مبدعون
عالميون
بعد 400 عام على
ولادة رامبراندت
"السير على هذا الدرب "
سيف عادل /
هولندا
في بيئة مبهرة ذات طابع متقلب وفي شارع
تنغرس على جانبيه سلسلة متراصفة من الأشجار المعمرة ترمي بظلالها على هذا الزقاق
الضيق وتسير أحدى أفرع نهر الراين بجانبه, وثمة طاحونة قديمة تقف بشموخ أخر الرواق
.. نشأ الفنان "فان راين رمبراندت (1606-1669)" الذي لا يمكن أن نصف ما تمكن من الوصول إليه قبل أربعمائة
عام من الآن بذات الدقة التي نرمي الوصول
إليها .. هذا هو السر الذي نحاول وحاول الكثيرين قبلنا ولم يحصوا جميع الزوايا
الخفية داخل كل أطار لتلك الأعمال المبهرة حقاً لهذا الفنان .. وهنا نقف بصمت
لنحاول تأمل الحياة المليئة بالشهرة والعاطفة والمرار والتقلبات الغامرة لهذا
المبدع بحق ..
في أعوامه الأولى ظل يصارع شغف الرسم داخله
وبدأت الرؤية تكتمل في تلافيف العقل الجامح للأبداع الفطري لكثير من الأعمال، وظلت
تتكدس داخل مخيلته الخصبة المشعة بالنور الذي عكس في أعمالهِ للطبيعة المتقلبة
للأراضي المنخفضة فكان وما يزال سيد الظل والضوء وصاحب مدرسة خاصة ولدت قبل أربعمائة
عام وما تزال.
ولد هذا الفنان لعائلة كان سيدها يعمل طحانا
ً أستطاع أن يجمع ثروة لا
بأس بها، بحيث يمكن لأفراد هذه الأسرة الكريمة أن يستثمروها ويحسنوا أستغلالها،
لتحقيق حياة أفضل، كان ترتيبه الخامس بين أخوته، وكان يحمل
أسماً في تلك الأيام نادراً لم يكن ذا شعبية ، كان حُلم الأب الكبير لهذا الولد
الصغير بأن يكون محامياً أو قساً لان الفتى أكتسب حبه للدين من خلال حبه لوالدته، هذه المرأة المتمسكة بامور
الدين، لكن رياح القدر شاءت وأختلفت مع سفينة الأب.
بعد أن بلغ عمر الفتى "رامبراندت"
سن الرابعة عشر، أدخل الى جامعة ليدن، التى كانت حديثة التأسيس، وخلال فترة دراسته
الجامعية، تصاعدة داخل روحه فطرة الرسم، فأخذ يرسم على دفاتره وكتبه المدرسية، كما
قرر أن يترك مقاعد الدراسة وينشغل بالرسم، وقد كلفه هذا الطموح، جهودا كبيرة لكي
يرضي والديه بجدوى الأحتراف الفني، وبعد تفكير عميق وافق والده، وهكذا نُقل "رامبراندت"
من جامعة ليدن، وأرسل عند الفنان جاكوب ليمتهن الرسم، والجدير بالذكر أن هذا
الفنان، أمضى فترة طويلة من عمره لتعلم أصول الرسم فى أيطاليا، ثم عاد الى ليدن
ليعلم هذا الفن أسس الرسم الأولية.
بقى "رامبراندت" عند
أستاذه جاكوب، كما هو معروف مدة ثلاث
سنوات، أكتسب خلالها مهارات فنية كبيرة، وخلال هذه الفترة، كان الفتى "رامبراندت"
يرسخ صلته بزميل له يكبره سناً، هو جان ليفز وقد أنغمس الأثنان فى علاقة صداقة
خاصة، ولعل لتشابه أمزجتهما سبب فى هذه العلاقة، ومما هو مؤكد تاريخياً أن هذا
الصديق، هو الذى دفعه للتخلي عن أستاذه جاكوب والتوجه الى أمستردام للدراسة على يد
(لاستمان) الذي ذاع صيته فى تلك الفترة، وقد وافقه أبوه على ذلك، وهكذا غادر أبن
السابعة عشر الى أمستردام، فقضى قرابة ستة أشهر فى استوديو لاستمان تعلم خلالها
اللغة الأيطالية وأطلع على حياة المجتمع الأيطالي، إذ أن أستاذه تعلم فى أيطاليا،
وكان لا بد لأي فنان يرغب فى تعلم الفن أن يعرف أشياء عن أيطاليا، لأن أيطاليا فى
تلك السنوات كانت محط أنظار الطامحين فى الفن وكانت عاصمة العالم المتمدن لأن
القرن السابع عشر، يعتبر العصر الذهبى للرسم الأيطالي، ويمثل بحق عصر النهضة، غير أن
هولندا، هذا البلد الذى تخلص تواً من قبضة الأسبان، كان ابناؤه يدفعهم هاجس التحدي
فى سبيل الأرتقاء بحاضرهم نحو مستويات رفيعة، فخلال فترة لا تزيد عن نصف قرن أستطاعت
هولندا أن تنجب العديد من الأسماء الفنية الفاعلة فى تاريخ الفن أمثال: روبنز الذى
ولد عام 1575، وجان فيرمر الذى
ولد عام 1632 وخلال هذه الفترة المحصورة بين ولادة هذين الرسامين برزت الى حيز الوجود
أسماء لامعة نذكر على سبيل المثال : جان ستسين، جاكوب فان سويدال، بيتر دى هاوك،
هافليس سيفرز، اليزابيث فان دريتر، وفان
راين رامبراندت الذي نحن بصدد الحديث عنه.
