قصة قصيرة
بنك الأعضاء
عادل كامل
لم أر في حياتي مساءً عذباً كالذي
بدأ ونحن في الوادي، حدث ذلك في الصيف الماضي. كنا في رحلة، نتمتع بإجازة بعيداً
عن مشاق العمل..أنا وثلاثة من الأصدقاء. كنا في عمر واحد، ومن جيل واحد، نميل إلى
المرح رغم أننا كنا نشكو من كآبات حقيقية وأخرى وهمية..بيد أن الإنسان، بعد سن
الأربعين، لا يمتلك بيسر قدرة الموازنة بين المرح والأحزان المفاجئة. لذا تراه كما
حدث لنا ونحن نشهد اختفاء آخر شعاع محمر للشمس وراء الجبال الشاهقة، ميالا للتحرر
من نفسه. يا لها من لحظة انفجار، تلك، عندما قال صالح، لغطس في الماء. ذلك لأننا،
بشرود محبب وخفي، عدنا إلى الطفولة. قال صالح، حذار من الغرق. لكننا كنا نعلم أن
ذلك مجرد مزاح..فهل يحدث أن يغرق الإنسان في قدح ماء؟ كانت مزحة ومضت..بعدها رحنا
نستحم بملابسنا. لم يفكر أي منا بالبلل..بالأشياء التي ستتلف. كنا في سن الطفولة.
وعندما صرخ صالح مرة ثانية بأن ماء الوادي قد يجرف أياً منا، رحنا نزداد لهواً،
صخباً. ما أجمل ذلك المساء ونحن نوقف تيار الزمن..نتحدى أمواج مياه الوادي، تحت
الأشجار الخضراء الداكنة، والسكون يحيط بنا من الجهات كلها، ونحن نعود إلى زمن
سحيق، بلا ذاكرة، نلهو كما كنا نفعل في الماضي، عندما تعلمنا السباحة، ثم فجأة
كبرنا ولم نعد نذهب إلى النهر، ولم نعد نسمح لأطفالنا بالذهاب إلى النهر خشية
الموت غرقاً. لقد قال علي، وهو يضرب بيده اليمنى الماء، أنه يخاف النار. رباه
لماذا يجرنا الحديث عن الأشياء دائماً إلى موضوعات الخوف. كلا. قلت أنا لا أخاف من
النار ولا من الماء ولا من تسلق الجبال. أنا لا أخاف حتى من الموت. إنما صرخ نهاد،
نهاد الوديع العذب مثل ذلك الماء، بأن علينا أن نسكت. حسناً. ساد الصمت كأننا
حدسنا عدوا يتربص بنا. ثم قال بصوت ناعس:
- علينا إلا نسرف في اللهو ..
ذهبت كلماته أدارج الرياح. كنا
نريد أن ننسى المدينة، ننسى بغداد..ننسى طوابق دائرتنا العتيدة، ننسى صخب العجلات
وضوضاء المقاهي وغبار الشوارع. كنا نريد الإمساك بشيء يفلت منا..أو بشيء ما نريد الإمساك
به. أننا في أجازة وليس في عملنا ما يخدش حتى الماء. فلماذا نقنن حتى اللعب؟ قالها
علي، وضرب الماء بقوة.
كان المصباح الوحيد الذي يضيء
المكان يرسل أشعته إلى مسافة تدلنا على خيمتنا، التي سنعود إليها، بعد ساعة،
لنواصل سهرنا. كان هذا هو اليوم الأخير من الرحلة..وكنا لا نريد أن ينتهي زمن
المرح.. وقت اللعب الذي أعاد إلينا الكثير من حيوية الشباب..المزيد من الأفكار
الحيوية..
لكن نهاد رفع صوته، وهو ينهض، وكان، كما
ظهر لي في الأقل، غير قادر على مقاومة تيار الماء:
- إلا تعلمون، أيه الأصدقاء، ذلك الوعد الذي ...
وتلعثم، كأن أثار السكر بدأت تفقده
سيطرته على الكلام..مع ذلك أسترسل:
- ألم نتعهد بالتبرع بكل ما تمتلكه إذا ما حدث لنا..لنا.
ولم يتكلم. توقفنا عن اللهو. ساد
الجميع الذهول. كان كل منا، عبر ثانية فقط، يحدق في نهاد، أما هو فقال مرتجفاً،
وكان يترنح:
- أنا لا أريد أن أتبرع بجسدي.
