السبت، 29 ديسمبر 2012

مبدعون عالميون -سيف عادل / هولندا



مبدعون عالميون
بعد 400 عام على ولادة رامبراندت
"السير على هذا الدرب "





سيف عادل / هولندا


     في بيئة مبهرة ذات طابع متقلب وفي شارع تنغرس على جانبيه سلسلة متراصفة من الأشجار المعمرة ترمي بظلالها على هذا الزقاق الضيق وتسير أحدى أفرع نهر الراين بجانبه, وثمة طاحونة قديمة تقف بشموخ أخر الرواق .. نشأ الفنان  "فان راين رمبراندت (1606-1669)" الذي لا يمكن أن نصف ما تمكن من الوصول إليه قبل أربعمائة  عام من الآن بذات الدقة التي نرمي الوصول إليها .. هذا هو السر الذي نحاول وحاول الكثيرين قبلنا ولم يحصوا جميع الزوايا الخفية داخل كل أطار لتلك الأعمال المبهرة حقاً لهذا الفنان .. وهنا نقف بصمت لنحاول تأمل الحياة المليئة بالشهرة والعاطفة والمرار والتقلبات الغامرة لهذا المبدع بحق ..
     في أعوامه الأولى ظل يصارع شغف الرسم داخله وبدأت الرؤية تكتمل في تلافيف العقل الجامح للأبداع الفطري لكثير من الأعمال، وظلت تتكدس داخل مخيلته الخصبة المشعة بالنور الذي عكس في أعمالهِ للطبيعة المتقلبة للأراضي المنخفضة فكان وما يزال سيد الظل والضوء وصاحب مدرسة خاصة ولدت قبل أربعمائة عام وما تزال.
     ولد هذا الفنان لعائلة كان سيدها يعمل طحانا ً أستطاع أن يجمع ثروة لا بأس بها، بحيث يمكن لأفراد هذه الأسرة الكريمة أن يستثمروها ويحسنوا أستغلالها، لتحقيق حياة أفضل، كان ترتيبه الخامس بين أخوته، وكان يحمل أسماً في تلك الأيام نادراً لم يكن ذا شعبية ، كان حُلم الأب الكبير لهذا الولد الصغير بأن يكون محامياً أو قساً لان الفتى أكتسب حبه للدين من خلال حبه لوالدته، هذه المرأة المتمسكة بامور الدين، لكن رياح القدر شاءت وأختلفت مع سفينة الأب.
     بعد أن بلغ عمر الفتى "رامبراندت" سن الرابعة عشر، أدخل الى جامعة ليدن، التى كانت حديثة التأسيس، وخلال فترة دراسته الجامعية، تصاعدة داخل روحه فطرة الرسم، فأخذ يرسم على دفاتره وكتبه المدرسية، كما قرر أن يترك مقاعد الدراسة وينشغل بالرسم، وقد كلفه هذا الطموح، جهودا كبيرة لكي يرضي والديه بجدوى الأحتراف الفني، وبعد تفكير عميق وافق والده، وهكذا نُقل "رامبراندت" من جامعة ليدن، وأرسل عند الفنان جاكوب ليمتهن الرسم، والجدير بالذكر أن هذا الفنان، أمضى فترة طويلة من عمره لتعلم أصول الرسم فى أيطاليا، ثم عاد الى ليدن ليعلم هذا الفن أسس الرسم الأولية.
     بقى "رامبراندت" عند أستاذه جاكوب،  كما هو معروف مدة ثلاث سنوات، أكتسب خلالها مهارات فنية كبيرة، وخلال هذه الفترة، كان الفتى "رامبراندت" يرسخ صلته بزميل له يكبره سناً، هو جان ليفز وقد أنغمس الأثنان فى علاقة صداقة خاصة، ولعل لتشابه أمزجتهما سبب فى هذه العلاقة، ومما هو مؤكد تاريخياً أن هذا الصديق، هو الذى دفعه للتخلي عن أستاذه جاكوب والتوجه الى أمستردام للدراسة على يد (لاستمان) الذي ذاع صيته فى تلك الفترة، وقد وافقه أبوه على ذلك، وهكذا غادر أبن السابعة عشر الى أمستردام، فقضى قرابة ستة أشهر فى استوديو لاستمان تعلم خلالها اللغة الأيطالية وأطلع على حياة المجتمع الأيطالي، إذ أن أستاذه تعلم فى أيطاليا، وكان لا بد لأي فنان يرغب فى تعلم الفن أن يعرف أشياء عن أيطاليا، لأن أيطاليا فى تلك السنوات كانت محط أنظار الطامحين فى الفن وكانت عاصمة العالم المتمدن لأن القرن السابع عشر، يعتبر العصر الذهبى للرسم الأيطالي، ويمثل بحق عصر النهضة، غير أن هولندا، هذا البلد الذى تخلص تواً من قبضة الأسبان، كان ابناؤه يدفعهم هاجس التحدي فى سبيل الأرتقاء بحاضرهم نحو مستويات رفيعة، فخلال فترة لا تزيد عن نصف قرن أستطاعت هولندا أن تنجب العديد من الأسماء الفنية الفاعلة فى تاريخ الفن أمثال: روبنز الذى ولد عام 1575، وجان فيرمر الذى ولد عام 1632 وخلال هذه الفترة المحصورة بين ولادة هذين الرسامين برزت الى حيز الوجود أسماء لامعة نذكر على سبيل المثال : جان ستسين، جاكوب فان سويدال، بيتر دى هاوك، هافليس سيفرز، اليزابيث فان دريتر،  وفان راين رامبراندت الذي نحن بصدد الحديث عنه.
    
