحية فهناك الرسالة الضمنية الايحائية.و الرسالية هي مظهر من مظهر تجليات المؤلف في النص .
من الرسائل الاجتماعية  التصريحية في المجموعة ما في قصة ( الضفادع تتبختر في الماء الأسن) (هناك مصطلحات شبعنا من أكلها حتى التخمة, لكن الوطن لازال يتلاشى, ) و في  قصة (( المعاريض ))  (لابد من النوم بعد متابعة حلقة ممتعة على تلفزيون الحياة عن الكذب مشرعناً, نحن نعيش الآن في وهم الصدق ) و في قصة (القمر يرتفع عاليا في السماء ))( في ملاحمنا الحالية لا توجد بطولات , أحلامنا لا تتجاوز تحليق حمام, نعرف ألآن ,أن حضارة ألعالم تحلق في الفضاء وبين المجرات ,و الصحراوي لحد هذه ألثانية , غير قادر أن يتسلق شجرةً أو ربوة ) بل ان الرسالية حتى تطغى بتصريحية في العناوين كقصة ( عندما تمطي الاعراب ذيل السلطة ) و قصة ( الافاعي لا تبتسم حين تعض ) .
و اما الرسالية الاجتماعية الايحائية  فنجدها ايضا مبثوثة في النصوص ففي قصة (أشباح ) ((إنها تعوي في جسدي , كأنغام كَيتار حزين يعزف على المنفرد, له إيقاع خاص, يجترّ خاصرتي, أشكو لمن , وحدتي )) ان قاموس الالفاظ ( تعوي ، حزين ، يجتر ، اشكو) كما ان مفاد التعابير و دلالتها يشير الى شكل عميق من الأسى و الغربة و الحزن ، و اعتراض و طلب للتغيير و الخلاص . وفي قصة ( متاهة التماسيح)  بوح على مستوى الفكرة ، و على مستوى السرد ، و على مستوى الصور و الايحاءات .فاما الفكرة فمن الظاهر ان المؤلف قد عبأ نصه بافكار و هواجس و رؤى كثيرة ، نقلها النص بلغة واضحة و صريحة و احيانا ايحائية .فبين التيه العريض و على مستويات مختلفة و التي تذهب فيه الارواح و السنين ، فالحيرة و الوهم و اللامعنى ، و الوحوش البشرية و من يعتاش على دماء الناس و حياتهم ، كلها نجدها حاضرة في مراجعة و طلب مراجعة للفكرة و الفكر . و اما البوح على مستوى السرد فمن الواضح ان سريالية النص تمثل طبقة للبوح و شكلا تعبيريا اخر عن التيه و الضباب  و الوهم و حياة كالحلم في عدم منطقيتها و التباس امورها ، فينتقل السرد بشكل عشوائي لا منطقي بين المقاطع و الاحداث بشبكة ترابطات بعيدة تحقق سريالية واضحة في النص .و اما على مستوى الصور ففي النص مقاطع و عبارات اعتراضية و جزئية تتسم بايحائية و توظيفات بوحية عالية كما في قوله :(وأراد مينوس أن يجعل منها سجنًا للوحش الذي يسمى الميناتور, إذ كان يضحَّى بسبعة من شباب أثينا، وسبع عذارى لهذا الوحش كل سنة(ملاحظة نحن نضحي أكثر). فبعد مقدمة تعريف المتاهة بين سبب وجودها الاسطوري ، و يبين انها لاجل الحماية من الوحش و باسلوب ارتدادي ينقدح استفهام مبطن بانه ما السبب الحالي لهذه المتاهة ؟ و تغير عنوانها و معناها فصارت و سيلة الوحش البشري  لصيد الضعفاء في عالم الغاب الجديد . و يقول : (لكنه لم يعرف أن التماسيح تبني تحت الماء متاهة, تصور أنها تبنيها لأجل أن تسحب فريستها وتأكلها بهدوء, دون تطفل الأخرين وخصوصاً الحيوانات ألقمامة, إلا أن الباحثين أثبتوا أنها لاتستعملها لهذا الغرض(التماسيح لاترى في الظلمة وهي تحت الماء), هنا شعور و اشعار بامور خفية و ان الامور في عالم المتاهات ليست كما تبدو ، و ان الظاهر ليس كل شيء ، كما ان هنا يظهر سلطة العلم في عصر العولمة و عدم كفاية الافكار الموروثة و الاسطورية . كما فصلناه في مستويات البوح في القصة السريالية (الموسوي 2015 ) 

المظاهر الجمالية في العمل الابداعي
  الجمالية هي المكان الرحب الواسع للنقد التعبيري و الذي يكشف فيه و بحيوية فذة عن مواطن الابداع و الجمال في النص مستعينا بالواقعية و الوجدانية من دون ادعاء او تزييف ، انه رصد لمظاهر الجمال و التي تسبب الاثارة الجمالية و تحدث الاستجابة الجمالية لدى المتلقي ، و بهذا يظهر البحث الجمالي التعبيري اكثر واقعية و موضوعية و علمية من كثير من الاطروحات التي تدّعي الكشف عن الجمال ، و لقد اثبتت المقالات و القراءات المتعددة التي قدمناها بنقد تعبيري لأعمال ابداعية ( الموسوي 2015) صدق و واقعية و حرفية و جوهرية العناصر الجمالية التي يتلمّسها النقد التعبيري .
ان أهم ما يشير اليه النقد التعبيري في البحث الجمالي هو ( المعادل الجمالي ) حيث ان الاستجابة الجمالية تحدث بسبب ( عامل جمالي ) عميق . من وظيفة النقد بيان ذلك العامل ، وهذا العامل هو سرّ ابداع و اكتشاف المبدع ، الا ان ذلك العامل الجمالي يحتاج الى شكل و صورة لكي يظهر بها الى الخارجي ، المبدع يعمل على ايجاد ذلك الشكل  بمظهر ادبي نصي وهو ( المعادل الجمالي ) .و هذا ايضا من تفردات النقد التعبيري فان المبدع ليس فقط مبدعا في ايجاد المعادل الجمالي وهو المظهر و العنصر الادبي النصي الذي يعرفه و يدركه المتلقي و الذي يشير اليه النقد التقليدي ، و انما و قبل ذلك فان المبدع يكتشف العامل الجمالي ،و الذي يحكيه و يصوغ الدال عليه بشكل مظهر خارجي نصي هو المعادل الجمالي في نظام الدلالة الجمالية .

المعادلات و العوامل الجمالية

 لأجل تصور متقدم و مضيف للفكر الجمالي الادبي لا بد من بيان المعادلات الجمالية المتحققة في النصوص سواء كانت معهودة او غير معهودة ، و بيان العوامل الجمالية التي تقابلها ولو اجمالا   . واهم المعادلات الجمالية هي التوظيفات و اللاألفة او الانحراف  و التناغم ، و قد بينا سابقا بعض النماذج و سنبين فيما يأتي صور أخر لذلك ، يقابلها عوامل جمالية مهمة عامة مثل الأنس و الاكتشاف و الصدمة و العجز و الابتكار .
البحث الذي يمكن ان يستوفي وجودات المعادلات الجمالية و تجليات العوامل الجمالية هو البحث التدريجي و نقصد به الابتداء من المفرد ثم الاسناد اللفظي ثم الجملة ثم الفقرة ثم النص ، و مع ان هذا البحث في حقيقته استقرائي  مطول حتى في النص الواحد الا انه يمكن بعملية انتخاب النماذج التمثيلية معالجة ذلك ، كما انه بنفس الطريقة يمكن بحث نصوص متعددة في مقام واحد . و مع ان عوامل جمالية مهمة هي الغالبة كمؤثر في الاستجابة الجمالية مثال الأنس و الاكتشاف كمقابل للتناغم و الصدمة العجز و الأبتكار كمقابل للاألفة ، الا انها تكون اكثر وظيفية في بعض الوحدات و الانظمة الكلامية من غيرها كما سنبين . كما انه في كل موضع  و وحدة كلامية يمكن تلمس تجليات المؤلف و القارئ و اللغة و النص . من هنا سيكون البحث التعبيري مقسّم على الانظمة الخمسة المتقدمة .
1-   نظام المفردة
أهم الابحاث التعبيرية على مستوى نظام المفردة هو القاموس المفرداتي و قدرته في خلق مزاج النص و الذي من وسطه تحصل التوظيفات الابداعية الاخرى ، اذ انه لا بد من خلق مزاج للنص عام يكون كالسماء للنص ،  لاجل ان تبرز و تظهر التكتلات الداخلية كنجوم و كوكب فيه . العامل الجمالي المقابل لهذا المعادل يكون بشكلين الاول عاطفي انفعالي اتجاه القاموس ، فالحقل المعنوي الذي يحقق القاموس و المزاج العام  له مقابل عاطفي ،  فقاموس و مزاج الحزن له مقابل يختلف عن قاموس و مزاج الفرح ،وهكذا . الشكل الثاني انه بتحقق المزاج و القاموس و المقابل العميق ، فان الكتل و التعابير المنبثقة في النص تحقق تجاورية تحليلية تشبه في تأثيرها التجاورية الشكلية  التي سياتي الحديث عنها و لها نفس مقابلاتها العميقة  .
وقد تقدم بيان كيف ان القاموس المفرداتي خلق تعبيرا وبوحا بالاسى و الحزن في مقطع من قصة ( أشباح ) و في قصة  ( سفر ) نجد قاموسا مفرداتيا في مقطع منها ينقل القارئ الى الحقول المعنوية في السفر و يخلق مزاجا عاما بالاكتشاف  (أتذكر غاندي ومسيرة الملح ,المقاومة بلا عنف, أرى شوارع مدينتي, فيها الناس يقتلون أنفسهم ويقتلوننا, حتى أصبحنا نعيش في مدن الأشباح,  إنه نموذج لخداع البصر والبصيرة ,تمتعت بإجازة من عملي, قال البعض زارَ جزيرة  كيش , البعض الآخر قال زارَ مدينة الالعاب في أعلى ناطحة سحاب  في العالم, والذين يتمنون لي الهداية, يقولون ذهب للعمرة ,لكني في الحقيقة لم أنقل جسدي من مشغلي, لدي مفهوم فيه بعض الشذوذ, أفلسفه  كما يلي.....!, أحيانا اللذة ألروحية و الجسدية لا يستوعبها المكان, إن كنت تريد أن تسافر, سافر إلى روحك, دغدغ ضفائرها ستجيبك ) فألفاظ ( مسيرة ، شوارع ،مدينتي ، اجازة ،زار ، جزيرة ، العمرة ، سافر ) هذا القاموس ينقل القارئ الى حقول المعنى الخاصة بالسفر و الانتقال ، و هناك الفاظ تخلق جو العلو و مزاج التعالي و الاشراق ( غاندي ،مقاومة ،جزيرة كيش ،اعلى ،  ناطحة سحاب   ،اللذة ،  الروحية ، روحك ) . قاموس المفردات و ما يخلق من مزاج وجو للنص هو نموذج للتناغم الفني  وهذه المعادلات الجمالية يقابلها عوامل جمالية اهمها الانس و الاكتشاف كما انه يمثل تجليا للغة و انثيالاتها .

2-    نظام الاسناد
اهم الابحاث التعبيرية في نظام الاسناد هو التوجيه المعنوي ، بان يضيف المؤلف صفة او نعت او اسناد معين يخصص اتجاه المفردة المعنوي  و الالفة و اللاألفة الاسنادية  اي المنطقية الكلامية حيث ان لكل مفردة مجال توقع تجاوري ، باللاألفة يحصل كسر له . و بألفة التجاور او لاألفته  تتحدد سرع الكلمات ، اذ كلما زادت الالفة بين الكلمات المسندة قلت سرعة المفردات و كلما قلت زادت سرعتها ، و ادراك هذه العلاقة او النظام التجاوري هو جزء من نظام التجاورية الشكلية الذي يشمل ايضا الجمل المتجاورة و الفقرات المتجاورة . اللاألفة و الانحراف و السرع الكلامية معادلات جمالية توظيفية ، يقابلها عوامل جمالية ابهارية اهمها الصدمة و الابتكار و العجز العملي بان يحصل لدى المتلقي شعور بالعجز تجاه المنجز .
في المقطع المتقدم من قصة ( سفر )  نجد توجيها معنويا اسناديا ظاهرا في اسنادات مثل ( مسيرة الملح , المقاومة بلا عنف, شوارع مدينتي,  الناس يقتلون أنفسهم  ، مدن الأشباح ، خداع البصر والبصيرة , مدينة الالعاب في أعلى ناطحة سحاب  في العالم,  مفهوم فيه بعض الشذوذ ) من الواضح ان المفردات المركزية في تلك التعابير قد اقتص المؤلف منها حصص خاصة فالمسيرة هي مسيرة الملح و المقاومة هي مقاومة بلاعنف و مدينة الالعاب في اعلى ناطحة سحاب في العالم و هكذا ) .
اما اللاألفة الاسنادية فهو الانحراف و الانزياح و المجاز و الشعرية وهي طاغية في المجموعة  حتى انها تصل الى العناوين مثل  ( الضفادع تتبختر في الماء الآسن ) و ( زمان الصفر ) ( عندما تصحو التنانين ) ( حلم سريالي ) ( عندما يمتطي الاعراب ذيل السلطة )  . و انظمة التجاور و الاسناد تتأثر كثير بغايات النص و تجلياته كما لا يخفى .

