الأربعاء، 9 يناير 2013

قصة قصيرة-ليلة عيد الميلاد- عادل كامل




قصة قصيرة
ليلة عيد الميلاد

 عادل كامل
   لم أكن أعرف بالضبط اللغة التي كان يتكلم بها، لكني فهمت أنه كان يروم قتلي. قلت له: تفضل .. قل ما تشاء .. ما الذي يمكن أن أقدمه لك .. بالأحرى، يا عزيزي .. أنا عرفت ماذا تريد .. ولكني ..

     قاطعني .. بلغته الغامضة .. حتى حسبت أنه جاء إلينا من كوكب آخر. وربما جاء الغريب من مكان بعيد ولا يعرف عني شيئا؟ لم افهم كلمة واحدة من خطابه الغريب، إلا أني حدست، كما قلت، أنه جاء لقتلي. للحق أنني أتوقع، في كل يوم، وفي فصل الخريف على التحديد، وجود شخص ما يؤدي هذه المهمة، وينقلني بعدها، إلى الأحلام . أنا رجل .. قلت له أنا مخبول..وبسيط.. بل أنا رجل عادي..لا صلة لي بالكواكب البعيدة. كل ما أريد، بحت له بأني لا أريد شيئاً.

     لم يتكلم. كان يراقب البيت كله. أي غرفتي الصغيرة الكائنة في بيت قديم في حي شعبي..التي أسكنها منذ ربع قرن..كان ينظر وهو يفترس الأشياء.

     ورحت أفكر. للحق أنا لا أفكر..لكن الجميع يعتقدون بأني أفكر. ثم لماذا أفكر؟ قلت لنفسي مادمت سأقتل، في يوم ما، وفي الخريف على وجه التحديد، بل في هذا اليوم تماماً، فلماذا لا أعترف له بأني لا أعطي قيمة تذكر للإنسان الذي يفكر، بل حتى  للإنسان الذي يتظاهر بالتفكير والعمق والحزن والصمت. فقلت له – تفضل.

     لم يتكلم. كان يتظاهر بالتفكير. إلا أني لم أشعر بالرعب كما في تلك اللحظة عندما أهملني. هذه الحالة تخيفني منذ الطفولة..وعندما بلغت الخمسين .. وطردوني من العمل .. عفواً .. عندما تقاعدت برغبتي الخالصة..أدرك ما معنى أن تهمل .. وها هو يهملني بصفاقة. ماذا تتوقع من شخص مجهول يدخل غرفتك، وفي الليل، وبلا استئذان، ثم يتحدث إلى .. إلى .. إلى الأشياء ولا يتحدث إليك .. أو معك؟

     لكني رجل صبور، لا بدافع خمولي العقلي، أو عذاب روحي الفادح، بل لأن هذا بمثابة تسلية. فأنا لم أتزوج مثلاً إلا لهذا السبب..أي أنا رجل يحب التسلية أصلاً .. ولماذا لا أحب التسلية .. والمرح .. ؟
-        .....  
     صفعني بشريط من الكلمات. وبعبارات بلهاء. بلا معنى أصلاً. لقد رماني بشريط من الرصاص..أجل..أقسم لكم أني لا أبحث إلا عن الوضوح. عن ..

     لكنه هز رأسه، ودخن، وأخذ يتناول وجبة من الطعام .. أي طعامي الذي حرصت على أن أتناوله في عيد ميلادي..في ليلة أحسبها أجمل ليالي عمري، وبعد أن أدركت أني لن أتمتع بالسعادة إلى أبد الآبدين، وأنه لا يمكن لي أن احصل عليها حتى لو منحت إلي ّ، ثم أنني لم اعد أبحث عنها في الحالات كلها.
     قال، بالغموض ذاته، كلمات مرعبة. والرعب هنا يكمن في الغموض أصلاً. كلا .. بل في الوضوح القاتل. أني .. أعترف بأن لغته ليست معقدة جداً..إلا أني غير قادر على الإصغاء..ثمة أشياء تتبعثر داخل جسدي..أشياء يقال أنها محض أوهام..كلا. أني الوحيد الذي يقدر فداحة هذا المرض..المرض المسلي أيضاً..فأنا أعتدت أن أتسلى حتى بأوهامي وخرافاتي..بعد أن يئست من التسليات العادية.

     انتهى من تناول الطعام. دخن. وحدق في سقف الغرفة. وهز رأسه. ماذا تراه أكتشف في هذه  اللحظة؟ لا شيء..فأنا لا أخفي شيئاً لا في السقف ولا في أي مكان. الشيء الوحيد الذي فشلت في إخفائه هو أنا..أنا هذا المجنون ..وإلا لو كنت قد نجحت بإذابة نفسي في أي سائل لما كنت في هذا الموقف. على أية حال لا معنى حقيقياً لهذا الخوف من رجل غريب..فأنا استطيع الاتصال برجال الشرطة..للحق نصف أفراد أسرتي يعملون في الشرطة..والنصف الآخر لا علاقة لهم بأحد. كلا. لن أتصل بأحد .. ترى ما تهمتي ضد هذا الرجل؟ سيقول أنه جاء لزيارتي..وأنه من أعز أصدقائي. يا لها من نكبة لو قدمت شكوى ضده..فستوجه التهمة ضدي..وأسجن..أسجن في ليلة عيد ميلادي..وأنا قد بلغت الخمسين.