    كان رامبراندت، يشده الجمال الغرائبي، وكان يتأمل الوجود الرائع ويشبع التامل بتلذذه من خلال المظاهر الجمالية، الذى يشرق من خلال فرشاته عن الذات داخل الصفات الموضوعية، وبالرغم من سلسلة الدروس فى الرسم الواقعي والتى أخذها عن أستاذه لاستمان فأن رامبراندت كان يفقد بانصهاره تجاه نزوعه الحسي بتوجيه كل جهوده لتحرير خياله، وتمعن  ذائقته بمشاهدة الجمال فى مدينة امستردام .
     أن الظل عند "رامبراندت" سمة بارزة، غير أنه من بين أعظم المواهب عند "رمبرانت" هو القدرة على خلق وهم ينبض بالواقع من الحجم الكامل ولكنه لا يغلف المشهد بأكمله بل بإنشاء حيوية على حقيقة رقيقة، فالقفز بين العتمة والضوء تتدرج شيئا فشيئا، حتى تبلغ وهماً بصريا متكاملاً، أن المتمعن يشهد فى الأشكال الأدمية داخل الأعمال روحاً تنبض بالحياة، وعند أخفاء نقاط الأختلاف فيما إذا كانت العتمة أو الأناره أكثر أهمية من الأشكال التى تظهر بصورة متكاملة من الظل أو أنها مغلفة به فنصل بأن الجوهر من الحديث، يكمن فى الطرائق المبتكرة الجديدة في التوزيع اللوني.
     أستقر رامبراندت في مدينة أمستردام، بعد وفاة والده سنة 1630، هذه المدينة البعيدة عن التعصب الديني، مدينة آمنه للكثيرين ممن تحلم نفوسهم بالحرية، وحين أستقر بها هذا الفنان، ليس لأنه صنع أسمه الفني فيها فحسب، بل كان يتوقع بأن مهمة كبيرة ستناط  به وفعلا حدث ذلك، ففى عام 1632، تكلف برسم رائعته ذائعة الصيت "درس التشريح للدكتور تولب" فعندما نشاهد هذا العمل، نرى أن المُبدع "رامبراندت" تعامل مع الحدث بطريقة مؤثرة وعميقة، حيث أن الضياء المشرق على الجسد الشاحب وسط الطاولة وتطوقها مجموعة الاطباء ويقف بينهم الدكتور تولب، فالمجموعة مرتبة بشكل يقدح الضياء من حيث لا نعلم كأن الضياء ينبع من العدم، فتبدو الألوان وكأنها تأخذ تأثيرها الحيوى على المشهد معطية تفسيرات للوجوه والملامح المفعمة بالحيوية وخاصة إذا قورنت مع الوضع الطبيعى للألوان الخضراء المصفرة المرتسمة على الجثة، وهنا تأخذ الجثة مكان الموضوع البارز، كأن "رامبراندت" متمكناً من جعل الدكتور تولب وتلامذته فى وضع طبيعى للغاية، مما ساعد فى تأكيد الجو الخاص بالمشهد بصورة مؤثرة والتعبير عن تنوع الأحاسيس المختلفة للشخصيات، أستطاع "رامبراندت" على تشكيل أسلوبه فى الرسم بما هو مترافق مع الذائقة التقليدية وارضاء الذوق العام، لقد كان رسم مثل هذه الموضوعات الكبيرة، تقليدا شائعاً، لنقابة الجراحين الهولنديين فى أمستردام.

    1634 تزوج "رامبراندت" .... لم يكن حبه للفتاة  "ساسكيا" مجرد شعور عاطفي، بل إنها حركت في نفسه آيات الإبداع، وفجرت طاقات فنه، تزوج "رامبراندت" من "ساسكيا" وكانت "ساسكيا" فتاة جميلة تشبه النساء في لوحات الرسام الفلمنكي "بول روبنز"، وأتخذ "رامبرانت" من "ساسكيا" تعبيرًا عن الدفء والألفة الممتلئة بالعاطفة، وكان كلاهما يأمل في حياة سعيدة، بهذا الزواج، إلا أن الرياح العاصفة للقدر أبت أن تتماشى مع سفينة "رامبرانت" فقد مات وليدهما الأول والثاني والثالث، وكانت الضربة القاصمة لـ"رامبراندت" بالمولود الرابع، فقد عاش المولود هذه المرة، ولكن أمه "ساسكيا" هي التي ماتت في عام 1642، كان وفاة  "ساسكيا" نقطة تحول في حياة "رامبراندت" فقد انقلبت حياته حزنا ً وألما ًعلى فراقها، ولم تعد الحياة بعدها سهلة على "رامبراندت"، الذي جمع ثروة هائلة لإسعاد "ساسكيا"، ثم ما لبث أن انطوى على نفسه.. يعيش حزنه الأزلي الدفين، فتبددت ثروته الهائلة، التي جمعها طوال حياته وهو الذي ولد لأبوين فقيرين وعاش مكافحا ً طوال عمره إلى أن جمع ثروة هائلة بسبب شهرته التي أنتشرت في كل مكان إلا أن موت زوجته "ساسكيا" أثر على حياته، وكأنه لم يعد له أمل في الحياة فضاعت ثروته.

