قصة قصيرة
اللا احد
عادل كامل
وهو بانتظار أن يقذف إلى المحرقة، لم تبد عليه علامات ارتباك، أو خوف، فسأله كبير الحرس:
ـ لماذا لا تروي لنا قصصا ً شفافة، وسعيدة ..، بدل أن ...؟
رفع الديك رأسه، وحدق في عيني الضبع:
ـ ذات مرة، قبل سنوات بعيدة، كتبت قصة سعيدة، بالأحرى تامة السعادة، وكان ذلك قبل الطوفان، فأمروا بسجني، والآن، بعد الطوفان، لم يعد لدي ّ ما يروى، فاخترت الصمت، لكن...، للآسف، بات الصمت خيانة، والحزن نذالة، والشرود تهمة يعاقب عليها الضمير!
ضحك كبير الحراس، وهمس في إذنه:
ـ أنا استطيع أن أساعدك على الفرار....!
تعجب الديك، وشرد ذهنه:
ـ لماذا تفعل هذا، وتجازف بمنصبك، إن لم اقل بحياتك، أيها الضبع؟
ـ لو وعدتني بسرد حكاية ذات نهاية مغايرة، لا تبعث على الأسى، والنكد؟
ـ تقصد أن اروي وكأنني أعيش في حديقة أخرى، وفي زمن آخر؟
ـ نعم.
ـ ولكن هذا الزمن، يا سيدي، هو ابن ذاك، ليس لأن الأب هو الأب، بل لأن الابن هو الابن!
ـ جد حيلة، جد مخرجا ً..، ألستم انتم من يشتغل بالحكمة التي تقول: إن لم تمسك بالذي لا وجود له فدعه هو يمسك بك..؟
ـ آ...، علمني، أيها الشاطر، فانا وهن خيالي، وعقلي تحجر، وأصابعي صارت تعمل عمل الأشواك!
ـ ماذا تقول...، وكيف ترضى أن تتلقى النصح من ضبع، لم يتدرب على هذه الحيل...، ثم هل ترضى أن استبدل وظيفتي بكاتب شحاذ، يمضي عمره، كالكلاب، لا يبحث إلا عن فتات موائد!
ـ لو كنت استطعت أن اختار غير هذه المحنة، لكنت اخترتها، لكن كلما اخترت، وجدت اختياري لا يسمح لي إلا بهذا الاختيار...، حتى قلت لنفسي: أنت فعلت ما عليك، فدعهم يفعلون ما عليهم!
ـ آ ...، فهمت، أنت تريد أن اسرد لك حكاية لذيذة، طرية، فكهة، كي تستمد منها مدخلا ً للخروج من ورطتك؟
ـ كما تحب..؟
ـ هكذا يبدأ الفساد، أليس كذلك، الجلاد يساعد ضحيته؟
ـ أنا لم اطلب منك المساعدة، أنت اقترحتها، وإلا أرسلني إلى النار، فانا أفضلها على الهرب، كي امضي ما تبقى من عمري أعيش كرماد ممتزج بغبار الدروب!
ـ آ...، حسنا ً، تذكرت حكاية قديمة، فقد كان هناك، في الزمن القديم، لا احد...، لا احد تماما ً، أي لا احد معه أبدا ً...، ففكر اللا احد أن يأتي بأحد. فسأل اللا احد الأحد: ماذا نفعل؟ أجابه بوقار: لا تقترب من هذا السر. فقال له: أنا سأحمل السر إذا ً وعلي ّ أن لا أبوح به. قال اللا احد للأحد: لكن لا تعلن انك تخفي سرا ً، أو انك تتستر عليه. فسأل اللا احد الأحد: وما مغزى هذا الذي فعلته، ما الحكمة منه...؟ رد بصوت حاد: الم ْ أخبرك إن لا تقترب منه، لا تلمسه، ولا تحوّم من حوله؟ أجاب: حسنا ً، وماذا افعل إن هو اقترب مني..؟ فضحك ورد: أنا هكذا عملت ولم أبح به، فماذا تريد مني أن افعل، ولا احد يريد أن نفعل شيئا ً...؟
قال الضبع للديك مذعورا ً:
ـ بحق السماء والأرض أنت لا تستحق الموت...؟
ـ أرجوك...، فانا لم اعد احلم إلا به، فلا تفكر بإنقاذي أو إعادتي إلى ما هو أقسى من الموت، رغم إن فقدان الأمل يعد رذيلة، ومعصية، بل كفرا ً..؟
ـ ومن قال لك انأ نويت أن أخلصّت...، أيها المشاغب، بل أنت تستحق ما هو أقسى من الموت؟
ـ أن ترجعني إلى قفصي...؟ أرجوك لا تفعل ذلك...، الم ْ ترتو من عويل الثكالى، وبكاء الأرامل، وانين الأيتام...؟
ـ لا....، أنا أفكر بعقوبة أشنع من الموت، ومن إعادتك إلى القفص؟
ـ ما هي، يا كبير الحرس، ويا أمين أمناء باب جهنم؟
ـ أن تروي لي حكاية لا علاقة لها لا بالشقاء، ولا بالسعادة، رواية خالية من الممرات، والضفاف، والمنعرجات؟
ـ آ .....، عندما هرم، وبلغ اللا احد أرذل العمر، واقتربت أيامه من خاتمتها، بحث عن الأحد، فلم يجده. فقال يخاطب نفسه: لا بد أن هناك حكمة ما جعلته يتستر، ويتوارى، ويغيب، فما شأني بالبحث عن هذا الذي جاء بي...؟
ضحك الضبع وقال له:
ـ كم سأكون سعيدا ً وأنا أراك تشوى، تحترق، ودخان لحمك يصعد إلى الأعالي، ممتزجا ً بالغبار، وبعطر المستنقعات!
