الخميس، 5 مايو 2011
في مناهج النقد الحديثة (7)-النقد السياقي الجزء الرابع
في مناهج النقد الحديثة (7)
مقدمة :-
النقد حوار فاعل بين النص والقارئ حوار يضفي على النص معنى ً يشارك فيه الطرفان ,وليس للنص معنى ًبمعزل عن قارئ نشيط يستحثه ويقلب فيه الظن بعد الظن, حتى يصل إلى نتيجة ما ولكي يصل القارئ إلى ذلك المعنى المنشود لجأ في بعض الأحيان إلى الناقد لعدم امتلاكه الأدوات والمفاهيم الإجرائية التي تمكنه من ذلك , وفي نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر برز نشاط الناقد من خلال إحداثه لبعض المناهج النقدية التي يستطيع من خلالها إضاءة النص وكشف معانيه التي قصد إليها المبدع أو التي لم يقصد إليها .
فبرزت المناهج التي تهتم بتاريخية النص واجتماعيته وواقعيته وأطلق عليها فيما بعد " القراءات السياقية " التي ينصب جل عملها نحو المبدع ِ وأثر البيئة والمجتمع ووضعه النفسي وطبقته الاجتماعية في النص المبدَع
و القراءة السياقية تنطلق من مواقف أيديولوجية ثابتة وجامدة في بعض الأحيان وتغرق النص بمفاهيم قد تشل النص وتهتم بالمبدِع بمعزل عن المتلقي , وتحرص " على تقديس تاريخ الأفكار وتاريخ الإبداع الفني ومصادر الإلهام والمؤثرات على اختلافها وهذا يجعل منها شبكة من الأصول المتماشجة في غير تجانس " ( 1 )
إلا أن الخطاب النقدي المعاصر شهد تحولات كبرى وعميقة في العقود الأخيرة من القرن العشرين كانت ثمرة للإنجازات العلمية والفلسفية المتلاحقة (( فتحولت القراءة النصية النقدية من قراءة أفقية معيارية " سياقية " إلى قراءة عمودية متسائلة " نسقية " تحاول سبر أغوار النص لاغير مبتعدة عن مقارباته من خلال السياقات التي أحاطت به يوم إنتاجه وبذلك أصبحت المعالم النصية ( البنى ) للمادة الحقل الأساسي للقراءة لكن لم يكن لهذا التغيير أن يتحقق إلا بفعل الثورة التي أحدثتها اللسانيات الحديثة وتأسيسها لأسس جديدة في طرائق التعامل مع النص فأقصت الخارج وقراءاته السياقية
" التاريخية, النفسية , الاجتماعية "وأخذت بالقراءة النسقية فمجدت الداخل على الخارج ))( 2)
ستحاول هذه الورقة أن تقدم مقاربة واعية لمفهوم القراءات النسقية بغية الوقوف عليها والتعريف بها محاولة الابتعاد قدر الإمكان عن الخوض في تفصيلات قد تشتت القارئ والحق أنه تم التصرف في بعض النقول وذلك لضرورة تبسيط البحث وإشكالية المصطلح فيه .
مدخل :- أ – بين يدي المصطلح ..
لقد أصبحت النظرية الأدبية للحداثة وما بعد الحداثة أكثر من أي شيء إشكالية قراءة , إذ أن دراسة عملية القراءة تعني إثارة عدد من الأسئلة الصعبة والمثيرة للاهتمام فنحن نريد أن نعرف قبل أي شيء كيف نقرأ ؟ .. وهل نستطيع صياغة نموذج للقراءة يوضح كيفية القراءة بهذه الأسئلة نحاول أن نتلمس مفهوم القراءة النسقية وهل هي قراءة جادة وثابتة وتعنى بديمومة النص ؟
في ضوء هذا الفهم يجب أولا ً تحديد المصطلح وتبيانه يقول الدكتور سعد الدين كليب : " يعني النسق أو المنظومة – الموضوع الكلي الذي يتألف من عناصر ترتبط فيما بينها بعلاقات محددة ويشكل مجموع هذه العلاقات المحددة البنية التي تربط بين العناصر داخل المنظومة - فالكلية إذا ً هي صفة النسق والكلية هنا هي الوحدة الناظمة للعناصر والتكامل فيما بينها فالنسق بهذا المعنى هو وحدة العناصر المتكاملة والداخلة في علاقات محددة " ( 3 ) .
إن القراءة هي الممارسة النقدية أو النشاط الإجرائي الذي يتوجه نحو النسق و انطلاقا ً من هذا يمكن أن نصل إلى مقاربة تعريفية للقراءات النسقية بأنها تلك الأشكال النقدية الإجرائية الأدواتية المفاهيمية ( القراءة ) المتوجهة نحو الأنساق النصية التي تشكل مجموعة أبنية النص وبؤره الفنية والفكرية .
أولا ً ما بعد البنيوية .......
سبقت الإشارة إلى أن ظهور المفاهيم الإجرائية التي تتعامل مع النص بمعزل عن الخارج لم تتحقق إلا بفعل الثورة التي أحدثتها اللسانيات الحديثة مستمدة أصولها النظرية من المدرسة الألمانية بزعامة ياوس والمدرسة الشكلانية الروسية والمدرسة الفرنسية , هذا الزخم الفكري أسس لظهور القراءة النسقية " وأمدها بأدوات إجرائية لمقاربة النص الأدبي حيث مجدت الشكلانية الروسية الداخل فاستبدلت السياق بالأدبية والمعيار بالوصف والمطلق بالنسبية ودعت إلى موت المؤلف وجعلت من مقولة النسق مقولة مركزية في طرحها" (4)
إن هذا الزخم الفكري الذي قدمته الشكلانية الروسية أسقطها في النزعة الصورية ( المنطقية ) فيما بعد , وهذا ما وضع الشكلانية البنيوية في مأزق إجرائي مما حدا بها أن تنفتح نحو مفاهيم العلوم الأخرى وخاصة الإنسانية " فظهرت البنيوية التكوينية كتيار بديل على يد لوسيان جولدمان مستثمرا ً فلسفة هيجل وماركس ولوكاتش للتأسيس لبنيوية تهدف إلى تحقيق التماسك بين البنية الذهنية والبنية الفنية داخل العمل الإبداعي من أجل رؤية للعالم لا تقصي عبقرية المبدع " ( 5 ) .
وظهرت البنيوية النفسية في ذلك الوقت على يد جاك لاكان فربط المعطيات النفسية باللغة والكلام .
إن كل هذه المعطيات أصبحت توحي بأن البنيوية كقراءة وخصوصا ً الصورية منها , توحي ببروز أطروحات جديدة في الأفق تعمل من أجل التأسيس لقراءات تتجاوز القراءة البنيوية لفتح الفضاء الإبداعي أمام أدوات إجرائية أكثر مرونة من أدوات البنيوية الصورية .
القراءة النسقية......
تمثل النشاط النقدي الإجرائي الذي جاء لتخليص البنيوية من صوريتها ببروز ثلاث قراءات إجرائية أساسية ( الأسلوبية والتفكيكية والسيميائية ) .
1 ) القراءة الأسلوبية ..... ( الانزياح ) .