    كانت تمرّ على "رامبراندت" أيام يخاف فيها من العمى, في الليل يحلم به فيستيقظ مرتجفاً وضربات قلبه متسارعة  وكان يقول حتى لو عميت سأظل أرسم .. أنا أعرف الألوان من رائحتها، أصابعي تعرفها أيضاً، الألوان جزء مني, هي مكوّني الداخلي، وأنا مثل حَمَل يعرف كيف يرضع وأين، غسل عيناه وعاده الى الرسم .. دربه الطويل.
     أظهرت كافة اللوحات التي رسمها "رامبراندت" في الثلاثينيات من القرن السابع عشر مهارة فائقة في الملاحظة، كشفت عن الصلة الروحية لـ"رامبرانت" في ذلك الوقت أحتل "رامبرانت" مركز الرسام المرموق للشخصيات، كان يرسم لوحاته عادة على خلفية رمادية فاتحة، وكان شكلها بيضوياً، وفي بعض الحالات غريب الشكل"، ويؤكد المختصون أن "رامبراندت" برع في تصوير الأشخاص، والمشاعر العميقة والمتداخلة، والمفعمة بالحزن والشقاء والمعاناة.
    ويقدر عدد الأعمال المنسوبة الى الفنان "رامبراندت" ما يقرب من 600 لوحة ،و300 نقش، بعض من اعماله هي : سانت بول في السجن (1627) ، العشاء في رابطة ايموس (1630) ، ودرس التشريح للدكتور تولب (1632) ، فتاة في نصف مفتوح الباب (1645) ، الطاحونه (1650 ) ، عودة لأبن مسرف (بعد 1660) والعديد من الصور.
     ومن المعروف ان "رامبراندت" رسم ثمانى لوحات لوالديه، واثنتى عشر لوحة لشقيقته اليزابث، وخمس لوحات لزوجة شقيقه دراين لكنه رسم الكثير من اللوحات والتخطيطات لزوجته ساسكيا ورسم أكثر من خمسين عملا ً له. توفى الفنان رامبراندت فان راين عام 1669، وقد مات فى ملجا للفقراء في أمستردام .
     وقد ركزت هولندا في برنامجها السياحي لعام 2006، على الرسام "رامبراندت"، فقد أقيمت أحتفالات، بمرور 400 عام على ميلاده، وتوقعت هولندا أن يفد إليها أكثر من مليون زائر لحضور الاحتفالات، وقد أقامت العديد من الاحتفالات والمناسبات في لايدن، حيث ولد "رامبراندت". وتضمنت الأحتفالات في هولندا زيارة الأماكن الحقيقية، التي عاش بها "رامبراندت"، بما فيها منزله الذي ولد فيه، والمدرسة اللاتينية التي التحق بها، وأول "استوديو" له. ونظم مهرجان أستمر ثلاثة أيام احتفالاً بميلاده.

الجمعة، 28 ديسمبر 2012

بغداد تغرق في بحار أمانتها- كاظم فنجان الحمامي


بغداد تغرق في بحار أمانتها


كاظم فنجان الحمامي

قبل أن نخوض في بحار أمانة العاصمة لابد من الإشارة إلى إن مساحة بغداد اصغر من اصغر عاصمة عربية, فقد تقلصت حدودها الإدارية بقرارات ارتجالية تبنتها  السلطات المتبغددة في العهود السابقة واللاحقة بهدف تقليص المساحات الخدمية, وتكثيف جهود الحكومة في توفير العناية الفائقة بالعاصمة, وضمان الارتقاء بمستواها نحو الأفضل, فلا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي, ولم تدرك حتى الآن إن العبرة ليست بالتقليص وإنما بالتخليص, وباختيار الشخص المناسب للمكان المناسب. .

وهكذا انبرت الحكومة للدفاع عن أمين العاصمة, والتباهي بمواهبه الخارقة وقدراته التعميرية الفذة, حتى وصل بنا الأمر إلى مطالبة أمريكا بانتدابه للعمل لديها, وتكليفه بالتصدي لإعصار ساندي, فهو بالنسبة لنا سوبرمان الأعاصير والعواصف, ورجل الكوارث الطبيعية في كل الكواكب والمجرات. .
لكننا فوجئنا بغرقه في الأعماق السحيقة لشوارع العاصمة في أول زخة مطر هبت عليها فاكتسحتها كما الطوفان الجارف, وتوقفت منظوماتها المخصصة لسحب المياه الثقيلة والخفيفة, وفشلت أجهزة العاصمة في تصريف المياه نحو نهر دجلة الذي ترقد على ضفتيه في بحار الكرخ وبحيرات الرصافة. .
زخة واحدة فقط كانت كافية لكشف عورات أمانة العاصمة التي لم تكن أمينة بالمرة, من يزر العاصمة الأردنية عمان يشعر إنها بنيت على أرض ملتوية متموجة, حيث تشاهد المنخفضات والمرتفعات, لكنها لا تتأثر بالأمطار حتى لو استمر هطولها لأسابيع متواصلة, رغم انها لا تقع على نهر ولا على بحر, فكفاءة مجاريها كفيلة بشفط آخر قطرة من حبات المطر. .

