الأحد، 19 فبراير 2012
عجيبة العجائب-د.احمد البغدادي كاتب واستاذ جامعي كويتي
بقلم: د. أحمد البغدادي
كاتب وأستاذ جامعي كويتي
عجائب الدنيا سبع كما نعلم، ولكن هناك " عجيبة العجائب" التي لا تحتسب ضمن عجائب الدنيا، ألا وهي الأمة المسلمة، ولا أقول الإسلامية، ففي هذه الأمة المسلمة من عجائب الأمور ما لم تشهده أمة من الأمم منذ أن خلق الله سبحانه آدم عليه السلام، وإليكم بعضا من هذه العجائب:
1- الأمة الوحيدة التي ترى أنها الوحيدة بين الأمم على حق وفي كل شيء، وأن الآخرين على باطل.
2- الأمة الوحيدة التي تطلق سراح أو تخفف العقوبة الجنائية للمجرم إذا كان مسلما وتمكن من حفظ بعض سور القرآن الكريم.
3- الأمة الوحيدة التي يمكن لرجل الدين فيها الإفلات من عقوبة التحريض على القتل إذا وصف أحد الخصوم بالمرتد.
4- الأمة الوحيدة التي لا تقتل القاتل إذا أثبت أنه قتل مرتدا.
5- الأمة الوحيدة التي تعامل القاتل بالحسنى بالعقوبة المخففة إذا قتل أخته أو زوجته من أجل الشرف.
6- الأمة الوحيدة التي ورد في كتابها المقدس كلمة " أقرأ"، ومع ذلك تعد من أقل أمم الأرض قراءة للكتب. أو بالأصح لا تقرأ.
7- الأمة الوحيدة التي لا تزال تستخدم كلمة التكفير ضد خصومها المعارضين لرجال الدين والجماعات الدينية.
8- الأمة الوحيدة التي تضع حكم الفتوى فوق حكم القانون، وتدعي بكل صفاقة أنها دولة قانون.
9- الأمة الوحيدة التي لا تساهم ولا بصنع فرشاة أسنان في العصر الحديث، ومع ذلك تتشدق بحضارتها البائدة.
10- الأمة الوحيدة التي تشتم الغرب وتعيش عالة عليه في كل شيئ.
11- الأمة الوحيدة التي تضع المثقف في السجن بسبب ممارسته حرية التعبير.
12- الأمة الوحيدة التي تدعي التدين وتحرص على مظاهره رسميا وشعبيا ومع ذلك لا يوجد بها أمر صالح.
13- الأمة الوحيدة التي تعطي طلابها درجة الدكتوراه في الدين.
14- الأمة الوحيدة التي لا تزال محكومة بكتب الموتي من ألف عام.
15- الأمة الوحيدة التي يداهن فيها رجال الدين الحكام ويسكتون عن أخطائهم حتى ولو كانت شرعية وضد الدين.
16- الأمة الوحيدة التي لا تعترف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
17- الأمة الوحيدة التي تحرم جميع الفنون الإنسانية، ولا تعترف سوى بفن الخط .
18- الأمة الوحيدة التي تشترك في دين واحد ومع ذلك لا تتفق الجماعات الدينية فيها على رؤية واحدة لأحكام هذا الدين.
19- الأمة الوحيدة التي يهذر فيها رجل الدين كما يشاء ثم يختم كلامه ب " والله أعلم"، وكأن الناس لا تعلم ذلك.
20- الأمة الوحيدة التي لا تزال تؤمن بإخراج الجن من جسد الآدمي حتى ولو كان ذلك عن طريق القتل.
21- الأمة الوحيدة التي لديها جيوش وأرضها محتلة وتخشى القتال.
22- الأمة الوحيدة التي ينطبق عليها وصف الخالق سبحانه " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى".
23- الأمة الوحيدة التي تسأل في قضايا الدين وتبحث عن إجابات ترضيها منذ لا يقل عن ألف عام.
24- الأمة الوحيدة التي لديها شهر صيام واحد في العام تتكرر فيه أسئلة الجنس أكثر من أسئلة العبادة.
25- الأمة الوحيدة التي تصدق كل ما يقوله رجل الدين دون تحقيق علمي.. هذه الأمة وبكل هذه الصفات الفريدة ، ألا تستحق أن توصف بأنها ......." عجيبة العجائب"؟
السبت، 18 فبراير 2012
دفيني أبعباتج- حامد كعيد الجبوري
دفيني أبعباتج
حامد كعيد الجبوري
يا نسمة فجر والدنيه كيظ الكيظ
يا مكسر الفي أتفيض بالحنه
يا مجمَن ترافه وبيرغ الخطار
مُضيفج للحبايب هاونه ورنه
يالمة عكدنه وجمعة الخلان
تعداج الردَه ويخاف يتدنه
يتنور المحله وكرصة الطيبه
وجاغج ما بُرد خطار يتمنه
يا دمعة قهر مرسومَه عالخدين
ينواعي الحزينه الجلِد بجنه
يا منعمه الحُضنـج أترف من الريش
لامر أعله بالي ولا حجو عنه
تمنيت الشفاف أتصير بالرجلين
أبوس أتراب بيتج وكتحل منه
*****
دفيني أبعباتج يل عباتج بيت
أحس بيها الحَنان وخوفي أمننه
لفيني أبعباتج يل عباتج طيب
روايح من مسج قداح أشمنه
عمري أشماكبر يم حضنج أزغيرون
يكاروك الصبُر بالصبر هِِزَنه
يا خُلك النبايه ويا حزن مهموم
ضَمت كل دمعها أعيون شربنه
يا كُلّج هظيمه والهظيمه أتخاف
لوركصَت طفل وأيدين شُبكنه
يمحراب العباده ويا كتاب الله
توضت من فرحنه أفروض صلَنه
يا فحم الكراجي ومنقلة كانون
يا بيت التراب أدموع رشَنه
يا ثوب القضيلَه أمكبَع أبهيبه
غذاهه عالصبر بالعفه غمسنه
يا موسعه الدارج عامر أبطرواج
يا شمعة عُـمر الدروب ضوّنه
ينافلة الصلاة ويا صيام الشوك
من وَحشة درب وسنينه ضيعنه
يا نذر الأيمه وخبزة العباس
يفرحة ويهليه أعكود طشنه
يشموع الخضر وبليلة الجمعه
يشط ( الحله) فوك الروج لعبَنه
لو كشفت صدرها للسمه تدعي
الملايك تستحي ووجوه دارنه
لو كشفت صدرها للسمه تدعي
أقسم للعرش لبجاهه بجنه
أمي كوثر وكوثر نبع صافي
وتحت أجدامها البيبان للجنه
الجمعة، 17 فبراير 2012
الخميس، 16 فبراير 2012
قصة قصيرة-عربـــةالحصان الميت- عادل كامل
قصة قصيرة
عربـــة
الحصان الميت
عادل كامل
(1)
لم يدر بخلدي قط أني سأقع في مثل هذا الموقف ،وهو، على أية حال، لايشكل تهمة فادحة ضد حياتي، أو مستقبلها في الأقل، فأنا أجر عربة منذ نصف قرن، تماما، بالدقة، وبحسب القواعد، وسأجرها،حتى آخر لحظة نبض يمتلكها جسدي الهزيل،ولست بصدد الحديث عن موقف شائك أو غريب، وإنما، وأنا أؤدي عملي اليومي المطلوب،شرد ذهني فجأة، لأسباب قد تكون واهية،مشاهدة حصان يقتل في ركن مظلم أو مشاهدة جثة ثور تحولت الى وليمة، فانا لم أعد أتأثر بمثل هذه المشاهد، أو سواها..فقد اعتدت أن أتقدم الى الأمام ..مثلما تفعل الخيول الأخرى، في الواقع لا أمتلك فكرة ما عن التراجع ..وهكذا أصبحت احمل أوزاري بيسر وطيب خاطر .ثم أنني لم أعد أتشكى أو أتحدث،لأي سبب من الأسباب، عن الجور أو المجاعة أو الأذى، كل ما في الأمر، أنني قررت الا أشعر بالندم، أو الحزن ويبدو لي أن العملية ليست شاقة أو مستحيلة،على الرغم من ان هناك حصانا قتل نفسه جوعا، بدل أن يجر عربة موتاه،أما أنا فلم يثر الموقف فيّ شيئا .لقد مت مرات لا تحصى حتى أعتدت مثل هذه الحياة الطريفة، فأنا في الواقع أمضي ساعات الضجر في تأمل ظلي؛ في تأملها حتى تختفي، ويعم الزريبة الظلام، فارقد، بلا أحلام، حتى فجر اليوم التالي .وأعتقد أن الخيول في عالمنا، باستثناء التي نالت مصادفات رفعتها الى المجد، قد أدركت هذا القانون، ومع ذلك، وأنا أستعيد زمني كله، لحظة اثر لحظة، لا أصف حياتي بالفشل! أو بالإخفاق درجة اللوعة. فقد كان عملي، في جر العربة، لا يدعو للرثاء، فالخيول، في عملها المختلف تتفق في النتيجة بل وحتى خيول الإمبراطوريات وكل خيول السيرك، وحدائق الحيوان، والمسابقات كلها تنسجم مع قدرها، ذلك الوضع الذي لاظلام ولا نور فيه ..وعلى الرغم من العقاب الذي نلته، منذ البدء، في كوني الحصان الذي رفض أن يكون حصانا، إلا أنني، وأنا في نهاية حياتي ، وبعد أن تهدمت أسناني، وصرت لا أميز بين الخرافة والواقع، أو بين الأوهام والحقائق، لا أريد إلا ان أبقى الحصان بكل صفاته،ولكن هذا الحلم غدا مستحيلا، فانا أعيش في مزرعة يعمل فيها عشرات الأمراء .وبدرجات مختلفة.. ولهذا عليّ أن أنفذ الأوامر بمحيا منشرح.. بعيدا عن آثار الحزن أو الكابة، وللحق تدرّبت جيدا في تنفيذ هذا الامر .. حتى صرت أجر العربة، بمرح، وتارة أٌخرى أتظاهر بالمسرة ..الامر الذي جعلني، سنة بعد سنة، لاأشعر بالاثم لاي أمر يحدث، هنا أو هناك، لي ، لي أنا شخصيا أو لابناء جنسي، أو للبشر أنفسهم، فقد مات في قلبي نبضه، ولم اعد الا ماكنة لاتعرف ماذا تعمل عدا سحب العربة التي فكرت إنها هي الماضي وهي المستقبل.. فالحاضر، بالنسبة لي، ليس الا توفر الطعام في حدود البقاء على قيد الحياة، بل ربما لم أعد أميز ما اذا كنت حيا أو غير حي .أو ما إذا كنت، قبل دهر من الزمن، حصانا حقيقيا، أو انني، في يوم من الايام، ساعود الى الوجود، بهذه الصفة أو بغيرها لكي أحس بقيمة لهذا الدوران والغثيان. فالطرقات التي سلكتها جعلتني جزءا منها..بل ربما صرت أنا الطريق نفسه، ولكم أشعر بالاعياء عندما أستمع، مصادفة لثرثرات لا طائل منها، كمحاولات الهرب، أو قتل النفس، أو التملق البغيض، لقد دربت نفسي دفعة واحدة، بعد أن أبصرت حقيقة حياتي في هذه الطرقات ان لا تكون طرفا.. ولايعني هذا اني كنت اطمح ان اكون نسيا منسيا أو مثل دخان لاعلاقة له بالنار أو الفضاء، لكني عندما رأيت في هذا اليوم، عملية قتل أحد أشقائي حرقا بالنار سألت نفس ببلاهة وببرود :ما جدوى عملي ؟ فقلت :اني مادمت أقدر على سحب العربة ..فان اصحابها، لن يتخلصوا مني، بهذا الاسلوب الشنيع، فانا أعرف قانون المزرعة برمته، فلا يمكن لاحد أن يجني شيئا ما لم يمت اعياء بالعمل، وأنا أفعل هذا بالعادة المكتسبة وربما بالفطرة اصلا، فانا أتمتع بترددغريب في إصدار الأحكام، عدا الأمر الخاص بجر العربة، في الليل أو في النهار، في أثناء تمتعي بالصحة أو اثناء مرضي.. لكني أرتجف في أعماقي كلما بدأت بتذكر مصائر المخلوقات الاخرى :تلك التي تعاقب بلا ذنب أو أثم، فقلت انه هو القانون اذاً، القتل بالعمل، وجر العربة، من المهد الى اللحد ..جرها بقوة والا فان مصيري ليس بحاجة الى الجدل، حتى ان زمرة الخيول أحتفلت بالقضاء على كل حصان خامل .مثلما كان يحدث للكائنات الاخرى ..ملهاة !لقد حاولت بعد ان شاهدت الموت يسري في جسد شقيقي معرفة طبيعة عملي..من اين والى اين..ثم أكاد أموت من الضحك..فقد عشت، تقلبات لاتحصى جعلتني لاأقع أسير حالة ما من حالاتي النفسية، ولا أقول كلاما هو الاخير في بابه.ومع ذلك تراني لاانحاز الى تلك الزمرة التي دمرها الشك..فثمة في أعماقي ميل نحو الرضا، والدعة، والاستسلام..الامر الذي جعلني هزأة بالمعنى الكامل..فان تكون وديعا أو طيبا ً يعني أن تكون مرشحا للنبذ والرفض.ولقد عرفت ذلك جيدا عندما لم أعد جذابا للجنس الاخر، وعرفت السبب..وتذرعت بالصبر والحكمة في كون الاقوياء لايمتازون بشيء عن سواهم طالما ترقد الجماجم في حفرة واحدة..وطالما تمحو الريح اسماء الجميع.انا شخصيا لاارفع رأسي غطرسة أو انجذابا الى شيء من الاشياء..اني أصغي لموتي في كل لحظة فرح أو ابتهاج أوعيد.. كان الموت وحده أكثر رحمة وسلوى من أفعال الكائنات التي كونها نشاطها المتعجرف، فالموت يجرجرني مثلما أنا أقوم بجر العربة،كأمر يماثل القدر، لايقبل الاعذار أو الجدل أو الاستئناف..فعلي أن أقوم بسحب العربة، والتقدم بها، من مكان الى آخر بطيب خاطر..من ثم علي الا أتساءل :ماذا أفعل، إن عملي هذا وأنا اتهدم أمام مشهد الموت، يبررعملي، فاي توقف يحدث، يعني حالا،انني لم أكن قد عملت شيئا، وربما لم اكن قد ولدت وعشت وانني الان أتلذذ بلحظات الاحتضار.