هي علم الأسلوب وهي طريقة الكتابة باستعمال الكاتب للأدوات التعبيرية من أجل غاياتٍ أدبية , وبذلك تكون في مفهومها النقدي هي العلم الذي يكشف عن القيم الجمالية في الأعمال الأدبية انطلاقا ً من تحليل الظواهر اللغوية والبلاغية للنص الأدبي فهي تبحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب الأدبي .
والأسلوبية نهضت بعد أن أغرقت البلاغة نفسها في المعيارية المتحجرة والتي بقيت فيها فترة زمنية طويلة
وبذلك عملت الأسلوبية على توحيد رؤية البلاغة التي تعمل على فصل العلاقة القائمة بين النص ومدلوله
" ولهذا يمكن اعتبارها امتدادا ً للبلاغة ونفيا ً لها في الوقت نفسه ومن أبرز المفارقات بين المنظور البلاغي والأسلوبي هو أن البلاغة علم معياري يرسل الأحكام التقييمية ويرمي إلى تعليم مادته وموضوعه بينما الأسلوبية تنفي عن نفسها كل معيارية والبلاغة ترمي إلى خلق الإبداع بينما تسعى الأسلوبية إلى تعليل الظاهرة الإبداعية بعد أن يتكرر وجودها " ( 6 ) .
كما تقوم الأسلوبية في منطلقها المعرفي من مبدأ أساسي يرى أن اللغة تعطي الأديب مجموعة من الاحتمالات اللغوية والأساليب التعبيرية للتعبير عن الموضوع الواحد فينتقي واحدا ً منها قصد التعبير والإبلاغ لخلق تأثيرٍ ما .
وقد تجلت الأسلوبية في اتجاهات عدة يمكن حصرها بـ :
أ ) الأسلوبية الوصفية :- تهتم بالوقوف على القيم التعبيرية والمتغيرات الأسلوبية بغية الكشف عن الطاقات التعبيرية الكامنه في اللغة .
ب ) الأسلوبية الأدبية :- تهتم بدراسة لغة أديب ٍ واحد ٍ من خلال نتاجه متبعة ً في دراسة اللغة مجموعة من الآليات ومعتنية بظروف الكاتب ونفسيته ( 7 ) .
جـ ) الأسلوبية الوظيفية :- تهتم بدراسة وظائف اللغة ونظريات التواصل .
د ) الأسلوبية البنيوية :- وفي منظورها أن النص بنية خاصة أو جهاز لغوي يستمد الخطاب قيمته الأسلوبية منه ( 8 ) .
ومن أهم مميزات الأسلوبية بشكل عام أنها تؤكد على وجود موضوع ٍ في النص الأدبي يمكن استنتاج أدبيته عبر نسيجه اللغوي ولا تقر بالحكم على النص الأدبي بل تقدم للناقد جهاز مفاهيمي لتحليل النص والحكم عليه وتهتم بالأثر الجمالي للنص باعتباره لغة شعرية والاعتماد على مستويات التحليل كالمستوى الصوتي أو المستوى اللفظي , ومن أهم أدواتها الإجرائية :
الانزياح :- ظاهرة أسلوبية , وهو بكل بساطة خروج التعبير عن السائد أو المتعارف عليه قياسا ً في الاستعمال رؤية ولغة وصياغة وتركيبا ً وهو مفهوم متغير ولا أدل على ذلك من موت الصور المجازية عبر اجترارها وتكرارها وتحولها من التعبير غير المباشر إلى التعبير المباشر .
ولا شك أن الانزياح يشكل أدبية النص وأحد أبرز علاماته ومواطن الشاعرية فيه ويأخذ الانزياح أنماط كثيرة حيث تعوَّد الدارسون أن يحصروا الانزياح في صور التعبير البيانية وركزوا خصوصا ً على المجاز والاستعارة
ويرى د. نعيم اليافي أن الانزياح يصيب سائر المكونات الشعرية وذلك من خلال قوله بالانزياح المجازي ويتمثل بجميع أنماط الصور البيانية والانزياح الإيقاعي والانزياح اللغوي بجميع ضروبه وانزياح صفات وانزياح تقديم وتأخير , و الانزياح الدلالي ما بين الصوت والمعنى أو الدال والمدلول ( 10 ) .
وبعد أن عرضنا للأسلوبية وأهم أدواتها الإجرائية بقي أن نقول أن الأسلوبية تقوضت في الغرب وأصبحت في عداد القراءات الميتة مع بدايات الستينات من القرن العشرين وكان السبب في زوالها ظهور السيميائية وتأثيرها عليها حتى انصهرت فيها .
2 ) التفكيكية :-
تقوم التفكيكية على إقصاء كل قراءة أحادية على صعيد المرجعية والتأويل , ولا تسعى إلى واحدية الدلالة للنص بل تسعى التفكيكية إلى جعل مدلولية النص بين يدى المتلقين يفككونه إلى المرجعيات التي بني عليها فيقفون على هذه المرجعيات ويقرؤون النص وفقا ً لها مهملة ً و مهدمة ً للنسق الذي يقوم عليه وفي اعتقادها أنه تركيب لغوي غير متجانس .
" إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرب كل شيءٍ في التقاليد تقريبا ً وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة واللغة والنص والسياق والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير " ( 11 ) .
ويتجلى ذلك بإخراج ( الدال ) من المعنى التقليدي لحدود التفسير التي حاصر بها الخطاب النقدي التقليدي ( للمدلول ) وانفتاحه على التفسير اللا محدود أي أن استراتيجية التفكيك تقوم على إلغاء المدلول ليحل محله اللامدلول .
وبذلك يكون قد خطا النشاط النقدي مع التفكيكية خطوة جديدة في مساره المتجدد آخذا ً بمبادئ الألسنية مستثمرا ً لها فتح آفاق ٍجديدة للنص الأدبي .
وفي ضوء هذا الفهم نرى أن " التفكيكية تقدم عددا ً عديدا ً من القراءات و الدلالات للمعنى الواحد دون أن تتحول تلك التعددية إلى تناثر وعبثية " ( 12 ) .
وإذا كانت التفكيكية تنطلق نحو البنى النصية , وتقوم بإرجاع تلك البنى إلى مصدرها الأول فهذا يعني ولادة قارئ يتعامل مع النص بثقافة خاصة . وفي إطار هذا يتجلى لنا بوضوح مفهوم الأثر الذي أسس له ديردا في التفكيكية والذي يعتبر " الأثر " كأساس إجرائي للفهم النقدي باعتباره القيمة الجمالية التي تسعى وراءها كل النصوص الإبداعية . ويسعى إلى تلقفها كل متلقٍ للإبداع ذلك لأن الأثر هو التشكل الناتج عن الكتابة , ومن هنا نرى بوضوح مولد القارئ .
إن عملية التلقي التي قدمتها التفكيكية كواحدة من أهم استراتيجياتها تقوم على أسس معرفية يمكن حصرها فيما يلي :
أولا ً :- القراءة والكتابة
التفكيكية ترفع من شأن القراءة بأن تجعل السلطة الحقيقية للقارئ لا للمؤلف .
ثانيا ً : قتل أحادية الدلالة والدعوة إلى تشتت المعنى .....
ثالثا ً : موت المؤلف وميلاد القارئ :
وهذه دعوة دعا إليها بارت فيما يخص موت المؤلف إلا أن التفكيكية أضافت إلى ذلك أن موت المؤلف يؤسس لميلاد القارئ .