     وتركته يحدق في الجدران..كأنه يبحث عن شيء محدد..غريب..أنا لا أعرف ما يثير استغرابه في جدران عارية. للحق أنا لا أحب عادة لصق الصور على الجدران..أنا أحب دائماً بقاء الجدران عارية..أو كما هي بيضاء..لكن الغريب راح يتفحص الجدران..حجارة بعد أخرى..بذهول..ربما جاء للبحث عن كنز في هذه الغرفة..في هذا الحي الشعبي..أو يبحث عن شيء أمين..أو عن قضية لها صلة بأحداث غامضة. أنا أؤمن بالأسرار..بالأحرى بتلك المخفيات التي يمارسها هواة الاشتباكات الغامضة.. بل أؤمن بلا جدوى فضح الأسرار، مادامت تسبق صاحبها إلى الموت! أليست الحياة بأسرها سلسلة من الأسرار ...؟  
    
     رفع رأسه..وحدق في قمة رأسي، كأنه كان يعرف ما كان يدور في راسي، سراً، وهذا يعني أننا عدنا إلى القرون الوسطى..وعليّ الآن لأسباب لا تحصى، أن أسكت. بيد أنه، مرة أخرى، أهملني وراح ينظر إلى الجدران. أنا شخصياً لم أنظر إلى هذه الجدران، لماذا أنظر؟ أنه لمن العبث التظاهر بأنك جيد الملاحظة.. وذكي الفؤاد..وعميق البصيرة!

     فكرت لحظة أن أقتله..أنا شخصياً قتلت مليارات البشر..وكان ذلك يحدث في أحلامي، وكنت أصر على تكرار تلك الأحلام..لكني شعرت برعب لفكرة قتل رجل جاء لـ..على الأغلب..جاء لحسم حياتي..حياتي أنا..أنا أيها السيد..ورفعت صوتي قليلاً:

-   أكاد أكون الوحيد في هذا العالم.. الذي لا يعرف أي شيء عن هذا العالم..ثم أنني رجل بلا مميزات، عدا بلادتي التي أفتخر بها.. صدقني أني..
     وكدت أعترف له، بأني أستحق القتل! لكنني قلت له:
-   أستحق البقاء حياً أو هكذا..أو هكذا نصف ميت ونصف حي..فماذا تريد مني في ليلة عيد ميلادي؟

     أهملني. كان جدي، عندما لا تمطر السماء بعد البذار، يحدق في الأرض. لكني حدقت في سقف الغرفة..وأكاد أعترف بأني لم أر هذا السقف الأسود..أبداً. فشعرت بالرعب..وتجمدت تماماً. كنت أراقب نظراته فقط. ودخان سيكاره المتصاعد نحو الأعلى..نحو السقف. فكرت أن أدخن..في الحقيقة دخنت بلا تفكير. وتلك كانت أجمل تسلية عرفتها في حياتي: أن تحترق وأن تحرق العالم! يا لي من نذل!

     إلا أنه حدق فيّ. غريب..أنه حدس حواري كله..وكدت، في تلك الثانية من الزمن، أن أهرب. ترى لماذا لا أغادر هذه الغرفة..وأذهب إلى حانة..أو مقهى؟ للحق أني لم أجلس طوال حياتي في حانة..ولم اشرب قط.. أن الشيء الوحيد المؤلم الذي مارسته هو ولعي المهول بالتدخين..لكنني شعرت برغبة ملحة في الجلوس في حانة..على أني قمعت هذه الرغبة..وركنت للصمت.

     فجأة حدثني بلغته الغريبة..وشممت منها رائحة الموت. لم أفهم منه كلمة واحدة، على أني أدركت، على نحو مبهم، بأني لا محالة ميت هذه الليلة. فقلت له:

-   لا تتعب نفسك..أيها الغالي..فانا أستسلم لك..نفذ مهمتك وغادر..المهم أن تغادر..فقد ضجرت..ولا أريد أن أموت من الضجر.

     باللغة نفسها صفعني..لغة قريبة للصمت. لغة ناطقة بالصمت..لغة معادية للغموض والوضوح نفسه..لغة سوداء. لكنه كف عن الكلام..وراح يدخن..
     لم يحدث لي، طوال حياتي أن سمحت لغريب بالدخول إلى غرفتي..فقد كنت، خلال ربع قرن، أعيش حياتي بعيداً عن الغرباء..بل، للحق، بعيداً عن المعارف والأصدقاء. فأنا الوحيد في الدائرة، وفي المحلة..وفي هذا البيت، يعيش حياته بعيداً عن الضوضاء..بل بعيداً عن نفسه..وهذا هو الذي أرعبني الآن..لكن لماذا الرعب؟ سألت نفسي: لماذا هذا الرعب..وفي ليلة عيد ميلادي؟ ابتسمت وكدت أموت، بلا سبب، وأنا أحدق في الغريب..ألا أني جمّدت الخوف الذي فيّ..ودخنت.