للمرة الأولى أصدم..وكأن رصاصة اخترقت
جسدي واستقرت فيه. فقد تذكرت، مثلما تذكر الجميع، تلك السيدة الصحفية التي زارتنا
في دائرتنا، وتحدثت عن الإنسانية، عندما قاطعها نهاد وقال أنه يرجوها أن
تختصر..وتقول ما تريد. قالت للجميع أن هناك بشراً يتعذبون بسبب فقدان أجزاء من
أجسادهم..وأنتم تعرفون ذلك. قالت ذلك ونحن ننصت، بلا مبالاة أولاً. ثم قالت أن
الإنسانية، ليست إلا المثل التي تغدو واقعية تماماً. فماذا لو تبرع أي منا، عندما
يصاب بحادث، ويفارق الحياة، بعينيه، أو بكبده..أو بقلبه..كانت تتكلم بطلاقة..مثل
قصاب يشرح لحم خروفه إلى قطع، وهو يتحدث عن فلم جميل. ثم قالت أنها حصلت على أسماء
كثيرة..أطباء..فنانين..مهندسين..نعم. وقالت أن المسألة لا تتعارض مع الدين. فالله
عندما يحييناً يوم القيامة يستطيع أن يعثر على الأعضاء التي سنتبرع بها مثلما
يستطيع، كما تعلمون أيها الأصدقاء، أن ينتزعها من أمعاء الديدان ومن التراب. اذا ً
ليس ثمة ما يخيف أو يرعب. صمتت لحظة وانطلقت تتكلم بتحرر وبلا تردد بعد أن ملأ
الصمت وربما الرعب أعماقنا:
- ثم أن أيا منا إذا تبرع بعينه فقد يكون هو الذي وهذا يعني
أنه ما زال على قيد الحياة.
صراخ أحدهم:
- إذا ً أنت تبحثين عن بنك حقيقي لبقايا الموتى ..
أجابت بهدوء:
- أيها العزيز..لِمَ نحرم الآخرين من الأشياء التي لا تعود
نافعة لنا. لِمَ الأنانية.
قال نفسه:
- من قال أن الموتى أنانيون؟
- عظيم..أنت
إنسان عظيم حقاً..وشهم..وتدرك مسؤوليتك في الحياة وما بعد الحياة..لدرجة أنني فكرت
ماذا لو كنت أنت، أنت نفسك، بحاجة إلى كلية وتجدها حالاً..فهناك من تبرع بها إليك،
هائل..أني أثّمن فيك الروح العالية..وسأنشر صورتك مع حوار يؤكد مدى تفهمك لحقائق
الإنسان..
للحق، لجمته فسكت موافقاً. بعد
ذلك، فجأة، نهض نهاد وقال:
- أكتب أسمي أيضاً.
بيد أنه، على الرغم من خجله،
أضاف:
- أرجو
أن يتأكدوا من موتي أولاً..أرجو أن تكتبي هذا..فهناك..هناك..يحدث بعض الخلط بين
الميت والحي..كما لابد أن نحدد هل الميت من يتوقف قلبه أو دماغه..
ابتسمت، وأردفت بطلاقة:
- أننا
نعمل على وفق نظام الدولة. وليس هذا البنك أهلياً..هناك أطباء وثلاجات وأجهزة
وعلماء..
قاطعها صالح:
- أنا أيضاً..لكني لا أتبرع بأنفي!
فقلت أنا:
- وهل تفيدكم العظام؟
- أيها
الأستاذ..سنستفيد من كل شيء..العلم يتطور..والبشرية لابد أن يسودها قانون التعاون
الاجتماعي والمسؤوليات الجادة.
ثم سألتني:
- أكتب أسمك؟
قلت أن العملية ظريفة في الحالات
كلها..ودار بخلدي أني مادمت لا أستطيع أن أدافع عن نفسي فلماذا أبدوا قوياً..ثم لم
لا يستفيدون من أصابعي..أو من عظام الفك الأسفل..قلت:
- نعم.
لكم كان ذلك المساء عذباً، عندما
لم يدر بخلد أي منا أن نهاداً سيبكي، بعد أن أفقده الخمر وعيه وتوازنه..يصرخ فينا:
- لا
أريد أن أوزع جسدي..لماذا..لماذا أوزعه هنا وهناك..ثم ماذا سيدفنون في
القبر..كلا..لا أريد أن أموت..
وترنح، فاقداً السيطرة على
نفسه..وكان يبتعد عنا، ببطء شديد، وهو يصرخ، حيث كنا نحدق في محياه الشاحب..نحدق
في حركة فمه:
- لماذا وافقت على فكرة مجنونة..
