1
تعرف مدينة الحلة ، وعلى الأقل الوسط الثقافي ومرتادو بعض المقاهي الشعبية
أبا رياض جيداً ، بوصفه سمياً وشبيها لأرنست همنجواي ، ذلك الروائي الشهير ، صاحب
المغامرات التي لا يجرؤ أديبٌ على الخوض فيها ، كما انه صاحب الروايات التي شكلت
منعطفاً في الأدب الانكليزي والعالمي ولاسيما لمرحلة ما بعد الحرب العالمية
الثانية .
(أبو رياض) واسمه الكامل كما هو مدون في بطاقة أحواله المدنية ؛ صباح شكر
محمود ، وتشير البطاقة أيضاً إلى انه مولود في مدينة بغداد عام 1941 بمنطقة
الكرادة الشرقية ، أحس منذ نعومة أظفاره بان لديه ميلا فطرياً نحو الفنون
والموسيقى التي جرفته باتجاه عوالمها الخلابة ،
وبدأت تباشير الرحلة الثقافية لديه مع كتاب (ألف ليلة وليلة) بطبعته
المصرية المذهبة المتكونة من مجلدين كبيرين ، ثم وبفضل أساتذته في المدرسة
المتوسطة يتعرف على الروايات العالمية المترجمة ليقرأ بشغف كل ما كان يقع في يده
منها ،
شكلت الموسيقى ، كما قلنا هاجساً للفتى الصغير الحالم ، فحاولت أصابع خياله
، أن تتلمس سحرها، وتقف عند منابعها ، فشرع هو وابن عمته سعيد بادخار (اليومية)
التي يحصلان عليها من أبويهما، وبالتالي اشتريا آلة العود الخاصة بالملحن محمد
نوشي الذي كان يعمل خياطاً بالقرب من منزلهما ، غير أن نشوة الفتى بامتلاك العود
العائد إلى محمد نوشي سرعان ما تبددت وتلاشت أمام هجمة الأب الشرسة محطماً الباب
الذي كانا يتواريان خلفه هو وابن عمته ليتدربا على العزف، وليحطم بالتالي العود
على رأسيهما ، وقد بكيا بحرقة وألم ، كما يذكر ، ليس لآلام الضرب المبرحة التي
عانياها وإنما لأنهما وجدا عودهما الأثير محطماً وأوتاره مقطعة بغير رحمة ..
إلا انهما ، الفتى وابن عمته ، قررا مواصلة السير على هذا الطريق الوعر
الذي سلكته قبلهما أجيال وأجيال من المبدعين الذين لم تنثني همتهم أمام عواصف
الجهل والتخلف التي تحكم مجتمعنا، ما زال بوسعه أن يتذكر ، كيف أن جذوة الأمل قد
تم إحياؤها في نفسه من جديد على يد الفنان القدير منير بشير وأخيه الموسيقار جميل
بشير ، لاسيما بعد ان تعرفا على المخاض المؤلم الذي مر به ، فرحبا به في معهد
الفنون الجميلة الأهلي الذي كانا يديرانه أبان فترة الخمسينيات ، غير ان الفتى ما
لبث ان ترك الدراسة في المعهد لسوء الأوضاع الاقتصادية التي كانت تمر بها عائلته
واستيقظ في نفسه إحساس آخر بالانتماء إلى الأدب والشعر بصفة خاصة ، وقد تفتحت هذه
الجذوة لديه منذ بداية سبعينيات القرن الماضي ، مع انه ظل محتفظاً ومتوائما مع خطه
السياسي حيث قدم من كلماته وألحانه وأدائه
وباللغة الدارجة أغنية ؛ (يا مصر يا أهرام بابل بتقولك حرام) وكانت موجهة آنذاك ضد
زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل، وتمت إذاعة هذه الأغنية عبر إذاعة (صوت
مصر) التي كانت تبث برامجها من بغداد .