(2)
على اني لاأعرف لماذا بدأت أفكر في هذه الافكار.. وهل حقا أنا أفعل ذلك ؟إن المشكلة التي واجهتني طوال نصف قرن لاهي بالحقيقة ولا هي بالوهم ..ثم انني لم أكن متردداً قط بين أي من الاطراف ..وهذا هو ما يجعلني أبدو كالعدم في نظر نفسي ..فهل كان باستطاعتي التخلص من جسدي الحزين، والذي كان يمر بحالات أعلى من الحزن والالم بمراحل عظيمة ..ثم ماذا يعني ذلك بعد ان تكون الارض قد خسرت حصانا رغب في أن يتمرد على جر عربته ..لقد سخرت دائماً من تلك الخيول صاحبة الارادة ..لانها في الواقع كانت تتظاهر بقوة الرأي ..أما اعماقها، فلا تغدو الا مجموعة فراغات وإدعاءات باطلة ..لكن مجتمعنا، منذ أول حصان وجد فيه، شجّع هذا الالتباس بوصفه قناعة، وأقنعة لابد منها ولا لبس فيها .وهكذا تلاشى الامل عندي في إختيار الموت أو العكس ..فكلاهما لامبالاة مجروحة في عمقه، وللحق لم اكن اجد استجابة في حواراتي مع الغير ..كان الجميع ينظرون لي كمتهم طليق ..لكني كنت أشدد القول بان السجن أكبرمن ان يوضع في مكان، وليس بمقدور احد أن يكون خارج أسواره، وجدرانه وكان أكتشافي لعالمي هذا مثار شغب وحسد ..فعالمنا ينبذ الشواذ .انه بحاجة الى من ينفذ وينفذ وينفذ وفي الواقع كان ذكائي قد بلغ أعلى درجات الغباء المقدس ..فقد كنت أجد في جر هذه العربة الخلاص الوحيد من القلق والخلاص الاعظم من عاطفتي الصافية العذبة التي طالما عذبتني أشد العذابات ولوعتني بالوان الشك والايمان الاسود بالفروقات في عالمنا هذا .كنت أجد الخلاص في لذات وهمية ..فاجر عربتي، من مدينة الى اخرى، ولكن في قطر الدائرة الواحدة ذاتها ..فانا لم أعد أميز بين المدن، كما ان الناس لدي كانوا محض نسخة واحدة ..وهكذا كانت السعادة عبارة عن علف يتنقل من الفم الى الارض ..ومن التراب الى الذاكرة ..فكنت أخترع مخترعات لاوجود لها ..كاطلاق سراح الخيول وترك العربات تسير بقوة الارواح العجيبة ..حيث تتحرك بذاتها وليس بقوة من الخارج ..على أني شعرت برعب الحرية ..وقررت بحزم عقلي متكامل الاركان أن الحرية لاوجود لها، وانها محض خرافة ..وان أي حصان يفكر خارج عربته محض أكذوبة .فما هو عملي ان لم أعمل .وهكذا رحت اكتشف فوائد لاتحصى في الجوع والمرض والخوف والقيود والعادات الابدية، باستثناء عادة الهوى والشرود ..فانا في الواقع أنتمي الى فصيلة الخيول التي لم تولد بعد ..غير ان مرارة الدم في سلالتي الجبلية كانت تحرك خيالي الذي كنت أواجه به القدر .هذا الانشداد الى العمل حد الموت .فمن أكون خارج هذا الوعي؟ أعود وأعترف أني لو قتلت نفسي بسبب غياب العاطفة المشرفة للمثل العليا، فأني ساكون مثل أي غائب لم يكن إلا غائبا ..وفي الوقت نفسه، أعلم علم اليقين، أن وجودي محض زيادة .وفي هذا التفكير الواقعي شطط فادح سببّ لي إرباكات كادت تجعلني أغادر هذه الاوهام والاستسلام المطلق للذات لاشائبة عليها. وهذا مافعلته حقا، عملياً،ً وفي سياق الايام وتعاقب الشهور،باستثناء اخفاء سخرية داخلية لم أبح بها ولن أفعل ذلك وأنا أدور بالعربة في اداء واجبي المقدس ..أو الذي غدا مقدسا ..فالعبد لايمكن ان يكون الا عبدا حسب قانون الاحرار ..وقد أعتدت عبوديتي حتى صرت حراً بها، لهذا لم أكن خطرا على أحد، ولهذا كنت أجد لذة في العلف الجاف لا في العلف الرطب ..وأجد متعة في الظلام لافي النور ..واجد سلوى في السياط الناعمة لافي تركي اعمل كما أشاء . فلقد أدركت التركيبة أو ما يسمى بالقانون، إدراكا أبعدني عن الشبهات ..فانا آمنت باستحالة أن يحلق الحصان عاليا، أو أن يرتدي قلادة من الماس، إنما الحصان هو الحصان لانه لايستطيع أن يكون إلاحصانا ..وتلك كانت سعادة مزورة ومزيفة لكني لم أعلن نقيضها .فالجميع يجرون العربات حتى النهاية ..وليس عبثا ان حدث العكس ان يتم تعديل المشهد بعشرات البدائل ..فالتركيبة متقنة كانها السحر ..لان القانون أخفى جوهره داخله..وهكذا كنت أرتاب بالخطباء من الخيول ..مكررا القول في اعماقي :كل حصان بعربته ..وكل الجماجم ستتلاشى تحت التراب .فقد كان الموت يشغلني ويقودني للكف عن النظر الزائغ .كانت عزلتي مثل ميت في قبر. فسعادتي ان أمضي بعربتي بحسب الحاجة ..فقد تعلمت الطاعة مثل تنفسي للهواء .فهل أستطيع أن اتمرد على شراييني أو قلبي، هل باستطاعتي أن أقول للكبد لاتتوقف عن العمل ؟اذاً فأنا حصان منطقي أو جاذبية بين جاذبيتين ..أو عدم بين عدمين .ذلك لأني لا أستطيع القول بالوجود بين المجهولين .. ثم اني من تلك الخيول المرحة بحزن.. حصان أجاد اللامبالاة بدقة تفوق دقة المرائين والواقعين الاجلاف.. إنها مشكلة جرم مرمى في عدمه أو في مساره .. وقد أخترت هذا المنطق بسبب ما كنت أفعله بجسدي .. فلم أكن أسمح لنفسي بالراحة أو مايسمى بالترف، كنت أعذب نفسي لدرجة بلوغ فرح الانوار.. وقد أكون على وهم في هذا كله.. لكني للحق لم أكن أجد مايغريني في سلوك مسالك الخيول بكل ما كانت تعمل أو تصهل. كان الكلام عندي سلسلة من العلف الآخر، البديل .. العلف الذي أحصل عليه مجانا، هبة من الكون، وليس هذا محض دعابة أو مفارقة، في كوني كنت على حق، كلا.. ثم الف كلا، كان الحق كأي شيء موجود ولايمكن البرهنة على وجوده. أو انه غير موجود ولايمكن البرهنة على وجوده. أو انه غير موجود ويمكن، بألف طريقة، اثبات وجوده، إن هذه المشكلة لم تشغلني.. بل أشعر أحيانا أني لم أنشغل بشيء، على الرغم من إنشغالي بالاشياء كلها. لقد كنت أسحب عربتي، على مدى نصف قرن، ولم أكن أفكر ما الذي كانت تحمله من أثقال ومتاع، بل ولم أكن أفكر هل كنت اسحب عربة حقا، أم أن عربة ما، كانت تدفعني دفعا في هذا الطريق الذي أخذت أتعثر فيه، وأشغل ذاتي بقضايا نهاياتها أو أواسطها غير محددة . إن العربة تماثل القدر ، وتماثل الحرية، وهكذا وقعت في الورطة وقوعا.
(3)
الغريب اني أمضيت مراحل طويلة من حياتي لا أفكر في شيء. على أن ذلك كان مثار أسئلة الخيول كلها .. فقد كان صمتي لايدل على أني كنت كذلك، حتى أصابني الشك وأفزعني فصرت أتفحص عملية اللاتفكير بشك كبير .. وأنتهى الامر بي مستسلما ومستجيبا لجر عربتي بعيدا عن القيل والقال، فانامن النوع الذي يفزعه الشغب.. والنزوع الفردي، وحب الذات… فالحصان بعمله، وهكذا فانا ثمرة عربتي .. فما جدوى الاحساس بالخيبة أو النظر الى الطرق في انغلاقها؟ لقد كنت أستمتع بالافق الملون اللانهائي الابعاد، المحكم، والمتجدد، ولم أكن أتساءل لماذا ثمة فصول أو ليل ونهار .. ولماذا ثمة فوارق بيننا .. لقد كانت لذتي خالصة في اللاتفكير الشفاف وفي النشوة التي كنت أحصل عليها لحظة بعد لحظة .. وكان ذلك للاسف مثار حسد الخيول.. حتى كادوا يكيدون لي مكيدة الموت، لو لا اني لا أعرف كيف نجوت من الحسد.. وعدت أتقدم وحيدا منعزلا متدبراً امري بالصبر والسلوان.
على أني، في لحظات عجائبية فالتة من الرقابة، أو انها، بفعل القدر، كانت تجعلني أغلي كنار جهنم في اشتدادها، وتضعني في طرق هوجاء، عاطفية أو شيطانية مرة وعذبة لدرجة التقطع. كهذه اللحظة التي بدأت افكر فيها، تواً..كهذه اللحظة وقد توقفت فيها عن الحركة.. قائلا ليحدث مايحدث فانا أفكر لكي لاأفكر . وكانت عملية مبتكرة وغامضة ..فعلى الرغم من نزعتي السكونية، نزعة البركان الخامل، الا اني ما زلت أشعر بحنين الى الجنون.. بالفضاءات والطيران.. والرقص مع حبيبة في حقل تحت القمر، وسماع خرير الشلالات .. وشم نسيم الفجر.. وتأمل المشاهد الجليلة للمخلوقات المختلفة.. إلا ان هذا محض وهم.. أو انها قضية خارج السياق، كورقة ساقطة من شجرة .. نعم : انا أفكر لكي لا أفكر .. الامر الذي جعلني أرى العربات تتقدم .. نحو الامام.. في الاتجاهات الكثيرة .. تتقدم مسرعة، وتختفي، كغيمة تدفع غيمة نحو المجهول.. كنت أعرف ان الجميع لن يصلوا الى الهدف.. لا الحصان ولا العربة ولا من فيها … ويبدو لي انه من الصعب أن يكتشف الحصان أو صاحبه الطريق الصحيح الذي يقود الى النهاية المحددة، ذلك لان النهاية ليست الا اللانهاية … كنت أفكر بصمت مطلق، خشية أن يكون تفكيري مسموعا… وخشية أن اصير هزأة امام الخيول والبغال والثيران والحمير وكل الدواب الاخرى.. فأنا لاأنسى مشاهد السخرية، في مثل هذا الموقف، حتى يصعب الاستنجاد حتى بالموت، فالعقاب يتم تنفيذه بدقة فائقة، عقاب السخرية العجيب .. حيث لا يفكر الحصان – أو أي مخلوق على هذه الارض، بارتكاب حماقة تؤدي به الى مثل هذا المشهد التاريخي الاحتفالي الفخم.
ولكني كنت غير أبه بالامر… فأنا كما يبدو لي كنت أموت لكي لا أموت، على مدى نصف قرن، واني كنت أستدرج نفسي لطاعات مبهمة، بلا جذر، أو عمق، ومن أجل أن تكون لا مبالاتي جوهرية، نزيهة، في تحديد الموقف. هكذا كنت أفكر من أجل أن لا أفكر .. وهي لذة لم أكن أحصل عليها لولا اني كنت أختزن في أعماقي تراكمات الوهم، وكل المبهمات عديمة الجدوى. أفكر لكي لا أفكر! وهكذا رفعت صوتي قليلا : لتذهب العربة الى جهنم … وليذهب كل من فيها، وعليها، الى الفناء..فانا لم اسأل نفسي، على مدى سنوات العمر، من أسحب ومن هم هؤلاء الذين اجرهم، ولماذا، وما الذي ساحصل عليه بعد ان أصل الى الهدف، أو الى اللاهدف.. ومن ذا الذي يقرر أني سأحصل على شيء، إذا ما قتلت او مت، فهناك عشرات الخيول، غيري، ستؤدي الدور ذاته، إذا ً لماذا أكون أنا الضحية وليس أي حصان آخر؟ .