3-   نظام الجملة
اهم الابحاث التعبيرية في نظام الجملة هي الافادة ،و التوظيف  فالافادة قد تكون قريبة او بعيدة مباشرة او غير مباشرة ، توصيلية او ايحائية ، وهذا انعكاس التوظيف فيها ، و من المعلوم ان الجملة تحتل مكانة مهمة في القراءة الادبية اذ انها في الشعر الصوري  تحقق الصورة الشعرية و في السرد القصصي تحقق الحكاية ، و اما في السرد التعبيري المقوم لشعر النثر و قصيدة النثر فانها تحقق التعبير .
و نصوص المجموعة كلها شاهدة على حكائية الجمل بسردية حكائية ، كما ان السردية الحكائية بوصفيتها و تشخيصيتها مهمة هنا لاجل خلق العمل السريالي ، لانه يعتمد على التجاور اللامنطقي بين المنطقيات . و لذلك يكون من المستبعد امكانية النص السريالي في الشعر الصوري المعتمد على الصورة الشعرية نعم الرسالية ممكنة في السردية التعبيرية لقصيدة النثر .

4-   نظام الفقرة
ربما يغفل احيانا عن اهمية نظام الفقرة في النص ، الا انه في الواقع هو من اهم ما يحدد الطبيعة التجنيسية للنص ، اذ ان المنطقية المطلوبة بين الجمل ايضا تؤثر بل هي اساسية في مظهر النص ، و كما ان التجاور الفقراتي يميز بين السرد و التصوير ، فانه ايضا يميز بين السرد المنطقي و السرد اللامنطقي المتمثل بالسرد السريالي ، و السرد التعبيري  ، و من هذه الجهة اي اشتراك السرد السريالي مع السرد التعبيري في كسر المنطقية الفقراتية وان كانت هي أشد و اعنف في السريالية ، فانه يعد احيانا من قصيدة النثر كما اشرنا .
من الواضح ان العلاقات الفقراتية بين الجمل مهمة في قصص مجموعة ( رواية حمزة الاصفهاني ) ، اذ باللامنطقية التجاورية بين الجمل تتحقق السريالية ، و من الواضح ان جميع فقرات قصص المجموعة شواهد على ذلك .
5-   نظام النص
اضافة الي البحث الفني في رسالية النص الجمالية و الاجتماعية فان البحث التعبيري الجمالي في النص يبحث في تكامله الجمالي ،اي في قيمته و ثراءه و هو مجموع ما فيه من تنوعات ابداعية ، و لا يعتقد ان ذلك يتناسب مع طول النص ، لان القيمة الجمالية للنص ليس مجموعية و انما نسبية اي بمعنى انها تساوي مقدار ما يحققه النص على مستوى الوحدة الكلامية ، و من المعلوم ان هذا الفهم اصافة الى  انه يفسر التقليل الجمالي من الزيادات الضارة في النص فانه من تفردات النقد التعبيري .
ان عملية تتبع قيمة النص و ثراءه هي عملية احصائية ، احصاء فني و جمالي ، كما ان النسبية و توزيع الوحدات الابداعية على الوحدات الكتابية ايضا من وظيفة البحث في قيمة النص ، و من نتائج البحث النصي هي الاضافة التي يحققها العمل .
في القصة السريالية و بما تشتمل عليه من مستويات تعبيرية و عناصر ادهاش و ابهار و تكثيف و لاألفة و لا منطقية كلامية فانها تحقق مقادير عالية من الثراء النصي و البوحي و الاضافة الفنية .

ما وراء الظاهرة الجمالية
ان الظاهرة الجمالية بمعادلاتها وعواملها هي عناصر فاعلة و خالقة للتأثير في نفس المتلقي ما يحصل لدى المتلقي الاستجابة الجمالية اضافة الى امور اخرى خارج ألتناول النقدي الادبي كالاضافات المعرفية لغوية و فكرية . و العالم الذي يحصل فيه التأثر ممكن ان نسميه بنظام الاستجابة الجمالية ، و الذي يمكن النظر اليه من جهة النظرية و التطبيق ، تشتمل الجهة الاولى على بحث حقيقة الاستجابة الجمالية و الابعاد الجمالية و الجهة الثانية القراءة الابداعية و التي هي مظهر من مظاهر تجلي القارئ في النص ، هذا الفهم لظاهرة التعبير الأدبي هو من تفردات النقد التعبيري وغناه .
1-     الاستجابة الظاهرية و العميقة   
في الطرف الآخر من عملية التمتع بالقراءة نظام الاستجابة الجمالية ، و بالقدر الذي تكون كثير من مظاهر الاستجابة الظاهرية معقدة ، فانه ايضا هناك وضوح في مديات و اشكال الاستجابة الجمالية . ان تأثير العمل الابداعي على المتلقي اما ان يكون بحركة شعورية ظاهرية وهذا هو الابهار الظاهري و الذي يتصل كثيرا بالتناغم الحسي المادي للعمل سواء على مستوى الشكل ام المضمون ، اذ كما ان للشكل تناغما فان للفكر و تعامله مع المضمون متطلبات تناغم ، و يمكن ان نسمي هذا الشكل من الاثارة بالاثارة التناغمية . و هناك استجابة و اثارة عميقة تتجاوز التناغم الشكلي و المضموني تكون اساسا في الصدمة و المفارقة و كسر التوقع ، وهذه الاثارة الشعورية تكون عميقة ، و لها ايضا عناصر شكلية و مضمونية ،و يمكن ان نسميها الاثارة الصادمة . ان هذا الفهم يتجاوز و بلا ريب اشكاليات الفهم السيمائية للاثارة المرتكز كثيرا على  التوافق و الاشتراك و  الابهار التناغمي ، و يتجاوز ايضا اشكاليات الفهم الاسلوبي للاثارة القائم بشكل شبه كامل على الانحراف و التفرد و الابهار الصادم ، كما انه يعطي تصورا متقدما عن المادة المثيرة و انها ليست امرا مستقرا في العمل بل انها مترامية الاطراف و تدخل القراءة كعامل جوهري فيها .
لكل من الاستجابة الظاهرية و العميقة محدثات و منتجات خاصة  ملحوظة من المعادلات الجمالية و المظاهر و العناصر النصية ، او بمعنى ادق ان لكل عنصر نصي جمالي تأثير متميز خاص في جهة معينة منهما ، فعناصر التناغم  كالموسيقى الشكلية مثلا تحقق الاستجابة و الاثارة الظاهرية ، بينما الانحراف و اللاألفة و الصدمة تحقق الاستجابة و الاثارة العميقة .
في قصة ( حلم سريالي) عناصر تناغمية و لاتناغمية .
(( اليوم أنهيت كتابة الرواية, لي بعض الملاحظات التعبيرية, كونها لاتمثل كل ما في وجداني, لكني بكيت, عندما إنتهيت من تنضيد الأوراق  كانت دموعي غزيرة , تناولت قطعة من الورق الصحي , مسحت عيني , كان الورق نظيفاً, تمنيت لو أن الكل تمسح دموعها به حتى لو كانت دموع تماسيح, حزنت على مصير  جورية , خلقتها في خيالي ,لكن الكثير يعتقدون إن كل ما أكتبه هو من وحي الواقع, أعترف إن كلّ ما أكتبه هو من وحي أحلامي , عندما أنظر الى الجدار أحلم, عندما أنظر الى البحر أحلم, ما المشكلة إنني أحلم دائما, الحلم مملكتي الخاصة, يوما ما حلمت بإلآهة سومرية, أسميتها رغم أنها لا تحمل المستمسكات الأربع, النص ))
عناصر التناغم تتجلى في النص في مراعاة التداولية و الموسيقى الشكلية وفي القصص يكون الاول غالبا ، فمن صور التناغم الاسلوب السردي اذ انه تداولي و قريب للنفس من التصوير الشعري فيحثث الالفة ، و الصورة الاخرى الالفاظ الاليفة ( اليوم ، وجداني ، بكيت ، دموع ، ورق صحي  وغيرها ) ، و ايضا الوصفية و الحكائية الواضحة ،  كما ان الخطابية في (الكثير يعتقدون إن كل ما أكتبه هو من وحي الواقع, أعترف إن كلّ ما أكتبه هو من وحي أحلامي , عندما أنظر الى الجدار أحلم, عندما أنظر الى البحر أحلم, ما المشكلة إنني أحلم دائما )  هذه كلها من حيث الالفة و القرب التي تحقق انظمة تناغم فكرية و أنس و تلذذ ظاهري . اما انظمة اللاتناغم فالسريالية و القفز اللامنطقي ، و التراكيب الانزيحاية ، و كذلك الرسالة الصادمة كما في (تمنيت لو أن الكل تمسح دموعها به حتى لو كانت دموع تماسيح ) اضافة الى الخيالية التصويرية الصادمة وهي شيء اخر غير الرسالية مثل (لكني بكيت, عندما إنتهيت من تنضيد الأوراق  )   و كذلك عبارة ( كانت دموعي غزيرة , تناولت قطعة من الورق الصحي , مسحت عيني ) .اذ ان السريالية تتجلى في العلاقة التجاورية بين الجمل ، اما داخل الجمل فالانزياح الخيالي التصويري وكلها تحقق الاثارة العميقة .

2-   البعد الجمالي
نظام الاستجابة الجمالي و الاثارة دوما مركب من الشكلين الظاهري و العميق وان كانت الغالبية لأحدهما لانهما شبه ضدين ، بمعنى آخر ان التركيبية في الاستجابة و الابهار الجمالي لازم ، بحيث ان هناك دوما مقدار من الابهارالتناغمي الظاهري و مقدار من الابهار اللاتناغمي العميق . و نظام المتعة و الاثارة و الانبهار يتحدد كمحصلة نهائية لمجموع مقداري هذين الشكلين .
ان مقدار الانبهار مع حقيقته الكمية فانه ايضا كيفي ، يعتمد في كمه و كيفه على النقاط الشعورية التي يحفزها ، فلدينا كم من مناطق الشعور المحفزة و كيف و نوعية منها ، مساحة المناطق المحفزة يحقق البعد الكمي ، و توزع و تنوع المناطق يحقق البعد الكيفي ، و كما ان المقدار الكمي يتجسد بكتلة المنطقة و المساحة فان البعد الكيفي يتجسد بشكل اشكال من مستقيم و مستوي و مجسم . وكما ان هناك فرقا في المقادير الكمية فان هناك فرقا في التجسيدات الشكلية من حيث كون الاستجابة مستقيمة ام مستوية ام مجسمة . وكما ان لكل من شكلي الاستجابة الظاهري و العميق عناصر نصية غالبة فان في اشكال الابعاد الجمالية ايضا عناصر مناسبة تحدثها .

القراءة الابداعية وحركة النص .
ان للنص الادبي بابعاده المتقدمة - اضافة الى بعده  النصي البنائي كنص بمفردات و جمل و فقرات متجاورة   -  بعدا  ابداعيا اسلوبيا  يتمثل بالفنية و الجمالية   و له ايضا بعد  دلالي تجلياتي يتمثل بتجلّي اللغة و النص و المؤلف .    بينما يكون قاصرا تتبع عناصر البعد الابداعي الاسلوبي فقط او  تتبع عناصر البعد الكتابي الدلالي فقط  ، فان تتبع نقاط تلاقيهما التعبيرية الجمالية يكون بالقراءة التعبيرية الابداعية ، و التي تتجاوز جميع اشكاليات الشكلين المتقدمين من قراءة النص  . هذه القراءة بهذه الابعاد هي ما يحصل لكل قارئ و نتاجها وان كان اجماليا و عميقا و ضبابيا الا انه يحدث دوما وحسب استعداد القارئ ، وما القراءة الاحترافية الا جلاء و بيان لتلك الحالة الموجودة ، فالنقد ليس خلقا للقراءة و انما كشفا عنها .  
ما يحدث في عملية القراءة انها تتطور من مستوى المفردة الى مستوى الاسناد او التجاور المفرداتي الى مستوى الجملة الى مستوى الفقرة ثم الى مستوى النص بكله ، و اثناء كل مستوى يحضر البعد اللغوي الدلالي  و البعد الابداعي الاسلوبي ، و بمجموع ما يتم من انظمة احتكاك و تقابل و التقاء و تقاطع ، يحقق العمل الابداع في ذلك الموضع او النظام النصي المعين  نقطة تعبيرية جمالية تحصل في الفكر و النفس ، يمكن ان تفهم كمقابل كم للعملية الابداعية ، و من هنا و بالنقطة التعبيرية يقدم النقد التعبيري فهما كميا للجمال وهو من تفرداته في هذا الشأن . يقابل تلك النقطة  في كل وحدة كتابية بعد خاص بالقراءة هو البعد الشعوري و الاستجابة الجمالية  وهي خلق خاص بالقارئ للنص يختلف فيه عن غيره   .  بعبارة اخرى بينما يكون النص ككيان مكتوب شكلا ساكنا لا حراك فيه ، فانه ككيان مقروء يكون كيانا متحركا له بعده الحركي هو البعد القراءاتي الشعوري ويمثل بعد الحركة الذي يخرج النص من السكون ، كما ان لاستعداد القارئ و تصوراته تأثيرا على سرعة تلك الحركة ، وكلما كان النص ذا حركة سريعة بثراءه و ثراء القارئ كان أكثر ابهارا .  
القراءة ما هي الا عملية مشاهدة و تلقي تبحر فيها النفس في 1- عوالم النص و الكتابة ، و 2- عوالم الفكر و اللغة ، و 3- عوالم الخيال و الابداع ، و 4- عوالم  الشعور و المتعة . بينما العوالم الثلاثة تخلق الشكل المجسم للنص ، فان العالم الرابع اي القراءة  هو البعد الحركي الذي يكتسبه النص روحا و حركة تخرجه عن السكون  . هذه العوالم الاربعة الحاضرة دوما في الكتابة الابداعية هي التي تضرب في عمق النفس و تجعل الكتابة الادبية مميزة ،  و بمقدار تجلي عناصر و اشياء تلك العوالم و تلك الابعاد يتحدد وقع القراءة و مقدارها التعبيري .  وان القصص السريالية في مجموعة ( رواية حمزة الاصفهاني )  كانت موطنا لتجليات فذة و عالية للمؤلف و القارئ و اللغة و النص ، انها نصوص تبلغ اهدافها و تحقق الاضافة الادبية و الرسالة المرجوة . و النقد التعبيري هو الاداة الصادقة و المجال الفسيح الذي يدرك و يرى تلك الانظمة و تلك الابعاد بواقعية و صدق و وضوح .



