مقروناً بقراءة لديوانه "طائر بلا سماء"
الكائن الذي عزف موسيقاه على ضفاف شط الحلة
أحمد الحلي
مدخل
منذ أن وطأت قدماه النديتان مدينةَ الحلة حتى أحسَّ مثقفوها وأدباؤها
أن ثمةَ عاصفة ثقافيةً أخذتْ نُذرُها تلوح في الأفق تبعثر الأوراق وتُشابك الخيوط ....
تعيد ترتيبَ أبجديةٍ جديدة لثقافةِ المدينة ولا سيّما في ميدان الشعر
وترسم أفقاً معرفياً متّسماً بالحيوية والنضارة منذ أن وطأت قدماه النديتان مدينة الحلة بدوافع الحبِ والشغف ، حتى أحس مثقفوها أن ثمة صباحاتٍ أخرى أكثرَ طلاوةً ونداوة باتت تطرق أبوابَ المدينة ...
منذ أن اكتحل شطُّ الحلة بمرآه
حتى أخذ يسري في مويجاته دفقٌ من الحيوية والعذوبة لم يألفه من قبلُ
كنا نجلسُ سويةً ، نتسامرُ ضمن مساحة مصغرة جداً اعتدنا أن نطلق عليها تسمية وطننا الصغير المحرر بعد أن انتهك طغاة البلاد حدود وطننا الكبير ... ونشرع بإيقاد شمعاتِنا الخاصة لسهراتٍ قد تمتد فتعانق خيوط الفجر ...
كنتُ أحسُّ وأنا اتمشى معه في طرقات المدينة بأن النخيل وسائرَ الشجرِ يوشك أن ينحني ليطبع قُبلة الوفاء على جبينه ....
سعد جاسم ... الذي تعلّمنا وأفدنا منه الكثير ...
شكّل بالنسبة للكثيرين في هذه المدينة الوادعة الشغوفة بالثقافة والشعر والمعرفة أفقاً ونافذة ورئةً نتنفس من خلالها هواءَ الثقافةِ النقي ....
طالما أدمنتْ آذاننا ووجدانُنا أن نستمع منه بصوته الرخيم وإيماءاته المذهلة في جلساتنا الخاصة قصيدتة اللائبة "عصافير ضارة " ...
كنا نصغي ونسمتع ونستزيد ...
اعتدنا ، حين كان يحضر معنا ، أن نعد عدتنا ونتأهب بحذر وترقب ، يهيئ كلٌّ منا نصوصَه الجديدة التي سيتلوها على مسامعه ، كنا نحرص أن ترتقي نصوصُنا إلى مستوى حذقِهِ وذائقته الخلاقة ، كنا نعوّل كثيراً على خبرته وتمرّسِهِ في فنون الكتابة الشعرية ، كان يشذب لنا الجمل ، يشدّ الكلمات يموسق ويدوزن الحرفَ ويمنحه جُرسَه ونبضه ، شأنه في ذلك شأن أيِّ عوّادٍ حاذق ....
................................
عبر رحلته الطويلة والثرية في مجال الكتابة الشعرية ، استطاع الشاعر سعد جاسم أن يكرّس له وجوداً وحضوراً في مشهدية الشعر العراقي الحالي ، آخذين بنظر الاعتبار أن تجربته الكتابية امتازت بالديناميكية والحركية على خلفية اتساع الرقعة الجغرافية التي أتيح له أن يتحرك فوقها ومن خلالها ، مقروناً باتساع الجغرافيا المعرفية التي انطلق منها وعمقها ... إلا أنه ظل وفياً لمشروعه ومنطلقاته الأساسية فيما يتعلق بالمرأة والأمكنة والأصدقاء ....
نسوق هذا الكلام ، ليكون مدخلاً لنا لإلقاء نظرة متأنية على ديوانه الشعري صغير الحجم المعنون ( طائر بلا سماء) ، الذي أصدرته له دار الشؤون الثقافية في العام 2013 ... وكما يتضح فإن العنونة هنا بحد ذاتها تثير إشكالية رؤيوية ، وهي إشكالية تتعلق بالطائر الذي يفتقد السماء ، فيفقد بذلك معنى وجوده ، ولا يخفى أن الطائر هنا هو الشاعر نفسه الذي تختلف سماؤه وفضاءاته عن أية سماء أخرى تظلل الآخرين ، ولدينا أمثلة أخرى موازية أو متناغمة مع هذا الطرح أو متواشجة معه بطريقة ما ، ففي إحد اللقاءات مع الروائي المغربي محمد شكري وصف عمل المبدع بأنه "الطيران بأجنحة مقصوصة" .
