الجمعة، 8 مايو 2015

تاريخ التفكير الديني والاجتماعي في الإسلام الأول-بقلم إبراهيم الحيدري



المستشرق الألماني يوسف فان إس:
تاريخ التفكير الديني والاجتماعي في الإسلام الأول



بقلم إبراهيم الحيدري





فتح فان اس طريقا جديدا امام الباحثين للتحري العلمي عن قضايا ما زالت لم تطرح وتمارس وتنفذ


في موسوعته العلمية الشاملة "علم الكلام والمجتمع" يبحث شيخ المستشرقين الالمان فان إس في تاريخ التفكير الديني والاجتماعي والسياسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة ويطرح مجموعة من المفاهيم والمواضيع والاطروحات المثيرة للجدل حول العلاقة الجدلية بين اللاهوت والمجتمع. مراجعة إبراهيم الحيدري

ارتبط علم الكلام (Theologie) منذ نشأته الاولى بمشاكل المجتمع المتعدد الثقافات. فبالرغم من انه يبحث في ذات الله، إلا انه لم يكن مجرد تأمل تجريدي لعلماء الكلام يقف بمنأى عن كل ما يحدث في المجتمع من صراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ذلك ان علماء الكلام هم افراد في المجتمع يتأثرون ويؤثرون فيه ويكتسبون مكانتهم وهيبتهم الدينية من خلال تلك الصراعات، بالرغم من انهم يزعمون انهم يقفون فوق المجتمع بفضل علومهم القدسية.

ان تقديم عرض موجز لهذه الموسوعة العلمية الشاملة التي صدرت في ستة اجزاء ضخمة في تساؤلاتها العديدة ومفارقاتها الفائقة الدقة وكذلك في منهجيتها الابستمولوجية والانثرو-سوسيولوجية، امر ليس بهين، محاولين، قدر الإمكان، التعرض لأهم المواضيع والقضايا التي تناولها بالبحث والتقصي والنقد.

تاريخ العلاقة بين الإنسان والله

يتضمن الجزء الاول من الكتاب اسس العقيدة الدينية واركان الاسلام الاساسية وانتصاراته وتشكيل الوعي الاسلامي والهوية ورموزها. ويتضمن الجزء الثاني انتشار الاسلام في العراق ومصر والشام. اما الجزء الثالث فيبحث في وحدة الفكر الاسلامي وازدهار علم الكلام.

ويعالج الجزء الرابع تطور الفكر العقلاني –التنويري لدى المعتزلة، وازمة المعتزلة ونهاية المنهج الجدلي. كما يتضمن الجزء الخامس على نصوص من فكر المعتزلة والشيعة والمتصوفة. اما الجزء السادس فيبحث في تلامذة النظام والعلاف واشكالية خلق القرآن.

ان تشكيل الوعي الاجتماعي والهوية الدينية بمختلف رموزها، وبخاصة العلاقة بين الانسان والله وبين الفرد والجماعة وبين العقيدة والمسؤولية وكذلك تشكيل صورة الرسول من خلال القرآن والسنة، لم تحدث مرة واحدة، وانما تطورت مع الاحداث التي رافقت انتشار الاسلام في الامصار المختلفة.

وقد ارتبطت هذه التطورات بوحدة الامة ووحدة الفكر الاسلامي واثرت بدورها على تطور علم الكلام وازدهاره في البصرة ثم في بغداد، مثلما اثرت على تطور المعارف والعلوم، وانتجت انثروبولوجيا اسلامية كما عند ابن هذيل العلاف.

الفكر المعتزلي أول حركة عقلانية في الاسلام

لقد مثل الاعتزال حركة تنويرية طرحت افكارا بالغة الاهمية في تحديد العلاقة بين الله والانسان والنظرة المتطورة الى طبائع الاشياء، حيث نظر المعتزلة الى الانسان بوصفه كائنا حرا ومسؤولا عن افعاله، والى الكون باعتباره وحدة متناسقة من العلاقات والقوانين التي تربط بين اجزائها، وهو ما يمثل جوهر الاعتزال.