وغاب عنا نهاد..جرفه الماء..صرخ
صالح:
- جرفه ماء الشلال..حذار..هيا لنهبط إلى الأسفل.
لكم كان ذلك
المساء جميلاً لو لم يمت نهاد..لو لم نره محطماً، وقد سال دمه ممتزجاً
بالماء..كانت عظام جسده مسحوقة..كأن أحجاراً سقطت فوقها..وجلده ممزقاً..قال علي
بأسى عميق لا يخلو من السخرية، فقد كان الخمر ما يزال يدور في رؤوسنا، كما في
رأسه:
- أنه تبرع بجسده إلى الأرض.
بعد إجراءات أولية بسيطة كنا نجلس
في السيارة..ولم يحصل ذلك بسهولة..فقد رفضوا، في المستشفى، تسليم الجثة..قالوا
أننا نستطيع تسلمها غداً، قالوا أنها عملية طبيعية وضرورية. ولم تجد كلماتنا معهم.
حتى أن الطبيب أبتسم بفم مفتوح عندما قلنا له بأن نهاداً كان قد تبرع بجسده للبنك،
وأن علينا أن نوصله بالسرعة الممكنة قبل أن تموت الأشياء التي يريدونها. رفض.
أما نحن فكنا نتجادل..أنعود إلى
بغداد أم تنتظر حتى صباح اليوم التالي. أنا قلت ننتظر. لكنهما، صالح وعماد، أصرا
على إلا نبقى لأسباب مبهمة ، أو غير مقنعة.
حسناً. قلت لصالح:
- لا تسرع.
- نعم. عندما أتعب سيحل علي محلي.
كانت ما تزال لدينا كميات من
الخمر، والنبيذ، والويسكي..أنا فضلت شرب العرق..ومن القنينة مباشرة..فقد كنت أتصور
أنني أنا الذي جرفني الماء بجسدي نحو الأعماق السحيقة. أنا الذي سقط مع ماء
الشلال. شربت. كان صالح يقود السيارة بسرعة معتدلة. فجأة صحت :
- لا تسرع.
أجاب:
- لا تخف..
وأضاف بصوت لا يخلو من السخرية
والمرح:
- لن نتبرع بأجسادنا لهذا البنك اللعين.
قال علي:
- لا
تحدثونا عن هذا البنك. أنا أفضل أن نتحدث عن بنوك المال..بالمناسبة، أيها السكير
الجالس في الخلف..كم جمعت؟
أجبت بحزن، بعد أن سكبت كمية من
الخمر داخل جوفي:
- مليار دينار..
- لا تسخر..أنك ولد بخيل.
- أجل.
وشربت. قال صالح:
- أنا
أفّضل أن تتحول هذه البنوك إلى بنوك أهلية..ويخصصون رواتب للذين يتبرعون
بأجسادهم..
- أغراء..
وأضاف علي:
- لكن المسألة إنسانية يا صالح..إنسانية تماماً ولا علاقة لها
بالربح والخسارة.
لا أعرف لماذا أسرع صالح..إلا أن
علي خاطبني:
- هل تخاف أن تكون زائدتك الدودية عند فتاة جميلة؟
- أسكت.
شربت. ويبدو أني لم أعد أتذكر إلا
كلمات نهاد..نهاد..وذلك المساء العذب الذي لن يتكرر في حياتي أبداً.
ناداني صالح:
- سكرت جيداً..بعضنا لا يتحمل الصدمات..ثم أنك تعاني من
الكآبة أصلاً..
تمتمت بصعوبة:
- كان..لا..يريد..أن يفقد..حياته..
صرخ علي:
- عظيم..هذا هو السؤال: عندما نموت هل تتبرع بالجسد أم
بالروح؟
أعتقد أن صالح أجاب، بأن المسألة
أننا لا نريد أن نتبرع بالحياة.
عندما أفقت، في اليوم الثالث، قال
لي الطبيب:
- هل تعرفني؟
- أجل..أنت هو السيد الطبيب..
- هذا رائع.
يبدو أن صحتي بدأت تتحسن على نحو
غريب..إذ غادرت المستشفى، بعد عشرة أيام، وكنت أعرف أنني الوحيد، يا للرعب، الوحيد
الذي ينتظر اللحظة التي سأتبرع فيها بجسدي، كاملاً..والوحيد الذي لم ينس، أنه لم
ير، أبداً، وفي حياته، مثل ذلك المساء العذب..!
1987