يقول الشاعر في مفتتح ديوانه ، معرّفاً قارئه بنفسه ؛
هذا أنا / عراقيٌّ وضوحي/ ودمي فرات ذبائح / وأنا صيحةٌ مؤجلة / دائماً أفكّر بأشياء فادحة ...
بوسعنا أن نلحظ احتدام لغة الشاعر وتوفرها على الزخم الوجداني الذي نراه أكثر وضوحاً بعد ذلك ؛
لماذا الأنوثة تتوهج في حفلات الدم والأوبئة ، ليصل التصعيد الدرامي إلى ذروته ؛ كيف البلاد تستحيل إلى مجرّد راية ؟
وهو تساؤل مشروع وحيوي وضروري يبقى حيّاً وفاعلاً في أذهاننا .
بوسعنا أن نتلمس أن الشاعر ، ومن خلال جميع المحبطات والمثبطات التي تحاصر وطنه وهو المنفي البعيد في صقيعة النائي ، كيف أنه اعتاد أن يجد ملاذه وخلاصه في المرأة / العاشقة والمعشوقة في آنٍ معاً التي يعلّق على جسدها ومفاتنها كل خيباته ورغباته المستحيلة ؛
كيف لي أن لا أشكّ ، وأنا المغيّبُ فيكِ عشقاً وخسائر ، ومضيءٌ كما صلصال صيرورتك وسواقي دموعك النافرة ...
ونقرأ في هذا الإطار ؛ هكذا أراكِ أنا / واقفةً بنداكِ وعطوركِ وصهيلكِ ، تبتكرين ربيعاتٍ لأجلي وتهطلين بغيم الكلمات . ونلحظ هنا أنها ربما تكون المرة الأولى التي تقع أعيننا فيها على جمع لمفردة ربيع .
ونقرأ أيضاً في قصيدة (محروسةٌ أنتِ بآيات دمي) ؛
أعرف أن ليلكِ شائكٌ وطويلٌ حتى صحارى الأرق ، وأعرف أن غابات التوجس والسهاد المالح تسرق كحلكِ..
ليصل إلى الذروة وتسمية الأشياء بمسمياتها ؛
تختارينني خلاصاً ، وأريدك ملاذاً .
على أننا نود التوقف قليلاً عند قصيدته الطويلة المعنونة (الديوانية يا أمي وحنيني) ، وهي كما يتبدى من العنونة موجهة إلى مدينته التي ولد ونشأ وترعرع فيها وانطلق منها إلى آفاق الله الرحيبة ، وهذه القصيدة المتوهجة بالحنين والحميمية ، يمكن لنا أن نعدها ملحمة شعرية عالية النبرة تتغنى وتستحضر وتتهجد معالم المدينة وتستحضر رموزها المعرفية الشاخصة ، والتي ربما يكون الكثير منها مغيباً أومهمشاً أو منسياً بفعل عوامل عديدة ، ابتداءً بأسماء عدد من الشعراء الذين أرسوا حضوراً قوياً في ذاكرة المدينة كالشاعر كزار حنتوش وكذلك تطرزت القصيدة بأسماء عدد من الشعراء الشعبيين والمطربين والمطربات أو الباعة المتجولين أوحتى بعض الصعاليك الذين كثيراً ما نرى الشاعر المتأنق دوماً محتفياً بهم ومؤثراً لهم ...
نقرأ في مفتتح هذه القصيدة/ الملحمة ؛
وأنا ؛ سعد السيد جاسم ، أحبُّ الله وسنته ، أحب ماركس ، وعليَّ الفحل وفرات الأغاني والنحيب ، وأحبّ النبيذَ الأحمرَ والهامشيين والأرامل .
ليصل النص إلى ذروة تأججه حين يأتي على ذكر أمه المتوفية وهو بعيد عنها في منفاه ؛
أفكّر كثيراً بقبر أمي الذي لا أعرفه أين ، أمي ساقيةُ حليبٍ وعذاب ، يُتمٌ ، وخساراتٌ وسواد ، أمي فقدانٌ وغيابْ .