رابعا ً : الحركة الدائمة للغة :
فكل كتابة تمحو الكتابة التي سبقتها مما يولد للمحو دلالة لانهائية وبذلك يبقى المدلول في تحول دائم وتظل اللغة في حركية دائمة ( 13 ) .
التناص :-
من أهم الأسس المعرفية التي تعتبر من استراتيجات التفكيك و قد يرى المطلع على بعض الدراسات المتعلقة بالتناص تداخلاً كبيرا ً بين هذا المفهوم وعدة مفاهيم أخرى مثل " " المثقافة " و " الأدب المقارن " ودراسة المصادر " و " السرقات " لذلك سنحاول في هذا المجال أن نوضح معنى التناص ضمن استراتيجية التفكيك......
يعرف الدكتور محمد مفتاح (( التناص )) بأنه : " تعالق - الدخول في علاقة - نصوص مع نص , حدث بكيفيات مختلفة " ( 14 ) .
ويقر مفتاح بأن التناص ظاهرة لغوية معقدة تستعصي على الضبط إذ يعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي " فالنص ليس إلا توالد لنصوص سبقته " ( 15 ) .
أما التناصية عند عبد الملك مرتاض " صفة تلازم كل مبدع مهما يكن شأنه لأنه يستحيل وجود مبدع يكتب نصا ً أدبيا ً دون سابق تعامل معمق ومكثف مع النصوص الأدبية في مجال معين أو في مجالات متعددة " ( 16 ) .
وفي وضوء هذا الفهم يمكننا القول أن النص الأدبي أيا ً كان إنما يقتات في بنيته من فضاء نصوص أخرى وهذا ما دعت إليه التفكيكية باستحالة وضع تأويل واحد للنص فالتناص برأينا وضمن استراتيجية التفكيك هو الغذاء و الماء والهواء لاستمرارية هذه القراءة لما تمثله من اتساع لفكرة اللا مدلول والهدم والبناء في النص .
ونصل أخيرا ً لنقول أن تفكيك ديردا : "هو ممارسة فلسفية يتم فيه تفحص الخصائص البلاغية القائمة في النصوص (( المصطلحات والحدود الدقيقة والاستعارات المستخدمة )) وتبيان أنها تقوض معاني هذه النصوص ومرجعيتها المقررة وهو تبيان غالبا ً ما يتم بواسطة تقنيات بلاغية ". ( 17 ).
ولا بد أن نشير أن التفكيك كإجراء مفاهيمي نقدي يمتلك خصوصيته عندما يمتلكه القارئ بوعي و بفهم واضح دون غموض أو تعقيد فتفكيك نص أو إعادة بنيته إلى مرجعيتها و الانطلاق من تلك المرجعية لبناء نص أخر إنما يولد برأينا نصا ً إبداعيا ً من شكل آخر يحمل خصوصية القارئ وبذلك تتضح استراتيجية التفكيك النظرية كنشاط نقدي يتجه نحو الأنساق المعرفية في النص فيقوم بهدمها من خلال ما سبق ذكره من الأسس المعرفية التي يرتكز عليها ( التفكيك المتلقي ) وبذلك يسمح لعدد لا نهائي من المدلولات والنصوص المبدعة من قبل القرّاء ولا بد أن نذكر قول " رولان بارت " في كتابه نقد وحقيقة (( النص مصنوع من كتابات مضاعفة نتيجة لثقافات متعددة تدخل كلها بعضها مع بعض في حوار و محاكاة ساخرة )) . ( 18)
ينظر بارت إلى النص على أنه فضاء لأبعاد ومرجعيات متعددة تتنازع فيه الكتابات
السيميائية .............
تنطلق السيميائية من منظور دوسوسير من منطلق أنها العلم الذي يقوم بدراسة الأنساق القائمة على اعتباطية الدليل والسيميائية تقوم من منظوره على نظام جديد للواقع وهي بنى مكونة من ثنائيات أو ثنائية التركيب بشكل أدق هي الدال والمدلول و يعتبر دوسوسير أن الدال والمدلول لها وظيفة التعبير عن الأفكار المتميزة أي وظيفة رمزية داخل المجتمعات المختلفة وهذه الدلالة بين الدال والمدلول ذات صبغة اعتباطية يضاف إلى ذلك أن السيميائية لا تهتم باللسان فقط وإنما تتعداه إلى دراسة العلامة في عمومها , لذلك ينظّر دوسوسير لعلم يدرس حياة الدلائل داخل الحياة الاجتماعية وأطلق عليه اسم السيمولوجيا أي ( الدليل ) وسيكون عليه أن يعرفنا على وظيفة الدلائل والقوانين التي تتحكم فيها .
و في ضوء هذا الفهم فإن دوسوسير يعتبر اللسانيات فرع من هذا العلم العام (السيمولوجيا) و بذلك فالدارس أمام نوعين من الدلائل , دلائل لسانية ودلائل غير لسانية فالسيميائية علم عام أما اللسانيات فعلم خاص وكلاهما يعنى بالدلالية وبهذا تكون اللسانيات علما ً تابعا ً للسيميائية التي هي علم شمول عام ( 19) .
وبذلك فقد طرح نظرية عامة للسيمولوجيا إلا أنه لم يحدد معالم هذا العلم تحديدا ً دقيقاً بل بقى حقل بحثه موزعا ً بين علوم عدة كاللسانيات وعلم الدلالة إلى أن برز اتجاهان : الأول جاء به برت و مونان وقال بسيمولوجية التواصل " وتعنى بدراسة أنظمة التواصل أي الإشارات المستعملة للتأثير في المتلقي ( الموضة ) شكل من أشكال التواصل " ( 20 ). أما الاتجاه الثاني يهتم بدراسة أنظمة الدلالة التي تشكل الموضوع الأساسي لأي بحث سيميائي ويعتبر رولان بارت الرائد في هذا الاتجاه ( سيمولوجيا الدلالة ) والذي يشكل الآن جوهر النقد الأدبي المعاصر باعتبار أن كل وقائع داله في النص وكل بنية نسقية معرفية هي سيميائية تمتزج باللغة .
" أن كل المجالات المعرفية ذات العمق السيمولوجي الحقيقي تفرض علينا مواجهة اللغة وذلك إن الأشياء تحمل دلالات غير أنها ما كان لها أن تكون أنساق سيمولوجيا أو أنساق دالة لولا تدخل اللغة ولولا امتزاجها باللغة فهي تكتسب صفة النسق السيمولوجي من اللغة وهذا ما دفع ببارت أن يرى أنه من الصعب جدا ً إمكان وجود مدلولات نسق أو صور أشياء خارج اللغة بحيث أن إدراك ما تدل عليه مادة ما يعني اللجوء قدريا ً إلى تقطيع اللغة فلا وجود لمعنى إلا لما هو مسمى ً , وعالم المدلولات ليس سوى عالم اللغة " ( 21 ) .
ومن هنا نلاحظ تركيز سيمولوجيا الدلالة على اللغة فالدلالات السيميائية منشؤها داخل اللغة لا خارجها لأن العلامة لا نستطيع أن نعبر عنها إلا بما تختزنه من لغة فاللغة هي جوهر المدلولات وبذلك نرى أن بارت استطاع قلب المعادلة السوسيرية من أن اللسانيات هي فرع من السيمولوجيا وأن السيمولوجيا أشمل وأعم
إلى أن السيمولوجيا فرع من اللسانيات وليس العكس .