للحق كدت أموت جزعا وأنا أنتظر رد فعل صاحب العربة، أو من فيها .. وأي عقاب سأناله، لهذا التوقف .. بينما كانت عشرات العربات تتقدم، مسرعة، نحو أهدافها المرسومة لها، أو غير المرسومة .. فوق هذه الطرق الترابية، أو الحجرية أو الاسفلتية .
انما لا أعرف لماذا تذكرت أزمنة الغفلة التي عشتها وحيدا، وكأني أختبرت بها خلاصي يوم كنت، في مطلع شبابي، أذهب الى حانة القرية، الكائنة عند سفح الجبل، وأرتوي هناك حتى لم أعد أعرف الى أي صنف أنتمي..بل كنت لا اريد أن أنتمي الى فاجعتي كلها .. بحثا عن مثال ما، في الوهم، لكي أبصر ملامح قدري فرحت أتدرج في المعارف .. حتى لا أعود أشعر بابعادي . فصرت أخف من الهواء. للحق انشغلت بالاسباب ولم انشغل بالنتائج .. فلماذا أصبحت أنا حصانا أو حمارا ولم أصر شجرة، ولماذا صرت أرى انوار الكون ولم اتوقف عند العتمة .. من ثم لماذا على مدى نصف قرن، رحت أسحب هذه العربة التي لا أعرف ماذا فيها، دون سواها؟ كانت أيام الحانة قد عوضّت خسراني في الحب .. فلم أعثر على بديل آخر.. على ورم أو مرض مقدس. هكذا صرت أتنقل من مكان الى مكان أبعد.. ففي الحانة، كما في جر العربة،وكما في الرقص او الكتابة يفكر الانسان لكي لايفكر ويعمل لكي لايشعر انه قد ادى كل تلك الاعمال المزرية البغيضة. صرت اسكر لكي لا أعرف أني سكران. وكان الصحو يبلغ أقصى درجاته وأنا أعانق المخلوقات كلها بوله العاشق المتيم المأخوذ بالحبيب، ثم اكتشفت بهدوء اني بلا حبيب .. بل ليس بالامكان الاعتراف بحدود الاشياء التي لاوجود لها. هكذا قلت : سر .سر. فرحت أجر أثقالي بصمت لا لذة فيه عدا انها لذة غير مشاكسة، غير ملعونة . فقد صرت نسيا منسيا، وهذا ما قصدت الاعتراف به عن طيب خاطر، فما جدوى أن تجادل حصانا يرى أنه ينحدر من سلالة الامراء أو الملوك.. إنه سيقطع رأسي حالما يكتشف اسئلتي الدفينة، فلم أجادل ولم أدخل في حوار.. صرت لاأفكر ولا أعترض،ولا أعترض حتى على من يعترض.. علمّت روحي أن تفرح لانها لم تخسر شيئا ولن تربح الا هذا الفضاء في تحولاته . ولم أبح لأحد بما يؤدي الى قطع الرأس… وفي الواقع كانت عزلتي هي الرداء الذي كنت أتستر به، وأغطي عيوبي الكريهة وأخفيها داخله.. ولكن طالما لانستطيع البت بقضايا لا علاقة لنا بها، كوجود هذا الكون وما فوقه فان الصاعقة ستصعقنا صعقا، وكنت أعرف ذلك تمام المعرفة… كمعرفتي لمليون صفة من صفات الذل، يقابلها قليل من الهدوء وبعض التراب الذي نرقد تحته، فالعادات هي سيدة اللعبة، والمحرك الذي يجرجرنا الى مالا نهاية، بحساب عقولنا هذه المتناهية بالصغر، كانت أيام الحانات والتسكع في المراعي والنوم الى جانب جثث الخيول النافقة قد ولت، لأختار جنوني الخاص، فأطهر نفسي من الجهل… ويالها من كارثة حيث أكتشفت وقاحتي المروعة فلكم كنت أجهل اني أجهل من الجهل، ثم رحت أغوص، وأغوص، لكي أعود أجر هذه العربة، بلا علل أو أسباب، فقد كان علي أن أفعل منذ البدء.. هكذا صرت انهك أعضاء جسدي كلها، الذاكرة والقلب وكل الاجزاء المتحركة كاريكاتيريا، صرت اقول نعم لنعم ولكل لا نافية للنفي وللاستسلام بنعم الازلية .من أنا لكي اعترض؟ من أنا لكي اعترض على انا؟ أو على قانون الخيول ومافوق الخيول وما تحت الخيول وما بينهما ؟ صرت أقول نعم بلذة نعم العدمية الشفافة الصافية بعيدا عن الاثام المقدسة والمراعي البلهاء، وبعيدا قبل كل شيء، عن الجنس الاخر العذب الحالم المشاكس الذي هجرت ينابيعه وجدرانه، وصارت نعم هي أنا، لكني الآن لا أفكر إلا في أصحاب هذه العربة .. وفي قضايا لا تثير الرعب حد الصمت والموت .
(4)
ولكني شعرت بشلل في أطرافي وتنمل ينتشر في جسدي كله.. فتجمدت، مستعيدا تلك الايام الصافية في مسيرة حياتي الاولى .. يوم كنت أتحدث، كبركان، عن مستقبل الخيول، والنوع الذي شغلني بتحرير أجسادنا وعقولنا من آثار سحب هذه العربات، او اللهو بنا في الملاعب، واستخدامنا في الحروب، والشطحات البهلوانية .. ثم، ذلك الانقلاب الذي نسف مصيري كله، فانتابني الجزع، وصار العالم محض نفايات تتبادل الادوار.. ولكن قوة جسدي، أو أسراره الخفية، جعلني أتصالح، بلا مبالاة، مع رغبات بدت لي ساخرة، أو سوداء، إنما كنت أغرق نفسي وانهكها بالوسائل المتاحة للفكاهة. وكنت أعرف، أن هناك حشدا قد سبقني الى هذا المصير عينه: ان العربة تتقدم! ياللسخرية، وياللضعف.. فأنا كنت أتقدم ايضا.. الى الوراء أو الى اية جهة .. إنما كنا ندرك اننا كنا في نقطة واحدة .. وهكذا كان الكلام وكان الصمت لايعنيان الا التحرك في حدود المكان الواحد. وكانت مسرة بلا صفات، ومباهاة لعينة ان يتزوج الحصان أي كائن بدافع الاحتضار، للايغال بايذاء النفس، كتلك الخيول التي تقتل نفسها لكي لاتقتل. هكذا أنفصلت عن ذاتي، وعن العالم كله، لكي أغطس فيه، وفي ذاتي التي تم تفكيكها الى الابد، هنا، حدث الاستسلام، بعد عصر الغثيان والبلور، بعد الارتواء الاسود الخاطف لهوامش قوانين المنازلات والعادات .ففي تلك الايام، كما في هذا اليوم، لافارق لدي بين حصان في المرعى أو آخر قد تمت تسوية الحساب معه. كانت حكمة الزمن، بدافع الانهيار والبناء الوهمي، أو ما دعوته بالترميمات الاليفة، قد تساوت . أن تموت أو لا تموت فانت بحكم المندرس . وعمقت في وجداني الفارق المثير للرعب بين المراعي والقطيع..بل بين ملك الرعاة والرعاة.. فاصبحت منعزلا بافراح صاعقة . أعيّد، وأعيّد، وأعانق أساطيري كما أشاء..وكما قلت، صار الزمن في رأسي نقطة متكاملة .. لكن العدم كان يلعب لعبته، كما لعبها معي قبل لحظات: هذا الاستذكار للغروب، والانحدار بصمت الى التلاشي.. جعلني امتلك نشوة، كتلك التي شعرت بها وأنا أفقد إرادة محو ذاكرتي، أو اعادة جسدي الى التراب، إنما، في بعض لحظات الوهن، أشعر أني أرتكبت حماقة اختراع خرافة لا وجود لها. خرافة أن هناك خرافات، تماثلني، في قانونها، خرافات متجانسة كعمل الاصابع العابثة بالذكريات الاولى.
ومرت عربة مسرعة، ثم توقف حصانها، وسألني السؤال الاتي:
-" متى بلغت هدفك هذا .. يارفيقي؟ " ..
فهمت، حالا، أني درت دورة كاملة . فقلت مخادعا:
-" منذ زمن بعيد .." ..
مضى . أما أنا فأدرك عميقا أن شيئا ما مضى في الحياة كلها. وانني كنت محض حصان، بوعيه، كان مجرورا بما هو فوق الوصف، أو الاعذار التي كنت أعتقد ان لا علاقة لها بما أنا عليه، لحظة غياب الوعي، بينما كان ذلك الزوال هو سر ديمومتي. في الواقع أحببت سفلة الخيول، والعلماء، واحببت البغايا بالدرجة البلورية الكريهة للعفيفات، وعندما كنت أتحدث عن أخلاقيات القانون، لم اشعر بالعار لو أني قلبت المعادلات، فكل ضحية بما فرض عليها. لهذا لم أعد أحتمل الرزانة ذات الطابع الرفيع، ولا الانحطاط المشوش لتلاشي الاضداد. صرت مقدسا بلا أعذار .. وأحد أعظم السفلة دون ارتكاب سفالة واحدة. كانت السفالة في الواقع هي شكوى من لم يذهب الى المرعى، أو العيد، وانا ما أحببت الا الاعياد، والمراعي التي لا أرى فيها جثتي وقد تناثرت فوق حشد من القبور، الى دفن متكرر باستئذان خفايا غيابي !
لكنها محض عادات لاتقبل التكرار.. لأنني لم اعد احتمل ان افكك الى ما لانهاية . وفي الوقت نفسه ما الذي يدفعني الى التماسك . في الواقع مشكلتي أني أفكر الا أتلاشى، في الوقت الذي لم يعد لدى أي رجاء ابله الا للمصادفة على محوي: هذه اذا ً وصية بلا أطراف، على الرغم من أن تاريخ جنسي يبدأ بهذا الامر .. بالعمل.. بل بالعمل من أجل ذاته، نحو الداخل أو نحو الخارج، انه العمل ا لجليل المتسم بالخلود. قاه. قاه. قاه. ولكني للأسف المذل للشخصية لا اشعر بأي أسف، أو ندم . فما هو فوق البلاهة، شرعا، لايخضع للحكم. الا أن تفكر لكي لاتفكر يجعلني مستفزا. ذلك لان العلف لا علاقة له بحياتي على مدى نصف قرن. والعلف، لهذا السبب، صار ثانويا، الا في لحظة اكتشاف انني كنت على وهم. فلولا توفر العلف، في البدء، لكنت اصبحت ذلك الذي أبغضه بلا معنى الآن، ذلك الحصان القوي، الجار ايامه معه الى مالانهاية، أو ذلك الذي يشيّد حفره وهو على قيد الحياة.
أنا لم أصر ميتا، ولا حيا، ولا بين بين، أنا قلت : خيولي لا حق لها الا أن تكون على الحق . وكانت كلها على حق . لأنني كنت لا أحتمل ان يقتل شقيق عذابي بعد أن يحصل على خسران المجد. ولم يكن المجد الا تهمة، وذريعة، وفقدان ذاكرة، وتضرعات الى ما لانهاية . كنت، مثلهم، أجر عربتي الى ما لانهاية نحوالغايات. ولم أقل كلا.. كنت أشعر بخجل أن يخجل الحصان .. ومع ذلك لم تتبلور حياتي، الا بدافع هذا الخجل، الذي تبلور لدىّ، ناصعا، وأنا أتخلى عن عادات الخجل القديم. أي، يا روحي، من لونك حتى اصبحت بهذا الصفاء . تلك كانت صرختي وأنا أتخلى عن أبناء جنسي.. فقد تعبت ان أجر العربات معهم، وتعبت للغاية الا اكون بلا عربة! وتلك كانت ورطتي حيث لم أجد متعة للموت من اجل أن أموت ، ولا متعة لكي اعيش من اجل أن أعيش !