من المفارقات العجيبة ان المدن العراقية غرقت كلها في يوم واحد تضامنا مع بغداد, فجرفتها السيول في ساعة واحد, وجرفت معها كل الوعود الكاذبة, والخطب الرنانة, والخطط الهشة. .
كانت بيوت أصحاب المعالي والسمو, وأصحاب المراتب العليا بمنأى عن الطوفان, فوقفوا متفرجين كعادتهم على ضفاف بحار أمانة العاصمة, لم ينتقدوا أمينها الأمين, ولم يوجهوا له الملامة, لكنهم عالجوا الأزمة بإصدار قرار فوري منحونا بموجبة عطلة مطرية. .

يقولون: في الامتحان يكرم المرء أو يهان, فما بالك بامتحانات الأنواء الجوية التي هطلت فيها الأمطار لبضعة ساعات, وكانت كافية لإغراق المدينة برمتها, لكنهم لن يفرطوا بأمين العاصمة السابق, ولم ينتقدوه, وربما سيمنحونه فرصة أخرى لأداء الامتحان في الدور الثالث أو الرابع. .
انتحر هوشيموتو فوكودا مدير بلدية مدينة (كوبي) في اليابان بعد اكتشاف عجزه في تأمين مياه الشرب لأبناء مدينته, وسننتحر نحن إكراما وتقديرا لجهود أمين العاصمة وأمانته, وربما نتلمس له الأعذار فنجبر أنفسنا وأولادنا على تعلم فنون السباحة في الشوارع والأنفاق العميقة, ونمارس هواية صيد الأسماك (الأمينية), نسبة إلى أمانة العاصمة, التي سمحت بتدفق اسماك الجري إلى صالات بيوتنا وممراتنا. .
كنا نتوقع إنهم سيعلنون بغداد مدينة منكوبة, لكنهم أعلنوا عن نكبتنا بتعطيل العمل بما يسمى العطلة المطرية القسرية. . .
مطر .. مطر .. مطر
بغداد غرّكها المطر
لا رمل فاد ولا حجر
كلشي تساوة وية البحر
وتعلل أويانة القرش
... الطابق الثالث غرگ
وبالهول يتمشى الرفش
الماي صاعد للركب
وطوفت خشبات العفِش
سلّية سويت البشت
وللسوگ مريت بطشت
مو صوج أمين العاصمة
المگرود ما عندة وقت
وماراح ألوم واشكتي
ولا روحي يحرگها القهر
صوچ البناية الناصية
والماي حتى يعتلي
الطابق الثالث نزل
والماي طب من الممر
هيا بنا انطبش سوى
وننسى الزبايل والحفر
خلیها لاشغل وعمل
ونگضيها عطلة هالشهر
ونغني من كثر القهر
مطر..
مطر ..
مطر
قصيدة لكاظم ال مبارك الوائلي




عام سعيد

الخميس، 27 ديسمبر 2012

وسام زكو-فضاءات الامتداد ودينامية الصفر




وسام زكو
فضاءات الامتداد ودينامية الصفر


  عادل كامل

[ 1 ]   شذرات

        ما الذي يريد ان ينجزه جيل خرج بشكل من الأشكال من ثلاثة حروب أسطورية في عصر ما بعد الحداثة ( 1980 2003 ) وهو يدرك ان التقدم باتجاه الغد ، لا يبعده عن شبح التدحرج في المجهول : جيل ترك خلفه الأوائل والرواد وكل من حاول تلبس أقنعة الحداثات والمغامرات الفنية .. ليتلمس منطق عصر ( رفاهيات ) واستبصارات ملتبسة ، على صعيد المدلولات ، أو على صعيد التشبث بدالات الامتحان ..؟  ان سمات هذا الجيل ، لم تظهر ، في التشكيل العراقي إلا عبر وثبات داخل اغراءات استعادة أحلام استلبت ، وكينونات ما زالت تحمل قرون من الوباءات والطوفانات  والاغترابات  والحروب الداخلية .بمعنى [ 1 ] هل تولد تجارب هذا الجيل ، خارج إمبراطورية التنازع ، والخوف حد الصمت  [ 2 ] وهل للأمل ، في زمان غدت فيه التقنيات تفكر ، معنى [ 3 ] وهل للجوهر ، في الاستهلاك ، وتحول الفن الى علامات تصادم وتنافس ، قدرة إبداع مصيره ، وجعلنا نبني ، داخل تاريخ عريق للإبداع والمقاومة ، الخطاب بما يجعله توليديا ، وليس استرجاعيا ، يمتلك ذاته ، بعيدا عن الاستعارات ، ممتلئا وليس خاويا ، في الفضاء وليس داخل الأقنعة ؟  
 