ـ أنت ـ سيدي ـ هو اللا احد الذي يسره أن يرانا نولد كي نموت...!
ـ بل أنا ازداد بهجة عندما أراكم تولدون من رماد الموت وغباره...؟
ـ آ ...، هل فهمت، أيها الضبع، لماذا قطعوا رأسي عندما رويت لهم حكاية حزينة...، ولماذا قطعوا رأسي أيضا ً عندما رويت لهم حكاية سعيدة ...؟ لا تجب. أنا أقول لك، لا تضطرب...، لأنهم سيقطعون رأسي عندما أغلق فمي. فالرأس هو سر الحكاية، وأثيرها!
ـ وهل سيقطعون رأسي أنا أيضا ً...؟
ـ لا...، أنت لم تبلغ هذه الدرجة، فلم يحن أوان قطاف رأسك، يا كبير أمناء هذه البوابة؟
وأضاف بمرح حذر:
ـ فبعد أن تكف البحث عن الجثث...، وزج نفسك في ما لا يعنيك..، ستبحث عن الطرائد، كباقي المخلوقات...!
ـ إذا ً فهذا اللا احد الذي اخترعنا، صنعنا، كوّننا، جمعنا، برمجنا، لم يبح لك بالسر..؟
ـ لا، اخبرني أن أعلن إنني اجهله، ولا اعرف شيئا ً عنه!
ـ أنت تعرفه..؟
ـ يا حمار، هو اللا احد اخبرني بأنه ليس من واجبي إلا التستر عليه، وأنت تريد أن أعلنه؟
ـ إذا ً ...، لن أرسلك إلى المحرقة، بل سأنتظر أن أراك تشوى وتموت كي أتمتع باستنشاق دخان جسد وهو يتلاشى في الفضاء!
ـ ضبع!
ـ مع انك شتمتني، ووصفتني بالحمار، إلا إنني أسألك: هل أنا هو من اختار أن يكون ضبعا ً...؟
ـ لا، مثلي، فهل أنا هو من اختار أن يكون ديكا ً...؟ مثل ذلك الأحد الذي أمضى حياته كلها يبحث عن اللا احد، فوجده أخيرا ً!
ـ جيد، جيد جدا ً، بل ممتاز...، أين عثر عليه؟
ـ عند بوابة المحرقة!
ـ آ ...، إنها حكاية غير سارة، وأنا اشترطت عليك العكس...؟
ـ إذا ً جد لي حديقة أخرى..؟
فكر الضبع، وقال بحزن:
ـ أينما تذهب فلن تخرج منها!
ـ إذا ً لماذا طلبت مني أن اروي حكاية سارة، مادمت، في الحالات كلها، سأموت؟
ـ آ ...، عندما تحكي حكاية سعيدة، لن تموت حزنا ً...!
ـ ولو استبدلت الحقائق...، وقلبتها، هل اقدر أن استبدل النهايات؟
هز رأسه:
ـ الآن لا استطيع حتى أن أجد عذرا ً كي ادعك تهرب!
ـ ومن طلب منك أن تفعل ذلك...؟
ـ الزعيم!
ـ ماذا طلب منك القائد؟
ـ أن تروي لنا قصصا ً ناعمة عن فردوسنا، ولو فعلت، فانك ستحصل على وسام الحرية!