     والآن لا أعرف في أي مكان كان يحدث..هل كان يحدق في أفكاري؟ أقشعر جلدي..تصلب..ونز جسدي عرقاً بارداً..وعندما تأملته، بدافع التسلية. اكتشفت أنه يحدق في عيني! غريب..لم يسبق لأحد أن نظر في عيني، على هذا النحو المخيف، المشبع بالذعر..بل لم يسبق لأحد أن نظر إلي ّ أصلاً..لماذا؟ أنا لم أنظر إلى..أحد..فلماذا ينظرون إلي؟ قلت أنا رجل متقاعد وهذا يكفي للإحساس بأني ضمنت المستقبل. بالمناسبة أنا لا أخاف من الماضي..ليس لدي ما أخسره..ثم أني لم أخسر..بل ..وهذا هو الأهم..أني لا أعاني من عقدة الخسران. ليس لدي ما أفرح له..أو أحزن عليه. نحن في مقبرة واحدة فوق الأرض أو داخل الأرض. الحلم نفسه..والصمت نفسه.

     لكنه كان يحدق في عيني. غريب. أنه لا يتكلم. على أني شعرت برعب من نظراته إلي. منذ جاء قلت لا أفهم اللغة التي يتكلم بها..والآن، ولا أعرف هل أنتصف الليل أم لا، فأنا لا أمتلك ساعة بل لا أريد أن أستمع لتلك الدقات الآلية للزمن، أزداد رعباً من تلك النظرات الحادة الثاقبة التي كادت أن تجعلني، في نظر نفسي في الأقل، مشبوهاً! فجمعت قواي كلها واقتربت منه:
-  تفضل .. ماذا تريد مني؟
     لم ينطق. فصرخت، وأنا أقترب منه أكثر:
-  هيا..أقتلني..أرجوك.
     ثم أمسكت، بشجاعة لا أعرف من أين جاءت، بعنقه..ماذا؟  صرخت:
-  أنه ميت.
     ولم يتحرك، لم ينطق..لقد كان ميتاً منذ ساعة في الأقل..لقد كان متجمداً تماماً. حسناً فعل عندما تناول العشاء..أي عشائي..وحسناً فعل عندما دخن..بالمناسبة لم تبق لي أية سيكارة..ولكن ما معنى هذا..أن يحدث في عيد ميلادي؟ ثم ماذا أفعل بهذا المسكين؟ اتصلت بالشرطة..وشرحت لهم أدق التفاصيل، وقلت لهم أني لم أقتله.. فأنا كنت أعتقد أنه كان يروم قتلي..
-  ماذا تقول؟
-  أنه محض أحساس أو شك أيها الضابط..
- ولكن لماذا لم تتصل بنا؟.
- لا أعرف.

     لكن الرجل الغريب نهض..وحدق فينا..وبلغته الغريبة تحدث مع الشرطة..ثم..بهدوء..سار نحو سريري ونام فيه. في تلك اللحظة اعتذرت للشرطة قائلاً أنه جاء للاحتفال، كما يبدو، بعيد ميلادي، ثم أنه لم يمت على أية حال. بل ربما أنني أنا الذي تطفلت عليه وزرته في هذا القصر العظيم..من يدري. بل ربما أنا الذي كنت أنوي قتله، لسبب أو بلا سبب..من يدري..لكني أرجوكم أن تدعونا نحتفل بشيء ما من الأشياء: أنها ليلة عيد ميلادي.

1970-1987     


    

الحضارة البابلية




الحضارة البابلية
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة




بابل تعني بالأكّدية (بوابة الإله) كان الفرس يطلقون عليها بابروش دولة بلاد ما بين النهرين القديمة. كانت تعرف قديما ببلاد سومر وبلاد سومر كانت تقع بين نهري دجلة والفرات جنوب بغداد بالعراق. فظهرت الحضارة البابلية ما بين القرنين 18ق.م. و6 ق.م. وكانت تقوم على الزراعة وليس الصناعة. وبابل دولة أسسها حمورابي عام 1763ق.م. وهزم آشور عام 1760 ق.م, وأصدر قانونه (شريعة حمورابي) وفي عام 1603ق.م. إستولى ملك الحيثيين مارسيليس علي بابل واستولى الآشوريون عليها عام 1240 ق.م. بمعاونة العلاميين. وظهر نبوخدنصر كملك لبابل (1245ق.م.- 1104 ق.م.) ودخلها الكلدانيون عام 721 ق.م.(ثم دمر الآشوريون مدينة بابل عام 689 ق.م. إلا أن البابليين قاموا بثورة ضد حكامهم الآشوريين عام 652 ق.م. وقاموا بغزو آشور عام 612 ق.م. واستولى نبوخدنصر الثاني علي أورشليم عام 587 ق.م. وسبي اليهود عام 586 ق.م. إلى بابل. وهزم الفينيقيين عام 585 ق.م. وبني حدائق بابل المعلقة. ثم إستولى الإمبراطور الفارسي قورش علي بابل عام538 ق.م. في زمن الملك الكلداني بلشاصر وضمها لإمبراطوريته.