[ 2 ] تبعثر

     لا تتشكل نصوص وسام زكو وكأنها تتمة لتجارب عراقية سابقة ، بل تصدمنا بتشكيلات بالغة التبعثر . إنها ليست مفككة أو اعتمدت التلصيق والبناء .  ولكنها تبقى تحافظ على وحدتها ومركزها وكأنها استعارات حرص الفنان ان يجعلها أقرب الى مشاهد النجوم والبراكين والبكتريا . فالتبعثر يلمّح ضمنا وكأن الاستقرار أو التوازن أو المسرة رمزيا- ليس إلا حالة تتداخل مع الديمومة العامة للمشاهد . بيد ان نصه لا يقص ولا يحكي . انه لا يدفع بالرسم الى الصفر ، ولا يصمت ،  لأنه ينقلنا الى مناطق الخلخلة . ثمة تدفق أوانفجارات لها مغزاها النفسي المندمج بالخامات والتكنيك . فالفنان يسمح للعناصر ان تتنقل عبر فجوات لا تحصى .. ومسؤوليات المراقب / المشاهد ، تغدو افتراضية . لأن الأخير لن يجد لذّات  أو معان بعيدا عن تنقيبا ته في النص . هذا الاحتمال ، عند الفنان ، دفع بالنص ليأخذ مسارا آخر في التأمل  وفي قلب عادات التذوق التي رافقت الرسم التقليدي ، وحداثته المستعارة . فالفنان ينقلنا الى  المواقع المشتركة ، خارج تاريخ الرسم ،بمعنى انه يتمسك بالمرئيات والخامات والمشاهد البكر .. فالعناصر هي ذاتها تتكون عبر زمن النص ، ورؤية الفنان ، ذاتها ، هي التي تعلن عن اشتغاله في تفحص التبعثر المشترك بينه وبين الخارج . ربما انجذب إليها ، أو ، عاد الى مفهوم التعبير وصاغه بحذف تام ، وربما وجد انه يتجانس معها . فالفنان يغادر ولا يحفر فيه ذكراه . لكن الاسم يتداخل بطبيعة الفعل .. فالاسم الذي لم يك له وجود ، قبل الفعل ، يصير علامة : يصير فجوة مشغولة بإحكام وكأن الفراغ بمعانيه كافة يجعل التضاد وحدة تدفعنا للقبول بالتبعثر . فالنص هو ذرات مذابة ، كقطعة سكر ، في فضاء ساخن : إنها الذرات لا تخفي اندماجها ، بل تصوره ، وتقتنصه ، لتعلنه تاما .. فالحركة محاصرة بضرب من السكون ، عبر : تضادات الألوان ، وتضادات المعالجة الملمسية .. فالرسام المنشغل بعمل الأصابع  والشم والبصر  لا يغادر عمل الذهن : فاللوحة تبث نظام تصادماتها كديمومة في الاتصال .. بيد إنها تقول الذي يدوّن .. تقول إنها تريد ان تدوّن الذي تريد إيصاله ، وكأنها تعيد الحياة لمغزى ( الشيء في ذاته )  الذي صار مزدوجا : ان المسافة القصية في بلوغها لامرئيها تعلن عن وجودها مرئيا ، كما تحافظ على أسرار نظامها في تدفقاته وانفجاراته ، كأنه لا يرسم ، بل كأنه يلتقط ويتلمس ، بمعنى انه يحافظ على حالة المشهد وفي الوقت ذاته يصير جزءا منه . وقد تكون عوامل عصرنا المتداولة عبر الفضائيات ومشاهدها المتسارعة قد دفعت بالفنان الى ضرب من التشفير : فهو يتخلى عن مفاهيم الرسم ، وليس التجريد، عنده ،فخامة أو لذات جمالية ، بل بوحا يبلغ حد تنظيم التقاطعات والاعتراضات والتبعثرات فنيا. فالفنان ينظم التصدعات ، داخل زمنها وخارجه ، واضعا علاماته تحت الرقابة  ، والمقارنة . فالواقعية لا  تحافظ على المعنى  أو تدمره ، بل تضعنا في مأزق الاختلاف : التضاد وقد صار علامة لنا ، مع انه ، يحافظ على خطاب عام ، وجد لمساته في معالجات مشفرة ، بما يذهب وراء الكلام ، والسرد ، والاعتدال .  


[ 3 ]  أصوات

      إنها نصوص صوتية . فعلى العكس من واقعية الكم التي تحدث عنها الرائد محمود صبري في أوائل الأربعينيات تصير الموجات ، البصرية ، سمعية . عمليا إنها تذهب بنا لاسترجاع  احتمالات [ 1 ] الموجات [ 2 ] الكلمات [ 3 ] والاحتواء ، أو ديمومة الاندماج . فالأصوات تغدو مرئية  مع إنها ترجعنا ، في اكثر العلوم حداثة ، الى الصمت . بيد ان الصمت هو الوجه الآخر ، الخفي ، للمشهد الصوتي . والفنان الذي خلع ، وابعد ، ونفى التشخيص ، وجد انه أمام فضاء اللا أصوات .. فكيف يبرهن ، في المغزى الاختزالي والصوفي على كثافة لحظاته النابضة ، الثرية بكنوزها ، ان لم يجعل الحضور مشفرا ًبعدمه . فالاصوات  لا تأتي بحسب نظام الاستقرار ، والعادات ، وانما بالتصادم والانسجام التشكيلي ، مثل نظام المصادفات ، لا ينفصل عن سياقه الحتمي .. فهو يعلن دويه ، لحظة الانبثاق ، جاعلا من الصوت نداءً كونيا / بشريا . فالحواس لا تخترع الأفكار، كما إنها لا توجد نفسها : إنها تكمل ماضيها ، فهي بلا مستقبل مثلما هي أبدا على حافة الانهيار . فلأصوات تحدث بدافع الخلخلة ، بعيدا عن الثابت والقواعد التي اكتسبت شرعيتها . الرسام يتمسك بصدى ما قديم وقائم على التحولات : من الدوي الى الانسجام ، ومن العمق الى السطوح ، ومن الصمت الى الصدى : أصوات لا تخترعها حاسة السمع ، ولا الذهن ، كما إنها لا تبرهن على تاريخها إلا عبر هذا الاكتفاء الناقص . فالوجود ضرورة لانه يتمم مصيره ، مثلما الأصوات تغدو إشارات حرة لفراغ بلا حافات : أصوات  لا تبعث على الإمتاع ، بل تتفتت وتتجمع خارج تاريخ السرد ، والوظائف .. فهل ثمة نزعة مضادة للجمال ،يؤكدها زكو بصفتها علامة عصر تتكاثف فيه النهايات .. أم هي الاضطرار للقبول بهذا المرور ؟ معا تبقى الأصوات تحمل لاتاريخها .. فهي لا تمثل تراكما ، ولا صقلا لخاماتها ، بل توكد وكأنها تحمل زوالها معها . لكنها مع ذلك تصير رواية يرويها بصريا ، استنادا  الى مديات الأصوات ، وتنافرها الدائم . فنصوصه لا تستقر ، مثل بنية الوجود التي الرسام نفسه فيها عنصرا فائضا بحكم قوانين وجوده . الأصوات التي تواصل بثها للغة لا تتوقف عند الحكمة ، والوصايا : لغة ليست للتمجيد ، ولكنها تتشكل عبر انبثاقاتها ، في تشتتها ، وتبعثرها ، وفي مركزها الذي هو الرائي / المشاهد / النص.