التناسب والمقياس- د.إحسان فتحي





التناسب والمقياس


   د.إحسان فتحي

    تشكل قضية التناسب بين العناصر المعمارية ومقياسها أهمية أساسية لا مفر منها لأي مصمم سواء كان طالبا أو أستاذا أو ممارسا في المهنة. لا مفر من فهم النسب الجمالية المألوفة لان "منظومة القيم الجمالية" عند جميع الحضارات كانت ولا تزال تعتمد عليها.  طبعا هناك من يرفض وجود أي قواعد أو أسس أو حتى قيم كما نراه حاصلا الآن عند عدد معين من كبار المعماريين، ولكن التفحص الدقيق لأعمالهم يكشف تبنيهم لنسب معينة و مقاييس معينة أيضا.  وبرأي إن احد أهم أسباب الخلل الواضح في فهم أهمية التناسب والمقياس هو الجهل في الثقافة المعمارية التاريخية والتنظيرية أولا، ثم الاعتماد الكلي على البرمجيات الحاسوبية في التصميم المعماري كما هو واضح جدا في أعمال طلبتنا وحتى الكثير من معمارينا الممارسين في سوق العمل.   إن هذه البرمجيات تسبب فصلا كاملا بين عناصر التصميم والفراغات المختلفة، وتفقد النظرة الشمولية للتصميم ككل، كما هي غير معنية بالمقياس أبدا. 
 الطالب الآن يرتب الفعاليات والوظائف لأي تصميم دونما أي اعتبار   للمقياس إطلاقا ولا للعلاقات البينية بين الفضاءات المختلفة.  الدليل على ذلك هو طبع المخططات بمقاييس غريبة جدا لكي تلاؤم مساحة الورق ليس إلا! فعندما أسأل الطالب ما هو مقياس هذا المخطط يقول انه تقريبا 1:240 مثلا!  أما المقياس فذهب هو الآخر ضحية لهذا "التطور" التقني! فكثيرا ما اكتشف بان الطالب لا يدرك أهمية الأبعاد واختلافها والفرق بين باب المدخل الرئيسي والأبواب الأخرى، أو الطابق الأرضي والطوابق الأخرى. كما إن اغلب الوقت التصميمي يخصص على المخططات الأفقية وقليلا على المقاطع التي قد تكون هي الحاسمة في الكثير من الحالات.
ولكي اقرب الصورة لكم أكثر، فالعديد من الطلبة يطلبون مني أن اخبرهم بأفضل نسبة بين القبة والمأذنة في تصميم المساجد، ذلك لان هذه "القضية" ليست محسومة ولا يوجد من أفتى بها حتى الآن.  وكما هو معروف للجميع بان النسبة المفضلة في العمارة الإسلامية هي الجذر التربيعي للعدد 2 وهي اقل بقليل من النسبة الذهبية الشائعة في الغرب. لكنني بعد دراسة العديد من الأمثلة التاريخية والمعاصرة وجدت بان أفضل نسبة بين ارتفاع القبة والمأذنة هي بين (1 إلى 1.5) و(1 إلى 2.5). وبمعنى آخر، فان هذه النسبة بالذات لا تلتزم بنسبة 1.414 بل تتجاوزها أحيانا لتصل إلى ضعفها!  ووجدت بان هذه النسبة في احد أجمل الجوامع الإسلامية، وهو جامع ومدرسة السلطان حسن في القاهرة، تبلغ الضعف فقط، وهي نفس النسبة التي اعتمدها سنان في جامع السليمانية المذهل. 
وفي الكثير من الجوامع المعاصرة نرى اختلالا واضحا ومزعجا في هذه النسب حيث وصل ارتفاع المأذنة إلى 6 أضعاف ارتفاع القبة في احد جوامع عمان كما هو واضح في الصورة المرفقة!  ويبدو إن مسألة التناسب لا تعطى الأهمية الكافية في التعليم المعماري، بل تهمل تماما أحيانا وهو مؤشر خطير يدل على الضياع أو التخبط في احد أهم أركان التصميم المعماري.





قصة قصيرة كآبة بيضاء-إلى عدنان المبارك

قصة قصيرة

كآبة بيضاء

[من دون مجازفة  يكون الأيمان أمرا مستحيلا.]
سورين كييركيغور

إلى عدنان المبارك

عادل كامل
    لم يكن نبأ رحيل صديقه قد احدث صدمة بوصفه غير قابل للتصديق، أو لأنه كان لا يريد أن يصدقه، فكر مع نفسه، بشرود، أو لأن رحيله خسارة طالما قال إنها كانت تماثل  استبعاد الأمل بالعثور على عقار لمرض لا يمكن الشفاء منه، أو لأن رحيله يوازي استحالة تسكين تلك الآلام العصية،  بل لأن علاقته بصديقه كانت بمثابة عبور بالمحنة إلى أقصاها. فكر بذهن تائهة، انه لم يفقد شريكا ً لا يمكن تعويضه، في حياة بدت تبرهن إنها كانت عصية على الفهم، وربما خالية من المعنى، عقيمة، وغير قابلة للتسوية، بل لأنه أحس بصعوبة إغراء نفسه بالعثور على معادل لا يجعل حياته تبدو مثل ورقة شجرة تتدلى بانتظار مصيرها...، فالقضية لا علاقة لها بالخسارة، أو بالخيبة، لأنها، منذ غادر القفص، والحديقة، قبل عقود، وجد اختياراته تدحض أي أمل بالعثور على حلول مناسبة، تعيد السكينة التي وجدها قد غادرته، فقد تذكر آخر لقاء له قبل أن يطلق جناحيه للريح، إن صديقه أكد له انه سيحمل معه رائحة العش، والأشجار، والأهل، والتراب...، حتى لو صار نائيا ً وفي أقاصي الأرض، فالحكاية غير قابلة للشرح، ليس لأنها غير قابلة للتفتيت، بل لأنها تتكّون عبر اندثارها، وزوالها أيضا ً، وقد تأكد له أن رسائلهما، عبر الأثير، والباثات المختلفة، داخل الزمن وخارجه، كانت معادلا ً يصعب تفنيده، أو تعويضه بأي بديل مماثل، آخر.  صحيح لم تعد ثمة ـ وفق الوقائع ـ صداقات، ولا ما يماثلها، شبيهة بزمنها، ولكن كل منهما كان يدرك أن هناك لغزا ً يصعب الاستغناء عنه: لغز مودة يصعب وضع شواخص لها، أو تركها تعمل من غير بصيرة تذهب ابعد ملغزاتها.
    وود لو ابتعد عن بيته الخشبي، تحت أغصان الأشجار، داخل القفص الحديدي الكبير، والقيام بجولة له ليس للتحقق من النبأ، أو نفيه، وليس للتخفيف من الصدمة، أو استبدالها أو التحايل عليها، بل للانشغال بجعل رؤيته اقل عتمة، والحفاظ على مرونة ما تساعده بفهم ما كان عليه أن يقوم به..، لكن قواه لم تساعده على تنفيذ رغبته، رغم ضآلتها، فترك نظره يذهب إلى أقصاه.
   اقتربت منه نملة وسألته:
ـ أيها الصقر...، أراك شارد الذهن...
    لم يجد لديه ما يبوح به، فالأمر لا يعنيها، ولا يعني أحدا ً آخر سواه. ولكنه وجد أن الكلمات تختلط داخل حنجرته، وتتداخل أصواتها بمعانيها، لتعلن له انه قد يفقد قدرته على التنفس، والتفكير، وربما الحركة أيضا ً، وإلا لماذا عاملها بلا مبالاة، وقد تدخلت من اجله، وليس من اجل نفسها، فلوي عنقه، وحدق في عينيها الواسعتين:

ـ لا يمكن الاعتذار لك، سيدتي، فالكلمات ليست سوى بقع معتمة وأنا لا أكاد أرى شيئا ً..
مضيفا ً:
ـ من شدة التوهج!
هزت رأسها:
ـ قلنا هذا منذ زمن بعيد...!
      منذ زمن بعيد...، كأنه اكتشف امرأ ً غدا نسيا ً منسيا، وليس له وجود، انبثق من غير قصد، مثل مصادفة كان عليها أن تحدث، لوجود ما لا يحصى من المصادفات، بقانونها، أو من غير هذا القانون، فقد تذكر ما كان يردده صديقه، بان ما لا يمكن إغفاله، ولا يمكن محوه، لا يكمن في تدوينه، وصياغته كمواعظ، وإرشادات، وأوامر، بل الذي يمد المحو بما يجعل ديناميته غير قابلة للدحض. قال له إن الألفية الثالثة، يفترض إنها لم تعد أسيرة نشأتها، ومقيدة بقيود ماضيها السحيق، عند سواحل العفن، في المستنقعات، ولكنه سمع أصداء صوت صديقه يتخلل ممرات الهواء، والضوء، تتموج، وتتابع، مكملة بعضها البعض الآخر، بسلاسة، بان ما يخسره الكائن، وما سيخسره ـ من الفيروس إلى أرقى الثعالب والدلافين والطيور ـ هو جزء من ترتيب يذهب ابعد من حصره بحقبة أو سِفر أو كتاب، فقال يخاطب صديقه، قبل الإفاقة من الشرود:
ـ فهناك ـ إذا ً ـ ما قبل الزمن....، وما بعده!
رفعت النملة صوتها:
ـ ها أنت تحجب عن نفسك ما تود إعلانه...، ولا تبوح إلا بالفائض من اجل ...
ـ آسف...، الآن بدأت أدرك إنني ابحث عن عقار...، علاج ما ... لشرودي.
  فضحكت:
ـ  لن تجد ضالتك، فمرضك سابق في وجوده وجودك أيها الصقر...، وهذا لا يتقاطع مع القول باستحداث المرض...، فالفاعل السابق على فعله يؤكد انه في فعله الفاعل وليس الفعل! وهذا يعني إن ما حصلت عليه من دواء ليس له علاقة بمرضك، لا من بعيد ولا من قريب! فالنتائج قد لا ترجع إلى مسبباتها، بل قد تكون خالصة، تماما كوجودك من غير أسباب بعد أن أصبحت تامة، ولا حاجة لها إلى البراهين، والأدلة!
     شرد ذهنه، أكثر فأكثر، مما اضطره لاستنشاق الهواء، فشم رائحة جذور رطبة ميزها عن رائحة التراب، ورائحة الرماد، والغبار.
   ولا يعرف لماذا تذكر جده الذي ولد في البرية، بعد أن حصل على الإقامة، في القفص ذاته الذي لم تجر عليه تحسينات تذكر، انه قبل أن يصاب بالعمى التام، إن ما يؤيد صواب استبدال العداوة بالتعايش المرح، المشترك، بين الفصائل، والأنواع، يدحض مفهوم ديمومة النكبات، والعيش فوق بركان،  وقال انه لو لم يحصل على يقين يؤيد صواب رؤيته بتالف الحياة ما بين أشرس المخلوقات مع ارقها، واخسها مع أكثرها نبلا ً، وأمكرها مع تلك التي ولدت كي تحافظ على نوعها من اجل المودة والحد من الاقتتال إلا لأسباب قاهرة. فتذكر صديقه يعيد عليه سرد حكاية أقدم مصالحة جرت في تاريخ الحديقة، قبل أن تسّور وتقام لها حيطان وجدران عالية محمية بالأسلاك والحرس والكاميرات، من خطر الضواري غير القابلة للتنازل عن شراستها، وشعورها بالمجد، والعظمة، إنها لم تحصل إلا بوجود من سبر أغوار القدر، ومخفياته الدفينة، والعمل وفق مبدأ: عش لغيرك كأن الآخر لا يعيش إلا من أجلك! ولكنه قال إن الحشرات والديدان والقوارض وكل دابة تدّب لم تخلق إلا بخليط من العناصر ذاتها التي فقدت توازنها، بعد أن تحولت العداوات إلى عرف، ومسلمات أسبابها كامنة فيها، وراحت تعمل عمل النار؛ لا تترك إلا رمادا ً يشترك بتجديد الدورة، فلا احد استطاع محو جاره القريب، ولا احد استطاع اجتثاث جاره البعيد، وإيذاءه دون أن يدفع الثمن...
     ودار بخلده: لهذا ـ قلت لي ـ فكر بصوت مسموع: تبحث عن درب، ـ  مثل سفينة تتعرض للأعاصير، إن لم يعمل الجميع على سلامتها، ـ إن لم نعمل معا ً على سلامته، فالعثرات لن تدع أحدا ً يتقدم خطوة إلا صوب المجهول.
    فسألته النملة:
ـ وماذا قلت له...؟
ـ بعد أن حلق عاليا ً حتى كاد يتوارى في .....، الأفق، قلت لنفسي: خلف من احلق، ومن ذا سيكون دليلي في هذا الليل .... فقال لي: لا تغفل أن تتذكر إن النار الكامنة في الأشجار، الماء، الصخور تأبى إلا أن تكسر قيودها، فإما أن تحلق معي...، نحو حديقة لا يتحول فيها الفيل إلى قملة، والأسد إلى جرذ، والنسر إلى برغوث...، وأما ...
ـ ماذا قال..، تكلم، لا تغلق منقارك هذا المثلوم؟
ـ قال: أن اغطس!
فدار بخلده، وهو  يستمع إلى أصوات وضوضاء ولغط كان لا يدعه يصدق انه أصبح وحيدا ً، لأنه راح  يرى موجات سكانية، تتبعها أخرى، وفي فترات مختلفة، تفر هاربة شاردة بدل أن تلقى المصير ذاته الذي اعد لها، ولنا، ولكم....
ورفع صوته قليلا ً:
ـ تركونا...، الواحد بعد الآخر، بحثا ً عن حديقة ليس مهمتها ذبح أبنائها، وأدمة اقتتال الجميع ضد الجميع، وتأجيج فن النذالات، الخساسات، وما فوق الدعارة، والكراهية، والبغضاء والحفاظ على لغز بذرة الموت دائمة الاخضرار، وهي لا تتعرض للخمول، ولا تهن في عملها أبدا ً. كانوا يغيبون، يختفون، جماعات جماعات، وافرا ً، ومجموعات مجوعات، سيدتي، أما من تبقى فكان يلقى المصير الذي لم نعد نعترض عليه: النزول إلى المكان الذي لا رجعة منه...، أو انتظار ما بعد الرحمة: المحو بما يمتلك من تنويعات، وتمويهات، ولذائد فائقة المذاق!
قالت النملة بأسى عميق:
ـ لا أحزان تدوم...
فقال لها:
ـ ولا مسرات دائمة. لكن صديقي الذي كنت أتتبع خطاه في الريح ...، بعد دهر، أنبأني بأنه مهما ابتعد، وحلق عاليا ً، وعانق تخوم المسرات المستحيلة، فانه مازال يستنشق رائحة العش الذي ولد فيه...
فقالت النملة بصوت مستفز:
ـ لأنك لم تغادر معه...، أم لأنك اخترت مغطسك معنا..؟
ـ خجلت من الكلام، بالأحرى: لا اعرف ماذا حدث لي....، لكن عدم المعرفة كان قد بلغ ذروة هذا الخجل. فانا طائر كسر جناحي قبل الخروج من ....
ـ أكنت جبانا ً...؟!
ـ ربما كنت متهورا ً، طائشا ً، مخبولا ً، مغامرا ً...،  إلا إنني لم أكن احمل جرثومة هذه الرذيلة: الجبن!
ـ وهل كان....؟
صرخ الصقر:
ـ لا ...، كان خلي يحمل نارا ً أبى أن يراها تنطفئ وتصير رمادا ً في حديقتنا السوداء!
ـ وأنت...؟
ـ أنا تركت النار تخمد...، بهدوء، بهدوء...، بل بلذّة هادئة، هادئة جدا ً، وبلا مبالاة....، فبعد أن رأيتها تتوهج وجدت روحي تدفن في القاع، وجدتها تغيب...
ـ لماذا ...؟
ـ ذات مرة قال لي صديقي في واحدة من رسائله: أنت ملح الأرض...، فقلت له: لم تعد الحرية تغويني برؤية من يغطس، وأنا أنجو بمفردي من مخالب الضواري وأنيابها، فأما ننجو جميعا ً أو لتأخذنا جهنم.
ـ لا تموه علي ّ...؟
ـ وهل ابقوا لي قدرة على التمويه...، أو سلامة العقل، أو حسن المنطق، بعد أن خمدت النيران في ّ وصرت رمادا ً لها.
ـ مازلت ـ أيها الحكيم ـ لم تفقد توهجك القديم...
اقترب منها قليلا ً:
ـ لا ...، أنا لم اخلط بين الثقيل والخفيف...، ولا بين البعيد والأبعد، ولا بين القريب والأقرب...، فبعد أن درست خصائص العناصر الظاهرة والكامنة  أدركت إن لكل منها، ولكل منا، في هذه الحديقة، تفوق عنصر على آخر يفضي إلى خسران الكثير من ديمومتها...، وصديقي الذي ذهب إلى البعيد، مع ما لا يحصى من السكان، الطيبين، المتوهجين ذكاء ً...، أنا ذهبت ابعد منه، وابعد منهم جميعا ً!
ـ ابعد منهم...، ومنه...؟
ـ  في هذا القفص....، داخل هذا العش، مكثت أتتبع خطا صديقي في الأفق، فوجدت إنني انتزع الأوهام، الواحد بعد الآخر، حتى لم تعد هناك سلطة للوهم علي ّ...، فأصبح أكثر من طليق! حتى كأن العبودية لا وجود لها، ولا حتى للشر حضور!
ـ غريب...
ـ ما الغريب ..؟
ـ انك الآن لا تقو حتى على الطيران، وتتبجح بالمجد كأنك ذهبت ابعد من النصر؟!
ـ الم ْ أخبرك إنني ذهبت ابعد منه، وابعد منهم..!
ـ صديقك لاذ بالريح...، والأفق، من غير أوهام وتمويهات وخداع...؟
ـ وأنا لم اترك  مساحة نائية لم أزرها وأحط عند تخومها البعيدة...