أعظم ملوكها حمورابي (توفي عام 1750 ق.م.) والذي اشتهر بمجموعة القوانين المعروفة باسمه. وبعد حمورابي بفترة يسيرة أفل نجم هذه الأمبراطورية لتعود وتزدهر من جديد وتتسع رقعتها فتشمل فلسطين وتبلغ الحدود المصرية وذلك في الفترة التي سيطر خلالها الكلدانيون على بابل ابتداء من عام 625 قبل الميلاد. ويطلق على الإمبراطورية البابلية في هذه المرحلة اسم " الإمبراطورية البابلية الثانية". ويعتبر نبوخذ نصر أعظم ملوك بابل (605-562 ق.م.) في عهدها الجديد هذا، وكانت انذاك مطوقة بأسوار ضخمة ذات أبواب عريضة. وما هي إلا فترة قصيرة حتى سقطت بابل في يد كورش الثاني ملك الفرس (عام 539ق.م.). والحضارة البابلية من أعظم الحضارات القديمة. وقد حققت إنجازات ذات شأن في الفلك والرياضيات والطب والموسيقى.

تقع أطلال بابل حالياً على مقربة من مدينة الحلّة في وسط العراق.

الحضارة البابلية الاولى

قامت الحضارة البابلية الاولى بعد طرد الغزاة (الكوتيون البرابرة) القادمون من القوقاز إلى الابد. بعد ان خربوا كل معالم الحضارة الاكدية. اذ خربوا المعابد والابنية المهمة وسرقوا الجواهر والاشياء الثمينة وحملواها إلى ديارهم الجبلية المتوحشة كان عصرهم عصرا اسودا سجله تاريخ وادي الرافدين. الدولة البابلية الأولى بدأت بالأموريويين في العصر الأكادي. ظهر الأموريون كما وصفتهم بعض النصوص الأموريه باهم (الذين لا يعرفون الحبوب) و (الرجل الذي يأكل اللحم النيء) و (الذي لا يعرف بيتا) و (الذي لا يدفن بعد الموت). الصفات السابقة تنطبق على البدوي الذي يقضي حياته في الحل والترحال. كان دخول الأموريون الساميون وادي الرافدين في البداية بأعداد قليلة ثم ازدادوا فهددوا وحدة مملكة أور الثالثة، كان لهم دور في إسقاط سلالة أور، اقاموا سلالات حاكمة في (أسين) و (لارسا) قبل سقوط عاصمة أور. من أهم الممالك الأمورية التي نشأت في بلاد الرافدين المملكه البابلية الأولى. حيث وصلت سلالة أمورية اإلى الحكم في بابل فأسست المملكة البابلية الأولى في بداية الألف الثاني قبل الميلاد .لم تكن بابل قبل هذا التاريخ من المراكز المهمة سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو دينيا في وادي الرافدين، كانت بليدة صغيرة عرفها السومريون بـ (كا- دينجر- را) ، والأكاديون (باب – إليم) أي (بوابة الإله). تاريخ بابل الاول الحقيقي بدأ مع تأسيس ألامير الأموري (سومو أبوم) من السلالة البابلية الأولى وهو الذي بنى أسوار مدينة بابل. في عام حكمة الرابع عشر وسع حكمه فاحتل (ديلبات) الواقعة في الجنوب وأحاطها بسور للدفاع. كما كسب نفوذا في كيش وسيبار .بعد (سومو أبوم) تولى الحكم بعده (سابيئوم) باني مدينة بابل الحقيقي اذ أتم بناء السور الكبير للمدينة وأشاد أبنية للعبادة كما شن حملات عسكرية كبيرة وسع من خلالها منطقة نفوذ بابل. لم يستطع (سابيئوم) أن يقيم سياسة خارجية نشطة بسبب ظهور شخصيات قوية على عهده في بلاد الرافدين كـ (كودور مبوك) الذي استولى على لارسا ونصب إبنه ملكا على عرشها بالإضافة إلى أن قوة (إشنونة) كانت في تصاعد. على الصعيد الداخلي بنى (سابيئوم) معبد الإله (مردوك) المشهور في بابل (إزانجيلا). ثم إعتلى على العرش بعد (سابيوئوم ) إبنه (أبيل سين) الذي شمل بسلطته جزءا كبيرا من شمال بلاد بابل .تميز عهده بالهدوء كما تذكر تواريخ سنوات حكمه أنه بنى أسوارا للمدن التي شملت نفوذه كـ (كيش) و (ديليات) و (بارسبيا) و (سيبار). بعد (أبيل سين) تولى الحكم (سين موباليط) .عاصر (سين موباليط) ملكين كبيرين سيطرا على شمال بلاد الرافدين وجنوبها وهما (شمشي أدد الأول) ملك أشور و (ريم سين) ملك لارسا .توصل (سين موباليط) إلى عقد صداقة مع (شمشي أدد الأول) الذي أخضع إشنونا و ماري بينما اتسمت علاقاته مع (ريم سين) بالسوء توجه بحمله ضده في سنة حكمه الثالثة لكنه مني بالهزيمه، تروي تواريخ سنوات حكمه بانه بنى قلاعا كثيرة خاصة في الشمال وبناء معابد وحفر أقنية وإقامة سدود. برهنت الأحداث التالية أن (سين موباليط) كان رجلا ذا نظرة بعيدة تعلم منه إبنه حمورابي الكثير من الحكمة. حكم الملك العظيم (حمورابي) بابل وعندما تسلم الحكم كانت البلاد ترزح تحت قوى مختلفة تتنازع السلطة فيما بينها. عندما اعتلى (حمورابي) عرش بابل حارب أولا المدن المجاورة لبابل وضمها إلى حكمه دون عناء كبير لانحياز الشعب الآموري الذي كان يشكل أكثرية السكان القاطنين في هذه المدن . ثم اخذ (حمورابي) يفتح المدن السومرية في أواسط العراق وشرقه يحصنها وينظم الادارة فيها. انجز (حمورابي) اصلاحات داخلية كثيرة اجتذبت له قلوب الناس فالتفوا حوله. كون منهم جيشا قويا استطاع في حروب طاحنة شديدة الاستيلاء على مدن في الجنوب الاستيلاء على مدن في الشمال ثم قضى على دولة آشور القديمة فوحد الرافدين ثم افتتح المدن القريبة في بلاد الشام وسواحلها بذلك شكل (الامبراطورية البابلية الاولى)