[ 4 ]   فضاءان

      تتحكم آلية العمل ، بالحدس والتجريب ، وبفعل تداخل أثر مثاليات الفلسفة ، ومختبرات علم النفس والفيزياء الحديثة ، بإجراء مقارنة بين الفضاء الخارجي ، فضاء الأكوان ، والفضاء الداخلي اللانهائي في تلاشيه .. إنها مقارنة بين كون قيد الاتساع ، ووجود آخر لا يقل  سرية حد ان عدم إدراك ماهيته تجعلنا ندرك إننا أدركنا مثل هذه الاستحالة. ان وسام زكو ، في مثله الشفافة ، وبما يحمله من لا عدوانية ، ورهافة شعرية ، عمد الى صياغة أشكاله وكأنها تقع بين المنطقتين ، لكنه عمليا يدمج البصر بالفراغ ، فثمة حركة دائرية نحو الداخل ، مرة ، ونحو الاتساع مرة أخرى .. بيد انهما يتداخلان في رسم أبعاد الشكل الملغي . لأن حدود الشكل تبقى متصلة برؤيته ( يده وبصره ) . ومعنى الشكل الملغي ( المرئي ) ان الفنان يعمد غالبا لتصور النص الكلي مندمجا وليس منقسما : كون الكون بنية بلا حدود ، وان المكان فيها لا يظهر إلا بما يختاره الرائي . انه المكان الذي يتحرك بعيدا عن القياس ، بعيدا عن الزمن ، لكنه يبقى يجسد هاجس الفنان المثير للقلق .. فالجانب النفسي لا يجد معادلا إلا بالغاز التباين اللوني والملمسي والعضوي والهندسي .. الخ الاكثرصلة بالبعد الجمالي ، وليس في الفضاء الاجتماعي . فالفنان يتخلى عن المعنى ، منحازا لضرب من التوغل في رحلات تعكس طبائع الاحتمالات في التعامل مع بنائية النص وهدمه . فالنص لا يحمل ألغازا أو أسئلة إلا بصفته رائيا ومرئيا ً، دامجا الدال بالمدلول ، والانا بالكل . فالنص ( الشكل وعناصره العاملة والمؤلفة له ) لفضاء كلي انتزعت منه الحدود ، وغدت رمزا مشفرا للذي يخضع للحكم أو التأويل والشرح . انه يكتم بجلاء كل الذي نراه حرية ليس لها إلا نظام الفضاء الكلي ذاته : فالنص يسهم بالبث ، والمستلم يشتغل على الاستلام ، لكن ، بعد تحديد القصد الفني ( الجمالي والرمزي ) تعبيرا يمتلك حدود تلك الحرية المستمدة من فجوات مشغولة بلعب منظم أسمه فن الرسم . فالفنان يلتقط غياب الزمن ، جاعلا منه زمنا خالصا.. فهل بكثافته يصدمنا بالمكان ؟ ان استحالة أدراك حدود السر تغدو مدرجا للتذوق ، واكتساب العملية الجمالية بعدا فلسفيا ( تكراريا ومتجددا ) مكونا فضاءً لا يقل جاذبية عن مرجعياته ولا يقل  بلاغة عن أسباب  انبثاقه ، وغيابه عبر هذا الحضور . 

 

[ 5 ] صخور

 