ـ آ ...، وسامها، وسامها...، أي لن احصل عليها...؟ آ... ، الحرية، إذا ً....، كم أنت قاسية، ومرة!
صمت الديك فترة غير قصيرة، وقال:
ـ عندما عجز اللا احد من العثور على الأحد، وجد الأخير انه حسنا ً فعل، فلم يعد ثمة سر يبحث عن احد، ولا ثمة احد يبحث عن السر!
ـ أين توارى؟
ـ في هذا الفضاء الشاسع المترامي الأطراف...، داخل اللا متناهي، وبعيدا ً عن الحافات!
ـاذهب واسأله...، فان عثرت على جواب، فانا سأروي لك قصة سعيدة، لا تنتهك فيها حقوق الكلمات!
ـ آ ....، تلك هي المعضلة!
ـ ما هي؟
ـ أنك كلما توغلت فيها تجدها ذهبت ابعد منك!
ـ وهل هذه معضلة؟
ـ ما هي إذا ً...؟
ـ المعضلة إنني سأشوى، واحرق...، إن رويت قصة افتراضية، وهمية، مخترعة، ملفقة، مزورة، أو قصة حقيقية، خالية من التزويق، من التمويه، ومن الغش...، إن بكيت أو توقفت عن البكاء، إن طلبت الرحمة أو طلبت الغفران...، فانا سأذبح، وعظامي سترسل إلى القطط، والى الكلاب الضالة!
ـ ماذا أبقيت لي، وأنا بدأت اشعر بالجوع؟
ـ دعنا نتبادل الأدوار...، لبرهة من الزمن؟
ـ ماذا تقصد؟
ـ أنا سأمثل دور كبير الحراس...، وأنت تمثل دور المتهم، الواقف بانتظار الدخول إلى جهنم؟
ـ كما تشاء!
ـ ارو لي شيئا ً صالحا ً للنشر، لا يعترض عليه الرقيب، ولا تمنعه الرقابة !
ـ نعم...، سأصمت بانتظار أن تخطر ببالك حكاية ما...
ـ آ ....، كان هناك اللا احد السعيد...
ـ صاح الديك:
ـ وجدتها! وجدتها! كيف عرفت؟
ـ من شدة سعادته أدرك انه فقدها!
ـ فشلت أيها الضبع، والآن عليك أن تختار مصيرك بنفسك!
ـ وأنت؟
ـ أنا رويت ما رأيت، وسمعت.
ـ إنها حيلة مكشوفة.
ـ مثل السر الذي لا وجود له تماما ً. فأنت طلبت مني أن اروي الذي لا وجود له، فرويت، فكانت هذه الحكاية!
ـ ولكن اخبرني، أيها الديك، كيف كدت تخدعني وتدعني أطلق سراحك؟
ـ لم أخدعك...، أنا موهت عليك، وهذه هي النهاية، أنت سيرسلونك خلفي، لتحرق، وحكايتنا تكون ذهبت مع الريح.
ـ لا تؤلمني..، ألا يكفي إنني رأيت هذا كله، كي تخبرني باني لن اكسب حتى رماد جسدي؟
ـ لكنك لم تخسر شيئا ً...، لقد استمتعت بوقتك، فانا أمتعتك بحكاية لا معنى لها...، وهذا تحديدا ً هو معناها!
ـ والمحرقة؟
ـ هي الأخرى...، يا كبير الحراس، ستذهب مع الريح!
ـ آ .....، ما اقساك! حتى كلماتك صارت خالية من الرحمة..؟
ـ اسكت...، ألا تخاف أن تدان، لزلة لسانك هذه؟
ـ وماذا فعلت؟
ـ انك استمعت إلى حكاية حزينة...، في هذا اليوم السعيد!
ـ آ ...، الآن عرفت من أنت..؟
ـ ومن أنا...؟
ـ هو هذا اللا احد، الذي...، اخترعني، صنعني، كوّنني؟
ـ وهل أنت احد....، كي أخترعك، أو أستحدثك، أو أحبل بك، وأنجبك...، أم أنت الشاهد الذي لم ير إلا هذا الذي سيصبح عدما ً؟
ـ آ ....، لقد فهمت الآن، أن السعادة وحدها هي هذا الأحد الذي سيبقى يبحث عن اللا احد...، فما أن يجده حتى يفقده، وما أن يفقده حتى يجده، وكأن النهايات ـ مهما اختلفت ـ سابقة على مقدماتها؛ فمن يسمعها لن يفهمها، وإذا فهمها، فإنها لا تعنيه، وإذا كانت تخصه، فانه لا يمتلك شيئا ً يعمله!
2/4/2015