(5)
وقد قادني العبث حتى غدا لذة أجر بها عربتي وأجرجر ها الى اللامبالاة التامة.. كان القانون أكبر من أدراكي له، وفي الزمن نفسه، قررت الا أبدو عديم الذمة، كان الذل فيّ أحد أسباب الامتنان والخلاص ايضا. فالحصان يدمن عاداته، كعمل الاجزاء اللا ارادية. فانا، في محصلة الوعي، عادة تتفوق على إرادة الابصار … لقد كانت محض انحناءات وكان عليّ الا أبدو مرتعشا بل صلبا، وقويا، وصرت، على مر الايام والاسابيع والسنين، محترفا ! فالحياة غدت لدي حرفة.. فكاهة مقنعة بسلوك الاطراف المعنية، العماء الازلي.. ذلك لان الخيول، منذ أصبحت بهذا الامتياز، كانت تتعامل بمنطق ما ترى وتحسن وتدرك، وفي واقع الامر أستطعت أن أفلت من السخريات المرة، بسبب أحترافي الحياة . ووعيي لها ذلك المسكون بهواجس الالفة. فأنا أفضل من جميع الخيول الميتة، التي حولها التراب الى ذرات داخل الزمن، أنا أكثر اهمية، في حالة وجودي هذا، من التراب المكون من أبدية الكائنات الفانية، وفي الوقت نفسه لم أدع الخيول، أو قانونها، أونظامها، ليسخر مني بالنسيان. ولقد عشت ذلك درجة بلوغ قاع العدم، كانوا يتجاهلون الشرفاء، في الغالب، لجعل حياتهم مقبولة ، فعندما تنسحب ، لأي سبب من الاسباب، فانهم يحاصرون خيالك نفسه، فلا أحد يعرف انك كنت.. أو مازالت، تجر عربتك بنبل فضاء العدم، انهم يلعنوك ويحاصروك كأنك لم تكن الا طيفا.. بالاحرى يتعاملون معك كغائب أزلي، فالكلب الاجرب، كما يقال خير من كل الاسود التي التهمتها البرية، ومع صواب أو خطأ هذا المثل ، فانا أدمنت وجودي على علاته، فلم أعد أفكر بالخيول الحالمة، أو المتمردة أو المشاكسة، أو الحمقاء أو العدمية أو ذات النـزوات، أو المتنورة .. بل كنت لا أريد الا أن أكون الحصان بعربته. فقد كان الخيال لدىّ قد تحول الى عربة وحصان: فعل بلا فاعل وفاعل بلا فعل! ومثل هذا القول الاخرق جعلني أقفز على عدمي كله، وعلى وجودي كنسيج رتبته هوامش العادات أو القوانين . اني وأنا اتكلم أشعر بالضجر لدرجة الرغبة بابادة الخيول كلها وبعثرة مجدها المقبور، ومع ذلك، أرغب بمصالة توفر لي ألعلف القليل والهواء الذي يسمح لي بالاسفار، من مكان الى لا مكان.. من حبيبة في قبر الى اخرى لا وجود لها. فابكي، كحصان ملكي، تعثر في نظام العادات، ولم يختر الا هذا الانحناء في سياق لا علاقة له بالنهار أو الليل، إن مشكلتي أني كنت أدمر عاداتي، في الاسلوب، كما في إغراءات الترف ، لكني في واقع الامر، عشقت لا مبالاتي حتى أصبحت جادا متماسكا، وأكثر منطقاً من عبث المنطق.
وكم كان بودي أن أمضي حياتي بلا ذاكرة، إنما، في واقع الامر، كان التذكر هو حياتي، فأنا أعيش العمر لحظة تضاف لهذا الامتلاء المشغول بعناية، أقول : كنت أريد، لدرجة الذل، التباهي بموتي، إنما أدركت، بحسب التاريخ الذي أعرفه، ان الموتى بلا تاريخ، ولا أريد الاعتراف، اني لم أعد أحتمل هذا كله، لقد كنت ادمج العناصر لتوليد عادة التراخي المبصرة، وأضحك تعبا من التعب، ومن السخرية، فالحق الذي أراه أقل من الحق في الحقيقة .
بهذا المعنى كنت لا أصلح لاداء وظائف كل الانواع التي انتميت اليها، أو التي انتمت اليّ فأنا في كل لحظة، أتعلم قدرة أن أتعلم هذا اللاشيء المقدس: أي هذا الذي جعلني أفضّل العلف على التاريخ ، ذلك لان روحي المرتعشة كانت في الغالب غير خاضعة لاي قيد من القيود. كنت الحصان الذي كتم شيطانه بلا اكتراث . وكنت قد أحببت المرح حتى قاع ماتحت الدفن، عالمنا السفلي، والجنة التي تزور روادها بسبب الفراغ، ياعقلي لاتنحرف لصالح أحد، ولا تنحرف حتى للحق الذي تعجلك الى الكلام.
أقول هذا بدافع الامتلاء، فأنا كنت أحزن وأحزن وأحزن لكي أعثر على الفرح.. وأفرح .. أفرح.. أفرح.. لاصرخ، أين حزني الاليف، ثم اكتشف اني بلا أحزان ولا أفراح، إنه قانون الخيول، الذي لا مناص انه قانوني في ذروته وماذا لديك غير الحق الذي تداوله بين الباطل في الايام، وغير الايام تداولها بين الباطل والباطل.
ثم يبلغ بي الحزن درجة لاتختلف عن درجة الاعياد، وأجر عربتي بلا لذة، وبلا خسران، فأنا لا أريد الاعتراف بشيء محدد، حتى اصبحت ادرك ان الخيول في عالمنا لاتريد أكثر من عاداتها.
وأعترف مصادفة، لا بدافع الاعياء الذي ولد لدىّ هذا التوهج بل بدافع ان القانون أقوى منا جميعا، والا لماذا أندرست أزمنة الخيول كلها .. وليس عليّ، الا أن أخترع وثني الزائل، الى أبد الابدين بمعنى ان ضميري لم يعد يحتمل نصف قرن، أو قرنا أو قرونا، أو ما لانهاية من الزمن في هذا اللازمن، دون الاعتراف بشيء ما غير لائق أو غير مبرر أبداً، وللحق كنت أرغب أن أحرق صفحات كتابي منذ ابصرت نهايته، في لحظة التوقد.. ولكني لم أفعل ذلك . لم أقتل النفس التي كان عليها ان تغادر .. بل جعلت المنطق لهوا يخص مالا يخصني وهكذا خسرت اللعبة، أو كسبتني .. لافرق.. ففي الموقد، عندما تحرق العملة، بكل ارقامها، لاتترك الا الرماد. اذاً .. من كان يجر من؟ انا لم اكن عربة الا في حدود انني كنت عبداً.. فلماذا كنت عبداً وقد كانت رؤيتي باتساع هذا الكون؟
(6)
لا أعرف، أو ربما كنت اعرف بعمق لا نهائي اني كنت أتعفن طوال هذا الزمن: ولهذا، لم أكن اتذمر. للحق لم أكن أشعر بان شيئا ما كان يسبقني، أو ان هناك سباقا في الاصل. كنت اتحرك، أو أدرك اني أتحرك مثل الاميبا.. أتحرك كثيرا دون تجاوز النقطة:النقطة التي بلا فضاء ، النقطةالمفرّغة من محتواها. الامر الذي جعلني لا أشعر بالخسران، وهو ذاته، هذا الاحساس المدهش باللامبالاة، جعلني لا أفكر بالربح. كنت أقول : لا أريد أن أكون مؤذيا لاحد، بدافع يجنب الايذاء المطلق، اذا ً، كان هو الموت أو التعفن الذي رسم أبعاد عمري: حصان نافع بحدود فزعه الخفي.. فقد عشت في محاولة للتخلص من العمر، والصخب، والجور، كنت لا اريد شيئا .. كنت أجر عربتي بهدوء .. بدافع الهزيمة الابدية : وبدافع الموت الذي سبقني الى الوجود. كانت اللذة عندي تكمن في غيابها .. ومع ذلك كنت أريد أن أقول شيئا، لا أعدّل فيه قانون الخيول، بل أعدّل موقفي بين المواقف الاخرى.
ولكن ما الذي جعلني لا استسلم للانهيار التام الذي كان يسحقني سحقا، بعد ان تخليت عن أحلامي..؟ أهو الاعياء أو بسببه لم أكن أمتلك قدرة تصفية الحياة مع نفسي أو مع الآخرين؟ للحق لا أشعر بالحزن بل احس بالتعب والفقر الروحي.. فأنا صرت لا أمتلك هدفا محددا إلا بسحب هذه العربة .. وعدم الاصغاء لاي صوت من الاصوات ..بل كنت أقضي بعض ساعات الليل أغني وحيدا مع الريح، بصوت لايخلو من الشكوى. فالغربة بلغت اقصاها.. ولهذا السبب، كما يبدو لي، لم أطلق الرصاص على نفسي، او لم اقتل من قبلهم ايضا. فأنا لم اراهن على قضية أو ادخل في منافسة من المنافسات .. وبالامكان القول ان قضيتي أنني كنت بلا قضية.. بل كنت لا أجد مسوغا لمثل هذا الامر المروع: قضية! من أكون لكي أربك أشقائي بالمزاعم والادعاءات.للحق كنت قد وضعت موتي في مكانه المناسب، فبدل ارباك خيالي، بالآمال، اغلقت نافذة احلامي وتجاهلت الوعود.. وفي واقع الامر لم تكن ثمة وعود أو رغبات .. كان قلبي قد أكتشف الخديعة .. كلها.. دفعة واحدة.. ولهذا أصبحت لا أريد أن أعرف مايجري من حولي.. فالذي حدث قبل مليار سنة سيحدث بعد مليارسنة… إنهم يقتلون الخيول.. الامر الذي جعل حياتي كلها بلا حياة، فأنا أشعر بلذة التعب الازلي: بالدوران .. والاستسلام لافراح عابرة، لا علاقة لها بأحد .. أي اني لم أعد حيا الا بحدود هذه العربة .. وعندما رفعت شعاري الغامض : أفكر لكي لا أفكر .. فقد كنت أمارس الهواية التي تمارسها الريح مع الاشجار! وكان الشعار قد جعلني أسطورة أو خرافة مع نفسي.. فقد كانت عزلتي لذيذة ولا تثير الشبهات.. أي اني لم أكن ممتحنا في شيء من الاشياء.. وهل هناك امتحان؟ للحق اغريت نفسي بعدم التعجل في اية قضية من القضايا . حتى اني لم اعد اتأمل وجهي في المرآة : ماذا أريد منه. وماذا أريد من مخلوق لا أعرفه أو أعرفه لدرجة اللامبالاة . وجهي الشرقي أو الجبلي الذي غدا تهمة .. وكأنه بلا امتياز. وعلى كل، لا أعتقد اني محض حصان يثرثر، أو اني بصدد كتابة رثاء . كلا .. ففيّ شيء يغلي، ويتأجج: طفولة لا تريد أن تركن . ومع ذلك يسكن هذا الهيكل الموت كله: الجهل والمعرفة .هنا، فيّ، ينام البحر مع جفاف الصحارى.. والديناصورات مع العذارى.. وفيّ براءة لا أريد أطلاق النار عليها. ثم أجلس أبكي كقبر فارغ . هو ذا أنا أفكر لكي لا أفكر : بلا حبيبة ولا عربة ولا جدران . واآسفاه انهم يطلقون الرصاص على قبر فارغ.. هكذا، منذ بدء تاريخ جنسي، لا أحد أعطى هذا النبل بما في هيكله من أعياد. حتى اني صرت، في الاخير، بلا عيد أو أعياد.. ولكن مشكلتي لا تكمن في هذا الامر، ولا في مكان آخر.. انها مشكلة خالصة وناصعة.. هذه هي مشكلتي، انني بلا مشكلة. مثل قبر فارغ يحمل الاسماء كافة . فلماذا الندم؟..
كلا. للحق تذكرت زواجي الاخير، أو الثالث حيث ذقت الندم بحلاوته المرة، وأعترفت، للسيدة الموقرة، ان الجمال ليس الا لعنة، وحياتي ليست ذات معنى . في الواقع كنت أحلم بصلف قليل، من أجل لذات غامضة كبرى . لكني، في وقت متأخر، أكتشفت العكس : اني كحصان لابد أن أكون حصانا، بالدرجة الاولى. فأنا أفضل من حمير قرانا كلها.. بل اعتقد اني اكثر اهمية من حمار ب . ب ذاته؟؟. فهناك، في اعماقي، تكمن عتمة بلا نهاية.. إنها، ببساطة، حصيلة اللوعة ولا أعتقد إنها أزلية ..فالحصان الذي قتل أمام أنظاري، كان ملكيا، مقدسا، بلا ثمن، لكنه قتل بهدوء، وانتهى كل شيء . اني لم أفكر بالمعنى الأبعد لمثل هذا الموت. الكل هكذا سيلاقون حتفهم…؟ بل ولم أفكر حتى بصاحب الحصان الذي قتل مثله، في ذلك الحادث المروع.. لقد كنت أجر عربتي وهذه هي مهمتي.. فأنا، كما قلت، أفكر من أجل الا أفكر.. ومع ذلك قلت : ماهذا.. وما سر ديمومة هذه الاسطورة.. ماسر ان أكون وسر الا أكون؟ لم أضحك أو أتذمر، على مدى نصف قرن، الا في لحظة بلوغ الاعياء درجة المفارقة . فأنا في الوقت الذي خططت لموتي السعيد، صدمت، بالحياة تتألق قوة باعثة على خيالات هائلة. ماذا يفعل الميت عندما يكتشف انه يمتلك شرعية كانت قد سحبت منه، مثلي، في هذا الموقف؟
لم أبك أو افرح.. بل رحت أجر عربتي بالصمت المغري الظالم .. فحياتي لم تعد قصة تروى، بل صرت أحس بحرارة الكلام كله. كان نجاحي خديعة أصيلة لسيرة حصان هزيل، مكتنـز، ثرثار وحزين وصامت.. وكنت لا أجيد ولا أريد أن أبرر هذا السلوك المذل لي، لانه في واقع الامر، وصمة عار لجنس الخيول في عصر آخر، لم يعد فيه العلف ضرورة، كما في ازمنة السباقات الامبراطورية . وكنت أدرك عميقا ذلك الاسى في الاشياء كلها. هكذا، بإندفاع غير صاخب، قررت أكتشاف من أكون..