والحقيقة، فان ثمة اهمية فائقة للعصور الاسلامية الاولى التي مثلت مجتمعا في بداية تكونه ووحدته وبداية انفتاحه على الآخر، الذي استطاع تأسيس حركة فلسفية قدمت خدمات جليلة لمعنى الوجود وولدت فكرا متنوع الموضوعات لم يرتبط بالبديهيات ولم يستطع الفكر الذي تلاه ان يرتقي اليه ابدا.

ويعود ذلك الى استعداد المجتمع الاسلامي الاول نفسه الى ان يستمع الى ما يقوله علماء الكلام وان يتقبله برحابة صدر وان يجعله محورا ليس لتشكيل الحياة الاجتماعية اليومية فحسب بل وربطه بما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي، بحيث امتد علم الكلام من ديوان الخليفة الى العامة من الناس وشمل مواضيع متعددة ومختلفة، من الاجور والعمل حتى العائلة والجنس.

وكما يقول فان إس، يمكن فهم" اللاهوت" بمعنى الكلام عن امور دينية ودنيوية. وبمعنى آخر عن الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من اختلاف وتناقض. وبالرغم من ان كلا من اللاهوت والمجتمع ما زالا يبحثان، في تلك المرحلة، عن هويتهما وخصوصيتهما، فان الاسلام "الاول" من منظور متأخر لم يتغير كثيرا.

دور المثقفين

من هذه الرؤية السوسيولوجية انطلق فان إس في اطروحاته المختلفة لدراسة الاسلام ومراكزه الدينية وتطور العقيدة والفرق والمدارس الفقهية في جميع الامصار الاسلامية التي اعتبرها دوائر حضارية تتداخل بعضها مع البعض الاخر وتتمحور في مراكز حضارية.

بغداد، مثلا استقطبت العلماء والادباء والشعراء من جميع المراكز الحضارية الاخرى لاجراء المناظرات الفكرية التي تحولت الى تقليد ثقافي قام على التسامح والحوار، والتي ساعد على تنشيط الحركة الثقافية والعلمية وفجر اشكاليات تأويلية نقدية فيما يخص حقيقة التراث وقادت الى قيام المدارس والجامعات – كدار الحكمة والمستنصرية وغيرها.

كما بحث فان إس في دور المثقفين في نشأة علم الكلام منذ الخلافة الاموية حتى نهاية القرن الثالث للهجرة حيث دخل الاعتزال آخر مراحله المدرسية، لتبدأ مرحلة هامة اخرى في تاريخ علم الكلام وهوعلم الحديث، وما دعي بـ "البحوث".

غير ان فان إس يشير الى ان جميع ما يرتبط بالقرن الاول للهجرة من احاديث كان يدخلها الشك لاختلاف الاراء حولها، ولذلك يكون من الصعب اصدار حكم، واذا صدر اي حكم فهو غير دقيق. ولذلك كان من اهدافه تحقيق ما ارتبط منها بالكتابات الاولى التي تقع بين علم الكلام والحديث، خصوصا اذا عرفنا بان جمع الحديث جاء بشروح شحيحة جدا، وهو ما يدفع المرء الى ان يكون شديد الحذر ونقديا.

استخدام السيرة الذاتية

ومن الناحية المنهجية، لا يتجه فان إس الى التساؤل عن الاشياء ذاتها، بقدر ما يتجه نحو "السيرة الجماعية " للفاعلين الاجتماعيين. كما يستخدم "السيرة الذاتية" ايضا لمعرفة دور واهمية الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية التي قامت منذ بداية تكوين الفرق الاسلامية.

هذه المنهجية الابستمولوجية من الممكن مقارنتها بمنهج البحث الاكاديمي الذي بات يطبق في الدراسات الاسلامية الحديثة في الجامعات الالمانية، الذي يستخدم المنهج الانثرو- سوسيولوجي.

هذه بعض القضايا التي يطرحها فان إس للبحث، التي اعطاها ابعادا اجتماعية استثنائية بفضل ثقلها السوسيولوجي، ومحاولاته لتفكيك اشكال "التقليدية" التي خلعت عليها اسدال التقديس زورا وبهتانا، والتي تشكل احدى اهم المهام الملحة في الدراسات الاسلامية الحديثة.