ـ وما الذي كنت تبحث عنه...؟
ـ لا شيء! اللا شيء تماما ً! لأن الذي كان يشغل الجميع صعقني حتى لم تعد لدي ّ أسئلة أو حتى تصوّر....، فالجميع ـ وانتم، يا معشر النمل، في المقدمة ـ لا هم لهم إلا بلوغ تلك الذروة...، التي لا عمل فيها، والتي هي ضد العمل، من اجل الحصول على ركن...، ضفة، زاوية، مزدحمة بالثمار، والجداول، والغزلان، والبلابل، والحرائر، والـ ...
ـ عدت تموه علي ّ...، وأنت تكاد تسقط أرضا ً...من شدة الارتباك، والذهول.
ـ وهل اقدر أن أقول شيئا ً آخر، بعد أن أخبرتك، يا سيدتي، إن صديقي هرب لينجو من النزول إلى الأعالي! وليس من الظلمات!
ـ أوه...، أيها الكافر، رحت تجدف.
ـ ها... لو كان ما تقولين يحمل ذرة صدق، فهذا هو ذروة إيماني! فانا هو الصادق بعد أن لم يعد لدي ما اشك به، وما يثير مخاوفي!
ـ ذروة الإيمان بماذا ...، حدد... أرجوك...؟
ـ إن أحدا ً لا يقدر على الصلح، أو المصالحة، أو التعايش، مادامت النهاية تدّب كدبيب هذه الأنعام ترتكب أشنع المعاصي، والفواحش، والموبقات، ثم لا تكف تتضرع بالحصول على الغفران، والنجاة، كي تولد أكثر استعدادا ً لديمومة ما هو أكثر قسوة من الموت، وأكثر شناعة من الرحمة!
ـ آ .....، تكاد تخرجني عن ملتي، ملة النمل...، لأنني بدأت أراك تتعذب وتشقى من غير سبب...، باستثناء  حملك للأوزار والآثام والخطايا بطيب خاطر!
    للمرة الأولى منع ضحكة كادت تفسد عليه  شروده:
ـ لو كنت شعرت بثقل هذه الأوزار، أو عذابها، لقلت: هل من مزيد؟
ـ اووووه...
ـ لا تكترثي..  فالخروج عن الدرب...، يعززه!
   هزت النملة رأسها مذعورة:
ـ بمحوي...؟
ـ كما حصل لي...، سيدتي، عندما كان علي ّ اما ان لا اخرج عن مساره، او اغيب فيه.
ـ عدنا الى قيود الحتميات.
ـ بل ... الى لا حافاتها...!
ـ حقا ً ان الصدمة لم تترك لك الا ان....، تجد عونا ً...
فرد بهدوء:
ـ لو لم يكن الموت هو أعلى درجات الحرية، لكان وجودها اشد إيلاما ً وأذى من قيودها...! بل لكان وجود الحرية ذاته قيدا ً...!
ـ هذا هو شرع النمل، سيدي!
ـ لا اختلاف عن شرع البرغوث أو القمل أو البشر...، فكل من تسول له وساوسه الخروج لن يلقى إلا المصير الذي سيمضي حياته كلها لدحضه....، فالمعضلة هكذا تغدو وهمية، ومن صنع التصوّرات..
ـ افتراضية...؟
ـ حتى هذا الافتراض...، سيدتي، تارة يوهمنا بالمسافة بين الأضداد، وتارة يوهمنا بوحدتها.
   هز رأسه، بشرود تام، وهو يلمح ذبذبات تتراقص في الهواء، فقال يخاطب النملة:
ـ كنا نفكر بالعقار ولم نكن نفكر بالمرض...
    ذلك لأنه شرح لها عبر صمته وشروده أن صديقه غادر لأن الهواء تحول إلى ذرات لا لون لها، حادة، جارحة، وان الحديقة التي كان عليها أن تساعده تحولت إلى إدارة لا عمل لها إلا القضاء على العمل... وسحق كل من يخرج عن الدرب، سحقا ً ناعما ً، وفي الغالب، مروعا ً حد انه وصف بما يحدث للميت من عذابات في أول أيام دفنه في القبر!  غريب ...، رد عليها وترك نظراته تعالج نقص الهواء، وتقلص جسده، وتعرضه إلى هزات، فقالت بصوت مرتبك:
ـ انك ترتجف، ولا تقوى على الوقوف....
وجد صعوبة بالرد، فكرر بصوت مخنوق:
ـ الهواء، الهواء، الهواء....
هبت نسمات امتزجت فيها أصداء أصوات خفيضة، فاخبرها انه لم يكن يأمل بلحظات يجهل كيف ستكمل تتابعها، إن كانت مقيدة بأقصى ما تتمتع به من حريات، أو طليقة بقيود حتميتها...
ـ آ ... فهمت.
   عندما  تجدد الاتصال بينهما، بعد عقود، لم يجد صعوبة بالعثور على ممر يذهب بهما ابعد من الإشارات، والكلمات، فعبر الأثير  ـ تابع يصغي لصوت صديقه ـ تستطيع رؤية المشهد كاملا ً، كأنه لن يتوانى عن استدعائنا للقيام بما لم ننجزه...، ولم يكن الأمر يتعلق بالصفقات، أو بالمكاسب، قال لنفسه، بل لأنه عندما غادر، خاطبه: ها أنت أصبحت طليقا ً كما كنت عليه قبل تكونك الأول..! ولكنه أحس بان خواطره تضمر خيبة لا يريد إعلانها، والاعتراف بها، لجارته النملة، وهي مازالت ذاهلة منشغلة بأمره.
ـ لا!
   قال للنملة التي اقتربت قليلا ً منه:
ـ آخر كلمة قلتها لصديقي، أينما ذهبت، فسيتتبع شبح الحديقة خطاك، أو تدرك انك تمشي بعناد خلفه!
صاحت النملة:
ـ الآن فهمت لماذا أنت كدر..، وحزين...، فأنت صدمت بخبر رحيل صديقك الأعز، الذي كنت تأمل أن يشيعك، ويرتب مراسم دفنك، حتى لو كانت افتراضية، وعن بعد! بدل أن ترمى فوق القمامة، لتفترسك كلاب الليل! أو تتحول إلى غبار، أو إلى أثير!
ـ ليس هذا بالضبط...، فانا ميت مثلما أنت ِ ميتة، مع إننا لم نولد بعد...، فهو بالتحديد لم يمت بعد، لأنه كاد يمسك بلغز ولادته المشفر! فهو ذهب ابعد من موته، مثلما انه مازال يتجمع تحضيرا ً لمولده!
ـ آ ....، مازلت تعمل على نفي نبأ رحيله...، لأنك لا تريد أن تؤكد رحيلك أنت، أم لان الحقائق أصبحت كالأوهام كلاهما لا تعرف من يفند الآخر، أو يمحوه.
ـ أيتها الحكيمة...، أنا لا أتحدث عن الصداقة التي مسها الغياب، وهددها بالمحو...، بل عن هذا الذي يولد توا ً...، عبر زواله، وتلاشيه! فأين هي الحكمة التي لا تترك إلا أثرا ً يزيل غيابها، قبل أن يكنس حضورها! أنا أتحدث عن فخ إن نجوت منه آذاك، وإن وقعت فيه آذاك، فلا تدرك أخيرا ً أكان قد نصب لك، أم كان عليك أن تقع فيه..، وسابقا ً قال احد صقورنا: هل توجد نذالة أو معصية كنذالة ومعصية من يشهد أمام الإله لمصلحة الإله بأمر الإله.....؟
ـ آ...، كأنك غادرت قفصك، كأنك فلت من الزمن، ومن الداء، ومن المعاقبة...؟
    صدم. أنا قلت له ـ راح يخاطب نفسه بصوت جهوري ـ لن تعزل قدرك عن عثراته، ولن تقدر أن تعزل العثرات عن قدرها. الكل لا يتجزأ رغم إننا نمضي زمن زوالنا لا نعرف من الجاني ومن المجني عليه، ومن أصاب ومن أصيب!
ـ كأنك تخفي علي ّ ما يجول بذهنك...؟
تململ، وحرك رأسه يسارا ً ويمينا ً، مصغيا ً لنبضات قلبه تدق موزعة وخزات ناعمة داخل جسده، ليرتفع قليلا ً في الهواء:
ـ أنا احلق...، فانا لم اغب بعد!
   ابتسمت النملة:
ـ لكنك قلت لي: إن ما كان يشغلكما ليس الموت، ولا الدنيا...؟
عاد ووقف بجوارها:
ـ صحيح...، العاجز وحده من يشغله الموت، والأكثر عجزا ً من يدع الدنيا تمشي فوقه! لكن اخبريني أيتها الحكيمة هل هناك قضية لا علاقة لها بالخروج من العدم، وبالعدم الممتد....، من ثم المضي في استكمال ما لم يستكمل بعد...؟
قالت النملة بثقة:
ـ  اجل، هو الذي لا تقدر الكلمات على إعلانه...، مع إنها لا تقدر على تجاهله، وإغفاله.
ـ الصمت..؟
ـ الصمت كلام شبيه بالثقوب السود، لأنني كنت أتحدث عن الذي لا نمتلك إلا أن نقع فيه، أو نختاره.
  وقال لها متابعا يرد على ما قاله:
ـ فانا لم اختر هذا القفص...، ولم اختر إلا أن ...
صمت وقال بصوت متدفق:
ـ فلقد أدركت إن صديقي، في المرة الأولى، لم يغب....، فقد أعاد لي  هذا الذي لا علاقة له بما يجري في حديقتنا...، وها أنا اعترف لك انه سمح لي، في المرة الثانية، أن استيقظ من الغياب... فانا كنت طليقا ً داخل قفصي، ثم فجأة وجدت إنني في مواجهة ما يسمى بما  وراء الزمن...! فانا أصبحت خارج الرحلة! تائه تماما هل تراها لم تبدأ بعد، أم  ليس لها بداية أصلا ً...؟
ـ آ ...، ها أنت تفكر...، لأنك بعد قليل ستصبح هدفا ً...!
ـ أنا لا أفكر إذا فانا موجود! وغريب أمر من قال أن وجوده رهن الفكر!..، لأن عدم التفكير هو نفي للموت...، فالذي يفكر يدرك تماما ً انه لن يغادر قفصه... ليس لأن القفص سابق على وجودنا، بل لأن وجودنا من غير قفص يبرهن بضرورة اختراعه!
ـ تعرف ...، أيها الصقر...، أنا محض نملة! وأنت محض طير! لهذا اطلب منك أن تكتم هذا الذي يكاد يفضحك، ويصير مصيرك كمصير أسلافك، لم يمسكوا بالصحراء، ولا الصحراء أمسكت بهم!