الزقورات

اهتم ملوك الدولة البابلية الاؤائل ببناء الزقورات المنصة الهائلة الارتفاع لتكون وسيلة لاتصال بين السماء والارض، صممت لتسهيل هبوط الالهة إلى الارض لتقصير المسافة بين السماء والارض. الزقورات بناء عالي مدرج يتألف من عدد من الطوابق يترواح عددها 7 أكبر الطوابق في الاسفل واصغر الطوابق في الاعلى التي يتوجها معبد صغير. قاعدة الزقورات مربعة او متسطيلة الشكل يتراوح ارتفاعها بين 30 إلى 50 مترا. الصعود للزقورة بثلاث سلالم..احدها محوري يتعامد مع أحد الاضلاع ويصل إلى الطابق العلوي.اما الاخران فجانبيان يلتقيان بالسلم المحوري في الطبقة الاولى. تقدم ابنية الزقورات الهائلة الحجم اوضح دليل على المستوى الفني العالي الذي بلغه فن العمارة القديم في بلاد الرافدين. في مجال استخدام الحساب والهندسة جعلت قواعد الزقورات ذات الاضلاع الطويلة بشكل متساوي منتظم دون اي فرق بين طول ضلع واخر. بعد الطبقة الاولى يصغر حجم الطبقات تتدريجيا بنسب منتظمة تشير إلى تناسق كبير. تتميز سلالمها الثلاث خاصة سلمها المحوري الذي يوصل إلى قمة الزقورة بأستقامة تامة. كان المعمار تواقا بأسلوب هندسي بارع. اهتم ملوك الدولة البابلية الاؤلى ايضا ببناء المعابد قرب الزقورات فتكون معبدا ارضيا تابعا لالزقورات او في امكنة بعيدة عن الزقورات فتكون معبدا مستقلا يكرس لعبادة اله او ملك من الملوك. تتميز معابد هذا العصر بأشكال منتظمة واضحة التفاصيل تكون اما مربعة او مستطيلة يحيط بكل منها سور ضخم تتجه اضلاعه نحو الجهات الاربع مزين من الخارج بعدد من الطلعات والدخلات. يتألف الجزء الداخلي للمعبد من ساحة مكشوفة صغيرة يحيط بها من ثلاث جوانب صف او صفان من الغرف المسقفة التي استخدمت لسكن الكهنة وخزن نذور المعبد وهداياه. هناك غرفة تضم تمثال الالهه ولذلك فأن معابد هذه الفترة كانوا يضعون تمثال الاله في مدخل المعبد مباشرة من أشهر هذه المعابد (معبد الاله انكي) في مدينة اور

المجتمع البابلي في عصر حمورابي

المجتمع البابلي في عهد حمورابي كان مكون من ثلاث طبقات :

الطبقة الراقية ((الأستقراطية)) والتي عرفت بأسم لاميلو الذين لهم سيادة المجتمع

الطبقة العامة ((الموشكينو)) أي المساكين هم الأفراد الفقراء من الأحرار الذين عملوا بجميع المهن ولكنهم أفتقروا لكل الحقوق التي كانت تمتع بها الطبقة الأرستقراطية .