شبيه همنجواي
بشأن كيفية اكتشاف الشبه الخلقي بينه وبين الروائي العالمي ارنست
همنجواي يشير إلى أن الناس والمحيطين به
هم الذين انتبهوا أولا إلى هذا الأمر لاسيما بعد ان ترك ذقنه تنمو كأحد مظاهر
إعلان الحزن التي اعتاد الناس عليها ، ويتذكر حادثة غريبة وقعت له في أعوام
الستينيات (لا يتذكر بالضبط متى) ، حين وجد نفسه يشهر مسدسه نحو رأسه محاولا الانتحار
، بسبب تعرضه لوضع اجتماعي قاهر ، حيث تمت الوشاية بأبيه معيل العائلة الوحيد
آنذاك وكانت التهمة الجاهزة الموجهة إليه انه ساعد في تهريب احد كبار تجار اليهود
الأثرياء إلى خارج العراق ، إلا ان لم ينفذ ما اعتزم عليه ، إذ وجد ابنه ذا
العامين فقط وهو يحبو إليه في ظلمة الليل ، فوضع المسدس جانبا وقرر مواصلة الحياة
، على العكس من قرينه همنجواي الذي مضى بالمهمة قدماً في 2 يوليو عام ١٩٦١.
ويوما بعد يوم أحس انه يتواشج مع شخصية هذا الروائي الأمريكي ، لاسيما في
مزاياه الإنسانية وعلى صعيد المغامرات أيضا وان لم يصل إلى سوى الحدود الدنيا من
تخومها ، كما يعترف ، فقد احترف مهنة صيد الأسماك على نهر دجلة ومن ثم على نهر
الحلة ، وفيما إذا كان يعتقد انه تجسيدٌ ما لشخصية الشيخ في رواية هيمنجواي
الشهيرة (الشيخ والبحر) قال بتواضع جم ؛
كلا ، فانا أجد نفسي الصياد في النهر ، إذ ان البحر بعيد عنا ، ولم نتعرف في
حياتنا سوى على النهر
وقد عرف عن الروائي ، بأنه كان لديه ولع خاص بالصيد
والمغامرات وركوب المخاطر ، وقد بات معروفاً لدى الجميع ان حبكة روايته (الشيخ
والبحر) استقاها بناءً على تجربة شخصية له في صيد الأسماك على الرغم من الرمزية
التي غلّفت هذا العمل المهم الذي أهله للفوز بجائزة نوبل للآداب أبان فترة
الخمسينيات .
وهو إذا استطاع توظيف حيثيات تجاربه الشخصية ومغامراته
في كتاباته الروائية والقصصية ، فان بطل حكايتنا هذه لم يتح له ان يفعل ذلك ، على
الرغم من ان عملية استنطاقه الآن لم تكن بالمهمة الشاقة أو العسيرة ، فحديثه أشبه
ما يكون بالمائدة العامرة التي تتوفر على شتى صنوف الأطعمة والاشربة والمقبلات ،
وان احتوى بعضها على توابل كثيرة إلا ان محدثه يستطيع ان يختار وينتقي منها ما
يشاء ..
* وبالنسبة للقوة البدنية التي عرف بها الروائي الأمريكي
، والتي أهلته لان يقوم برحلاته الشهيرة في مجاهل الغابات في أمريكا وأفريقيا بغية اصطياد الحيوانات المتوحشة ، بالإضافة إلى
كونه ملاكما محترفا ، فان أبا رياض أصبح سباحا ماهرا في وقت مبكر من حياته ، وعرفه
نهر دجلة بمحاذاة منطقة الكرادة حيث ولد وعاش سني حياته الأولى ، وكذلك شط الحلة ونهر الفرات في منطقة سدة
الهندية ، وحصل على بعض بطولات السباحة واحترف الملاكمة أيضا متدربا على يد
الملاكم محمد سلبي بطل العراق بالملاكمة في أعوام الخمسينيات كما برز في عدد من
الألعاب الرياضية التي تتطلب القوة والجهد ، وقد حدثنا احد أصدقائه من الأدباء
انهم كانوا قد خرجوا للتو منتشين من سهرة في مقر اتحاد أدباء الحلة ، فانتبهوا إلى
جذع ميت لإحدى الأشجار يقف منتصبا بتحدٍ على مقربة منهم أثناء خروجهم فما كان من
صاحبنا المنتشي إلا ان أحاطه بساعديه القويين وسط صياح الأصدقاء وتشجيعهم له
بعبارة ؛ همنجواي .. همنجواي ! وبعد قليل
من الجهد استطاع ان يقتلعه من جذوره !