ـ كأنك تشاهدين ما يدور في رأسي..؟
ـ بل أنا قرأت الذي دار برأسك، وأكاد اعرف ما الذي لم يدر برأسك بعد!
ـ جاسوسة! أيتها الشقية، ألا تعرفين  انك هو أنا، وأنا هو أنت! فانا وأنت وحدنا القفص، وسيغيبنا أيضا ً...! فعلى م َ نفسد حياتنا ونذهب أعمق من مغطسها...؟
فقالت بهدوء:
ـ  لا تضطرب...، فما كان بينكما لم يكن عقدا ً...، ولا عبورا ً...، ولا بحثا ً عن فردوس....، كلاكما كان قد دمج السابق باللاحق ، واللاحق بالسابق، لأن كلاكما لم يكن مع الليل، ولم يكن مع النهار...، كلاكما رأى الجحيم في الفردوس، والفردوس في الجحيم، فالعالم حديقة لا حافات لها، رغم إنها مكونة من أقفاص، وأجنحة، وزرائب، ومستنقعات!
ضحك الصقر، وهو يخاطب صديقه:
ـ  أنت كنت تبحث عن أيام مضافة تصغي فيها للذي يمد بعمر ديمومتك....، وأنا كنت اعمل على تقليصها. أنت كنت تحب أن تتعلم، وأنا كنت أشذب ما تعلمته، أنت تتسع، وأنا أتقلص، أنت تواجه موتك، وأنا امشي خلفه أدله علي ّ! أنت كنت تحفر بالكلمات فوق الريح، وأنا أرفرف لعلي أنجو منها، أنت كنت تعمل على سبر جذور المحنة فتدرك إنها ذهبت ابعد من مداها، وأنا كنت أراها تركتني تلهو بي مثل ورقى تتدلى بانتظار مصيرها....
ـ أين..؟
 سمعها تخاطبه وهو يحّوم مبتعدا ً عنها:
ـ لا اعرف!
   ارتفع في الهواء، وود لو ارتفع من غير توقف، لولا وجود السقف الذي يغطي الحديقة بأكملها، فضلا ً عن أسوار أعلى منه، يصعب رؤيتها بالعين المجردة...، إلا أن ذلك لم يمنعه من العثور على فتحة ضيقة للمغادرة، بعيدا ً عن قضبان القفص، والابتعاد عن جناح الطيور الكاسرة، والمتوحشة، وطيور الحب، والأخرى التي لم تروض بعد، فضلا ً عن البرمائيات الطائرة، والزاحفة ذات الأجنحة الرمزية...، وهو يتمتم: والأخرى الخاملة، الشبيهة بالعاطلين عن العمل، مهمتها المراقبة، والرصد، وإصدار التنبيهات، والتحذيرات، وبث موجات صوتية مهمتها إثارة الريبة، الحذر، والخشوع. لأنه طالما خاطب صديقه بأنه يعيش في نهاية عصر بالكاد يمتلك علامة تميزه، ودالة عليه. ود لو تحول إلى غيمة، أو إلى إشعاع، أو تحول إلى فراغ. إنما ذلك، دار بباله، لا يليق بعجوز هرم عاطل عن العمل، مثل 99% من سكان الحديقة! فالطيران تضمن عدم الرضا العنيد، قال لصديقه، ذات مرة، انه كف عن البحث ـ البحث عن إجابات لمحض المساومة مع الزمن، أو مداراة من يمثله ـ فالجسد لم يعد إلا ماكنة معطوبة. ماذا قلت؟ تلك هي كلمة صديقه، الأكبر سنا ً منه بعقد، بعد أن ساعده أطباء الحدائق البعيدة للبقاء أطول فترة في مواجهة الغياب. لم يقاوم طرفة خطرت بباله: كلانا يعرف انه آخر من سيتخلى عن أسلحته....، إنما كلانا، قال لنفسه، خارج الخدمة: أصبحنا من الأسلاف..!
    لكنه لم يجد مناسبة تسمح له باستعادة الأنفاس، كلذّة الارتفاع قليلا ً في الهواء. ثمة لجوء ما إلى جهة تغمره بالاطمئنان، لكن لم يولها تمام الثقة:  الهواء....، والدوران، دورة كاملة، من ثم الانخفاض، والارتفاع مجددا ً، حتى عاد وقال لنفسه انه الآن  فك لغز جده عندما لم يبح له بكلمة حول الخلاص...،  لقد أدرك أن جده ترك جرثومة لم يتم القضاء عليها حتى عندما أعلنت إدارة الحديقة على لسان مستشارتها السيدة الببغاء عن تجفيف منابعها واستئصالها من الجذر. جرثومة اللجوء إلى قوة ما ...، تزيح كابوس مشاعر الريبة، والخوف، والإحساس بانعدام الآمان...، فقد قال له صديقه انه لم يصب بها، جرثومة الاستغناء عن حساب الممكنات، والاحتمالات لفهم معنى كل منهما على انفراد. فليست المهمة هي الحصول على مصادر للسعادة، والممتلكات، والحياة ببذخ، بل المعضلة تعني: إلى متى تمضي تمشي مترنحا ً في عالم وجد مصيره فيه مهددا ً على مدار الساعة..؟
    ولم يتخيل انه ـ من غير حذر ـ سيعيد تفكيك قراءة المروية التي دفنها عميقا ً حتى انه لم يسمح لنفسه بمعرفة موقعها داخل تريليونات الخلايا ذات القدرات العالية على الخزن والتمويه...، صديقه لمّح بالمفتاح بعد أن بات من المستحيل العثور على القفل، فمن ذا سيدله على الثقب...؟ جده لم يبح له لا بالأمل ولا بالخلاص ولا بالمصير...، كل ما باح به له: احرص أن لا تقع فريسة سوء  الاختيار....، لكن ما معنى أن يدير قفاه لحياة أدرك إنها لو كانت  فائضة فمن ذا باستطاعته أن يبرر له سحقها، ومحوها...؟ قال صديقه له إن المفتاح ليس الخطوة البيضاء في الدرب...، فالدرب ذاته لا تكونه إلا ما لا يحصى من مفاتيحه المندثرة، وهي ـ أعاد التفكير ـ تتناسل وفق عدد الخلايا، هندسيا ً وليس رياضيا ً، إزاء القفل، الذي أغلق أي مفهوم للعدد، والحساب! ذلك لأنه تذكر إن الحروب لا تحدث إلا وفق التناسب بين الحساب والهندسة، وما الضحايا، إلا الغبار الذي يسم الدرب بعلاماته، وليس لان آليات التصادم حاصلة بسبب تصادمات التراكم، بين من يمتلك الأدوات، وبين من جرد عنها، لمحو العلامات كافة في خاتمة المطاف، مما يجعل سياق عمل الجرثومة، ديناميا ً، حتى بجودها الافتراضي، أو بواقعيتها المرة.
    كاد يتكوم بسبب خدر حصل في مفاصل جناحيه، وتسلل إلى نهايات ساقيه، بل حتى كاد يلامس أظافره التي تنبه لوجدها للحظة، لكن الخدر لم يقترب من خلاياه العليا، داخل جمجمته، وكأنها محصنة، أو تتمتع بمناعة لا تقهر، وإنها تعرف آليا ً كيف تؤدي واجبها في التنفيذ. فجده ـ خاطب نفسه ـ لم يرضخ للبطش، والتهديدات المتكررة، ولم يرض بحياة باذخة لوّحت له، حتى كان يرها أكثر قربا ً من أية نهاية سوداء محتملة أخرى...، بل فضل الكف عن مواصلة الدفاع. صديقه لفت نظره إلى حوار قديم جرى بينهما، دار حول لغز الشيطان الذي أخفاه ـ كما قال ـ عن الرب نفسه، وإلا فان مشروعه لن يكتب له النجاح، حتى لو كان على مدى حقبة ممارسته مع ضعيفي الإيمان، كأمراء الحروب، اللصوص، وكبار الأثرياء، ورؤساء الشركات العملاقة، والنسوة ذات الرهافة، والبنات المولعات بالتحول إلى أمهات، ومدراء الأجنحة، وأساتذة الشر، وعظماء فاقدي الشفقة...الخ، فكر الصقر إن صديقه ـ هو الآخر ـ قبل أن يشد العزم على الرحيل، والمغادرة، أكد له ما جعله يغطس عميقا ً في المحنة، ابعد مما توقع، قائلا ً إن الشيطان لا يوهم، ولا يغوي، ولا يخدع....، لأنه وحده ـ بالقياس إلى الأقل مرتبة منه ـ يعرف أكثر مما يجب  بما جرى ...، بل يكاد يكون الأكثر قربا ً من الإله، والعارف بأسراره،  فقال صديقه انه اطلع على الألواح كاملة التي ترجع إلى زمن ما قبل الطوفان الأعظم بقرون ...، وقد كانت حكاية تماثل عمل النار إزاء خالقها، ليست مهمتها الحرق، والحرق، وتحويل الغابات، بكائناتها، وكنوزها، إلى رماد، بل، على العكس، إلى: تطهيرها!  فالنار ليست أداة إبادة، واجتثاث، بل ـ سمعه يتغنى بلحن رقيق وناعم شبيه بنسيم الفجر البارد ـ بوصفها السكينة المستعادة من غير شوائب، ولا غبار!
   اندفع إلى الأمام:
ـ ولكن أي لغز هذا الذي سمح له أن يواصل، من غير كلل، ولا تردد، دوره الضار..، فهل كان ينكل بنفسه، كمصاب بمرض لا علاج له...؟ أم لا يعرف ماذا يعمل...، أم يتباهى بعنجهيته أمام الإله..؟   لم يجد إجابة لديه على ما دار بذهنه، فأعاد السؤال:
ـ إذا كان ـ هو ـ وحده أكثر المخلوقات قربا ً من الإله، ومعرفة بالخفايا، والأسرار الكامنة في الأسرار، أو تلك التي تصبح خارجها، فمن ذا منحه بسالة التمرد بإغواء هذا الحشد من الإثمين، الفاسدين، سفاكي الدماء، المزورين، وباعي الضمائر، وهادمي الحدائق... ؟
   أغلق فمه بأمر لا إرادي.
ـ ربما هو أمر ذاته... وكفى!
سمع صديقه يخاطبه عبر الأثير:
ـ قلنا إنها حكاية عفا عليها الزمن، ولا تحتمل المزيد من التأويل...
   هز رأسه متمتما ً:
ـ اقصد كيف لم يتم قرأتها على نحو يظهر أن الشيطان دفع للغواية أو وقع فيها ببراءة....، ومن غير قصد مسبق...، قل بعفوية، أو مثل من يزل لسانه بما يضمر...؟
ـ آ ....، عدنا إلى السؤال الذي بلغ درجة الصفر لدي ّ، وهي درجة تجعل الموت في أعلاها، فهربت، قبل أن يتم اجتثاثي، وحرقي، أو التنكيل بي، أو تركي أتعفن في جحر من جحور هذا المستنقع، ولكن السؤال هو: من أغوى الشيطان وصور له انه يقوم بعمل ماجد، باذخ، جميل.....، وإلا كيف واصل بذر بذرة الخطيئة، ثم الإثم، ثم المعصية، وهو العارف بأنه تحت نظر الإله....، ما الذي يجنيه، هذا بحساب الربح والخسارة، حتى لو انتصر على الجميع، أي جميع المؤمنين الذين لا عمل لهم إلا الإفلات منه، والحصول على ركن في الفردوس...، أو فضلة ارض....؟ هل ستقول: الإله هو من أغواه...؟ ذلك لأن الإله يعرف تمام المعرفة انه لم يجحد، ولم يشرك، ولم يكفر، ولم....، فيغفر له ويمنحه موقعه في الجنان...؟
   ارتج رأسه كمن أصيب بصدمات كهربائية عنيفة كادت تطيح به، وتسلبه قدرته على الطيران، حتى رآه ينفصل عنه، لكنه سرعان ما أفاق:
ـ جدي لجأ إلى الإله....، حفر، حفر، وحفر حفرة عميقة ودفن جسده فيها.
متابعا ً أضاف يخاطب صديقه:
ـ   أما أنت فلذت بجلدك وفلت من الأنياب والمخالب بحثا ً عن حديقة لا قرارات جائرة فيها، فلا أوامر بتحويل البلابل إلى ضفادع، والضباع إلى ليوث، والجرذان إلى ذئاب....، حديقة من لا يعمل فيها يجبر على أما على العمل أو العمل أو يذهب مع الريح!
ـ اسكت!
ـ هل تطلب مني الصمت؟ تنهاني عن الصواب وتأمرني بالمنكر...، يا اعز من عرفت...؟
ـ أنا أخشى عليك أن تلقى المصير الذي فلت منه...
ـ آ ...
   وشعر انه يتهاوى، لا يقوى على مقاومة ثقل الأرض، لولا انه أحس انه تحرر من الجاذبية، مع إن انعدام الوزن لا يعني غيابها، أو غيابه، وتحوله إلى أثير، بل الأمر يماثل تأجيل البت بما ستؤول إليه الوقائع!
ـ يا صديقي ـ وقسما ً بضرورة عدم القسم ـ أنا لم أفكر باستبعادك من الطيران...، بل خفت عليك من العقارب، والأفاعي، والتماسيح....، فانا لم أغوك بالحياة...، مهما كانت غير فائضة، وغير تامة المعنى، وأحيانا سافلة، نذلة، واشد خساسة من الغدر...، ذلك  لأنني لم أفكر بالرحمة لأدعك تموت ألف ألف ألف مرة قبل أن يصبح الموت ملاذا ً شبيها ً بالقضاء على المرض من غير عقار ومن غير كي ومن غير بتر أو استئصال ...، بل حذرتك من الكلمات.... فأنت أينما تولي وجهك لا ترى إلا وجه من يرسلك إلى ما بعد الموت!
ـ صديقي...، الكلمات مثل البهائم داخل أقفاصها، لا تضر ولا تنفع..، فالألفية الثالثة، كما قلت لي، حولت عالمنا إلى حديقة تكاد لا ترى إلا بالمجهر ...، مسورة، وداخل كل سور سور، مثلما خارج كل سور من أسوارها، سور أعظم....، لأن تلك الجرثومة التي تحدث عنها جدي، والتي حملتها معك في منفاك البعيد، سابقة في وجودها أسوار بغداد عندما كانت عاصمة للدنيا، وسابقة سور الصين العظيم أيضا ً...، لكنها، لا تشبه سور برلين، ولا الحصار الذي ضرب ضد سكاننا، قبيل الحرب...، فهناك الأسوار الشبيهة بهذه الأقفاص، داخل كل قفص، وخارجه، حيث لا حافات للقفص الذي نلوذ إليه، أو نهرب منه...، وليست الكلمات إلا حجارة هذه الأسوار!
ـ آ ....، كان الشيطان بعونك!
ـ أرجوك....، ماذا أقول لربي...، وأنا إيماني به سابق على وجودي هذا العارض، والذي لم أجد له موضعا ً ادعه يستقر فيه، أو انفيه بعيدا ً عنه..
ـ الم ْ اطلب منك أن تغلق فمك ...؟
ـ لكنه يسمه ما في القلوب، فكيف لا يسمع ما في الحنجرة...؟
ـ آ ...، هذا لا يصدر عن اله رحيم،، بل لا يصدر إلا عن إدارة خرافية لحديقة أكاد لا أرى منها سوى الرماد، والغبار...وبقايا بقع رمادية، وأخرى سوداء.
ـ أرجوك كن رحيما ً بنا ...، وبنفسك أيضا ً، فانا الآن أرجوك الركون إلى الصمت! لأن إدارة حديقتنا اشد أذى من الشيطان نفسه!