     لا يغيب المكان ، لان الرسام يضعنا على حافاته : اننا نستعرض مصائر العناصر وتحولاتها : النار  والصخور وكأن أولى الخلايا الحية في طريقها الى الوجود . لكن الرائي يحفر ، وينقش ، مختبئا . فهو لا يدمج آلية  عمله بما يبصر . ثمة مسافة تغدو ، في نهاية التجربة ، مكانا للكثافة . ان حاضره معزول ، منفصل ، وليس بانتظار التمجيد أو الذم . ثمة براكين بكر وغليانات قد تبدو انها تتحدث عن سيكولوجية الفنان ، وقد لا نبعد هذا الاحتمال ، لكن موضوعية الامتداد تصبح خلية تصف مغزاها التوليدي . انها لا تتكلم عن موتنا ، ولا تبشر بعصر ما بعد الخرافات والأساطير ، لأن الرسام يرسم تصادم الكثافات  : صخور النار وصخور الفلزات الآخذة بالتصلب حيث الزرقة ولذائذ الفيروزي ونداء الاخضرار الأرضي وخيوط الحنين في تشكله الإيحائي بألوان باثات التشكل ، كلها تجعل المكان غائبا في مثل هذا الحضور . فالرسام لا يصنع أقنعة ، كما لا يسهم بمنح التعبير دلالات ذاتية .. فالموضوع يمر ، يقفز ، وكأنه أرواح لا تمتلك  إلا هذا الظهور المفاجئ . فلا ثنائية  أخلاقية تتجانس مع الجمال لصالح التعبير ، بل الوحدة التي يصير الرسام /المشاهد ، بلورا للمرور . اننا نولد ليعبر موتنا عبرنا . ومثل هذا المعنى ، غير الاسطوري ، لا ينتظر  أسطرة . ان مشاهد النار والولادات المجهرية  تفترض اخنلافا متجانسا بين الوجود الاخر ، والنص ، والذي يتكون لدينا . انه المعنى ذاته الذي رسمه أول رسام : معنى الباث لدى المستلم ، لكن الرسام لا يشتغل عند أحد ، وربما  لا يعمل حتى لصالح نفسه . فهو يتمسك بالمكان الذي  لا تبقى صخوره / عناصره ، لا تتكلم اكثر من محاولة فك لغة العناصر : فك الذي انتشر بلا حدود ، وتجمع في مركز لا ينتظر إلا مداه في الانتشار .فالرسام  لا يلعب ، لا يلعب داخل لعبة هي من اختراعه ، بدافع الكسب أو اللامبالاة الشفافة ، بل يندمج .
     انه يضعنا في سياق التدحرج ابدا ًداخل عالم تتكون فيه التتمات بحسب عواملها الابدية . فالرسام لا يصنع أمثلة ، أو علامات مسافة ، بل يدمج الكل في بؤرة ، وفي كل وثبة ، كالرائي الذي انصهرت عنده المرجعيات لتصبح بكرا ً ، بلا  ماض . لأن لا ماض للماضي ، مثلما  اذا حددنا ملامح الغد ، فكأننا جعلنا الحتميات خالية من تدفقها ، ان لم نقل – بلغتنا – من الترقب والتوق . ان وسام زكو يصير مادته ، مكانا مضادا ، بفعل التضاد ، وبفعل اطيافه المكانية  ، لانه ابعد الزمن ، كوثن ، وجعله خال من القيود. 


[ 6 ] المتناهي متسعا ً

يصير النص علامة مزدوجة : مبعثرة ، عشوائية حد استحالة فك شفراتها ، وعلامة هي من صنع الحساسية وجماليات التشتت . ويصير النص ، في سياق جدله ، تضاداته وباثاته ووحدته ، إشارة لمشاهد كونية : رصد مليارات  الأجسام عبر اتساعها اللامحدود ، وومضات أكوان نائية ، لا تبدو لقطات لمجرات زائلة ، بل لصمت اتخذ أشكاله عبر فضاء الامتداد .. ويصبر النص ، في الوقت نفسه ، جزءا مكبرا لخلية ، لذرة ، حيث الداخل  لا يكف ينطق بتكويناته . فالرسام يتوقف مصورا  لامرئيات الأشكال ، وتعرجاتها، وتداخلاتها ، وديمومتها في بث الذي يبقى لا ينتظر الشرح أو التأويل . انه لا يفسر ، بل يكرر الذي لا يتكرر إلا عبر ملغزات الوجود ، الوجود المتصل بفضاءات وكتمانات النفس ، حيث الازدواج وحدة : لغة تقول عبر الرسام الذي لا يقول إلا بما يتجاوز الشرح . وثمة مسافة ملغية بين الاتساع والانسجام حد التلاشي ، مسافة الأنا ، والرسام ، والمشاهد تجعل  إعادة الرسم ، مضادة للتكرار ..فالمصادفات ينظمها خصب التجدد ، وخصب آليات عمل الخيال ، وعمل التحرر من الاستنساخ : فالرسام ، بدافع المسافة الملغية بين الحافات ، يصور التجانس ، والصفاء المستحيل . انه يهدم أساطير العلامات ، في الاتساع أو في تصوير المتناهيات ، راسما الوحدة ، والاندماج ، والتبعثر ، كتكرارلا يحدث إلا عبر باثاته المتجددة . وقد لا يتفرد الرسام في هذا المسار تفرد الرسام التشخيصي أو التعبيري بدافع تمثلات هذا الخطاب ، إلا ان تحريات المشاهد ، وصياغته لمنجز لم يصر ميتا، يجعل الماضي في ديمومة تامة . انه المغزى الكامن داخل الأثر / النص ، مغزى اللامعنى اللازمن ، في ترتيبه للمعاني والأزمنة . فالنص يحمل لوعة غيابه وحضوره معا : غياب الذي اختفى داخل المشهد ، وحضور الذي يعيد صياغة ذاكرة جمالية خارج تقاليد الحرفة ، والعادات ، والسرد . فالنص يحمل تاريخ نهايته ، أي تاريخ افتتاح الومضات . ثمة استلام وبث لا يبحث عن مصطلحات ، بل عن راء ِ : انه تكرار لحكمة الذي  لا يموت ( يهلك ) ، كضرورة ، في وجود لا يني يجعل ملغزاته  مساحة للمغادرة والإياب . ان فنه مضاد لمفهوم اللعب ، في حداثة تجاوزت اسطرتها .. فهو يندمج ، يتطهر ، وربما يجعل من الدوي صمتا للذكرى .فالرسم لا يتقاطع مع مخفياته ، ومع عدمه الذي جرجرنا وجعلنا في موقع الاعتراف ، وفي موقع البوح أيضا.