و بعد استعراضنا لتلك المناهج بقي لنا أن نذكر أن الخطاب النقدي العربي المعاصر قد استفاد بشكل كبير من معطيات تلك المناهج وأن مجمل النشاط النقدي المعاصر يتكئ على الأدوات المفاهيمية والإجرائية لتلك المناهج و لقد رأى بعض النقاد العرب أن هذه المناهج ليست ميداناً للنقد الأدبي وحسب بل طالبوا بضرورة تعميم هذا النمط النقدي على المجتمع بكل أنساقه ومعارفه وعاداته وثقافته بغية نقد التصور الذهني المعرفي للمجتمع وبالتالي الوقوف على السلبيات الاجتماعية والثقافية .
وإذا كان " إمانويل كانط " قد عبر عن أن عصر الأنوار (( aufklarung )) هو عصر النقد الذي ينبغي للجميع الخضوع له بممارسة هذا النقد , فإن كمال أبوديب الناقد البنيوي يرى في البنيوية " مشروعاً ثقافياً لابد من إنجازه للارتقاء بكل من الثقافة والمجتمع العربيين " ( 22)
وتبقى هذه المناهج النقدية من أكثر المناهج أو القراءات علمية ؛ وبالتالي فإن الاشتـغال عليها يفضي إلى نتائج أكثر موضوعية من الاشتغال على ( القراءة ) الذاتوية أو السياقية .
مناهج النقد(8)
- منهج سياقي
- منهج نصي
أ- السياقي :
وهو ما يتناول الأبعاد الخارجية المؤثرة في النص وهذه الأبعاد تتعلق بكاتب النص وبيئته وقارىء النص و زمن النص :
1- البعد التاريخي :
وهو ما يتعلق بزمن الكاتب والبيئة التي نشأ فيها والتي انعكست بالطبع على سطور النص الداخلية .
2- البعد النفسي :
وهو ما يتعلق بشخصية الكاتب نفسه و إنعكاسها على جو النص ، فقال فرويد عالم النفس الشهير:" بأن العمل الأدبي هو عبارة عن مخرجات لمكبوتات داخلية كمنت بعقل الكاتب مثلها مثل الأحلام ولذلك يجب على الناقد أن يفسر النص الأدبي ولا يحكم عليه "
3- البعد البيئي :
وهي بيئة الكاتب والتي تنعكس بكل تأكيد على مسرح الأحداث و عنصر المكان وطبيعة الشخصيات بالعمل الأدبي .
ب- المنهج النصي :
وهو ما يتناول نقد النص من الداخل ويحلل إرهاصات الكاتب وله أبعاده أيضاً :
أ- البعد الشكلاني :
وهو ما يتعلق بشكل النص الأدبي فالهدف من النص الأدبي ليس الأدب في حد ذاته بل الهدف منه هو أدبيته وما يطرحه من أفكار .
ب - البعد البنائي :
وهو ما يختص ببناء النص وبتفنيدة بشكل كلي لا بتفكيكة وتفتيته ، أي أن هنا البعد البنائي يعتني بنقد بناء النص بصورة كلية لا جزئية.
والإتجاه الحديث الآن في النقد وهو ما يعتني بالوسطية أي أنه يجمع بين النقد النصي والسياقي ويمزجهم في بوتقة واحدة كي يخرج لنا أسلوباً نقدياً حيداياً يفسر النص ويقومه ولا يحكم عليه .
وبعد أن أوردت هذه الدراسة المختصرة أظن أن ردود الأديب الكبير /عبد الرحمن الجاسم جاءت لتحكم على النص من زاوية واحدة ، وحادت عن مناهج النقد فتطرقت إلى الأدب المقارن وعلم الموازنات الذي يوازن بين النصوص الأدبية وهذا بالطبع لا يتناسب مع مناهج النقد الأدبي وأهدافه المقومة للنص والمفسره له فلابد للناقد عندما يبدأ في نقد النص الأدبي أن يضع تلك المناهج أمام عينية كي لايحيد عن أسلوب النقد الأدبي إلى أساليب أخرى ليست محلاً ، والنقد في حد ذاته هو نقد للنص الأدبي فقط لا غير وعدم التعرض لصاحب النص والسفر إلى تداعيات أخرى تبعدنا عن الإبداع الأدبي وهذا رأيي بكل حيادية وموضوعية دون النظر إلى نعرات شخصية أو ذاتية .
هل وصل النقد في العراق إلى نهايته الطبيعية؟!(9)
سؤال طالما خامر ذهني وأنا أتقصى الجهد النقدي على صفحات الثقافة في المجلات والصحف العراقية، والتي غدت الفضاء الوحيد المتاح للممارسة الثقافية العراقية، بعد غياب المجلات الثقافية المتخصصة، أو تباعد أوقات صدورها، وعدم تلبيتها في الأعم الأغلب لإلحاح الراهن الثقافي، واكتفائها بالبعد التجميعي الكسول.
الفضاء الثاني (والمجاور) للممارسة الثقافية، يتمثل بالتجمعات واللقاءات والندوات، وهذه إما انحسرت بسبب ضغط الأوضاع الأمنية بالدرجة الأساس، أو تكتفي في العادة بالبعد الاحتفائي، كما هو الحال في أصبوحات اتحاد الأدباء، والتي تبدو، رغم كل شيء، المساحة (الثقافية/الاجتماعية) الوحيدة التي مازالت تحافظ على انتظامها.
أين مساحة النقد والمتابعة النقدية في هذه الصورة؟ أنها تكاد تكون منعدمة، وجل المتابعات النقدية إما يكتبها أدباء غير متخصصين، أو تأتي من الانترنت، نقلاً عن صحف أو مواقع اليكترونية، وهي في العادة تهتم بفحص أعمال تصدر في الخارج، لأدباء عراقيين أو عرب أو مؤلفات مترجمة. أما الجهد النقدي العراقي الخاص فقد تقلص بشكل كبير.
إن فعل القراءة النقدية بعنوانها الواسع (والمتوفر حالياً) هو شيء من صميم أية ثقافة، ولكنه لا يمكن ان يردم الهوة التي يخلفها غياب النقد، وغياب الجهد الذي تقدمه أسماء ترسخ نفسها حصرياً في هذا المضمار.
وهذا الغياب لا يحتاج الى جهد كبير لتلمس أسبابه، وهو ليس وليد اللحظة الحاضرة، فجميعنا يعرف الحال التي انتهى إليها الجهد النقدي العراقي خلال التسعينيات صعوداً الى بداية الألفية الجديدة، والتي شهدت مغادرة اغلب النقاد العراقيين الى خارج العراق، ولم يتبق منهم سوى قلة لا يستطيعون لوحدهم تغطية الفعالية الإبداعية العراقية، خصوصاً مع انحسار المساحة المتاحة لجهدهم النقدي، بحيث كانت الصحف العراقية تطالب الناقد بعدد محدود من الكلمات، بما يحول مقالته أو دراسته في النهاية الى شيء مبتسر ومختزل، وهذا ما دفع الكثيرين الى العزوف عن النشر في هذه الصحف، أما المجلات الثقافية المتخصصة فغدت فصلية وبعدد محدود من الصفحات، ولا يمكنها أن تلحق بإيقاع النشاط الثقافي، أو تساهم في تنشيطه إلا بشكل محدود.