طبقة الرقيق ((واردوم)) وهم الذين ولدو بالرق وأسرى الحرب فكانت لهم بعض الحقوق فقد كان بأمكانهم التملك وأدارة بعض الأعمال الخاصة بهم وأقتراض المال وحتى أنهم كانوا يستطيعون شراء أنفسهم وكأن بأماكن النساء الحرائر التملك ولهن حقوق شرعية أخرى وقد عرف أن الأباء عادة هم من يختارون الأزواج لبناتهم . والمضحك بالامر أن طبقة الرقيق لها حقوق أكثر مما لدي الطبقة العامة

اللغه

تنتمي لغة البابليين إلى مجموعة اللغات (السامية)، كما اصطلح المستشرقون على تسمية لغات شعوب منطقة جنوب غربي آسيا (العرب والآراميون والكنعانيون والأكديون). واللغة البابلية ومعها اللغة الآشورية فرعان من اللغة الأكدية التي سادت في بلاد ما بين النهرين قبل ظهور المملكة البابلية القديمة والمملكة الآشورية القديمة. واستطاعت اللغة البابلية التي وصلت في عهد الملك حمورابي إلى مرحلة النضج والكمال الذي يتجلى في قانون حمورابي، أن تسود عالم الشرق القديم، وتغدو لغة الوثائق السياسية والاقتصادية في تلك المناطق نحو ألف عام، إلى أن حلت محلها اللغة الآرامية الشقيقة. أما كتابتها فكانت بالخط المسماري المقطعي الذي طورته ليخدم أغراضها المختلفة.

الأحد، 6 يناير 2013

زيارة الى مدينة بابل التاريخية












اليوم كانت لنا زيارة الى مدينة بابل التاريخية انا وزميلي د. بسام الطريحي وهذه بعض اللقطات اترككم معها وسناتي في موضوع لاحق بدراسة معمقة لتلريخ بابل.
مهاتير محمد
 
بقلم احمد حسن الزعبي
 
تورم خدّي لكثرة ما «لطمت ع الجالين» وارتفع ضغطي، وانمغص بطني، و" انحم بالي " وأنا أقرأ تفاصيل دقيقة في حياة رئيس الوزراء الماليزي الأسطورة مهاتير محمد...
 
فقط استطاع في عشرين عاما من السلطة ان يخفض نسبة من يقبعون تحت خط الفقر من 52% الى 5% فقط من سكان ماليزيا..ونجح في رفع دخل المواطن الماليزي من 1200دولار إلى 8900 دولار سنويا عام 2002..تاركاً احتياطاً ضخماً من العملة الصعبة يقدر بمئات المليارات..
 
ولد مهاتير محمد لعائلة فقيرة، حيث كان أصغر تسعة أبناء لأب -ينحدر من اصول هندية- يعمل مدرساً في المدارس العامة لولاية «قدح»..فرضع لباء الكفاح منذ الطفولة، واستطاع أن ينحت بأظافره الصغيرة لقمة عيشه وعيش أسرته في مجتمع يقبع كله تحت سطح الفقر بعشرات الأميال..
 
في الصفوف الأولى وبسبب بعد مدرسته عن مكان سكنهم، طلب مهاتير من والده الفقير ان يشتري له دراجة صغيرة تساعده في الذهاب والإياب الى المدرسة فلم يتمكن والده من تلبية طلبه بسبب أوضاعه الاقتصادية السيئة ..
 
فقام مهاتير ببيع فطائر الموز لمدة عام كامل، كان يقتطع جزءا من دخله لأسرته وجزءاً آخر يقوم بتوفيره ليستطيع اقتناء دراجة في العام الدراسي المقبل والتي صار يستخدمها فيما بعد بتجارته الصغيرة وتوزيع الطلبات في أحياء المدينة..
 
تخرج مهاتير محمد من كلية الطب وفتح عيادة خاصة به كان يعمل فيها يوميا حتى منتصف النهار،ثم يغادرها ليقوم بزيارات ميدانية لمساكن الفقراء ليعالجهم مجانا في مواقعهم ..فهو من يعرف معنى الفقر ويعرف تماما طعم الوجع..
 
نجح د.مهاتير في البرلمان عام 1964 وخسرها عام 69 ثم خاص الانتخابات العامة وأصبح وزيراً للتعليم عام 1975 ثم نائباً لرئيس الوزراء عام 1978 ثم رئيساً لوزراء ماليزيا عام 1981 ( فوضع خطة تدعى عشرين عشرين.. نهضوية تنموية سياسية اقتصادية اجتماعية تمثل رؤيته لماليزيا في عام 2020)
 
و بقي هذا الرجل الاسطورة يخوض الانتخابات العامة وينجح – بفعل ذراعه- حتى عام 2003 حيث تخلى عن هذا المنصب طواعية وتفرّغ لأبحاثه ومؤلفاته ..
 
وقبل ان يغادر قصر الرئاسة أصر على انشاء متحف عام يضم جميع الهدايا التي وصلت اليه اثناء توليه ادارة ماليزيا منذ 1981 الى 2003 من دروع وتحف وهدايا تذكارية وأوسمة وذهب ومجوهرات وسيارات فاخرة ..لتكون تحت انظار وافتخار و مُلك الشعب الماليزي ..الذي حكمه 22 عاماً ولم يأخذ «عود كبريت» واحد لجيبه الخاص..
 