   عندما حاول الارتفاع قليلا ً إلى الأعلى، بدل التقدم إلى الأمام، لاحظ إن المسافة تسمح له بالصعود...، فعزم على المثابرة، كلما ارتفع انتابه إحساس بنشوة غير متوقعة، بلذّة خالصة، وفي الوقت نفسه انتابه عسر في التنفس، وصعوبة في الرؤية. كان الخدر قد اختفى، وكأنه يحلق للمرة الأولى، طليقا ً، من غير تردد، أو حذر. فدار بخلده إنها ليست لعبة، ولا غواية، أن يسترد عزيمة كاد يصدق إنها تلاشت، فعاد يرى المشبك الحديدي، المنسوج كبساط، والمغزول بإحكام، يبتعد عنه كلما تحداه ببذل جهد مضاعف في الارتفاع، فخطر له انه قد يكون وقع في كمين، وإلا ما جدوى الصعود حتى لو نجح في العثور على فتحة، أو منفذا ً للمغادرة، لأن انعدام الوزن ليس إلا مصادفة، لكنها ليست خالصة، أو من غير مصادفات، فترك جسده يستقر ملامسا ً حافات السقف، وراح يحدق في غيمة رمادية كانت تقترب منه، استنشق رائحة تراب محروق، وبول جاف، وغبار ساخن، فظن إنها سحابة صيف،  لا تنذر بالمطر، إنما أدرك انه يواجه كتلة هائلة ـ لا أول لها ولا نهاية مكونة من البعوض والبرغوث والجراد ـ:
ـ هل جاءوا لسحقي...؟
أجاب كبير البعوض:
ـ لا ... سيدي، لا توجد أوامر بذلك!
فسأله في الحال:
ـ ماذا تفعلون إذا ً...؟
ـ ذاهبون لتقديم العطايا والنذور ....، ومبايعة سيدنا الفيل الأعظم..
بحث عن صديقه فلم يجده. ففكر بلغز انعدام الجاذبية، وعودتها، وما إذا كانت الحقائق باطلة من غير الأوهام أم أن الأخيرة بحاجة إلى الحقائق والبراهين والاختبار..؟ أجاب كبير الجراد:
ـ لا تشغل بالك...، أيها الخفاش!
     كم ود لو استعاد غريزة المواجهة، ومحاه، لولا أنه أسرع، ليرى الجراد، والبرغوث، والبعوض يسرع باتجاهه أيضا ً:
ـ ماذا تريدون مني..؟
   انسحب الضوء، واحتفت الجاذبية، وانعدم الزمن ...، فراح يصدق انه ربما يكون أسرف في الوهم:
ـ لا ... لم تسرف، فبعد أن نؤدي يمين الطاعة والولاء وتجديد المبايعة ...، سنشارك في مهرجان الخلاص والنصر المبين.
ـ الخلاص والنصر المبين...؟
ـ نعم...، أيها السنونو!
ـ لو كررتها مرة ثانية فسأضطر للاتصال بالمستشارة، بل بمكتب السيد المدير!
ـ آ ...، آسف، فانا لا أرى ولا اسمع ولا مجال للحركة أو حتى التفكير..
اخبرني ماذا سيجري في هذا المؤتمر الكبير:
ـ نحن مكلفون للرد منطقيا ً على سؤال أيهما سابق على الآخر، الشر أم الأشرار، ووضع إجابة مؤكدة وشاملة ومحكمة على سؤال: وأيهما يصنع الآخر، وهل بالإمكان فصلهما عن بعض، وما تأثيرات ذلك على ديمومة هذا الذي تراه يمتد إلى ما لانهاية...، ومناقشة ماذا سيحدث إن تم القضاء على الأشرار إزاء الشر، وهل القضاء على الشر ينتج ملائكة يعمرون حديقتنا، مطهرين من جرثومة الحنين للشر أو للأشرار....؟
    ابتسم سرا ً...، فقد تذكر انه كان عمل مع بغل ـ يوم كان رفع لافتة: صقر للإيجار، إبان العهد الأول بعد الطوفان ـ وكانت مهمته كتابة خطاباته، وتلقينه مبادئ تعمل وفق الاشتباك؛ فنعم لا تصير لا إلا لأن لا غير منفصلة عن نعم. ولقنه  بالقول أن الجهل ما هو إلا أعلى مراتب المعرفة. فداخ البغل ـ مديرنا المسؤول عن جناح الزواحف والطيور العمياء ـ  وسأله بغضب يتطاير منه الشرر: هل تسخر مني وكأنك تسخر من سيدنا المدير؟ رد الصقر بذعر: لو كانت المعرفة جديرة بالاحترام، سيدي، لكنت مديرا ً وليس راعيا ً للنعاج، والكلاب، والضفادع. فالجهل ـ أيها الزعيم ـ وحده يمتلك قدرة التحكم بالمصائر، ومنها مسارات المعرفة، وإلا ما ـ ما هو تأويلك وتفسيرك لسر فناء الثوابت والحقائق والمعارف...، وديمومة أكثر العلوم قدما ً ورسوخا ً؟
أجاب كبير البعوض:
ـ أين أنت..، أيها الصقر ...؟
ـ في الظلام...
فقال بصوت مرح راقص:
ـ يبدو إنهما ـ الشر والأشرار ـ عملة ولا وجه لها ولا قفا! وهي التي تتحكم بتاريخ الأنواع ومصائرها...؟
ـ صحيح...، هذا ما كنت دوّنته في احد خطابات البغل...
ـ أي بغل؟
ـ رئيس المؤسسة العظمى الأستاذ الأبرز والعالم الخبير....
ـ آوووه...، عرفته!
وأضاف بخوف:
ـ لم تفقد ـ سيدي ـ سلطتك بعد!
     فكر بشرود: لو لم افقدها لكنت تحولت إلى حفنة رماد. متابعا ً، من غير رقابة:
ـ قبل مغادرتي عشي....، وقبل سماعي نبأ ارتقاء اعز أصدقائي إلى الأعالي، طلبت المؤسسة المتحضرة للحوار المشاركة بالرد  على ما يحدث ...، وسألتني إذا ما كانت جرثومة الهوس بقطع الرقاب، وقطع الأرزاق، والانحدار إلى عصور ما قبل الظلمات، يكمن فينا أم لا، أم هو مؤامرة، وعدوان، وخرق للقوانين، والشرعيات، وهل باستطاعتنا الخروج من المتاهات وكأننا لم ندخلها...، ولصالح من يعمل مدراء الحظائر والزرائب والأجنحة الخلفية والأمامية  على هدم أركان حديقتنا وتفكيكها وتخريبها والعودة بها إلى حقبة  ما قبل تكّون جرثومة العفن، والخطيئة، ولذّة سفك دماء الأطفال والنساء، ومحو العقول وغسلها وتطهير الذاكرة من ثوابتها..؟
ـ سيدي ...، أنت تفكر؟
ـ اخرس!
     سمعه يقهقه، فقال كبير البرغوث:
ـ إن أغلقت فمي أم لم أغلقه فانا ذاهب لتقديم ولاء الطاعة لسيدنا الفيل، ولسيدنا الثعلب، ولسيدنا العقرب...،  فهم وحدهم يعرفون ما يدور في رؤوسنا قبل أن تتكون هذه الرؤوس، وهذه الأجنحة، وهذه الشقوق، وهذه المخالب والأنياب....!
    اشد الظلام، حتى أحس بكثافته تطوقه، لكنه وجد وسيلة للتعايش معه من غير عثرات، فلمح بقعا ً مدورة تتداخل تصدر أصواتا ً امتزجت فيها عطور مشعة...، ثم رأى الكتلة تحاصر جسده من الجهات كلها. وما أن بحث عن كبير البعوض، أو كبير البرغوث، أو كبير الجراد، لم ير أحدا ً منهم ما عدا ما لا يحصى من الأسماك، والطيور، والنمل، تداخلت، مركبة، ومنصهرة بنظام يعمل بدرجة عالية لا تدع أحدا ً يصطدم بأحد، فلا جرادة تغادر الجراد، ولا سمكة تشذ عن السرب، ولا برغوثة تخرج على النسق، ولا ضفدعة تتمرد على الجماعة، ولا بعوضة تتمرد، ولا طير يعصي الأوامر....
ـ لا أحد ...، وفي الأخير، يتم استدعائي، ومعاقبتي إلى ابد الآبدين...؟
    لم يسمع إجابة، فرد على نفسه:
ـ ليس الذنب ذنب من يعاقبك..، وليس الذنب ذنب من يعاقب..، وليس الذنب مشتركا ً بينهما....، فالوهم سيد الثوابت مادام هذا هو الذي لا يمتلك حضوره إلا بحضور الغائب...!
     فقد تذكر ـ قبل لحظات ـ مروره فوق مهرجان القتل الفكاهي، حيث شاهد أعمدة تتدلى منها  الأسود، والنمور، والتماسيح......، فاقترب من احد المعلقين وسأله: ماذا فعلت؟ فرد: أنا عثرت على جرثومة الشر....! فصلبوني قائلين إذا قضيت على الأشرار فماذا تفعل العدالة، فقلت لهم: تقصدون العاملين فيها! وقال الآخر: أنا قضيت على الفقر ولم اقض على الفقراء فقالوا أيها البهيمة أتهدم عرش الأغنياء. وقال آخر: أنا قضيت على الإرهاب وقلت الإرهابيين ضحايا أبرياء علينا إعادتهم إلى أمهاتهم ومنازلهم. وسمع الآخر يقول انه صلب لأنه وجد عقارا ً لا يسمح لأحد بالذهاب إلى السجن. آخر قال انه استأصل المرض فلا معنى للعقار والدواء. وأجاب سواه: أنا جرجروني إلى المشنقة لأنني وضعت خارطة طريق لا تدع أحدا ً عاطلا ً عن العمل، ذلك لأنني حسبت جهد عمل سكان هذا العالم لتفضي دراستي إلى وجود فائض لا يتراكم كي يقود إلى التصادم والى حروب الجميع ضد الجميع، فعلقوني. وأضاف آخر بصوت مذعور: أنا فككت المثنويات إلى أحاديات تعمل وكأن لا عمل لها سوى التآلف، والوحدة، فلا تصادم بين الحدود، ولا تناقضات تقود إلى التناقضات، فقالوا أنت تخرب أوامر مديرنا، فغرسوا المدية في قلبي.  تابع آخر قائلا ً انه للمرة الثالثة يعلق، لأسباب مجهولة، وذلك لأنه لا يدلي إلا بالاعترافات نفسها، لا يستبدلها بأخرى، وفي كل مرة يعلق، ثم يستدرج لاستبدالها ولكن أخيرا ً قال انه لا يقول إلا ما يؤكد صوابها،  وقد أيدت غزال منتزعة الجلد، أقواله، لأنها تعرضت للحالة ذاتها، فكلما سلخوا جلدها تعترف بأنها لم تعتد على جارها النمر، ولا على جارها الذئب الأسود، وإنها لا تمتلك ما يدل على ارتكابها إساءة ضدهما، ولا ضد الآخرين. فلم يجزع، مقتربا ً من حزمة شدت بالحبال شدا ً محكما ً، لم يتبيها إلا عندما ركز نظره فرآها مجموعة طيور حديثة الولادة قتلوا بتهمة الخروج على الدرب...، لكن احدهم مازال يستنجد متضرعا ً انه لم يفعلها، ليس لأنه لم ير الطريق، بل لأن الدرب لا وجود له.  أما أنا فالقوا القبض على بتهمة حبي للمرح، والطرائف، وظنوا إنني خارج على قانون الظلمات، فأمروني بشرب ألكاس التي شرب منها سقراط، وهكذا نجوت، ومكثت معلقا ً، وسأبقى هكذا حتى ينفي الجديد قديمه، ولا يغدو قديما ً مادام الأمل هو أقدم بذرة لا يمكن مس ديناميتها، أو القضاء عليها.
ورفع صوته:
ـ وسألوني بصوت واحد:
ـ ماذا فعلت من اجلنا..؟
  صمت برهة ثم قال:
ـ قلت لهم: أنا بغل للإيجار...، ولم اعد صقرا ً...، أو حتى نملة! فانا خرجت ابحث عن صديقي الذي أخذه من أرسله، فقلت لعلي اعثر عليه، أو يعثر علي، كي اصعد معه، أو يعود أدراجه إلينا ليقضي بعض الوقت ويتمتع بعطور هذه المستنقعات، ويستمع إلى أصداء عواء ذئاب ستموت قبل ولادتها!
ـ بغل أو حمار أو حشرة...، اهرب، هرول، ولا تصغ إلا لمن لا يتكلم!
    وكاد يصطدم بالجدار الصلب الخالي من النقوش، والعلامات الهندسية، الشبيه بسطح جبل تعرض للتعرية، فغدا ناعما ً، فانحرف، بعد أن استدار، يسارا ً، متلافيا ً المحرقة، التي أثارت فيه رجات كادت تطيح به، وتسقطه أرضا ً، فضلا ً عن إدراكه للقرار الخاص بمنع أي طائر الارتفاع أعلى من مدخنتها، بحسب أوامر السيد المدير. تذكر صديقه الذي غاب، وربما تستر في مكان ما، ممتزجا ً بالغبار، أو تلاشى داخل حبيبات الزمن. ذلك لأنه استعاد تحذيراته من الاقتراب منها، فقد قال له إنها علامة تماثل الفجوة العازلة ما بين الأعالي، وما تحت الأرض، فهي شبيهة بترسانة أسلحة، لكن عملها يحافظ على الشفافية، أسوة بباقي أسلحة الدمار الشامل، الأخرى، فخاف، مبتعدا ً برغبة تلافي إثارة الشكوك، أو حدث الأنظار تجاهه، فانا مازالت كلما تفحصت المحنة، أجد إنني أتمرغ داخلها.  ولكنه لم يقاوم كآبة بددت حاله المرح التي شعر بها قبل وخزات الخوف الأخيرة، فراح ينظر شزرا ً إلى الجانب الخلفي من المحرقة، حيث ترتفع أعمدتها الفولاذية، عاليا ً لتلامس الغيوم، لبرهة، تاركا ً جسده ينخفض بحدود لا تلفت أنظار المراقبين، القابعين في مراصدهم السرية، المموهة، بلون الأشجار، والممتدة مع امتداد سور الحديقة: وهو سور ـ خاطب صديقه ـ يماثل سور الصين العظيم، يعزل الحديقة عن العالم، ويعزل العالم عنها.
    إنما استنشق رائحة حادة، كانت رائحة رماد، لكنه قال إنها ليست خالصة، بل مازالت مشبعة بأنفاس مليارات مليارات المليارات  من الحيوات، والأنفس، والأرواح، بحسب التصنيف المتداول لسكان الحديقة. لكن كلانا لديه تصوّر يجعل اختلاف تصوراتنا أكثر إثارة للجدل.
ـ هل اختلفنا حقا ً...؟
   لم يجب، لأنه انشغل بمشاهدة سلسلة من التلال الرمادية متلاصقة كانت تمتد إلى ما لانهاية، تتخللها، شواخص وعلامات قاومت التعرية، تنتمي إلى عصر ما قبل عصر المحرقة، بل ـ وخاطب صديقة بصوت مرتجف ـ إلى ما قبل ظهور الدواب في البراري، أو في المستنقعات، تلال ذات رؤوس حادة، وأخرى مدببة، وثالثة تحولت إلى هضاب، فيما كانت المدافن الأخرى تبدو مثل حصى منثور بغير نظام.
ـ أنت لذت كي تتحرر من هذا الكابوس...؟
   مسترجعا ً صوت صديقه بلحن غزل بدوامات راحت تتداخل أمام ناظريه:
ـ لا اعرف من حفزني للبحث عن فضاء لا يكبلني بالحفر والأنفاق والشقوق...
    بدا له المشهد كلوحة خرافية زاخرة بالظلال والصمت، تمتد أمامه من غير حيطان، أو حجابات،  ولكنها كانت تبدو له مثل مدينة لم يمحها الزمن، بل عمرها، وصنع منها بساطا ً مزخرفا ً بالدغل، والحجارة، وببقايا جدران متآكلة.....
ـ لا تذهب بعيدا ً!
سمع صوت صديقه يأتيه من القريب:
ـ أصبحت لا اعرف من هو الذي يقاوم غيابه، هل هو أنت أم أنا....، فكلانا يضمر لغز  ما إذا كان يدنو أم يولي فارا ً...؟