(7)
قبل ان اقرر شرعية هذا الشك الذي بلغ ذروته، كان اليقين قد سحرني وجعلني أستسلم لهذه العربة، دون ان يرد في خاطري، أي شك حول عملي. لقد تركت نفسي للذة غير قابلة للدحض: هذا الاطمئنان لقناعة عميقة.. ولكن الموت الذي بلغ درجة الفكاهة جعلني أقلب المعادلة.. وقد لا تكون هذه حقيقة اخيرة، فأنا ساعود أجر العربة، بدافع من تلك الدوافع الغريزية البلهاء والمتقنة .. ومع ذلك رفعت رأسي، وقلت : أي اثقال كنت تجر طوال حياتك ياايها الحصان؟ نظرت .. ولم اصدم.. او كأن الصدمة كانت أكبر مني . فانا كنت أجر مجموعة من الموتى، أجل.. مجموعة رائعة من الجثث الجافة.. ولا أستطيع أن أقول هل كانت لها رائحة محددة.. وانما لويت رأسي وقلت : أستدر .. فقد كانت حياتي استدارة كاملة ! أي اني كنت اعيش بالسلام الروحي البعيد، غير القابل للشرح أو التبرير.. كنت أجر عربة موتى .. فقط.. وكان هناك من يجرني أيضاً. كنا سعداء، بعيدا عن مفاهيم السعادة ذاتها.. فلم أكن أشعر بالشقاء أو الذل. كنت اعمل على مدار ساعات النهار، بطيب خاطر، ولم يكن الموت مشكلة، فقد كانت الاشياء تولد وتموت بقانونها .. ولم أكن، في هذا كله، الا جزءاً من هذا القانون ، هذا الهدوء التام لهذه الفكاهة المرة، او الحلوة، او التي بلا طعم. اجل : كانت وجوه الموتى تحدق في، كانت تحدق وكأنها لم تمت بعد، او كانها لم تولد، او كأنها تنتظر الموت.. كانت تضحك، ومرة تبكي، الا انها كانت بلا تاريخ، بلا هوية، بلا أسماء! مثلي تماما.. بلا، رقم أو ذكرى، لكني لم أعد أحتمل هذا الوهم، فقلت في خاطري : لماذا لا أهرب .. وأبحث عن حياة ثانية. لكن الخشوع فيّ جرني الى الاستكانة: أيها العجوز لم يتبق لك الا الموت: تلك الرصاصة الاخيرة، رصاصة الرحمة . ثم أكتشف بجلاء: لاتوجد تلك الرصاصة، ولا تلك الرحمة . وهذا يعني أني ساجر عربتي، بهذا الوعي كله، الى الأبد.
كانت العربات تتقدمني، ولا أحد يسأل: لماذا توقفت ؟ بل ولا أحد له علاقة بي .. بأستثناء خواطر قديمة كانت تمر داخل رأسي.. خواطر، لماذا لم تصبح حصانا ملكيا.. ولماذا اخترت هذه العربة بالذات، في الوقت الذي كنت أمتلك فيه مميزات رفيعة تقودني الى منـزله أخرى .. ولم تكن تلك أزمة . كان مرضي الوحيد أني كنت بلا علة.. أو كان المرض قد بلغ درجة المسرة والفرح بما أنا فيه، لم أكن أرغب بشيء ما، عدا هذا الذي انا عليه : قليل من القناعة ضد القناعات الكبرى، قناعة العلف الذي أدام حياتي على مدى نصف قرن، بلا تذمر، وبشفافية نادرة، لقد اصبحت لا أحتمل أي حديث عن العذاب او الجنون، فأنا للحق الحصان الذي ينبغي أن يجر عربته الى أبد الابدين : حركة قدر . قلت ذلك وانا أحدق في قبري الفارغ، القبر المزدحم بالموتى القدماء. ثم، بهدوء، أقول لنفسي، انها ملهاة عابرة: أنا والعربة والموتى. ملهاة اجر بها ملهاتي. ثم لا توجد قضية بعد هذه القضية، عدا هذا الحق الذي كنت أبحث عنه، ولا أخاف منه، الحق الذي هو النور، أو هو الخلاص من العتمة .
هل كنت أريد الخلاص من الحق ..؟ ياروحي أنا وحدة متكاملة بتناقضاتها؟ ثم أحدق في قبري الفارغ.. قبري الذي شيدّت جدرانه بعناية، وصبر، وهدوء، على مدى نصف قرن. هذا القبر غادرني، حتى غدوت، كأني لم أولد.. وهنا أبدو في غاية البؤس لا في غاية الاكتمال. فأنا أشعر، اني لم أعد بحاجة للموت أو سواه، بل ولا أرغب بالبعث مرة ثانية. اني أجرجر نفسي، وحياتي، وهذا يكفي.. فلماذا أحاول أختراع مصيبة أو مشكلة، كل الحياة التي مضت لم تعد ملكي، ولا أعتقد أن هناك مسؤولية تقع عليّ !! لا أقول هذا للتنصل من قضية، وإنما، في المعنى البعيد، أدرك لا مسؤوليتي عن جر هذه العربة.. ففي كل مكان، وفي كل زمن، سأقوم بجر عربة! مع ذلك أريد الاعتراف بأني لم أكن الا ضحية .. فماذا لو كنت اقوم بجر عربة يسكنها الاحياء، مثلا؟ ولكن فلسفتي مدمرة.. ففي الحالة الثانية، ساعترف بالباطل ايضا. فأنا ساقود الاحياء الى الموت.. مثلما كنت افعل ذلك مع الموتى الاعزاء. وهل لدي مشكلة بعد هذا كله؟ كلا. إن مشكلتي أني بلا مشكلة.. أو إنها، هذه المشكلة، ليست مشكلة أصلا. وهي ليست مشكلة الا لانني تعبت على نحو فادح.. مدمر.. تعبت من التعب نفسه.. تعبت ان ابقى هكذا لا أعاني الا من التعب : أي ان أبقى أجر هذه العربة، الى حتفي الشخصي، بهدوء وسلام وفكاهة ايضا. وليس لديّ أي قرار عدا هذا التأمل، فالعربة ساكنة، وأنا، مثلها، لا أعرف الى أي مكان اذهب، إنها عتمة.. لا عتمة حياتي، فشلي أو فشلي الآخر، وإنما العتمة تآلفت مع موتي أو حياتي.. ومتى مت لكي أتحدث عن هذا الموت؟ لم أمت وهذا يعني أني لم اولد.. الامر الذي جعلني أحدق في ساكن عربتي .. ثم أعود أحدق في الطريق، ونهايته.. لاأفكر الا في لا مبالاة أقل قسوة عليّ من الزمن الذي أنصرم، سريعا، لم يترك فيّ الا آثار لا معناه. وهكذا لم يعد لديّ من أتكلم معه.. وإنما أصغيت الى كلمة غامضة لا أعرف من نطق بها، سمعت من يقول لي: أيها الميت أصغ! فأصغيت في نفسي ولهذا الصوت المجهول.. ثم رحت، بلا مبالاة مطلقة أجر العربة، بالاتجاه الذي تسير فيه العربات، نحو الهدف الغامض، كنت اسير بلذة محطمة، لا افكر ببلوغ غاية..ولا أشعر بخسران للزمن الراحل . كنت كالمنتصر الذي يشيع جنازته، ويتقدمها، فلم تعد لدي آمال أو رغبات محددة.. وكان الصوت يهتف في : ايها الميت تقدم . آنذاك ادركت سر حياتي كلها، وتقدمت.
(8)
يبدو أن العربة لم تكن متوقفة، طوال لحظات توقفي عن العمل . ويبدو، على نحو أدق وأكثر رعبا، انني لم امت. كانت العربة تسير، مثلما قدر لها، وتأملاتي لم تكن زائفة ايضا. ولكن مشكلتي، في الاخير، لاتكمن في كوني حيا أو ميتا، أو كوني الحصان الميت الذي يجر عربة لاتقل الا موتى، وإنما في سؤال آخر: هل أستطيع أن أتخلى عن جلدي وأصير مخلوقا آخر. في الواقع، إن مشكلتي ليست مشكلة ! فأنا كنت، وما زلت، أريد أن أكون بلا مشكلة. بلا ميلاد أو موت. في الوقت نفسه أنا من أكثر المخلوقات سخرية ضمن الاساطير.. من هذا الوهن الذي يدفع بالعقل الى اختراع الحلم . حتى انني اتساءل : أيهما أكثر واقعية وصلابة وقسوة الحلم أم الواقع.. بل أتساءل : من صنع الاخر؟ الحب صنع الحبيب أم الحبيب صنع مملكة الحب .. ولماذا هذا الفقر كله والحياة برمتها محض عربة؟ أريد أن أقول، كمخلوق تحسن نوعه، دون أن يفقد الصلة بين سر الواقع وجذر الخيال المتعالي: ان المخيلة ليست عظيمة ولا جليلة بالقدرالمناسب، لا للواقع ولا لقدرنا كمخلوقات حرة أو غير حرة في جر عرباتها، لقد فكرت على مدى حياتي ، وبعقل متزن ومتوازن وصارم في شأن قتل نفسي كموقف يشرف ذاتي أو جنسي.. ولكنني لم أتوصل الى حل يوازي السؤال الآخر: هل نحن محض مصادفات وتراكم عبث.. أم انها لعبة تلعب على اللاعبين؟ في واقع الامر، ولكوني أشعر بالاعياء المطلق، أفضل العلف القليل .. فبالرغم من ذكائي، كما يقال، فان الرقاد في زريبة تحميك من البرد خير من الحلم في تحرير الخيول في هذا العالم، ومع ذلك أعتقد أن الحلم هو الذي يؤسس الواقع! أجل، سأعترف دائما بمرضي القاتل: فأنا لا أعرف هل صنعني الواقع أم صنعني الخيال.. وفي الحالتين لا أعرف من كان يجرني، بهذه القوة، نحو الهدف المرسوم بدقة، قلبي لم يضع الا في ضياع يقينه فالعلف كان ضرورة مثلما الضرورة بعض العلف، بعض هذا الصمت بين الجار والمجرور ولكن المشكلة متوازنة فكيف أخترع يقين جر الموتى وأنا ما زلت أعتقد أنني لم أولد أو لم أمت على الاقل. قلت : إنها لا مبالاة .. متقنة تخص حياة حصان أطلقت عليه النار- أو أندرس مع باقي المخلوقات . فأنا أحيانا أتخيل ان هناك حصانا يجري فوق الخيول كلها، محلقاً، وهناك آخر يجري فوق الارض، وثالث تحت الاقدام.
إننا جميعا نجري، ونجر أثقالنا، بلذة، أو بلذة السياط، أو بلا لذة، ومعرفة اننا نجد جداً في عملية الجر الكبرى ..إن هذا الهاجس أعاد لي الحياة في شكلها المستعاد: هذا الضرب من الغباء المقدس، الذي يتحول الغباء فيه الى عادات، تماثل، تكرار البرق. إن مشكلتي الدقيقة، مرة أخرى أعترف بها، انني أكاد أكون بلا مشكلة بل وأعترف، انني قررت القيام بانجاز أعمالي بلا غاية أو هدف، ثمة، في هذا السياق، ملهاة وفكاهة وقرف بلا حدود. ومع ذلك فنهاية الطريق كامنة في الخطوة الاولى: في صرخة السقوط، ثم في اللعب، وفي الشيخوخة .. إنها حالة تجعلني في قمة الاعياء، وفي قمة النداء المقابل، فما الذي كان بوسعي عمله.. سوى البقاء على قيد الحياة وانتظار نهايتي .. بالاحرى كنت أدرك بعمق عبث اتخاذ أي موقف مغاير للحياة التي ذهبت، وكأنها مكتوبة في كتاب، بل كنت، أحيانا، لااؤمن الا بهذا القدر الذي لامناص من انه قدّر علينا جميعا.
فلماذا الاعتراض .. وعلى أي الاشياء ؟ هكذا تبدو القصة وقد بلغت نهايتها.. اللامبالاة العجيبة تجاه الاستسلام لهذا القدر.. لكن فجأة، عندما تحدق في فوهة البندقية المصوبة ضدك، ترتجف، ويفقد الهدوء معناه كله.. وبعدها تكتشف، إنها ليست لعبة، لكنها لاتختلف كثيرا عن اللعبة . تموت أو لاتموت.. وهذا يجعلني أدرك اني كنت مفيدا أو نافعا.. والان.. بعد ان لم أعد كذلك.. فأن رصاصة ما ستطلق عليّ .. أو ربما ستبقى وهمية، اتخيلها تطلق عليّ وأنا لاأعاني الا من شرود الذهن، والخيبة.. أو انها ستطلق وأنا أحلم، أو أمشي، أو أتسكع،أو أجر هذه العربة: عربة الموتى.. إنها اذا ً الرصاصة التي ستطلق أو ربما كانت قد استقرت في جسدي أو في عقلي .. قبل أن أولد.. أو في أية لحظة من لحظات الغفلة.. لاني لم أعد أشعر برهبة الخطر.. ولا الفزع من الخسران.. واي كلام سيقال بعدي، هو كالذي سمعته أو أسمعه اليوم: رثاء بارد وكلمات ستأخذها الريح. فلماذا الاضطراب الروحي بعد ان فقد الجسد جذوته وتوقده.. فأنا لن أعود الى الحياة في الحالات كلها.. ثم ماذا لو عدت.. فهل سأعود الى غير هذا القدر المرتب، المتقن، في قانون الاقدار .. هكذا يتوغل الحزن فيّ الى درجة الفكاهة، والصمت، وعشق النكات السافلة، والجدية، واللامبالاة.. وبهذا البعد، لن تنتهي قصتي، فهناك مالا يحصى من المخلوقات سيحل محلي، ويؤدي دوري، بردود أفعال مماثلة، أو مختلفة .. إنما ستبقى هناك عربة الحصان الميت، قصة لايمكن أن تكتمل فصولها الا في حياة حصان لم يولد بعد.. وقد لايولد ابدا..