الجانب الآخر الذي طبع النشاط النقدي في العراق لا يخص البعد السياقي السابق، وإنما يخص طبيعة الممارسة النقدية، والتي غدت، بسبب ضغط المتن التنظيري المترجم، أكثر شكلانية شيئاً فشيئاً، وابتعدت عن حالة (التوسط) بين النص الإبداعي والقارئ، لتغدو بحد ذاتها نصاً، يطالب القارئ بفك مغاليق شفراته. فأصبح من الشائع قراءة نصوص نقدية تزيد القارئ التباساً، ولربما قرأنا نقداً على نص هو أكثر بساطة وأكثر تواصلاً مع القارئ، فيشوش النص النقدي القراءة الأصلية للقارئ وتربكه.
العوامل السابقة قادت النقد في العراق الى حالة من الشحوب والتأخر، وغدا العنوان النقدي فاقداً الجاذبية ولا يعطي إمتلاءً للكاتب الذي يروم العكوف على هذا الجنس الكتابي، الى الحدود التي رأينا فيها أقلاماً نقدية جديدة خطت خطوات ناجحة، تتجه الى كتابة الشعر، وتلصق صفة الشاعر المتأخرة متقدمة على صفة الناقد، وقاد الكسل الكثير من هذه الأقلام النقدية الى حدود المتابعة القرائية المجاملة، وعدم الخوض في سجال مع المفاهيم النقدية لإنتاج خطاب نقدي خاص ومتميز.
ثم أنكفأت أسماء معروفة في ساحة النقد على نفسها، ولم يعد لها صوت مسموع على الإطلاق، رغم كثرة تواجدها أمام شاشات الفضائيات وفي الاستطلاعات الثقافية.
وأكاد اجزم بأن الصورة الشائعة عن الناقد قد تلاشت وانقرضت، فلم يعد هو الاعرف بأسرار الكتابة، والاعرف بخفايا النصوص، ولم يعد المطلع الأكبر على كل جديد يصدر، وتأخر في مواكبته للمتغير الثقافي وترك هذه المهمة للمبدعين أنفسهم.
وهذا الوصف ينطبق ايضاً على الوافد النقدي والمستجد على الساحة الإبداعية من تيارات واتجاهات. وغدت المتابعة أو القراءة النقدية التي يقدمها المبدع حول القضايا التي تخص مجاله الإبداعي أكثر طغياناً، وتملأ ـ اضطراراً ـ الفراغ المريع الذي خلفه غياب الناقد المختص.
لا يمكننا، مثلاً، ان نلوم الدكتور حاتم الصكر على عدم متابعته للمتغير الثقافي العراقي، لكونه يعيش في مناخ ثقافي آخر، ويكرس جهده لمتابعة المستجدات في ذلك المناخ، والأمر نفسه ينطبق على الأسماء النقدية العراقية المهمة التي مازالت على قيد الحياة، والمتوزعة على المنافي العربية، كالدكتور عبد الله إبراهيم، والدكتور صالح هويدي، وسعيد الغانمي وآخرين، فهم الآن جزء من المشهد الثقافي العربي، والمشهد الثقافي المحلي للبلدان التي يقيمون ويعملون فيها.
ولكننا نلوم من بقي من هذه الرموز النقدية داخل العراق، ومازال بصحته وعافيته. نلومهم لأننا نقرأ لهم في بعض الأحيان متابعات وقراءات نقدية على أعمال عربية متوسطة القيمة، منشورة في صحف ومواقع الكترونية عربية، وهي جهود لا تخلو من مسحة المجاملة، مهملين ما يجري في الحراك الثقافي العراقي دون مساهمة جادة في ترسيخ قيم إبداعية وثقافية تمثل معايير لتوجيه القراءة وفرز الصالح من الطالح مما يكتب وينشر، وفي إضاءة الأفق المعرفي العام الذي تندرج فيه النصوص الإبداعية.
ونلوم أيضاً من يقوم على الشأن الثقافي الرسمي، الذي فشل فشلاً مريعاً في إعطاء صورة أكثر قوة ونجاحاً لمجلات ثقافية متخصصة، بديلة عن تلك التي كانت تصدر في العهد السابق. ومقارنة بسيطة بين أحد أعداد مجلة الأقلام الصادرة خلال ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي، مع أي عدد صدر من هذه المجلة بعد التغيير، أو مع أي مجلة ثقافية أخرى تصدرها مؤسسة ثقافية حكومية، سترينا الفرق الشاسع، والانحدار في الخط البياني للجهد النقدي العراقي.
ولو تأملنا تلك العلاقة بين الجامعة والفضاء الثقافي العام، لأدركنا جانباً من تداعي العملية النقدية، فبعد أن كانت الجامعة تصدر بشكل تقليدي والأقلام النقدية الرصينة التي تثري الفضاء الثقافي العام، وصلنا الى مرحلة لا نكاد نعثر فيها على موهبة نقدية واحدة في فضاء الجامعة، مع تكاثر في العقول (المدرسية) التي لا شغل لها سوى الكتابة في حدود الدرس والترقي العلمي، والاعتماد على جهود السابقين دون شهوة الإضافة أو التجديد والمغايرة.
لا يمكن إنكار أن الصورة الكابية للنقد العراقي الآن هي جزء من صورة عامة لثقافة عراقية في طور المحنة، ليس لها جسد واضح المعالم، وتبدو في أفضل أحوالها جزراً معزولة عن بعضها، لورش عمل شخصية، تتواصل مع السياق العربي والعالمي، وتتوسل الاكتشاف والترقي داخل هذا السياق، بعد انعدام السياق الثقافي الوطني، الذي يعاني من انعدام المعايير الثقافية والرموز والجهود التي تصب في مسار إبرازها وتأصيلها.
والحديث عن النقد هنا، لا يتحدد بمتابعة النصوص الإبداعية، فهذا مظهر، ليس إلا، من مظاهر الفاعلية النقدية. وما هو أكثر جذرية في الفعل النقدي، هو ذلك المسح والجرد العام الذي يقدمه هذا الفعل للإنتاج الإبداعي، ثم افتراض فضاءات لقراءته، وإنتاج تصورات عامة ذات تأصيل نظري، عن مجمل الفعالية الإبداعية.
وقد لا يختلف معي الكثيرون في أن هذا الجهد الذي يقدمه النقد بكل تفرعاته واتجاهاته، يمثل في المحصلة المفصل الأهم في ربط الإنتاج الإبداعي الصرف بجسد الثقافة، وبالمفاصل الفكرية والمعرفية داخل هذا الجسد، بما يحوي من تخارج وتداخل مع الفعالية المجتمعية العامة. أي ان النقد يضع الفن أمام المتلقي في جسد الثقافة، ويضع الثقافة في جسد المجتمع، فضلاً عن وظيفته التقليدية في التوسط والتقييم، وإثارة الجدل داخل النوع الفني، وتحديد معايير عامة تنجز الثقافة عادة بالانتحاء باتجاهها أو بعيداً عنها.
علينا ان نعترف، كجواب على سؤال هذه المقالة، بأن النقد قد انقرض في الثقافة العراقية، وعلينا أن لا نمتدح هذه الثقافة كثيراً، قبل أن نرقع جسدها الممزق وتصبح على صورة لا تؤذي الناظرين.