  تحسس وخزات لاذعة في صدره، من الداخل، سرعان ما انتقلت إلى جناحيه، ومنها إلى الرأس:
ـ كلانا رحل قبل حضوره، مات قبل أن يكفن بقماط طفولته، وقبل أن يرى حتى أن للشمس خفايا ً وملغزات كاتمة للأنفاس....!
    وتجمد، فقد لمح طيف صديقه يهبط من الأعالي...، وشاهد محياه: هالة ضوء، وخطوط متداخلة بنعومة، مترابطة، تحولت إلى بقع حادة سرعان ما توارت... بورتريه غابت عنه الذات من شدة حضورها فيه، وغاب الرسم كي يغدو أثرا ً للتشتت، والانتشار...، ولم يسرع:
ـ بإمكاني البوح ـ بل الاعتراف ـ من غير تمهيدات أو عاطفة رخوة: عندما لذت بالفرار، من حديقتنا، قبل عقود، فانك كنت تبحث عن المعنى....، الذي غاب عنا، فصرنا نتلمس اللا معنى بسنوات دثرناها بالظلام والخوف والموت!
     عاد محياه يتكون عبر أشكال هندسية حلزونية، وعندما نظر إلى الأرض، لم ير سوى مساحة ممتدة ليس لها لون محدد، عدا مسحة من لون الرماد، والغبار، سحقت حتى ابيضت فغدت شبيهة بلون الأثير. وثمة أشكال تتخفى عبر توازنها بين ما تخفيه وما تريد أن تعلنه، أعمدة بدت كأشجار جذوعها خاوية، ومثل رماح موزعة بلا قانون، ومن غير نسبة ونظام للتوازن، فلم يقاوم رغبته بالكلام:
ـ قلت لك....، هنا، أعدت حفرنا لنا قبل أن نولد، ومسحوا أسمائنا قبل أن تدوّن... ، أنت هربت، لأنك عثرت على ثغرة للمغادرة....، فالعالم ـ رغم انه محكوم بالدوران والتداخل والانصهار والتلاشي ـ وجد ليعمر...، ويبنى...!
   هز رأسه، تاركا ً صاحبه في استراحة:
ـ ها أنا أعود استدل  بأثرك في الدرب..
فرد صديقه:
ـ لن تجد أثرا ً يدلك على ... الأثر ..!
ـ ولكنك حصلت على الكثير...؟
ـ حصلت على هذا الذي أراه يغيب، حصلت على ما سأفقده.
    فكر مع نفسه: إبان نزولي إلى العالم الذي لم يعد منه احد، عثرت عليك، فقلت لي: من يرى الشمس مرة فلن يتلطخ بالظلمات...
     كانت الحديقة تمتد بعيدا ً في الأفق، حتى شاهدها بلا حدود، أو نهاية، فدار بخلده، انه كلما ابتعد عن المركز، أحس إنها تضيق، حتى وجد جسده يتراجع:
ـ عندما عثرت عليك، سألتك: إذا كنت تخلصت من المعاقبة، فمن هذا الذي يعاقبنا، بإفراط، من غير شفقة؟
فراح يضحك بصوت مكتوم، ويقول لنفسه:
ـ لو كنت عرفت... لكنت مت!
    مرت ساعات حسبها سنوات، محلقا ً، من غير أن يرى أثرا ً للحديقة:
ـ ماذا قلت ...؟
    لأنه ترك جسده يهبط، فوق تل يشرف على بحر من الرمال. فشاهد ما لا يحصى من الأشكال، ومن اللا أشكال، ذبذبات ملونة، وألوان فاقدة للوضوح، بقع تتسع، وأخرى تتقلص حد التلاشي، أخرى تبتعد، وسواها يوخز بصره:
ـ قلت انك لم ترحل...، وأنا قلت لك يتحتم علينا الذهاب ابعد من الرحيل...، لا يفعلها الرب وكأنها لعبة مهووسين ...، يخلقنا ليخلق الشر ثم يمتحنا ليعفو عنا ....، أنا دخت!
    وشرد نظره بقراءة الأسماء التي رآها فوق عدد من الشواهد:
ـ هؤلاء كانوا يظنون إنهم صنعوا مجدنا....،  بعد أن لم يتركوا لنا سوى الخراب...، والمحو...
ـ انهض.
ـ من...؟
ـ أنا النملة التي رأتك شارد الذهن، تحدث نفسك فظننت انك وجدت ما كنت تبحث عنه!
    عندما آفاق لم يستطع أن يتذكر ـ عند عبوره المسافات ـ ورؤيته لعدد لا يحصى من العلامات، عدا صور متناثرة لأصداء راحت تعيد له التوازن:
ـ أنت هربت من موتك...، وطلبت مني أن اهرب...، أنت نجوت، ولأنك رأيت الدرب  فمشيت، أنا قبعت داخل حدود حفرتي، حفرتي التي أعدت لي قبل أن أرى النور....
قهقهت النملة:
ـ هذه هي المحنة! لن تقدر أن تهرب منها، ولن تقدر أن تتجاهلها.
ـ المحنة...، أو المعضلة، سيدتي ...
وجد الكلمات لا تغادر فمه، فأصغى لها:
ـ المحنة لم تتخل عنك، ولا أنت تركتها.
   هو رأسه وأكد لها إن الأمر لا علاقة له بمغادرة الجحيم، للبحث عن زاوية أو ركن في الفردوس، بل .... المعضلة...
قالت بمرح:
ـ أنا أيضا ً اسأل السؤال نفسه، ولكني وجدت البحث عن إجابة مضيعة للوقت...، فانا لم تعد لدي ّ أسئلة، أما إننا وجدنا هكذا، أو إنهم سلبوها منها، أو إنها لا تعني سوى ....
صاح:
ـ ولا ...أنا...
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت: لِم َ نولد موتى...، أي لم لا نولد، ولماذا نولد كي نمضي حياتنا ترزح تحت النير...، نقضي العمر ننتقل من قفص للدخول في آخر، منشغلين بتلافي العثرات، فلماذا نعاقب عن أفعال لم نخترها.....؟
ـ هذه هي أسئلة صديقك أيضا ً...، فكف عنها، عندما غادر مستنقعنا، أما أنت فاخترت الدوران داخل قفصك، فما نجوت منه بالفرار، ولا مت واسترحت من نفسك!
ـ آ ...، ولا احد يريد أن يصحوا...، لا احد يعمل للعثور على منفذ للخلاص، إن لم اقل إن اللعبة صاغت ديمومتها لأسباب آخر من يفكر بحلها هم نحن لأنها هكذا تماثل الحكاية التي قرأتها في الألواح: الإله يخترع الشيطان، كي تحدث الحكاية، فالشيطان هو الذي يبادر للرهان حول إخلاص أيوب ...، فيتحدى الإله من اخترعه، بمعزل عنا...، هكذا صرت لا أعرف أأنا رحلت أم صديقي اجتاز بوابات الرحيل......؟
ـ صعب...الرد صعب، والإيضاح أكثر صعوبة، إن لم اقل استحالة...، فانا محض نملة، وأنت تعرف النملة لا تولد إلا لتموت نملة! كالعبيد، لا تسمع منهم إلا ضجات فارغة، للأسباب ذاتها التي تبقى كامنة عبر ديمومتها!
    قرب رأسه منها كثيرا ً:
ـ لم اعد امتلك حتى رغبة بالطيران، بعد أن توارى صديقي في البعيد....، ثم ها أنت تشاهدين من يقول لي: صديقك لم يغادر! فانا بت لا افهم لماذا أثير هذا الغبار...، وأنا اعرف انه مازال يسبقني كدليل فوق هذه المدافن...؟ آ ....، لو عرفت كيف أتصالح مع هذه العثرات، وأغلق فمي، كأنني قلت ما كان يجعل قلبي يعمل بسلاسة! أم إن اللعبة ذاتها تجرجرنا حتى بعد انكشاف بهتانها، أم إنها لا تكمن إلا في هذا البهتان...؟ أنا صدمت برحيله، وها أنا لا امتلك إلا أن انفي النبأ، كي اصدق إنني أنا من أضل الدرب، وأنا هو من غادر...!
   ضحكت النملة بصوت شفاف:
ـ ومن أين يعبر الضوء، وكيف يجري الزمن من غير مسامات هي ذاتها عليها أن لا ترتد، وان لا تتقدم أسرع من تنفيذ واجبها!
ـ عبر الظلمات....، لكن ما  معنى هذا الضوء...، هذا القليل منه.....؟
ـ كان عليك أن ترحل، فالضوء وحده يمتلك لغز زواله...!
ـ أنا رحلت.
ـ أنت غطست، وصديقك راح يراقب ....، ثم أدرك أن الضوء سمح له ليرى كم الظلمات بلا حافات.
ـ آ ...، الآن اجهل من غادر...، ومن سيغادر...، ومن ذا يفك لنا باب المغادرة، ويدعنا ندنو منها..؟
وأضاف بصوت متلعثم:
ـ كأن هذا الانشغال لا يعمل إلا عمل العقار المميت، فلا شفاء من مرض هو وحده يذهب ابعد منا، إن لم نكن نحن هو هذا المرض....؟
ـ بالضبط.
ـ إذا ًانا هو من ارتكب الاثم الذي تجنبت ارتكابه...،  وصديقي الذي ظننت انه كان دليلي...، تركني....،  فماذا اتتبع خطاه في الغياب؟
ـ صديقك الذي لم تره...، يقف بجوارك!
    بحث...، حلق، وهبط، مسرعا ً دخل إلى عشه وخرج منه، وألقى نظرة إلى الحظائر، والزرائب، والحفر، وباقي الأجنحة....، تسمر عند المحرقة، ليشاهد، خلفها، تلال الرمال تمتد، متلاصقة، ثم تبدأ مساحات تشغلها الرمال، وبجوارها تقع المستنقعات، والبرك، يشقها مجرى النهر، يتلوى، محاطا ً بحقول القصب، والنخيل، والبردي، ليظهر إقليم البعوض، بجوار إمبراطورية البرغوث، وفي الأعلى، شاهد آلاف الغربان تتجمع، لصق النسور، والبلابل، وخلفها امتدت بحار الغبار التي خلفها الطوفان الأعظم، وبمحاذاتها، قبور الأزمنة التي لم تترك إلا معابد متآكلة ومهدمة محا أثرها الزمن، وبعثرت علاماتها الريح، والعواصف....
ـ لا أرى أحدا ً!
ـ لأنك، أيها العجوز، ولدت أعمى!
ـ ولكنني تتبعت خطا صديقي وهو يعبر من سواحل العفن إلى هذه الحدائق!
ـ وهو ...، مثلك، ولد لينجو...
ـ ولكني أصبحت وحيدا ً...، فلا أجد أحدا ً اهتدي بخطاه...، ولا أجد أحدا ً يسترد روحي مني، أو يأخذها...؟
ـ تلك ـ هي ـ محنتك...، أمضيت حياتك تأمل من يكسر قيود قفصك ويقول لك: اخرج..، انتظرت بركانا ً أو طوفانا ً أو زلزلا ً يطيح بها ويقول لك: أنت طليق ...، انتظرت من يحررك منها....، ومن يساعدك على النجاة ....، ولكن عندما أمسكت بالمفتاح، قلت: أنا لم يشغلني خلاصي، ولا أمر نفسي، فكل ما علي ً عمله هو أن اعرف لماذا يذهبون  أفوجا ً أفواجا ًعائدين من الباب الذي خرجوا منه...، بعد أن رأيت احدهم يذبح  من بجواره، ويمحو كل منهم اثر الآخر...، فهل التراب هو المفتاح أم هو القفل...؟
   ووجد رأسه يتمايل:
ـ وماذا لو حصلت على الذي سأفقده... وماذا لو حصلت على ما لا وجود له...  ؟
ـ ها، يا صديقي الصقر...، هذا ما دفعهم لوضعك في القفص...، وشددوا الحراسة عليك!
ـ ولكني كدت افلح بالقضاء على نفسي!
ـ هكذا اختلطت عليك التصورات...، فلو عملت مثلما يعملون، ولو صرت مثلهم، لكنت حصلت على قفص أرحب!
ـ عدنا إلى الجحيم الأشد غموضا ً من الفردوس!
ـ تقصد انك ستعود إلى الفردوس المشيد بجوار المحرقة ..؟ لأننا لم نر...، سوى: النور يخرج من الظلمات، والظلمات لا تقوى على إطفاء ضوء شمعة بحجم طائر يرفرف...؟
ـ استعدادا ً للذبح...؟
ـ أو للرقص....!
ـ اخبريني...، وكلانا  ُسمح له بهذا القدر من  الاسترسال....، أين هو صديقي...؟
ـ بجوارك!
ـ لكنني بحثت عنه فلم أجده.
ـ لأنك لم تبحث عنه..!
وأضافت النملة:
ـ وهل وجدت أما ً أنجبت وليدا ً ذهب ابعد من رحمها...؟
ـ أنا هو من لم يذهب ابعد من قفصه...!
ـ لكن الذي تبحث عنه أخذك معه ابعد من الغياب!
   تلمس جسده، تنفس، وضرب ساق الشجرة برأسه، وعاد يحدق في عيني النملة:
ـ من علمك هذه الحكمة...؟
ـ آه ...، أيها الصقر...، كيف غفلت ذلك ..؟
ـ ما هو ..؟
ـ عمرك...! فهو شبيه بالفجوة بين الإله والشيطان، والذي يماثل المسافة بين حضورك وغيابك، فالذي أمسكت به، لم تمسك به، انه هو الذي امسك بك، لكن لا أنت ذهبت ابعد منه، ولا هو تخلى عنك!
رفع رأسه يخاطب صديقه:
ـ أين أنت يا من كنت تحثني على تحطيم القيود....؟
ـ .....
أجابت النملة:
ـ أيها العجوز...، أصغ للذي يذهب ابعد من الصوت...، فالكلمات غبار،  أيها العجوز أبصر للذي يذهب ابعد من الضوء، فالكلمات حبات رمل، والضوء جدار...، أيها العجوز استنشق الهواء فانه آت ٍ من سواحل العفن، وسيعود لها، فالعطر الذي فيه ما هو إلا  الغواية ، أيها العجوز لا تتلمس الحقائق وكأنها وجدت داخل قفصها، فهي لن تدعك تنتظر أكثر من عبورها ابعد من السمع والبصر وباقي الحواس، لأن الحكمة وإن ولدت من هذه العناصر، لكنها إن لم تغادر قفصها فإنها لن تدعك تمسك بالمفتاح، ولن تدعك ترى القفل!
تأملها عن بعد مستنشقا ً رائحة غياب الزمن:
ـ بدأت أرى صديقي، أيتها العزيزة...، فها أنا أغيب بحضوره!
ـ ها أنت بدأت تتعلم كيف تضع قدمك في الدرب..، وتختبر معرفتك، فإذا كنت ذهبت ابعد من مسافات العبور، في دروب هذه الحديقة ومخابئها، حفرها ودهاليزها، سراديبها وزرائبها، أنفاقها  وعثراتها، حظائرها وشقوقها، مدافنها ومتاحفها، جداولها ومستنقعاتها، فما كان عليك أن تفعله، هو: أن من لم ير نفسه، لن يراه احد، حتى لو نال مجد السماء، بعد مجد الأرض، فمن يرى نفسه يكون أفناها، وأزالها، وأذلها ومحاها، قبل أن تأخذه الريح معها إلى المجهول..!
ـ آ ...، أيتها الحكيمة، أنا لم أكن اجهل هذه الموعظة...، لكن من ذا كان يقدر أن يتصرف وكأنه رأى الدرب...، وخطانا لم تسمح لنا إلا أن تؤكد أن الأعمى لا يمشي إلا خلف آخر يقهر الظلمات ، بعد أن فقدنا البصر، وسلبت منا البصيرة، فانا لو كنت غادرت، فانا سأحمل مصيري معي، أينما حللت، وإن مكثت ـ كما فعلت ـ فمصيري كنت رأيته حتى قبل أن أتعلم الطيران.....! وها أنت ِ تشاهدين إن الذهاب ابعد من حافات الدرب، شبيه بمن فقد الدرب تماما ً، مع أن هذا محض وهم لم يترك للفجوات إلا أن تكمل بعضها البعض الآخر، مثل الحقائق، لو كانت صحيحة، لكانت سدت أغلقت الدرب، أو لم تترك له حتى هذا الأثر الذي رحنا ندب بفضل عثراته، وبما يجعلنا أكثر قدرة على تحمل أوزاره، حتى لو كانت بحجم هذه المحنة، وبعمق هذا الفراغ...
   ووجد جسده النحيل يرتفع قليلا ً، قليلا ً، في الفضاء، مبتعدا ً عن الأرض، أعلى فاعلي، حتى اصطدم جسده بالسقف، فأحس بألم القضبان توخز جناحيه، فلم يكترث لها....، لأنه وجد المسافة تمتد...، فترك بصره يدله على الدرب...، رغم انه عندما أحصى الحواجز، لم يستطع أن يضع لها عددا ً...، ولكنه وجدها تتهاوى، كما تهاوت قدام صديقه إبان الفرار، من غير الم، ليجد مصيره في مركز الهاوية.
Az4445363@gmail.com
30/6/2015


غالب المسعودي - وليمةألحيتان(قصة سُريالية)