(9)
مع ذلك يصعب الحديث عن أي شيء بلا لذة ،حتى للموت ذاته لذه غريبة، غامضة ،هوجاء، ومقززة، لذة بلا نفع مباشر أو محسوم، أقول بعد نصف قرن من العمل مع الموتى والموت اكتشف ان هناك لذات سحرية تدفع بنا لاختراع العربات.. ومن يجرها، فثمة في الاخير لذة كبرى فوق هذه التفاصيل، ليست هي اللعنة وإنما قد تكون هي القدر أو أي شيء آخر.. ولكن لماذا عشقت عذابي القاتل لو لم تتوفر فيه لذة خاصة .. ولا اقصد بهذا اني كنت أذّل حصانيتي أو انني كنت مخصيا بشكل من الاشكال بل أكاد أتلمس معنى اللذة بصفتها الاخيرة للوجود، فأنا كنت أتعذب عندما لا أفكر وأتعذب اكثر عندما أفكر .. فقد كنت أعرف معنى السعادة وماذا يعني أن تدفع ثمنها.. كان الموت عندي هو الصديق اليومي الذي لم يفارقني منذ ولدت ولكني كنت أبحث عن الابدية في كل شيء حتى وهم يطلقون النار عليّ كنت أريد الامساك بالخلود. فأنا حاولت الامساك بفناء الاشياء والفناء في سرها. ولهذا صرت شاذا في الاشياء كلها ولكني لم أصر بلا عمل.. كنت أجر العربة لكي أجد نفسي ومن معي أجرهم بلا هدف نحو الا بدافع اللعب الخالص ولكن – ربما – بدافع الخلاص من اللعب الخالص . فأنا اؤمن جوهريا بأن الوجود لذّات متكاملة : هكذا كنت أخترع الاساطير الوهمية أو الاكثر وهما..وأتوغل عميقا ً وراء العادات والاعراف .
فالوهم – هكذا أراه- لايختلف عن الحقيقة إلا بصفته وهما عميقا أو أصيلا.. أي هو الحقيقة كوهم.. وأنا لا أسخر من كلامي أو أدفعكم الى السخرية بل هكذا جرتني العربة .. وهكذا قمت بجرها أيضاً.. حتى اني أعترف في لحظة توفر العلف أو بعيدا عن الحصار الذي كان يفرض علينا بالفرح والامتنان فالحياة تخترع من يعيش فيها مثلما يخترع المخلوق أثامه السعيدة.
إنني أعرف مدى العزلة التي أنا فيها كحصان فقد جميع اللذات عدا لذة أنه فقد لذاته. فإذا كنت قد مت مرات ومرات الى ما لا نهاية فلم يعد الموت الجديد الا لذة خالصة، بل لذة مرتقبة كالحياة البهية الاليفة العذبة السعيدة في لذة هلاكها.. ولا أعرف لماذا تذكرت سائسي وهو يتحدث الى أمراة كان ينام معها فوق علفي.. قال لها انه لم يرتو من الحياة في عناصرها كلها.. لم يشبع من الطعام ولا من الاعالي .. لا من الجسد الذي .. قلت في نفسي.: حمدا بعد الحمد اننا لانعاني من هذه الازمات فأنا كحصان أشبعت رغباتي وأمنياتي وضروراتي وحاجاتي كلها: باستثناء انني لا أعرف لماذا فعلت ذلك ؟ إنها لذة تتفوق على اللذة فقد سمعت السائس يقول لها: قد أكون مت مرات لاتحصى إلا أني معك، لم أفقد حتى لذة الموت! أرتج جسدي الواهن وأنا أتخيل حياتي من غير لذة: لذة أن أشيّع أو أقتل أو أهمل.. لذة الا أكون ممتلئا لحد توازن خير الامور بضدها ثم أبتسم للموتى الذين سبقوني الى الهلاك. والعربات التي جرت خيولها معها وغادرت حتى متحف النسيان. الا يحق لي أن أكون في لحظة الضعف هذه هذا الحصان وهو يتلذذ بفقدان جميع اللذات العابرة أو الاكثر يقينا من الوهم؟.
ثم شعرت بالتعب، قلت بصمت حزين: التعب صار يخشاني.. من أنت؟ قال التعب فقلت له: أسكت .. لا يحق لنا الشكوى .. فلا أنا ولا أنت يحق لنا قول هذاالكلام الفاحش .. علينا جميعا أن نبقى خيولا فرحة.. فرحة حتى وهي تعشق ذلها .. لا للحزن أو التعب… فقلت بصوت لايسمعه أحد : هذه هي الكارثة ! فانا لدي أسراري وأعرف درجاتها.. لكني مادمت أنا السر فدخان الفضيحة بلا حدود … انه هو الشقاء دائما الذي يتراكم ويتراكم والذي ينقلب في لحظة الى ابتهال والى عالم لاتجر فيه الخيول موتاها جرا.. ولاتجر هي في هذه العربات.
هنا أبدو انني لا أريد ان اضع نهاية لحكايتي فأنا لا أريد ان أموت وكأنني فشلت في تحريك أي ساكن في هذا السكون.. وهذا هو الصواب في هذه المعادلة.. ولهذا قيل لي لماذا لم ترم نفسك في البحر؟ فقلت أية لذة ساحصل عليها.. فالجميع سيجرون الجميع.. ومن أرض الموات ستنبعث الزنابق .. انها دورة فذة ومحكمة.. فأنا محض حصان حزين لدرجة تفوقت فيها على غياب الامال.. حصان يتلهى بمفردات ماضية.. فالصخرة تقول لي: ما أسعدك ! فأقول لها: وهل أنا سعيد؟ تقول : أنت تتحرك! فأقول في نفسي، ما أسعدني لو كنت صخرة! فتقول : ما اتعسني لو لم أكن صخرة ! فاضحك كأنني ولدت توأ أو كأني أدفن فوق الف قبر .. طريا شفافا بلا آثام الجر ليتكوّن في رأسي مفهوم أنني كنت على حق بالمستوى ذاته أنني كنت على باطل.. هذا السحر الدائم الذي يماثل غش صناعة البلور والمعادن الشفافة ..للحق كنت أريد الا أولد ولكني ولدت عنوة ولم اختر نهايتي الا بما يماثل ذلك الميلاد. وها أنا قلت كلمتي : ميت أمضى حياته مجرورا ً الى الموت .
الثلاثاء، 14 فبراير 2012
هل اختفت من لندن؟-للشاعر الكبير نزار قباني
هل اختفت من لندن؟
باصاتها الجميلة الحمراء
وصارت النوق التي جئنا بها من يثرب
واسطة الركوب
تسرب البدو الى
قصر بكنغهام
وناموا في سرير الملكة
والانجليز لملموا تاريخهم
وانصرفوا
واحترفوا الوقوف -مثلما كنا-على الاطلال
*
ها هم بنو تغلب
في (سوهو)وفي (فيكتوريا)…يشمرون
ذيل دشداشاتهم
ويرقصون الجاز
*
هل اصبحت انجلترا؟
تصحو على ثرثرة البدو
وسمفونية النعال؟
*
هل اصبحت انجلترا؟
تمشي على الرصيف بالخف… وبالعقال؟
وتكتب الخط من اليمين للشمال
سبحانه مغير الاحوال
*
عنترة … يبحث طول الليل عن رومية
بيضاء كالزبدة
او مليسة الفخذين .. كالهلال
يأكلها كبيضة مسلوقة
من غير ملح في مدى دقيقة
ويرفع السروال
*
لم يبق في الباركات
لا بط ولا زهر ولا اعشاب
قد سرح الماعز في ارجائها
وفرت الطيور سمائها
وانتصر الذباب
*
ها هم بنو
عبس.. على مداخل المترو
يعبون كؤوس البيرة المبردة
وينهشون قطعة
من نهد كل سيدة
*
هل سقط الكبار من كتابنا
في بورصة الريال؟
هل اصبحت انجلترا عاصمة الخلافة؟
واصبح البترول يمشي ملكا
في شارع الصحافة؟
*
جرائد
جرائد
جرائد
تنتظر الزبون في ناصية الشارع
كالبغايا
جرائد جاءت الى لندن
كي تمارس الحرية
تحولت - على يد النفط -الى سبايا
*
جئنا لاوروبا
لكي نشرب من منابع الحضارة
جئنا.. لكي نبحث عن نافذة بحرية
من بعدما سدوا علينا عنق المحارة
جئنا.. لكي نكتب حرياتنا
من بعد ان ضاقت على اجسادنا العبارة
لكننا.. حين امتلكنا صحفا
تحولت نصوصنا
الى بيان صادر عن غرفة التجارة
*
جئنا لاوروبا
لكي نستنشق الهواء
جئنا
لكي نعرف ما الوانها السماء؟
جئنا
هروبا من سياط القهر والقمع
ومن اذى داحس والغبراء
لكننا.. لم نتأمل زهرة جميلة
ولم نشاهد مرة حمامة بيضاء
وظلت الصحراء في داخلنا
وظلت الصحراء
*
من كل صوب.. يهجم الجراد
ويأكل الشعر الذي نكتبه
ويشرب المداد
من كل صوب.. يهجم (الايدز) على تاريخنا
ويحصد الارواح والاجساد
من كل صوب.. يطلقون نفطهم علينا
ويقتلون اجمل الجياد
فكاتب مدجن
وكاتب مستأجر
وكاتب يباع في المزاد
هل صار زيت الكاز في بلادنا مقدسا؟
وصار للبترول في تاريخنا نقاد؟
*
للواحد الاوحد.. في عليائه
تزدان كل الاغلفة
وتكتب المدائح المزيفة
ويزحف الفكر الوصولي على جبينه
ليلثم العباءة المشرفة
هل هذه صحافة
ام مكتب للصيرفة؟
*
كل كلام عندهم محرم
كل كتاب عندهم مصلوب
فكيف يستوعب ما نكتبه؟
من يقرأ الحروف بالمقلوب
*
على الذي يريد ان يفوز
في رئاسة التحرير
عليه .. ان يبوس
ركبة الامير
عليه.. ان يمشي على اربعة
كي يركب الامير
*
لا يبحث الحاكم في بلادنا
عن مبدع
وإنما يبحث عن أجير
*
يعطي طويل العمر.. للصحافة المرتزقة
مجموعة من الظروف المغلقة
وبعدها
ينفجر النباح.. والشتائم المنسقة
*
ما لليساريين من كتابنا؟
قد تركوا (لينين) خلف ظهرهم
وقرروا
ان يركبوا الجمال
*
جئنا لاوروبا
لكي ننعم في حرية التعبير
ونغسل الغبار عن أجسادنا
ونزرع الأشجار في حدائق الضمير
فكيف أصبحنا مع الأيام
طباخين
في مضافة الاسكندر الكبير؟
*
كل العصافير التي
كانت تشق زرقة السماء
في بيروت
وتملأ الاشجار والبيادر
قد احرق البترول كبرياءها
وريشها الجميل
والحناجر
فهي على سقوف لندن
تموت
*
يستعملون الكاتب الأخير.. في أغراضهم
كربطة الحذاء
وعندما يستنزفون حبره
وفكره
يرمونه في الريح كالأشلاء
*
هذا له زاوية يومية
هذا له عمود
والفارق الوحيد فيما بينهم
طريقة الركوع
والسجود
*
لا ترفع الصوت.. فانت آمن
ولا تناقش ابدا مسدسا
او حاكما فردا
فانت آمن
وكن بلا لون ولا طعم ولا رائحة
وكن بلا رأي
ولا قضية كبرى
فانت آمن
واكتب الطقس
وعن حبوب منع الحمل ان شئت
فانت آمن
هذا هو القانون في مزرعة الدواجن
*
كيف
ترى نؤسس الكتابة؟
في مثل هذا الزمن الصغير
والرمل في عيوننا
والشمس من قصدير
والكاتب الخارج عن طاعتهم
يذبح كالبعير
*
ايا طويل العمر
يا من تشتري النساء بالارطال
وتشتري الاقلام بالارطال
لسنا نريد اي شيئ منك
فانكح جواريك كما تريد
واذبح رعاياك كما تريد
وحاصر الامة بالنار.. وبالحديد
لا احد
يريد منك ملكك السعيد
لا احد يريد ان يسرق منك جبة الخلافة
فاشرب نبيذ النفط عن اخره
واترك لنا الثقافه
الأحد، 12 فبراير 2012
الجمعة، 10 فبراير 2012
قصة لوحة: الناعور الذي أراد أن يقول شيئاً -صائب خليل .
صائب خليل .
6 شباط 2012
كنت أقضي عطلة الصيف في معظم عقد الستينات في بيت جدي في “عانه”. (يكتب إسم مدينة “عانه” بهذا الشكل عادة "عنه" لكني لا أرى مبرراً لكتابتها هكذا، خاصة أنها تعطي لفظاً خاطئاً لمن لا يعرف المدينة.) وبيت جدي واحد من مجموعة بيوت ضمن "حوش"، وهو شيء وسطي، بين البيت الكبير لعائلة كبيرة، والمحلة الصغيرة.