.........................................
1- منتديات المجالات
2- د . فاروق مواسي/ الهدف الثقافي
3- زهير الجبوري/ جريدة الصباح
4- عبد القادر عبو/ جريدة الاسبوع الادبي
5- سيد الوكيل/ مجلة أفق الثقافية
6- د. محمد المبارك / شبكة الوطنية الثقافية
7- أ . حسين المكتبي النعيمي / جماعة حوار نادي جدة الأدبي
8- عبد الرحمن جاسم / / شبكة الوطنية الثقافية
9- أحمد سعداوي/ جريدة المدى
10- دليل الناقد الادبي/ د. ميجان الرويلي/ د. سعد البازعي
11- قزاز ، طارق بكر عثمان . (1423هـ) : النقد الفني المعاصر دراسة في نقد الفنون 12- التشكيلية ، ط1،مكة المكرمة ، المملكة العربية السعودية.
13- عادل كامل: (ناقد فني)
14-فاضل ثامر: اللغة الثانية-المركز الثقافي العربي -ص82.
15- كمال خير بك حركة الحداثة في الشعر ص100.
16-دراسة الأدب العربي، دار الأندلس لبنان، ط1، 1983، ص 3-151.
17-عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب، تونس، ط2، ص 88-89، 1982.
5-الياس خوري: الذاكرة المفقودة دراسات (نقدية) مؤسسة الأبحاث العربية، 3 ص 73، لبنان ط1، 1982.
6-أحمد يوسف: القراءة النسقية ومقولاتها النقدية م.س 0ص 147).
*نشير هنا إلىالمؤلفات التراثية وغيرها التي كان الهدف من تأليفها جمع المادة العلمية أدبية ولغوية
7-أدونيس : سياسة الشعر، دار الآداب، لبنان، ط1-1985-ص 134.
8-د.عبد الملك مرتاض: في نظرية النص الأدبي، مجلة الموقف الأدبي، دمشق، ع6، ص 201 –1989.
9-فاضل ثامر: اللغة الثانية م.(س)، ص 7
10- المرجع السابق ص 133.
11-ينظر: أحمد يوسف، القراءة النسقية ومقولاتها النقدية، م.س. ينظر، المرجع السابق، ص10، 170- 169.
12-عبد الله الغذامي: تشريح النص مقاربات (تشريحية لنصوص معاصرة)، دار الطليعة 11، ط1، 1987، ص 79. لبنان.
الحكايه فيها أن-فما أصل هذه العبارة؟ ومن أين جاءت؟
الحكايه فيها أن
فما أصل هذه العبارة؟ ومن أين جاءت؟
يُقال إن أصل العبارة يرجع إلى رواية طريفة مصدرها مدينة حلب، فلقد هرب رجل
اسمه علي بن منقذ من المدينة خشية أن يبطش به حاكمها محمود بن مرداس لخلاف جرى بينهما،
فأوعز حاكم حلب إلى كاتبه أن يكتب إلى ابن منقذ رسالة يطمئنه فيها ويستدعيه للرجوع إلى حلب،
ولكن الكاتب شعر بأن حاكم حلب ينوي الشر بعلي بن منقذ فكتب له رسالة عادية جدا
ولكنه أورد في نهايتها "إنّ شاء الله تعالى" بتشديد النون،
فأدرك ابن منقذ أن الكاتب يحذره حينما شدد حرف النون،
ويذكره بقول الله تعالى: "إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ"*.
فرد على رسالة الحاكم برسالة عادية يشكره أفضاله ويطمئنه على ثقته الشديدة به،
وختمها بعبارة: "إنّا الخادم المقر بالأنعام".
ففطن الكاتب إلى أن ابن منقذ يطلب منه التنبه إلى قوله تعالى: "إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا"*،
وعلم أن ابن منقذ لن يعود إلى حلب في ظل وجود حاكمها محمود بن مرداس.
ومن هنا صار استعمال (إنَّ) دلالة على الشك وسوء النية
أوقفوا هدم دار الجواهري في بغداد/ رواء الجصاني
أوقفوا هدم دار الجواهري في بغداد/ رواء الجصاني
فاجأتنا اليوم انباء مؤلمة اخرى من الوطن ، ثقافية وتاريخية ووجدانية هذه المرة ، خلاصتها ان بيت ، او بويّت ، الجواهري الاول والاخير في العراق ، الكائن في حي الصحفيين ، قرب ساحة النسور ببغداد ، سيشتريه خلال ايام وحسب ،أحد رجال الاعمال ، لهدمه وانشاء مبنى اخر ، اكثر " حداثة " و" علواً" مكانه .... وذلك علناً مع سبق الاصرار ، ولم يستعر غضباً – حتى الان على الاقل – ضمير هنا أو مسؤول هناك لمنع هذه الفعلة الاليمة في بلدنا العجيب .
نقول " فعلةً " ولا نزيد في الوصف ، ونعني ما نقول ، بل ونعمل على اثارة الراي العام بهذا الشأن ، وتسبيبنا : ان الجهات المسؤولة ، السياسية والرسمية والاثارية والثقافية والادبية والصحفية، وغيرها ممن يعنيها الامر، لم تحرك ساكناً ، لشراء بيت الجواهري – وكفى – وبمبلغ بخس نسبياً ، وابقائه تراثاً شامخاً للوطن وللاجيال ، السائدة والقادمة .
ان تجارب ووقائع الشعوب المتحضرة ، وغيرها ، وفي بلدان اقل غنى بكثير من بلادنا ، تعلمنا كيف حافظت ، وتحافظ ، على تراث واثار ادبائها ومبدعيها ، دعوا عنكمو رموزها وعظماءها ... وها هي شواهد كثر على ما نزعم : بيوت ومساكن وشقق، بل وحتى غرف نوم وحسب ، لشكسبير وتولوستوي وغوته ونيرودا واحمد شوقي ... ويطول التعداد ويعرض ... متاحف ومزارات شاخصة يتباهى بها الابناء والاباء والاحفاد ، على حد سواء ... وهنا ، فكم هو رائع ان لا نتعب الخلف اللاحق ، وبعد سنوات او عقود ، بل وربما قرون ، للبحث عن موقع عراقي للجواهري العظيم، وكما هو حال صنوه المتنبي ، الذي مازال الجهد قائماً ،ومنذ زمن مديد لتوثيق بيته في الكوفة او النعمانية او حلب ...
ان العُجالة تمنعنا من الاستطراد ، وعسى ان لا يفوت الوقت ، فيزال شيوع بيت الجواهري ، ويروح الهدم مصيره ، على مرأى ومسمع المعنيين ، والقادرين على منع حدوث " الفعلة " النكراء ... ذلكم البيت التي طالما شهد ولادات قصائد عصماء ارخت للبلاد العراقية واهلها ، بافراحها واتراحها ... وهو البيت ذاته الذي زارته العشرات من النخب الثقافية والوطنية والسياسية ، من مختلف النحل والرتب والالقاب... وهو ايضا وايضا تلكم الدار الاخيرة التي تغرب عنها الشاعر- الرمز ، من الوطن اضطراراً، مطلع الثمانينات الماضية ، وحتى رحيله الى عالم الخلود عام 1997 ليوارى الثرى في تربة الشام والى اليوم ، ولا احد يدري متى سيسرى برفاته الى العراق : لسانه ودمه وكيانه...