وكما يقول محمد أركون، لقد فتح فان اس طريقا جديدا امام الباحثين للتحري العلمي عن قضايا ما زالت لم تطرح وتمارس وتنفذ، رغم ان المسلمين مازالوا يعيشونها ويعبرون عنها في حياتهم اليومية بنحو او آخر.

ان هذه الموسوعة الجادة تكشف عن قضايا فكرية وفلسفية ذات دلالات دينية واجتماعية وتضع امام المهتمين بالفكر العربي – الاسلامي نموذجا رصينا في البحث العلمي الذي نحن بامس الحاجة اليه.

Josef van Ess: Theologie und Gesellschaft im 2. und 3. Jahrhundert Hidschra، Band 1-6، Berlin New York، 1991-1997.




الاثنين، 4 مايو 2015

قصة قصيرة-ها أنا عدت إليكم!عادل كامل-مجسمات عادل كامل







قصة قصيرة

 
ها أنا عدت إليكم!


عادل كامل
ـ ها أنا عدت إليكم!
    عم الفزع وجوه الجميع باستثناء الأم التي استقبلت ابنتها الغائبة بشرود، لكن بترحيب:
ـ كنت اعرف انك ِ لم تغادرينا، رغم إنهم اختطفوك، وتسلوا بك، ثم افترسوك، ورموا الباقي إلى المزبلة!
     اقتربت الأتان من أمها:
ـ كنت اعرف مشاعركم، صدقها، وحزنكم علي ّ....، ولكن ها أنا عدت...، لزيارتكم، أخيرا ً.