لـ "حوش حسين" باب خارجي كبير متداعي، يبدو أنه بني للدفاع عن سكانه من هجمات الغزو التي حدثنا عنها أهلنا. يطل هذا الباب على "الدرب الجواني" (الداخلي) وهو شارع ترابي متعرج يخترق “عانه” من شرقها إلى غربها، وكثيراً ما مشينا به ولعبنا الدعبل. فالشارع الترابي بانحناءاته وارتفاعاته ورقة ارضيته، هو بيئة صديقة للدعابل وللأقدام الحافية.
وفي “عانه” شارع ثان خارجي يفصل المدينة عن التلال الصخرية التي تحيط ب”عانه”، وتجعل منها شريطاً رقيقاً طوله 11 كلم، وعرضه لا يزيد عن بضعة مئات من الأمتار. بين "الدرب الجواني" والنهر، تطل البيوت المحظوظة على منظر ساحر لجزر الفرات، وحيثما سمح المكان، تواجدت المقاهي التي تطل على النهر. وبين دربي "“عانه”" الوحيدين، خط من البيوت وبساتين النخيل والحمضيات ذات الأسيجة الواطئة، ثم يأتي "الدرب البراني" (الخارجي) والتلال الصخرية. ويربط هذا الطريق الأخير "“عانه”" بـ "لواء الرمادي"، كما كان يسمى، وبقية المدن التابعة له مثل هيت وحديثة، من جهة، ومن الجهة الأخرى يستمر الطريق نحو ناحية "“راوه”" القريبة، متلوياً بين البساتين عن اليمين والتلال التي تتحول إلى مغارات نسجت حول بعضها قصص الجن، وأشهرها مغارة "أم حجول".
وكان الشباب يتراهنون على شجاعة بعضهم البعض في من يستطيع أن يذهب في منتصف الليل ويضع علامة في مغارة أم حجول، ثم يذهب رفاقه في الصباح ليتأكدوا منها. ولم يكن يجرؤ على ذلك إلا أشجع الشباب. ويروى أن واحداً منهم، ذهب فتأخر كثيراً، فقلق رفاقه عليه فذهبوا يفتشون عنه، فوجدوه في المغارة مغشياً عليه. وحين عاد لوعيه، قال أنه وضع العلامة المتفق عليها، وحين هم بالعودة إذا بأحد ما يمسك دشداشته! وتبين أن دشداشته قد حصرت تحت الصخرة الكبيرة التي وضعها كعلامة!
على تلك التلال كان "تانكي المي" (خزان الماء) ينتصب شامخاً، وتحته بقليل المدرسة الإبتدائية، وأعلى منها بقليل المدرسة الثانوية ذات الساحة الرياضية البسيطة التي شهدت تحديات وخاصة بكرة القدم وكرة الطائرة التي اجتذبت الشباب بشكل خاص، وكثرما تحولت إلى معارك بسيطة بين فرق مدارس "“عانه”" و”راوه”، خاصة عندما تخسر فرق "راوه" الأكثر مشاكسة وجرأة. ومع الوقت بنيت بعض البيوت المتناثرة على تلك التلال.
وفي الربيع تشهد التلال الأبعد، حركة نشطة للباحثين عن الكمأ والفطر وكذلك "الشعيفة"، وهو حشيش صحراوي أبري، سهل الأكل وطيب المذاق، وأيضاً "الكعوب"، وهو نبات صحراوي شوكي له أزهار بنفسجية كبيرة تؤكل نية أو بإعدادها بطرق مختلفة.
ولا أنسى أبداً حين كانوا ينظفون خزان الماء، فيتراكض الأطفال يبلغون بعضهم البعض بصرخة "سال التانكي"!، فكنا نهرع لنغنم دقائق الشلال القصير العمر الذي كان يحدثه الماء عند الحافة الصخرية، لنأخذاً "دوشاً" بارداً ونحن نلعب ونتضاحك.
عندما صرت في الثانية عشر كنت آخذ كل صيف كامرة خالي، الذي كان قد عاد من دراسته في الخارج، وفلم واحد، ولم أصور به إلا "“عانه”" ببساتينها ونوعيرها وممراتها. لم أكن التقط صوراً لأصدقائي إلا نادراً جداً...فلدي 36 صورة فقط، أخصصها كل عام لتدوين جمال "“عانه”" دون غيرها.
أذكر مرة رآني رجل أحمل كامرتي في المنطقة بين “عانه” و"“راوه”"، فأثار هذا الصبي فضوله، فسألني (السؤال التقليدي هناك)"إبن من" أنا، وماذا أفعل فقلت له، فنظر حوله وأشار إلى النهر وقال: "هذا منظر جميل، خذ له صورة"..أجبته، أتصور أنه سيكون أجمل من فوق هذا التل، ثم تركته وصعدت. وبينما أنا أفكر في الصورة، رأيته يصعد خلفي، نظر إلى النهر وقال: "والله صدقت...هيا خذ الصورة"! .. أجبت.."لا .. لم أقتنع بعد، سأصعد أكثر وسيكون المنظر أفضل"، وصعدت، حتى وصلت لمكان مناسب وكنت أعد كامرتي لإلتقاط صورة فإذا به يتسلق وهو ينهت... نظر حوله إلى النهر، والتوائه عند قلعة “راوه”، والبساتين المنتشرة بتفاصيلها الكثيرة، ونواعير النهر على الضفتين، فهز رأسه وقال عبارة لم أنسها حتى اليوم: "تقدر على زمانك"! وكانت لقطة من أجمل ما صورته في حياتي. هكذا كنت أقضي ايامي في “عانه” بين عشقي السباحة والتصوير، ويمكنكم أن تتخيلوا الصدمة حين قال لي المصور في بغداد مرة: "الفلم محروق"! – كم حقدت عليه! لم يكن عندي شك أنه أحرقه بإهماله.
عندما حان وقت حياة "التشرد"، أخذت معي جميع تلك الصور، وكانت غلطة العمر، ففقدت جميعاً!
النهر في "عانة"، لم يكن ممراً مائيا فقط بالنسبة لنا نحن الأطفال. بل كائن مهيب مليء بالتفاصيل والقصص والسعادة. أمام "حوش حسين" تمتد جزيرة "الحضرة"، تليها إلى الشرق جزيرة "المقطعات". وهكذا تتوالى الجزر كلآلئ عِقد في وسط النهر، وعلى طول “عانه”، بل وبعدها وقبلها أيضاً.
كنا نقضي يومنا في النهر من الصباح وحتى المساء أحياناً، وحسب الموسم ومستوى المياه. مجموعة من أربعة إلى ثمانية أطفال عادة، نسبح عند ناعور "صدر الرحى" (الذي يظهر في اللوحة) ، وكان أهلنا ألقلقين علينا لا يريدوننا أن نذهب عند الناعور، حيث الماء سريع، يخبرونا – دون جدوى- أنه "بيت السعلوة". بل كان الأطفال الأكثر جرأة وأكبر عمراً يمسكون بالناعور، ويجعلونه يرفعهم من النهر عالياً، وهو يئن ويكاد يتوقف من الثقل، ثم يقفزون إلى الماء ليعود يدور مسرعاً ويستعيد إيقاع أغنيته الحزينة!
وفي موسم الفيضان يتغير المنظر، ويربط الناعور بحبال قوية، ويسرع النهر وتصعب السباحة. لكن الشباب الأكبر كانوا يستغلون غرق الأرصفة العالية حين لا يبقى منها الكثير ظاهراً ليلعبوا "الدكة"، حيث ينقسمون إلى فريقين يتصارعان للسيطرة على ذلك الرصيف (الدكة)، وكنا نراقبهم بحسد وببعض الخوف مما كان يبدو في لعبهم من العنف وكل يلقي بالآخر في الماء الجارف بقوة وبلا رحمة.
عند الناعور، كان أهالي “عانه” يقطعون النهر بخط من الحجارة، هي أشبه بالسد غير المكتمل، يسمى "السِكِر" (بكسر السين والكاف وتسكين الراء)، الغرض منه رفع مستوى الماء قليلاً، لكي يدور الناعور بشكل أفضل. ومن المنطقي أن تجد دائماً ناعورين على جانبيه عند ضفتي النهر للإستفادة من ارتفاع الماء. وفي وسط النهر تترك عمداً "الفتحة"، لكي لا يحصر النهر أكثر من اللازم ويدحرج الصخور. وتتطلب إدامة "السكر" عناية لإعادة وضع ما تدحرج تلك الصخور الكبيرة، في مكانها كل عام، وكذلك تتطلب إدامة النواعير أعمالاً متكررة.
الناعور يدور باستمرار، ويأخذ كل صاحب بستان حصته من مائه وقتاً محدداً، قد يكون بعد منتصف الليل وحتى الصباح، وعليه أن يقضي ذلك الوقت يركض لفتح السواقي وغلقها. لا ينقسم مجتمع "عانه" أو "راوه" إلى "عشائر"، وإنما "أحواش" أو "بيوت"، ولم تعرف "عانه" أو "راوه" أو المناطق القريبة منها الإقطاع، ولم تكن هناك فوارق طبقية حادة بين الناس. وكان الجميع تقريباً يمتلك بعض الأرض التي يقوم بفلاحتها، ولم نسمع بأحد يمتلك أراض شاسعة يقوم الفلاحين بزراعتها له، ولم يكن هناك "شيوخ" و "عبيد" أو "اقنان" ولم أر يوماً شخصاً "مسكيناً" يشعر بالدونية في تلك المناطق. وتقسم أراضي البساتين إلى "صلبان" (جمع صليب، عمودان من الخشب متعامدان في الناعور) وهي وحدة قياس مساحة مبتكرة مشتقة من الناعور الذي يتكون من 12 صليب. فالناعور يستطيع ري مساحة محددة من الأرض، ويتم تقسيم هذه الأرض إلى 12 قسم يسمى كل منها "صليب" (تنطق بتسكين جميع الحروف).
"السكر" وصخوره الزلقة المغطاة دائماً بطبقة خفيفة من الماء، وخطوط الأمواج البيضاء التي كان يرسلها ذيولاً طويلة وقصيرة كما تشاهدون في اللوحة، كانت بالنسبة لنا مكان لعب ومتعة لا حدود لها. نلعب ونلهو ساعات عند "السكر" ونحن نقترب شيئاً فشيء من وسط النهر، عند "الفتحة"، وأخيراً نقرر العبور إلى الجزيرة، وعندها نقذف بأنفسنا في "الفتحة" ذلك الممر السريع المخيف من الماء، ونضرب ونضرب حتى نصل الى ذيل الجزيرة الرملي، محاذرين التلكؤء كيلا يجرفنا الماء نحو الجزيرة التالية، "المقطعات". وبعد استراحة وبعض اللعب، نخترق الجزيرة حتى غربها، صعوداً عكس تيار النهر، على طولها الذي يقل عن كيلومتر واحد، وفي طريقنا المظلل بالنخيل والأشجار المثمرة نحصل على "البسر" الأصفر، وهو التمر نصف الناضج، ألذ أصناف الفاكهة، أو هذا ما كنا نراه.
من مقدمة الجزيرة تبدأ رحلة عودتنا فيجرفنا النهر خلال وقت سباحتنا، عائداً بنا إلى "الفتحة" السريعة والضحلة المياه، والتي يجب أن نتسطح عندها فوق الماء قدر الإمكان خشية أن تصيبنا سرعة التيار وصخور القاع القريبة، بأذى، وكثرما فعلت ذلك!
لكن صديقنا "السكر" لم يكن لطيفاً دائماً - تغرورق عيناي بالدموع وأنا أكتب هذا السطر – فما أزال أذكر ذلك المساء الثقيل الحزين الصامت، إلا من نواح أم بعيدة، حين غرق صديقي "كفاح"! كان يسبح لوحده ذلك اليوم، وتخيلته يقفز غاطساً عند "السكر" فتصيب رأسه حجارة قاع كان يتصوره عميقاً، فيغمى عليه ويغرق. وجدوا جثة كفاح في اليوم التالي مع جرح في جبهته! كنت مصدوماً ومذهولاً، لكن لا أذكر أني بكيت "كفاح". يبدو لي أن الأطفال لا يبكون الموت، اليس كذلك؟
الصيف في "عانه" رقيق. حره لا يؤذي ولا يمنع من العمل واللعب، ولكن بما يكفي للتمتع بالسباحة. وحتى حين يشتد قليلاً، فيكفي أن تجلس في "عشة" من سعف النخيل أو أغصان "الغَرَب" وترشها بالماء لتنعم بالهواء المنعش المعطر. والنوم على السطوح في الليل، متعة أخرى! فيتحول السطح إلى ساحة للّعب والمصارعة. وعندما كان النسوة والفتيات من عدة بيوت يجتمعن لعمل "الكليجة" في السطح، ويضاف عدد من المصابيح لزيادة الإضاءة، كان ذلك سبب آخر للإحتفال واللعب حتى وقت متأخر.
لكن ألذ ما في النوم على السطوح، ذلك البرد الخفيف الرطوبة على الوسادة عندما نضع رأسنا عليها لأول مرة! إني أفهم السياب تماماً عندما قال: "واحسرتاه متى انام... فاحس ان على الوساده، من ليلك الصيفي طلا... فيه عطرك ياعراق"!
كنا نخبث على بعضنا البعض، فنتسابق إلى "سرقة" ذلك "الطل" بأن ننام على وسادة الغائبين أولاً، قبل أن ننقلب إلى فراشنا! حتى النوم كان احتفالية في ذلك الزمن، لماذا، وما الذي حدث؟
وأخيراً يهدأ ضجيجنا، ويتوقف سعف النخيل عن الحركة، والعصافير عن الزقزقة. وقبل أن أستسلم إلى النوم، أسمع في ذلك الهدوء من بعيد هدير "السكر" الذي أخذ "كفاح"، وأنين الناعور الذي كنت أتخيله يريد أن يقول شيئاً....ونغفوا!