أرأيتم هذا الفرق بين من يضع الوطن بقلبه..ومن يضع الوطن بجيبه 
 

قصة قصيرة-رماد-عادل كامل



قصة قصيرة

رماد
عادل كامل
     ما الذي كان سيفعله في تلك اللحظات، في تلك اللحظات على وجه التحديد، عندما لم يجب صديقه على سؤاله؟ أيكرر السؤال أم يعود إلى صمته الخاص..؟ لا يعرف لماذا لوى رقبته وحدق في وجه صديقه، ليتجمد الدم فيه.
-         ماذا ؟ ..
    في جزء وجيز من الثانية، بوعي لا إرادي، التقط صورة لصديقه. لقد تذكر كلمات قديمة حول عمله الصحفي: " لا تدعك لصا ً يسرقك إلا وقد ضمنت ربحك.." هنا. أبتسم..فأكمل إلتقاط الصورة، لكنه، وفي الذهول الذي تلبسه، رفع صوته:
-         لقد صورتك..يا صديقي العزيز..!
   هناك عدد من القرويين ينظرون إلى المارة. طلبة. محامون يبحثون في قضاياهم اليومية..فقد كان المقهى يقع لصق المحكمة الكبرى، وبالقرب من أكبر أسواق المدينة.
    هز المصور رأسه أستجابة لفكرة قالها له صديقه، قبل ربع قرن، فكرة أن يصور كل ما يحدث ويدور ويتجمد ويتعفن في المقهى..فكرة راقت له.. وعملياً لم يترك المصور زاوية من زواياها، أو ركناً لم يصوّره..فقد صور الشيوخ الطاعنين في السن، الواحد بعد الآخر، حتى قيل أنه صور جميع مواليد (1910) الذين ماتوا، في هدوء..ذلك لأن الأبناء وأحفاد هؤلاء الموتى كانوا يتطلعون إلى صوره النادرة التي إلتقطها في مختلف الأزمنة، كما صوّر مختلف الألعاب التي مارسها الرواد: الطاولي..الدومينو.. الورق..الشطرنج وغيرها من الألعاب السرية أو التي لا أسم لها.. وقد حاول صديقه أن يقيم له معرضا ً وثائقيا ًيصوّر فيه عالم المقهى الغريب، وتاريخه.  لكن الأخير لم يكن، في أي يوم من الأيام، مولعاً بالشهرة. فقد كان يؤدي واجبه مصوراً هاوياً، ثم موظفاً صغيراً في مجلة أسبوعية شبه مغمورة وكان يعيش بعيدا ً عن الأضواء. وبلا ضجات..وهي الحياة التي تماثل حياة صديقه الذي أدرك، منذ عقد في الأقل، أن الحياة غير جديرة بالصخب.
    وعندما عاد ونظر في محيا صديقه الشاحب، لا يعرف لماذا تذكر هؤلاء الشيوخ، الذين لم يبق لهم، في الحياة أو العمر، إلا النوم حتى ساعة أقفال المقهى، حيث يأتي النادل ويخبرهم بذلك. فينهضون كسالى، كل منهم يسير نحو مستقره الأخير، في غرفة من غرف البيوت الجماعية، أو في أحد الفنادق القديمة. ولا يعرف لماذا دار بخلده، أن زميله صار واحداً من هؤلاء الذين يعيشون في الوقت الضائع..أو..وه..
-         ألا..تنهض؟
    لكن المصور أنشغل بفكرة غامضة مفادها أنه صور المقهى على أمتداد العقدين الآخرين دون أن يصوره أي مصور فوتوغرافي آخر..بيد أنه راح يتأمل الظلام الكثيف في نهاية المقهى، وبعض الوجوه التي تتحرك بآلية، ورتابة..والنادل يتحرك، والأصوات ترتفع، والدخان يتصاعد، فيما كانت رائحة الخريف تمتزج بأسرار حياة لا تريد أن تنتهي..كذلك دار بخاطره، وهو يضغط على الكاميرا، أنه لا فائدة من أضاعة الوقت..ذلك لأنهما، كما في كل يوم، يغادران المقهى في تمام الساعة السابعة مساء ً، ويتمشيان نحو ركن صغير يقع في فندق قديم يطل على النهر، حيث يجلسان هناك..وعند الساعة الحادية عشرة أو قبيل أنتصاف الليل، يعودان إلى منزليهما.
-         آه ..يا له..من..شريط..لم..يصوّر.
لكن الحياة ليست فلماً سينمائياً..وليست مجموعة من اللقطات..تلك كلمات صديقه التي رنّت داخل رأسه، فجأة، وصار لها صدى آخر، فالأيام تمضي تاركة رمادها الذي نراه في براعم أجمل الأزهار..
وضغط على الكاميرا..ليشعر أنه حطم شيئاً فيها..وأن دماً ينز من أصبعه..سحب نفساً من دخان سيكارته، ورفع صوته ينادي صديقه:
-         لقد تمزق الفلم..