كان رامبراندت، يشده الجمال الغرائبي، وكان يتأمل الوجود الرائع ويشبع التامل
بتلذذه من خلال المظاهر الجمالية، الذى يشرق من خلال فرشاته عن الذات داخل الصفات
الموضوعية، وبالرغم من سلسلة الدروس فى الرسم الواقعي والتى أخذها عن أستاذه
لاستمان فأن رامبراندت كان يفقد بانصهاره تجاه نزوعه الحسي بتوجيه كل جهوده لتحرير
خياله، وتمعن ذائقته بمشاهدة الجمال فى
مدينة امستردام .
أن الظل عند "رامبراندت"
سمة بارزة، غير أنه من بين أعظم
المواهب عند "رمبرانت" هو القدرة على خلق وهم ينبض بالواقع من الحجم
الكامل
ولكنه لا يغلف المشهد بأكمله بل بإنشاء حيوية على حقيقة رقيقة، فالقفز بين العتمة
والضوء تتدرج شيئا فشيئا، حتى تبلغ وهماً بصريا متكاملاً، أن المتمعن يشهد فى الأشكال
الأدمية داخل الأعمال روحاً تنبض بالحياة، وعند أخفاء نقاط الأختلاف فيما إذا كانت
العتمة أو الأناره أكثر أهمية من الأشكال التى تظهر بصورة متكاملة من الظل أو أنها
مغلفة به فنصل بأن الجوهر من الحديث، يكمن فى الطرائق المبتكرة الجديدة في التوزيع
اللوني.
أستقر رامبراندت في مدينة أمستردام،
بعد وفاة والده سنة 1630، هذه المدينة البعيدة عن التعصب الديني، مدينة آمنه
للكثيرين ممن تحلم نفوسهم بالحرية، وحين أستقر بها هذا الفنان، ليس لأنه صنع أسمه
الفني فيها فحسب، بل كان يتوقع بأن مهمة كبيرة ستناط به وفعلا حدث ذلك، ففى عام 1632، تكلف برسم
رائعته ذائعة الصيت "درس التشريح للدكتور تولب" فعندما نشاهد هذا العمل، نرى أن المُبدع
"رامبراندت" تعامل مع الحدث بطريقة مؤثرة وعميقة، حيث أن الضياء المشرق على
الجسد الشاحب وسط الطاولة وتطوقها مجموعة الاطباء ويقف بينهم الدكتور تولب،
فالمجموعة مرتبة بشكل يقدح الضياء من حيث لا نعلم كأن الضياء ينبع من العدم، فتبدو
الألوان وكأنها تأخذ تأثيرها الحيوى على المشهد معطية تفسيرات للوجوه والملامح
المفعمة بالحيوية وخاصة إذا قورنت مع الوضع الطبيعى للألوان الخضراء المصفرة
المرتسمة على الجثة، وهنا تأخذ الجثة مكان الموضوع البارز، كأن "رامبراندت"
متمكناً من جعل الدكتور تولب وتلامذته فى وضع طبيعى للغاية، مما ساعد فى تأكيد
الجو الخاص بالمشهد بصورة مؤثرة والتعبير عن تنوع الأحاسيس المختلفة للشخصيات، أستطاع "رامبراندت"
على تشكيل أسلوبه فى الرسم بما هو مترافق مع الذائقة التقليدية وارضاء الذوق العام،
لقد كان رسم مثل هذه الموضوعات الكبيرة، تقليدا شائعاً، لنقابة الجراحين
الهولنديين فى أمستردام.