في بعض المرات كنا "نسيّس" – بكسر وتشديد الياء- (أي نترك مجرى النهر يأخذنا) من “راوه” إلى “عانه”، على "الجوب" المطاطي الأسود. كانت هذه السفرة مع تحضيراتها تستغرق يومناً، لبطء النهر خاصة عند منحنى النهر عند قلعة “راوه”، وكنا نمر في طريقنا بـ "الطِين" (جمع "طينة" .. وهي جزيرة صغيرة مؤقتة تظهر في موسم هبوط النهر وتتم زراعتها بالخيار والرقي واللوبياء الغضة وغيرها. وروى لي أبي مرة كيف كانوا يذهبون لزراعة "الطيَن" والعناية بها في الفجر المثلج وقبل ذهابهم إلى المدرسة). وكنا "نسرق" ونأكل بعض ما تجود به "الطين"، ثم نستمر، لنصل وقد أسدل الليل ستاره على “عانه”، وكل شيء هادئ، إلا هدير "السكر" وصوت الناعور، وصراخنا يملأ النهر، وقد ابتعدنا عن بعضنا.
عندما أتذكر ذلك، أفكر، مسكين طفلي، ومساكين أطفال الأجيال التي تلتنا. لن يمكن له أو لرفاقه أبداً أن يذوقوا طعم تلك السعادة وتلك الحرية وذلك الإحساس بالأمان والضحك الكثير والمشاعر العميقة، وحتى لو كنت مليونيراً اليوم لما أمكنني توفير مثلها له أبداً!
الطريق بين بغداد و"عانه" كان شاقاً ووعراً وطويلاً، وأكثره غير مبلط، وسعيد من ينجو من الدوار حتى نهايته. لكنه لا يخلو من أماكن ساحرة مثل منطقة "البغدادي" ومقهاها الذي يطل على منطقة في النهر، تبرز فيها الصخور وأشجار "ألغَرَب" برائحتها المميزة المنعشة، وتسير عميقاً عبر النهر. كنت أتصور أنه الجنة!
وعندما نصل إلى "عانه"، فأن أول شيء كنت أحرص على رؤيته هو "الشط". وحتى لو وصلنا في وقت متأخر من الليل، فإني أفرك عيني وأقفز من السيارة وأركض حتى النهر. وهناك أبقى دقائق طويلة أستمع إلى صوت "السِكر" وهو يحطم الأمواج بهدير مهيب، ويرتفع وينخفض أنين ألناعور الأزلي...
أذكر في إحدى المرات عندما وصلنا “عانه”، كان جرح في إصبع قدمي قد تورم، ويجب أنتظار شفائه قبل أن يسمح لي بالسباحة. نزعت ملابسي، ووقفت عند الدكة التي نقفز منها إلى النهر. قالت خالتي محذرةً:" يجب أن يطيب جرحك أولاً؟" قلت... "أنا أقف فقط ".. كنت أريد على الأقل أن أقترب من متعة السباحة بقدر ما يُسمح لي به. بقيت هكذا لدقائق طويلة أنظر إلى النهر وأتخيل نفسي اتلوى في مياهه، وأنا ألمح خالتي تحدق بي باسمة ومتأثرة. وفجأة ضممت يداي إلى صدري وصرخت، لم أعد استطيع المقاومة، وقفزت الى الماء!
اللوحة التي أمامكم، تمثل "حوش حسين" على فرات “عانه” القديمة. فيها بعض التفاصيل والشخوص المتخيلة، أما معظمها الباقي فيعود إلى صورة التقطتها للمكان، عام 67 أو 68، وما أزال أذكر تفاصيل التقاطها. البيت على اليسار كان بيت خالتي، التي كانت تنادي إبنها من تلك الشرفة لكي يتغدى، ثم ليتعشى، وأحياناً ليتناول فطوره! فقد كان "سلام" سمكة أكثر مما كان طفلاً. والى يمين البيت مكان أشبه بالحجرة المغلقة في الماء، تغسل فيها الفتيات الصحون ويسبح فيها الأطفال الصغار. هذا الخط الداكن النازل عند حائط الجامع كان مسار ماء التغسيل من الجامع إلى النهر. كان في الجامع "قمرية" عنب كبيرة تطل على النهر، وكان في اعلى مئذنته عش لقالق. البناء قرب الناعور كان طاحونة يوماً ما، ومن هنا جاء إسمه "صدر الرحى"، لكننا لم نشاهدها.
كان هذا المكان أفضل ما يمثل “عانه” بالنسبة لي، بلا منازع، لكن لم يكن ممكن التقاط صورة له إلا من داخل النهر، وكانت تلك مشكلة. وفي أحد الأيام أقنعت صديقي فاضل، أن نذهب في "بلمه" (زورقه) إلى منتصف النهر لنأخذ الصورة!
وبعد قليل كنا نصارع أمواج "السكر" في بلم صغير جداً، "أبو أربعة تنكات" – (مصنوع من أربعة علب دهن الراعي الكبيرة) مهدد بالغرق في أية لحظة، وما قد يعنيه ذلك من احتمال فقدان البلم، وأهم من ذلك بالنسبة لي، تلف الفلم كله وربما الكامرة! ولأني يجب أن أهتم بالصورة فقد كان على فاضل أن يهتم بالبلم لوحده ويجدف بقوة ليتقدم أو يقاوم الإنجراف حتى نصل إلى المنطقة التي ترضي "المصور". وأذكر صراخه وهو يحتج على طلباتي المتكررة الكثيرة: .. "يجب أن نذهب أكثر في عمق النهر" .. "تقدم قليلاً" .. "لا معنى للصورة إذا أخذناها من هنا، شوية بعد" .... "لا .. متكفي لازم نروح أبعد"..."منارة الجامع لا تظهر كلها مع الماء من هنا"... "يا أخي إذا أخذت الصورة من هنا، أما الناعور ما يطلع أو الحوش ما يطلع".."إحنا تعبنا تعبنا.. خللي نحصل صورة زينة"...
وأخيراً، صرنا حيث كانت كامرتي تستطيع أن تحتوي أحب مكان لدي في العالم. لم يكن في الكامرة شيء أوتوماتيكي، ولن أبذر أكثر من صورة واحدة حتى هنا! أضبط المسافة... قدّر فتحة العدسة المناسبة.... السرعة... والآن حاول أن تستقر أكثر ما يمكن ذلك في بلم صغير تؤرجحه الأمواج...و..." كليك" !
وغرقت “عانه”! ومازالت ترن في أذني أصوات صرخاتنا وتلاطم الأمواج ورذاذ الماء وصراخ فاضل القلق من غرق البلم، وصوت الناعور الذي لم أفهم حتى اليوم ماذا كان يريد أن يقول لنا!
الشهيد عبد الكريم قاسم والصراع الطبقي والسياسي -حامد كعيد الجبوري
إضاءة
الشهيد عبد الكريم قاسم والصراع الطبقي والسياسي
حامد كعيد الجبوري
مهما حاول الكثير من الإساءة لهذا الرمز الوطني العراقي الكبير فهو يعلو ويحلق في سماء التاريخ المنصف والجاد ، شخصية كالزعيم الخالد خلقت الكثير من الأضداد ضده ، ومهما قيل ويقال فلم يستطع أحد خدش وطنيته ونزاهته وحرصه على بلد نهض توه من قيود رجعية ومؤامرات ومكائد محلية وعربية وعالمية ، أن الثورة التي قادها الراحل الشهيد قاسم خلقت له أعداء محليون وغيرهم ،سياسيون وعروبيون وغيرهم أيضا ، مساء يوم 8 شباط الأسود تحدث ( مالك دوهان الحسن ) من خلال فضائية العراقية ، والظاهر أن هذا الرجل قد قبض الثمن سلفا ليرسم ما في مخيلته الموتورة ضد الراحل الشهيد قاسم ، ويحق لمالك أن يتحدث عن الزعيم بهذا الحقد الدفين فقد كان قانون الإصلاح الزراعي الذي شرع في عهد الشهيد قاسم ضربة قاسمة وقاسمية لمثل هكذا أقطاعيين منحوا آلالاف ( الدونمات ) الزراعية لقاء خدمتهم المستعمر العثماني والبريطاني على حد سواء ، وهم نفسهم هؤلاء الإقطاعيون الذين أوحوا للمرجعية الدينية حينها لتصدر فتواها المعروفة ، مضافا لذلك قانون الأحوال المدنية ، والغريب أن المرجعية الدينية لم تفتي بشئ مما عمله البعث وأزلام الحرس القومي من سفك للدماء وتشهير للحرمات ، بمعنى أن المرجعية الدينية السنية والشيعية تآزرتا سوية من أجل الإجهاض بثورة الشعب العراقي عام 1958 م ، لأن الثورة حينها أصابت هؤلاء بالصميم ، ولست هنا مدافعا عن ثورة كتب بها وعنها أكثر من 4500 مؤلف ، غير الأطاريح الجامعية والكراريس والمجلات والصحف ، ويدعي الكثير أن الراحل عبد الكريم قاسم ليس سياسيا ناجحا ، وأقول لهم نعم لم يكن قاسم سياسيا ناجحا بمعايير السياسة التي يفهمونها اليوم ، فلو ساس الناس بسيف ( الحجاج ) و ( صدام ) لكان سياسيا ناجحا ، ولو ساس الناس بسياسة ( معاوية بن أبي سفيان ) و ( عمرو بن العاص ) لكان سياسيا ناجحا وفذا ، وأسأل مثل هؤلاء ما يعني لهم قانون ( 80 ) وقانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال المدنية ؟ ، وما يعني أن يباع النفط العراقي بالجنيه الإسترليني ؟ ، وما يعني بناء مجمعات سكنية بطول العراق وعرضه لفقراء البلد والمحوجين ؟ ، نعم الظاهر أن كل من يعمل للفقراء ويكن منهم ليس سياسيا ، فالسياسي الذي يستأثر بالمال العام ليسوقه لحزبه ومدينته وعشيرته ذلك هو السياسي العبقري ، لا أريد أن أطيل بل سأورد هذه المعلومة التي سمعناها نحن مريدو أحد الصالونات الثقافية السياسية حيث تناولنا الراحل الشهيد قاسم وثورة الشعب العراقي ، قال أحد محدثينا وهو يعمل بعد أن فر هربا من الأنظمة المتعاقبة ليستوطن في ألمانيا الغربية حينها ، قال ارتبطت بعلاقة صداقة مع أحد الوزراء الألمان المتقاعدون ، سألني هذا الألماني قائلا ماذا يمثل لك عبد الكريم قاسم ؟ ، قال صاحبي لأغير من مفاهيمي تجاه عبد الكريم قاسم وقلت للألماني أن قاسم دكتاتور أهوج ، قال وما رأيك بجمال عبد الناصر ؟ ، قلت قائدا عروبيا ( قومجيا ) محبوبا من شعبه ، قال الألماني لو فرضنا أن جئنا بقاسم لمصر وجمال للعراق فماذا سيحدث ؟ ، قلت لا أدري ، أجاب الألماني قائلا لو جاء ناصر للعراق لم يستطع حكم العراق ثلاثة أيام ، ولصنع المصريون لقاسم تمثالا يعدل صرح أبو الهول ، وأضاف الألماني قائلا للعراقي الذي يخفي حب الزعيم بداخله،أتعرف أن قاسم أجتمع مع وزرائه عام 1959 م لمناقشة ميزانية العراق التي هي عبارة عن 100 مليون دينار عراقي ، ويقول كتبت تلك الميزانية على سبورة ب( الطبشور ) تفرس بها الزعيم الراحل وهي عبارة عن أسطر قليلة تحتوي على أرقام عدة ، نهض الزعيم من محله وأخذ الممحاة وأزال كل ما كتب على السبورة وهو يحدق بوجوه الوزراء ، لاحظ تجهما على وجوههم ، نهض مرة ثانية وأعاد بخط يده ما كتبه وزير المالية ( محمد حديد ) ، قال محمد حديد مخاطبا الزعيم أن هناك ثلاثة أرقام تختلف عن ما كتبه حديد ، أخذ الزعيم الممحاة ثانية وذهب لمسح تلك الأرقام الثلاثة ليعيدها كما كتبها الوزير ، وقال الزعيم لحديد عليك أن تراجع هذه الأرقام الثلاثة الممحاة لنناقش ميزانية العراق ، وعودا لبدء أقول للسيد ( مالك دوهان الحسن الجبوري ) حمدا لله إذ لم يكن الزعيم نهازا كغيره ، ولم يكن ملكيا ، ولم يكن وزيرا للبعث المقبور ، ولم يكن وزيرا أمريكيا ، ولم يكن مرشحا لبرلمان عراقي لأكثر من مرة ولم يحصل على خمسين صوتا ممن أخذهم معه لبغداد للتظاهر ضد الراحل قاسم ، ممنيا لهم بزيارة الإمامين الجوادين وكذب عليهم وزجهم ضمن التظاهرة وهم يرددون ( زيارة وسفرة ودينارين ) ، بمعنى أنه أعطى لكل واحد من هؤلاء ديناران كأجر له ، ومع ذلك لم تغرهم الدنانير لينتخبونه اليوم رغم الفضل القديم والجديد لهم ، للإضاءة .......... فقط .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)