   صاح احدهم:
ـ أين أنت...، لأنني لا أرى إلا ذيلك وحده يتحرك...؟
وأضاف آخر:
ـ لا ...، أنا لا أرى إلا ساقها...
وقال ثالث:
ـ لم يبقوا منك إلا الجلد....، أين هو الجلد..؟
فقالت الأم بأسى مكتوم:
ـ صبرا ً يا أولاد...، المهم إن روحها عادت، وإنها لم تقهر!
ـ نعم...، صحيح إنهم اختطفوني، ودنسوا شرفي، ثم افترسوني....، لكنهم لم يقدروا على قهري أبدا ً.
    ضحك الجد، بعد أن حك رأسه بالجدار:
ـ كأنها لعبة أرواح...، يا حفيدتي...، المهم إننا أقمنا دعوى ضدهم!
ـ جيد.
ـ ومع إننا خسرناها، إلا إننا أقمنا دعوى أخرى وبعثنا بها إلى باقي زرائب الحديقة، بل وسربناها إلى الخارج أيضا ً، تضمنت إن ابنتنا اختطفت، وتم اغتصابها، ومن ثم تم افتراسها.
    لم تجب الأتان، فقالت الأم لها:
ـ كان ظلك يزورنا يوميا ً، وروحك ترفرف مثل هواء الفجر.
   وقال آخر:
ـ وكنا نراك تجلسين عند باب الزريبة، تراقبين الخيول، في حظيرتهم.
   فقال الجد بصوت متعب:
ـ آلاف المرات حذرتك من ذلك...
    قالت الأم:
ـ لا معنى لهذا العتاب ...، فانا نفسي كدت أقع في الغواية، وتقهرني الرغبة...، الم تخبرنا إن من لم يرتكب الخطيئة كأنه لم يولد، وانه لن يحصل على الغفران...، وإلا ما معنى لو خلقنا بلا ذنوب، ومن غير هفوات، وبدون آثام؟
ـ أنا لم أصرّح بذلك....، أنا قلت: من لم يقترف الذنب لن يحصل على البراءة، ومن لا يتعثر لا يحق له أن يمتطي صهوة المجد!
قالت الأتان:
ـ جدي...، أنا أخبرت الذئاب بذلك، فقالوا: إننا لا نرتكب الفحشاء، بل نعمل على محوها!
    فسألها الجد:
ـ كانت مكيدة إذا ً ...؟
ـ بل وشاية !
ـ ولكن ما التهمة التي وجهت لك ِ يا عزيزتي...؟
ـ المساهمة بالانقلاب على الشفافية، والتستر على زوجي الميت!
ـ تهمتان قاسيتان...، مع إنني أعرفك، يا حفيدتي، عاملة نشطة في الدفاع عن حقوق الحمير!
ـ أخبرتهم بذلك، ولكن من غير جدوى...، فقد استندوا إلى معلومات مزيفة، مموهة، وخادعة...، فقد اتهموني بأنني طالما كنت احلم بالعودة إلى قرانا القديمة التي سلبت منا...، فقلت لهم: لم تعد هناك قرى، كما لم نعد نحلم بالعودة لها، ثم إننا سعداء بالعيش في هذه الزريبة، وداخل هذه الأقفاص..
     قالت الأم:
ـ يا له من عمر نكد...، فلم نسلم من الأذى في البرية، ولم نسلم منه في هذه الحديقة...، فلماذا يرغموننا بالارتداد إلى مستنقعات الماضي...؟
   صفقوا. قالت الأتان:
ـ والآن دعوني أعود...
صاحت الأم:
ـ لم تمكثي إلا قليلا ً...، ثم إلى أين سترجعين؟
ـ  إلى الفراغ الأعظم الذي لا ذئاب ولا خنازير ولا عقارب ولا أنذال فيه!
قال الجد:
ـ صحيح، أسألك، ما الذي جاء بك، وما هي أسباب هذه الزيارة...؟
ـ جئت أتفقدكم، واطلع على أحوالكم...
ـ آ ....، يا عزيزتي، كم أنت بنت وديعة...، ومع ذلك السفلة أقاموا دعوى ضدك بالانقلاب على البراءة؟
ـ لا ...
وأضافت محتجة:
ـ هذا مجحف...، فما هو ذنب الشفافية، والبراءة...؟
ـ ذنب من ...؟
ـ ذنب لا احد!
ـ لم افهم؟
ـ عندما تم اختطافي، والاعتداء علي ّ، وافتراسي أخيرا ً...، سألتهم السؤال ذاته. فضحكوا... فقلت لهم: يحدث هذا كله وانتم تضحكون؟ فقال كبيرهم: ماذا نفعل...، أنبكي...، أم ندع الكلاب تفترسنا؟