اننا نظن ، وبعض الظن ليس اثماً في عالم اليوم ، ان الامر لا يتطلب مزيد جهد لتفادي الحال التي نشير اليها ونتحدث عنها ، لاسيما وان الامر ذو صلة بثروة وطنية، تمنع القوانين في العالم المتمدن- ونحن نسعى لان نكون منه كما نرجو ونعمل - تمنع وبكل صرامة اي مس بتلكم الثروات ، بله مثل ثروتنا التي نعني .
واخيراً، ولرب متنطع يتساءل عن سبب توجيه هذه الرسالة الى اولئكم المسؤولين الاربعة المحترمين بالذات ، فنقول : انها لفخامة رئيس الدولة بصفتين ، دستورية وشخصية. ولدولة رئيس حكومة العراق التي كم نتمنى ان لا تتم في عهدها مثل تلك الفعلة . والى معالي وزير الثقافة ، بوصفه المعني مباشرة بمثل هذه الشؤون . واخيرا لمعالي امين العاصمة ، وهو المسؤول الاول عن حفظ تراثها واثارها ... ونزيد هنا فنضيف انها – هذه الرسالة – موجهة ايضا لفخامة رئيس اقليم كردستان ، ذي الصلة الوثقى بالجواهري على ما نعهد ..
واخيرا كم ترددت عن الاباحة بمثل هذه الرسالة المفتوحة ، لدوافع خاصة وشخصية وفي مقدمتها : خشية عتاب او زعل من الاهل والال ، ثم احتراز من مدعين ومتربصين وغيرهم ... ولكن ها هي المناشدة تعلو كي لا يبرر حدوث "الفعلة" بعدم المعرفة بها او العلم بتوقيتها .. الا هل بلغت ، اللهم-
الاثنين، 2 مايو 2011
قصص قصيرة جدا َ-عادل كامل/ بغداد
قصص قصيرة جدا َ
عادل كامل/ بغداد
[ من أنا ]
قرب الرجل المسن الصحيفة التي وجدها بجواره، في المقهى الشعبي الذي اعتاد الجلوس فيه، فألقى نظرة إلى عناوين الصفحة الأولى، ثم قلبها، كي يجد بصره منجذبا ًإلى رسم كاريكاتيري، رسمه مؤيد نعمة، في الصفحة الأخيرة:
ـ " أأنا هو الكلب! " تاه بصر، وهو يقول في نفسه:
ـ " أم أنا العظم الذي في فمه؟" سكت لبرهة، وأضاف بصوت خفيض:
ـ " أم أنا هو هذا الذي لم يعد حتى كلبا ً، في صبيحة هذا اليوم البارد" أعاد الجريدة إلى مكانها، وطلب شايا ً، وراح يحدق، عبر زجاج المقهى، في المارة، مرددا ً مع نفسه، انه لم يعد حتى فائضا ً كي يستغيث، أو يتذمر، أو يموت!
[2010]
[صياد]
هل أطلق النار ...تساءل الصياد، مع نفسه، وهو يصّوب بندقيته نحو الهدف...؟ لا . فقد لمح، في تلك اللحظة، خلف سرب الطيور البيض، قرص الشمس يرسل أشعة حمراء في السماء. ماذا حدث؟ سأل نفسه: ألا تستطيع أن تطلق رصاصة...؟ تجمد، وفمه كف عن النطق، وهو يراقب سرب الطيور البيض يبتعد ويتلاشى أمام بصره، فيما مكث يراقب قرص الشمس، وقد غدا بقعة حمراء، وقد توارى خلف الأشجار. لم يفق إلا وهو يرى، في المرآة، بقعة رمادية لم يستطع التعرف على ملامحها، وما اذا كانت هي التي تخرج منها، أو انها هي التي كانت تتوارى داخلها.
[2011]
[ذكرى]
كان يشاهد فلما ً وثائقيا ً عن الحرب .. لم يبتسم، ولم يحزن، ولم يسأل نفسه كيف نجا من الحرب التي ذاق غبارها، وتنفس دخانها حد الموت. بل وجد بصره منشغلا ً في تأمل يده: خالية من الأصابع تماما ً. لقد فقدها في زمن السلم. ترك متابعة الفلم وحدق في مرآة كانت بجواره، لقد حاول تذكر محياه، فقد كان يرى كتلة رمادية خمّن أنها كانت دائرية، إنما ـ وهو يتحسس محياه ـ أصبحت ذات نتوءات، ولم تعد، كما ألفها، وجها ً بشريا ً. قرب ما تبقى من يده وحدق فيه: هذا ما تبقى في نهاية المطاف!
[2011]
[ في الحرب]
بسبب العاصفة، والمطر، والبرد، والظلام، فقد جرت المعركة بالأصابع، والسلاح الأبيض، والحجارة. ليجد نفسه، بعد ساعات، يستنشق هواء ً باردا ً، ويشاهد قرص الشمس يرتفع ـ من وراء قمم الجبال ـ في السماء. بهدوء، ترك أصابعه تحفر حفرة صغيرة، بين الصخور، ليضع رأسه فيها كاتما ً آخر ما دار بباله: ذلك لان الحرب لم تنته بعد.
[1988]
[ حوار]
سأل المحتضر حفيده، وهو يصغي إلى أصوات هتافات عالية، مدوية، عنيفة، كانت تأتيه من الشارع: أنا لم افعل شيئا ً، فلماذا يطالبون بطردي! تجمدت الكلمات في فم حفيده الصغير، وهو يستعيد مشاهد كان جده يرفعه فيها عاليا ً، وفي مقدمة المتظاهرين. ولم ينس كيف تم إلقاء القبض على جده، في الأسبوع الماضي، ولم يعد إلى الدار، إلا وهو يردد: لم أفعل شيئا ً، فلماذا يريدون إسقاطي، وطردي من المدينة! تابع الجد النطق بصعوبة وهو يرى حفيده يبكي بصمت: تلك هي الحياة يا حفيدي، فأما أن تكون صيادا ً، حاذقا ً، وأما أن تجد نفسك وقد تحولت إلى طريدة. لكن الجد لم يبح بآخر ما دار بخلده: لا تخف، فالحياة تطرد الجميع!
[2011]
[ بحث ]
فصلوا رأسي عني وطلبوا مني أن أغادر. فعلت. وأنا اهرب تعثرت بصخرة رفعتها ووضعتها فوق راسي، ورحت أتلمسها، فعثرت على حروف كانت تتبعثر، وتتناثر، فحاولت جمعها ومعرفة من يكون صاحبها، فلم استطع، وها أنا مازلت ـ منذ نهاية العصر الذي ولدت فيه ومت ـ أقوم بالبحث عن صاحب الرأس، الذي بدوره، هامسا اخبرني، يجهل الجسد الذي يشاركه البحث!
[2011]
[مرآة]
حدق في المرآة، منشغلا ً بالبحث عن لون خال ٍ من التفاصيل، فنهض، كما في كل مرة، وفتش في غرف البيت، وفي الحديقة، وفي سطح الدار، ثم خرج إلى الشارع، وبحث في الأزقة، والمقاهي، دون أن يعثر على اللون الرمادي الذي ظن انه رآه ذات مرة، في المرآة. وكما في كل مرة، يعود، في آخر الليل ـ منهكا ً ـ إلى البيت، فيترك جسده يستقر فوق السرير، من غير أحلام.