[ 7 ] عزلة / تضاد / وصفر

     ان  نصوص ما بعد الحداثة، في الرسم العربي المعاصر ، لا تخون عالمية الفن .. بيد انها تبقى ،  ثمرة مأزق ، وعزلة . فالتحولات الكبرى دفعت بالاستهلاك  الى أقصاه ، بل وجعله مبتذلا قياسا بقواعد الذكرى ، وعادات الرسم ، وهي عادات الحضارات وتقاليدها . والعزلة ، في مجتمعات صار فيها الرائي غائبا ، مندمجا ، ضمنا عبر سياق كلي للتحولات ، لا تمثل عقلانية أو عاطفة غوايات : انها ليست عزلة آسف ، بجذورها الرومانسية ، لكنها لا تقدر ان تخفي قدرها المؤلم . ووسام زكو ، مع جيل نهاية القرن العشرين ، وبدايات العشر الاول لقرن تتحكم فيه تراكماته واندفاعاته ، لا يسلك ، في بصرياته ، سلوك المراقب ، والراصد . انه مشغول بالعثور على ترتيبات نظامه الثقافي ، في كل صار متصلا ، حيث العزلة لم تعد علامة ، أو اشارة لخسارات متوقعة . فالتراكمات ، والاستهلاكات ، لم تدفع بالثراء الى الكفاية، بل الى العوز : ثمة ظمأ حواسي للارتواء المستحيل . انها ما بعد حداثة ليست بحاجة الى اليقين . فالرسام يكوّن رسوماته ليغادرها .. لأنه سيبقى مهاجرا/ ومهجورا ً، من مكانه ، وبعيدا عن زمنه . فليس الحنين هو الذي يصنع النص ، بل الحنين ذاته غدا مفارقة تجتهد بعقلنة بناء تبعثرات الرؤى والعناصر . فالتراكم يّولد ديمومته : هذا التعاقب للامساك بكل المفقودات ، والغائبات . فالظمأ كيان يجعل الفجوات والفراغات مقبولة ان لم تكن حتمية . فالرسام لا يذهب الى اهداف محددة ، بل تغدو السرابات أقوى من هيمنات الاساطير ، ومحركات الاقنعة . فالرسام يفتت مشاهده ، ويذهب الى الفضاءات ، أو يقبع في اللامرئيات التي صارت أسلوبا . فالتراكم بمثابة التعبير المجمع خارج الاستعارة . فالرسام  لا يرى ، ولا يستعير . انه يصنع ويحتفل حيث عاطفته صارت ترتب وحدة الاتصال والديمومة . فهل ثمة ( موت ) بدأ بالاله ومر بالفن وانتهى بانسان القناعات الواهية أعتى من ولادات  تولد بعيدا عن الغوايات .. اليس الفن باسره ينحرف داخل عزلته ليبقى حاضرا ً ، مشغولا الا يبقى العماء  الا  مادة العلم المعاصر ، ومادة الاخلاق بعد ان بترت عنها عادات المكان ، والغاز الزمن . اليس  الفن في اختزالاته يكثف غيابه هذا الذي يبقينا في التوهج ، داخله ، أو بمحاذاته ؟ لأن النص نفسه صار ذاتا ً تريد ان تقول الذي لا تقوله ذات الفنان . انه ليس الشيء في ذاته [ الكانتي ] ، وانما الشيء في ذاته وقد صار الفنان لغز نفسه . لأن النص المجمع في هذه الحالة ، غدا ( أنا ) فائضة  لكنها اخذت سياقها في الظهور .. كما ان عملية استرداد اشكال قيد الاندثار ، لا تبرهن الا على عاطفة بلغت درجة الصفر . لانها لا تنطق ذاتها الا بصفتها كلية . فالفراغ لا يتكون الا مجمعا باضداده ، لكنه لا يتراكم ، ولا يمتد . فهو لا يمجد سلطة الا هذه التي نراها تمارس الهدم ، والتفكيك . فالرسام يكتفي بالذي يحفر / يدوّن / يؤشر ، انتظاره . انه يقف حيث توقفاته حركة . ثمة توق بديل للتسلسل ، حيث التعاقب يكمن في الصفر .. ففي نصوصه تضادات وانسجامات ما هي الا بؤر مرور : انقطاعات يردمها باوهام الحركة والتعاقب . فالنقطة مسافة مؤجلة : وهم الفن ، هنا ، وفي خطاب يكتسح ويبتلع البراءات والكيانات الاليفة ، يخفي داخله استنادا ً لسطوح مقلوبة ، معوجة ، صادمة ، بغية تقليص التعبير  وهو لا يكف يأمل  الا يجد وهما أقوى بوحا ً من هذا الاعتراف ، ومن ذهاب يجعل الدورة كاملة ، حتى لو وقعت في لا حافاتها المستحيلة . فالرسم ، مثل رسم الكلمات ، يخفي الذي يريد ان يجعله هناك ، بعيدا عنا ، بعد ان وهبنا كتماناته ، وملغزاته . انه معنا حيث غيابنا لا يصدع بالانتظارات ، بل يلمُم ، ويلملم ، كل هذا التبعثر ، وكل هذه المسافات ، في نص صار صفرا ً .