صاح الجد:
ـ الآن فهمت...، حتى لو لم يحدث ذلك فسنموت في الإسطبل، كما تموت البلابل في أقفاصها، والأسماك في جداولها، والقرود في أجنحتها..
   قالت الأتان:
ـ لكن، يا جدي، جاء كبير الذئاب ليعتذر...
صرخت الأم:
ـ أيتها المجنونة...، جئت بالعدو إلى عقر دارنا، إلى إسطبلنا؟
ـ لا ..، أنا لم آت به، ولماذا افعل ذلك، أنا جئتكم بطيفه!
فسألها جدها:
ـ أنت لم تأت ِ بكبير الذئاب...، بل جئت بقطيع كبير من الذئاب...؟
ـ أنا لم افعل ذلك...، وأنت تعرف...، فانا لست سوى حزمة من الفراغات!
ـ وهل اختطفوك بوصفك فراغا ً؟
ـ لا.
ـ وهل اغتصبوا بوصفك شبحا ً..؟
ـ لا.
ـ وهل افترسوك بوصفك طيفا ً..؟
ـ لا ...، لا يا جدي، لكنها هي الحقيقة..
ـ ما ـ هي ـ هذه الحقيقة...؟
ـ إننا اعتدينا عليهم!
ـ ماذا تقولين؟
ـ هم يقولون...، وماداموا هم الحقيقة، فهم على صواب! ولكن أرجوك، قبل أن تقاطعني أصغ إلي ّ: هل كانت الذئاب وحدها هي التي قامت بأعمال تلك الليلة...، أم كانت هناك الثيران، والجاموس، والنمور، والجمال، والأرانب، والخيول، ومعها الضباع، وبنات أوى، والثعالب، والجرذان...والتماسيح، والحيتان..؟
صاحت الأم:
ـ حتى الأرانب...؟
ـ أماه...، بعد أن أصبحت وحيدة في العراء، رأيت العجائب، رأيت السيد صغير الفئران، ذاك التافه، الذي كان يمضي الوقت يبحث عن قشة، في زريبتنا، يقود الدببة، والتماسيح، والنمور، وكانت الفيلة تؤدي التحية له، فقد أصبح زعيما ً!
ـ صغير الفئران؟
ـ لا ...، ليس صغيرها، تماما ً، بل أشدها خسة...، ونذالة، وقد صار باسلا ً، ومغوارا ً، وبطلا ً!
     تراجع الجد إلى قاع السقيفة، ومعه باقي الحمير، ومكثت الأم حائرة لا تعرف ماذا تعمل. قالت ابنتها:
ـ في الواقع...، لا معنى للفزع...، ولا معنى للخوف...
ـ ابنتي...، أنت ِ جئت بجيش جرار لمحونا من الوجود، فلا إسطبلات ولا حديقة بعد هذا اليوم؟
ضحكت الأتان:
ـ أي إسطبل هذا الذي تتحدثين عنه...؟
ـ الإسطبل الذي ولدتك فيه....، نشأتي، وتعلمتي، وكبرتي...، قبل اختطافك منا..
ـ للمرة الألف اكرر القول: إن ذلك لم يحدث..!
ـ ماذا حدث إذا ً....، يا طفلتي الشبح..؟
ـ أنا لم اعد شبحا ً، بل طيفا ً، وبعد قليل سأعود إلى ما كنت عليه...، ولكن خوفكم هذا لا مبرر له.
     نهق احدهم:
ـ سيفترسوننا جميعا ً!
     هدأته الأتان بصوت مرح:
ـ يا حمار...، لقد جاءوا لتحريركم من الإسطبلات!
     فسألها جدها بصوت مذعور:
ـ هل سيعيدوننا إلى البرية...، والى البساتين...؟
ـ لا...، سيتم بناء إسطبلات حديثة، شفافة، لا أسوار لها....، بعد تبديد ذعركم!
ـ ابنتي...، هل أنت لسان حالهم؟
ـ لا ! أنا قائدتهم!
ـ غريب...، ابنتي أصبحت زعيمة! وغدا ً سيشيدون لها نصبا ً في اكبر ساحات الحديقة...، فما علينا إلا أن نصفق لك، ونتغنى باسمك، ونهتف لمجدك!
   لم يصفق احد، ليمتد الصمت. فقال الجد بصوت غير مسموع:
ـ آن للحديقة أن تزول...، وهذه واحدة من علامات زوالها.
صاحت الأتان:
ـ أرجوك، يا جدي العظيم، تكلم بشجاعة، فأنت لا تمتلك شيئا ً تخسره، فلماذا لا تدع المستقبل يستبدل جلده...؟
ـ أنا لا أخاف أن يفترسوني، بل اشعر بالقرف أن تركوا جثماني يتعفن في العراء..؟