1634 تزوج "رامبراندت"
.... لم يكن حبه للفتاة "ساسكيا" مجرد شعور عاطفي، بل إنها حركت في نفسه
آيات الإبداع، وفجرت طاقات فنه،
تزوج "رامبراندت" من
"ساسكيا" وكانت "ساسكيا" فتاة جميلة تشبه النساء في لوحات الرسام الفلمنكي "بول روبنز"،
وأتخذ "رامبرانت" من "ساسكيا" تعبيرًا
عن الدفء والألفة الممتلئة بالعاطفة، وكان كلاهما يأمل في حياة سعيدة، بهذا الزواج، إلا أن الرياح العاصفة للقدر أبت أن تتماشى مع سفينة
"رامبرانت" فقد مات وليدهما الأول والثاني والثالث، وكانت
الضربة القاصمة لـ"رامبراندت" بالمولود الرابع، فقد عاش المولود هذه المرة، ولكن أمه "ساسكيا" هي التي ماتت في عام
1642، كان وفاة "ساسكيا" نقطة تحول في حياة "رامبراندت"
فقد انقلبت حياته حزنا ً وألما ًعلى فراقها، ولم تعد الحياة
بعدها سهلة على "رامبراندت"، الذي جمع ثروة هائلة لإسعاد "ساسكيا"، ثم ما لبث أن انطوى على نفسه.. يعيش حزنه الأزلي الدفين،
فتبددت ثروته الهائلة،
التي جمعها طوال حياته وهو الذي
ولد لأبوين فقيرين وعاش مكافحا ً طوال عمره إلى أن جمع ثروة
هائلة بسبب شهرته التي أنتشرت في كل مكان إلا أن موت زوجته "ساسكيا"
أثر على حياته، وكأنه لم يعد له أمل في الحياة فضاعت ثروته.
كانت تمرّ على "رامبراندت" أيام يخاف فيها من العمى, في الليل يحلم به فيستيقظ مرتجفاً وضربات قلبه متسارعة وكان يقول حتى لو عميت سأظل أرسم .. أنا أعرف الألوان من رائحتها، أصابعي تعرفها أيضاً، الألوان جزء مني, هي مكوّني الداخلي، وأنا مثل حَمَل يعرف كيف يرضع وأين، غسل عيناه وعاده الى الرسم .. دربه الطويل.
أظهرت كافة اللوحات التي رسمها
"رامبراندت" في الثلاثينيات
من القرن السابع عشر مهارة
فائقة في الملاحظة، كشفت عن الصلة الروحية لـ"رامبرانت"
في ذلك الوقت أحتل "رامبرانت" مركز الرسام المرموق
للشخصيات، كان يرسم لوحاته عادة على خلفية رمادية فاتحة، وكان شكلها بيضوياً، وفي بعض الحالات غريب الشكل"، ويؤكد
المختصون أن "رامبراندت" برع في تصوير الأشخاص،
والمشاعر العميقة والمتداخلة، والمفعمة بالحزن والشقاء والمعاناة.
ويقدر عدد الأعمال المنسوبة الى الفنان "رامبراندت"
ما يقرب من 600 لوحة ،و300 نقش، بعض من اعماله هي : سانت بول في السجن (1627) ،
العشاء في رابطة ايموس (1630) ، ودرس التشريح للدكتور تولب (1632) ، فتاة في نصف
مفتوح الباب (1645) ، الطاحونه (1650 ) ، عودة لأبن مسرف (بعد 1660) والعديد من
الصور.
ومن المعروف ان "رامبراندت" رسم ثمانى لوحات لوالديه، واثنتى عشر
لوحة لشقيقته اليزابث، وخمس لوحات لزوجة شقيقه دراين لكنه رسم الكثير من اللوحات
والتخطيطات لزوجته ساسكيا ورسم أكثر من خمسين عملا ً له. توفى الفنان رامبراندت فان
راين عام 1669، وقد مات فى ملجا للفقراء في أمستردام .
وقد ركزت هولندا
في برنامجها السياحي لعام 2006، على الرسام "رامبراندت"، فقد أقيمت أحتفالات، بمرور 400 عام على ميلاده، وتوقعت هولندا أن
يفد إليها أكثر من مليون
زائر لحضور الاحتفالات، وقد أقامت
العديد من الاحتفالات والمناسبات في
لايدن، حيث ولد "رامبراندت".
وتضمنت الأحتفالات في هولندا زيارة الأماكن الحقيقية، التي عاش بها
"رامبراندت"، بما فيها منزله الذي ولد فيه، والمدرسة اللاتينية التي
التحق بها، وأول "استوديو" له. ونظم
مهرجان أستمر ثلاثة أيام احتفالاً بميلاده.