    ماذا قلت؟ ردد مع نفسه..آه أنني أدور. لقد شعر بتعب في رقبته، وأنه غير قادر على حمل رأسه. كلا، قال لنفسه، أنه ليس هناك ما يجعل الرأس ثقيلاً. تلك كلمات صديقه التي أعلنها، منذ زمان، بعد ان تدرب بعدم زج نفسه في معمعات كتّاب الأعمدة أو الحكايات الغامضة. قالها عندما تسلم عملاً هو الوحيد الذي أدرك جدواه: فقد كان يشعر بلذة صياغة التحقيقات، بل وحتى الموضوعات العلمية، والمواد الأخرى ليجعل منها مادة سلسة، واضحة وطريفة.
    وبدأ المصور يقطع الفلم..وبعصبية رماه في سلة النفايات، إلى جانب نفايات أعقاب السكائر، وأوساخ مختلفة، وعلب السكائر، وأوراق ممزقة..ثم، بالعصبية نفسها، أخفى الكاميرا في حقيبته الجلدية السوداء التي لا يعرف كيف حصل عليها، وإنما يعرف تماماً لماذا يصر على الأحتفاظ بها، ذلك لأنها، على حد قول صديقه، تمتلك الأسرار كلها. ثم رفع رأسه ونظر في الساعة المدورة، الخشبية التي أعتقد دائماً أنها لم تكن تعمل في الماضي وأنها لن تشتغل أبداً في المستقبل. ما هذا؟ أرتج جسده لآنه وجدها متوقفة تماماً. وعقربها الصغير توقف عند الرقم السابع، فيما لم ير قط أي أثر للعقرب الآخر. الساعة السابعة..كررها عدة مرات، وهو يلاحظ أن العقرب الصغير هو الأخر يذوب..يذوب..ببطء شديد..وأحس بهواء يداعب محياه. وشم رائحة عفن غريبة، وسمع عطاساً متتالياً، وسعالاً متقطعاً، وشاهد عدة ألوان رمادية مخضرة تميل إلى السواد ممتزجة بزرقة ذات نكهة مشبعة بتبغ قديم منقع مدة طويلة، ولما تأكد من أنه يعاني من دوار تنفس بعمق الأمر الذي جعله يرى أن الساعة تختفي كلها دفعة واحدة.
-         يا صديقي .. يا ..
    لكنه صمت تماماً..وبهدوء، وبهدوء تام، مد يده ولامس يد صديقه ..حدق فيه..كأنه يراه أول مرة في مثل هذا الهدوء العميق، كأنه غفا في ظهيرة صيف. وجس نبضه..
-         ماذا ؟
    لم يفكر قط أن صديقه قد غفا..أو نام..بل كان يبحث عن فلم..فلم يعثر على شيء..لا..متذكراً كلمة قالها له صديقه: " إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً فعليك أن تسرق..عليك أن تسرق من يسرقك.." بيد أنه – وهو ينهض- راح يضحك بصوت عالٍ.
   متمتماً بغموض:
-         والآن .. ما جدوى..؟
    تلعثم، لم يتكلم، تمتم في غموض..تجمد..لم يعد يرى إلا ضجة عدد من رواد المقهى، يقتربون منه، يبتعدون..أصوات مختلفة لسعال وعطاس وأصوات أعلى آتية من لاعب دومينو فقد رشده، دخان كثيف يحيط به، رائحة زبل، عفن، غناء مشوش آت من قاع المقهى..نداءات..سعال..صخب، ووسط ذلك كله لاحظ، بهدوء، أنهم يرفعون صديقه، ويخرجون به من المقهى..
-         أهذا ..كل ..ما تبقى ..لي ..؟
    لم يجب. كان يرى الأشياء كأنه لم يرها من قبل..أو كأنه رآها آلاف المرات..كان يصور بعينيه، ويتخيل ما يحدث، ويعيد تركيب الأشرطة، يجمعها، يملؤها ظلاماً كثيفاً، يلونها بعنف الالوان، ثم تتلاشى الصور في خلفية بلا حدود..كان يصور برأسه، وهو لا يحدق..لا ينظر..لا يبصر..لكنه كان مازال يشم ألوان رائحة العفن الأتية من الزقاق المجاور للمقهى، يرى رائحة عقارب الساعة التي ذابت والساعة الخشبية التي صارت تحوم في فضاء المقهى مع عدة أشكال لها ألوان لم يرها قط من قبل ولم تسجلها عدسته طوال السنوات الماضية، في البحث عن لقطة تؤرخ له مجده..
-         أهذا ..كل..ما تبقى ..لي؟
    ولم يأسف قط أنه أكتشف في تلك الإفاقة التي لا زمن فيها أنه أضاع عمره كله، كي يبدأ، مرة أخرى، في اللحظة المشبعة برائحة رماد رطب، وأصوات تلاشت في قاع رأسه، وثمة رنين غامض شّع بذرات رمادية، في تلك اللحظة التي لم يستطع الأمساك بها أبداً، وفي مسارات حياته اليومية ذاتها، التي ألفها، غادر المقهى، ولكن إلى مكان مجهول.
مجلة أسفار \ 1977