ـ ها ..، قبل الموت أم بعده...؟
ـ ليس قبل الموت...، ولا بعده...، فانا لم أمت كي أولد، ولم أولد كي أموت!
ـ وأنا مثلك!
     تقدم كبير الذئاب ممهدا ً الدرب للفار بالتقدم. فقال الأخير:
ـ آن لنا قول الحقيقة....
    لاذت الأم بالفرار...، وتكدسوا جميعا ً في نهاية السقيفة، في قاع الإسطبل. قال الفأر:
ـ فهي ليست كباقي الحقائق...، تولد ميتة...، بل تولد لتقاوم موتها...، والآن...
     ونظر الفأر إلى كبير الذئاب، وخاطبه:
ـ أفترسهم!
   قال الحصان الأسود:
ـ وماذا نفعل نحن...، نرجوك...، اجل الوليمة إلى اليوم التالي!
   قال القائد:
ـ كلوه.
    اختفى الحصان الأسود، فقال الذئب:
ـ تم التنفيذ، سيدي.
   قال الفأر:
ـ والباقي بحكم الأسرى...، فانا طالما حلمت أن أراهم يدفعون الثمن؟
     صفق الضبع. فخاطبه الفأر بصوت حاد:
ـ اخرس! فانا لم اطلب مشورتك..!
   متابعا ً وهو يحدق في الإسطبل:
ـ نظفوه! طهروه، أمحوه ولا تتركوا له أثرا ً..!
فرد الذئب:
ـ نعم سيدي...، لكن ماذا نفعل بالأسرى ...؟
ـ آ ...، دعوهم يبحثون عن ملاذ فلا يجدوه إلى ابد الآبدين، هكذا جدي قال في قديم الزمن.
   صاح طيف الحصان الأسود:
ـ ومصيرنا نحن...، سيدي؟
ـ أغلق فمك...، فالأسيرات بعدد رمال الصحراء...، فخذ ما تشاء منهن، فهن متاع لكم حتى آخر الزمن.
ـ سيدي...، لكننا كنا نحلم بحفلة؟
ـ حفلتكم تأتي بعد انتزاع المعلومات..
قال الذئب:
ـ سيدي الفأر الخالد...، لسنا بحاجة إلى اعترافاتهم...، فالمعلومات لدينا كاملة، حتى قبل شروعهم بالممارسة!
ـ يا حمار! ألم تفهم إن المطلوب هو تركهم يتمرغون بعار الهزيمة، حتى قبل دخول الحرب!
   فسأله تمساح كان يقف بجوار كبير الخنازير:
ـ وما هو دورنا، سيدي؟
ـ أنت عد إلى ... مستنقعك...، فمهمتك ستبدأ بعد ... إقامة حفلة العرس الكبرى.
      صهل حصان هبط من الأعلى:
ـ حذار...، حذار...، سيدي قبل التأكد من سلامة فروجهن، وأدبارهم، وخلوها من الأمراض الفتاكة! فالشر كل الشر في ما تخفيه الفتحات، والثقوب!
    هز الفأر رأسه:
ـ هذه هي مهمة جهاز حماية الأجهزة الناعمة.
  مسترسلا ً:
ـ ثم ...، بعد الليلة الحمراء، أقيموا الوليمة!
اقترب شبح الأتان من الفأر:
ـ سيدي، لكنكم وعدتموني بإطلاق سراح أهلي...، شرط ان أضحي بحياتي، وأنا فعلت ذلك..؟
ـ يا حمارة...،  ومن اخلف في الوعد؟
ـ ممتاز!
     فصاحت الأتان تخاطب أمها وجدها وباقي أفراد العشيرة:
ـ ابشروا ...، ابشروا ...، الفأر لا ينكث عهدا ً، ولا يخلف وعدا ً...
   قال الفأر بكبرياء:
ـ كفى تملقا ً، ولغطا ً، ودعاية!
وخاطب كبير الذئاب:
ـ باشروا...
صاحت الأتان بصوت مذعور:
ـ سيدي...، الكل أبرياء...، ولا احد تعاون مع العدو...، فلا احد تذمر، ولا احد عصى، ولا احد رفس، ولا احد ارتكب حماقات، ونذالات، ودناءات،و ...
ـ اعرف...، وإلا هل كنت سأغفر لهم؟
ـ  كم رحيم قلبك، سيدي، أيها الفأر الكبير!
ـ لا فائدة من التملق، والمدائح، فأنت لم يعد لديك دور، لا معنا، ولا معهم!
ـ آ .......، ستعتقني؟
ـ يا حمارة، من غير الشفافية، لا يستتب العدل، ولا تأخذ النزاهة مجراها، ولا يسود الوفاق!
ـ ولكن اخبرني ماذا سيحصل لنا بعد الليلة الحمراء...؟
    ضحك الفأر:
ـ أنت تعرفين...، وهم سيعرفون...، فما فائدة الكلام، الم يقل زعيمنا لا تولد الكلمات إلا كي تكنسها الريح! وكل الحكايات تحكي كي لا يسمعها احد...!
صرخ الجد بتضرع:
ـ سيدي، فانا في أرذل العمر، أعمى، وكسيح، ومصاب بالخرف، وأمراض السراديب،  كما تراني....، فأمر جندك البواسل بافتراسي....، أم لا مناص من فعل المنكر؟
ـ المنكر...؟
  وسأله الفأر بغضب:
ـ وهل في حديقتنا هناك من يرتكب المنكر...، يا كبير قادة الحمير...؟
ـ لا.. لا...، ولكنك لا تستطيع أن تعرف ماذا تفعل الضباع، والكلاب، والثيران...، ولا تلك التي تحّوم تحت الشمس، فانا  لا أريد أن أتعفن فوق تلال النفايات، والمزابل...
ـ اقسم لك ...، لن يحصل ذلك!
ـ إذا ً ... دعني أرى موتى قبل بدء الحفلة! فانا سأكون ممتنا ً لسيادتكم لو أمرتم بذلك.
    أمر الفأر الديدان والحشرات والبكتريا بالاستعداد. فصرخ الجد:
ـ ولكن، يا سيدي القائد، لماذا لم تأمر السيد التمساح، بابتلاعي...، بدل أن تشغلك جيشك بعمل منهك...، وبدل أن أتوزع في مقبرة جماعية...؟
   ضحك الذئب:
ـ الحمار يحلم بإقامة شاخص له! وربما يحلم أن نشيد له صنما ً...؟
   رد الفأر:
ـ لا ...، لو كان يحلم، لكف عن الأحلام!
ـ ربما يفكر...؟
ـ ولو كان فكر لحظة واحدة، لعرف كيف يكف عن التفكير...؟
اقتربت الأتان من الفأر:
ـ سيدي، اخبرني، قبل أن أتلاشى وأزول: ما المجد الذي تحصل عليه...، وأنت تدمر عشيرة الحمير...، بعد أن جمعت المفترسات، والكواسر، والحشرات، والديدان، وكل صاحب ناب، ومخلب، وفكوك عنيدة ...، ما الذي تكسبه، بعد أن نكون بخبر كان...، فمن يصفق، ويهتف، لمجدك...؟
ـ يا حمقاء، ها أنت تكررين السؤال ذاته الذي سبق افتراسك، مرة ثانية، بلا مراعاة للأصول، ولا للشفافية، فماذا قلت لك...؟
ـ آ ...، لا أتذكر، سيدي، آسفة، لا أتذكر!
ـ ها، ها، وتطالبيني بالتذكر...؟
ـ آسفة...، مرة أخرى، لكنني أسألك الآن:  هل تزهوا وتفرح وتفتخر لأنك انتصرت علينا، نحن عشائر الحمير والأرانب والضفادع...؟
ـ لا! أنا لا افتخر بأعمالي...، لكن يمكنك توجيه السؤال إلى عبيدي...؟
ـ اووووه...، وهل باستطاعتي أن اسأل الذئب...، أم أسأل التمساح، أم أسأل وحيد القرن...، أم اسأل العقارب...؟
ـ إذا ً....، قصدك إن أعمالك هي التي تتحدث عنك، مع انك اعرف مني أن ما يأتي مع الريح يذهب معها...، فلا زرائب، ولا جحور، ولا حظائر، ولا حدائق.... بعد اليوم!
ـ الروح تتكلم...؟
ـ آسفة، هذا هو ظل زوالي يتكلم..، أما روحي فلا اعرف أين توارت، وتسترت، وغابت...؟
ـ إذا ً...، لنترك ظلي يقول لك: من آذانا طوال الدهر...، من أسكننا الحفر، من شردنا، من أمرضنا، من أخافنا، من أذلنا، من...، ومن ...،ومن جعل منا ولائما ً له....، ومن دعا إلى تمزيق وحدتنا، وهدر دمائنا، وإزالتنا من الوجود...؟
ـ آ ....، أجئت تنتقم، وتثأر، وتروي غليل الدهر منا ...؟
ـ لا ! فانا آخر من يلذ ّ له إنزال العقاب بالمعاقب، وتخريب ما هو مخرب، وإيذاء من لا موضع فيه للإيذاء.....، أو إنزال العلل بمن مات، ونفق، وزال...؟
ـ أسأل من ....، إن لم أسألك، أيها العظيم بين العظماء ..؟
ـ اسألي من أرسلني...؟
ـ لم يرسلك احد!
صاح الذئب:
ـ ماذا تظن هذه الأتان بنفسها...، وقد أمضت الزمن كله لا عمل لها سوى حمل الأوزار، والنفايات، وجر عربات نقل الموتى...؟
صاحت الأتان بالذئب مذعورة:
ـ لا تقل ذلك، أرجوك، فانا لم ارتكب ذنبا ً، وما زل لساني، وما ارتكبت الفحشاء، أو دنت نفسي من الخطيئة...، بل كنت احمل أثقالكم، ثم، كانت نهايتي معروفة: أسيرة هذه الحظيرة بانتظار إرسالي إلى أفواه العاطلين عن العمل!
ـ آسف...
فخاطبها الفأر:
ـ اقتربي، لا تخافي، اقتربي مني...
   اقتربت كثيرا ً حتى غابت:
ـ الذي أرسلك إلي ّ هو الذي أرسلني إليك!
قال الخنزير:
ـ تأخرنا ...، سيدي، فالحمير لم تعد تغرد!!
صرخ الفهد:
ـ سيدي، ولم تعد تتنفس!
فقال الغراب:
ـ لقد نفقت للأسف!
    اقترب الفأر من الجد العجوز:
ـ حتى أنت...؟
      رفع الجد رأسه وقال:
ـ  ها هي روحي تقول لك: الذي أرسلك لتأسرنا، وتغتصبنا، وتفترسنا، هو نفسه الذي سيرسل من سيشتت شملكم، وهو من سيصنع منكم نهارات حمراء، وليال ٍ بلون القير، وهو الذي سيأمر بالأقوى أن يبطش بالأقل قوة، وهو الذي يأمر بالضعيف أن ينكل بالأشد ضعفا ً...، وأنا أدعو السيد الغراب ليروي شهادته بهذا الصدد...؟
    صاح الغراب:
ـ أنا لم أكن طرفا ً لا مع هذا ضد ذاك، ولا مع ذاك ضد هذا...
     قال جد الحمير يخاطب الغراب بغضب:
ـ حقا ًمن تستر على الجريمة....، لا يحق له أن يتنصل عن إثمها!
    از الفأر أزيزا ً مدويا ً:
ـ لا تاسروووووه...،لا تغتصبوووووه....، ولا تفترسوووووه...، بل اتركوه يتعفن!
   وخاطب الديدان:
ـ وانتن يا ديدان الأرض حذار من مس لحمه ألاثم!
وراح يبحث عن الأتان:
ـ أين أنت ِ....، أيتها الجميلة، يا من قضيت ِ حياتك في إسطبلات الخيول، وبيوت الرجال.. ..!
قال الجد:
ـ آ ...، لقد بدأت أراك تتفسخ...، قبلي، وجيفتك بدأت تملأ الريح!
   عوى الذئب:
ـ  أبعدوه...، لا تتركوه يتكلم، فزعيمنا أصبح شارد الذهن، يبحث عن أتان لا وجود لها...!
   فقال الفأر يخاطب نفسه:
ـ كانت الأتان على حق...، وحدها كانت على حق...، ولكن هل كنت أنا على باطل...؟
    قال جد الحمير:
ـ لو كنت على باطل...، فلا حق هناك! ولو لم ترتكب الآثام فمن كان سيعيد لنا براءتنا....، ولو لم تكن تجهل ماذا كنت تفعل فكيف كنا سنهتدي إلى الصواب، ورؤية خارطة الدرب...؟
ـ من أنت...؟
ـ أنا هو صوت الضحايا التي صنعت منك زعيما ً...، وإلا ماذا لو كنا جميعا ً طغاة؟!
   ضحك الفأر:
ـ ستجد أمي مخصيا ً لتحبل به وتلد ضحية لن يدع طاغية يدوم طغيانه إلى ابد الدهر...، وستعود لتحبل أمي العذراء لتلد الآخر الذي لن تدوم حديقته أكثر من زمن هذا الاحتفال!
28/4/2015

أسماء في الذاكرة-حسين القرة غولي

أسماء في الذاكرة
حسين القرة غولي






الأعزاء المعماريين والأصدقاء العراقيين

تحياتي الطيبة

هذا استذكار وتثمين وتقدير للدور الذي لعبة المعماري العراقي الراحل، حسين القرغولي، في التأكيد على أهمية دراسة وتوثيق وتحليل العمارة الإسلامية في العراق، وذلك من خلال محاضراته وبحوثه في الجامعة التكنولوجية في بغداد.  إلا أن المنية وافته سريعا ومبكرا قبل أن يكمل مشواره العلمي مما سبب خسارة وصدمة  لإقرانه في الوسط المعماري والأكاديمي.


د.إحسان فتحي