وفي صباح اليوم التالي، قرر أن لا يبحث عن هذا الذي ـ تخيّل ـ رآه، لأنه، وهو يمسك بالمرآة، لم يعثر على علامات، أو نهايات، أو ألوان تدل على وجود محياه. لم ينهض للبحث عن الذي رآه في ذات مرة، لا في غرف البيت، ولا في الحديقة، ولا في المقاهي، ولا في الشوارع، بل، في آخر الليل، لمح المرآة تمشي، فمشى خلفها، فدخل صالة الاستقبال، ثم ذهب خلفها إلى المطبخ، ودخل غرفة النوم، من ثم عاد يمشي خلفها في الشارع، وفي الأزقة، وأخيرا ً رآها تعود إلى البيت، فجرا ً، وكان يرى فيها ملامح رمادية لوجه جعله ينهض، ليفتش عنه في البيت، وفي الحديقة، وفي سطح الدار، من ثم ..أخيرا ً قرر أن يرمى المرآة في النهر! آ ... كانت ثمة مرايا لا تحصى تحدق فيه، الآمر الذي جعله يسأل نفسه: والآن ما العمل؟ آفاق فجرا ً، وكانت أصابعه منشغلة بجمع شظايا زجاجية متناثرة فوق الأرض، وفي الحديقة، وفي سطح الدار، وفي الأزقة، وفي المقاهي..ليلمح، بشرود، أدق أجزاء محياه موزعة في الشظايا، وهو يجمعها، ويضعها في كيس، بانتظار أن يجد لها مكانا ً يخفيها فيه بعيدا ً لا عن المارة، ولا عن الآخرين، بل عن عينيه، وهما تبحثان عن مرآة جديدة.
[2011]
[هل كنت أفكر؟]
هل كنت أفكر؟ لم تجد الآلة التي أمضى البروفسور س سنوات طويلة في صنعها، جوابا ً. ذلك لأنها كانت ـ ذاتيا ًـ تدرك أن س، هو الأخر، كان يسأل نفسه السؤال ذاته، لكنها أجرت مقارنة سمحت لها أن تقترب منه، وتداعب ما تبقى من خصلات شعر رأسه البيضاء. كانت فكرة س أن يمضي ابعد من صناعة جهاز تكتمل فيه الدورات: البصر/ الإحساس بالفراغات/ واختلاف الملامس/ والبحث عن صلات مشتركة بين الحدود، بعد أن كان قد جعل جسده ـ ودماغه ـ وأحاسيسه كلها نموذجا ً لجهاز يتعلم كيف لا يستعين به، أو بسواه. لم يصدر الجهاز صوتا ً مرتفعا ً كي يسأل البروفسور س ما اذا كان مضطربا ً بسبب أن الجهاز بلغ درجة الاكتفاء بالعمليات كافة، ومنها، معالجة مشاعره بالأسى، والمسرات، والاكتفاء بعمل يحد من الرغبات أو من الخمول، هامسا ً، بذبذبات لا مرئية، قرأها س، فهز رأسه، استجابة مبكرة لذاتية عمل الجهاز.
ابتعد احدهما عن الآخر. س تمدد فوق سريره الخشبي للاستراحة، فيما كان الجهاز يقف عند بابل المشغل، منشغلا ً بتسجيل درجات الحرارة، والأصوات، والإشعاعات، والروائح، والمؤثرات اللا مرئية، ويدون ـ في ذاكرته ـ ما كان يصدره س من ذبذبات، وموجات مشفرة، وعلامات مخبأة بإحكام، ومن باثات للتمويه، ليست حرارية، أو صوتية، بل وغير قابلة للقياس، أو الرصد. كان يجمعها، إلى جانب عمله الرقمي للبيانات الأخرى، ذات الصلة بالمحيط الخارجي. فأدرك الجهاز، أن هناك، بينه وبين س، فجوة انه لم يعد يجهل ما كان يدور في عقل، وجسد س، فيما كان البروفسور، قد اكتشف لذّة في الكف عن المراقبة، والرصد، متلذذا ً بترك لا وعيه ـ مع الجهاز ـ في استكمال برنامجه، وقد حفزه للعثور على محفزات صاغها في ذاكرته، بأنه لم يعد شبيها ً بمعلمه، إنما لم يعلن ذلك، لان معلمه ـ هو الآخر ـ ليس شبيها ً به، إنما كان، كلاهما، يستكملان الدورة، بما فيها الحافات غير المنغلقة، لم يبتسم الجهاز، ولا البروفسور، فقد كانا يرصدان صمتا ً راح يمحوا ما سجل في البيانات السابقة. آنذاك راح الجهاز يسأل نفسه، السؤال الذي طالما شغل البروفسور س: هل كنت أفكر؟
[ في ذات صباح]
وهو يعبر الجسر، من اليسار إلى اليمين، استوقفه مشهد صبية، عند المنتصف، كانوا يقذفون، إلى الأعلى، قطعا ً صغيرة من الخبز، فتقترب النوارس منها، لالتقاطها قبل أن تسقط وتعود إلى النهر، نهر دجلة، في يوم حرارته مرتفعة. كانت النوارس تراقب حركة أصابع الصبية وقد انقسموا إلى فريقين، الأول يرمي فتات الخبز، فتحاول النوارس التقطاها، والآخر يقوم بقذفها بالحجارة. لم يجد الكهل وقتا للتفكير، فقد كان متأخرا ًعن موعد عمله، لكنه وجد جسده يتوقف عن الحركة، مرددا ً في نفسه: أي كمين هذا .. أي كمين ...! ثم عاد يراقب ـ بشرود ـ المارة يعبرون من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، غير مكترثين إلى المشهد. وبصره مشغول بمراقبة أصابع الصبية، كم كانت نحيلة، ودقيقة، وهي تقذف قطع الخبز إلى الفضاء، فتتوجه النوارس نحوها لالتقاطها، فيسرع الفريق الآخر من الصبية لمهاجمتها كأهداف أصبحت مباشرة وبالإمكان إصابتها من غير جهد أو أخطاء تذكر. حاول الكهل أن يفتح فمه، أو أن يصرخ، أو أن يستغيث، لكنه فشل. فحاول لفت أنظار المارة لما يحدث، لكنه لمح أن صبيا ً كان يحمل سكينا ً، فوجد جسده يتراجع، خطوة خطوة، من اليسار إلى اليمين، لكن النوارس كانت مازالت تحوّم بيضاء في الفضاء تاركة، في بصره، ومضات تشع لونا ذهبيا ً تارة، ولونا ً فضيا ً تارة أخرى، وهي ترتفع إلى الأعلى، فيما كانت أنامل الصبية، لا تكف عن إصابة أهدافها.
[2003]
[ظلال]
" أرجوك، أرجوك ... دعني أصغي إلى صوتك. فأنا اعرف انك لن ترد على أرقام لا تعرفها، لكني لست رقما ً ..... مجهولا ً" قرأ الرسالة، ، ثم سأل نفسه: من يكون ...من تكون .. صاحب هذا/ هذه الرسالة؟ كانت آخر رسالة وصلته، عبر الهاتف، سمحت له أن يكتب كلمة واحدة: من..؟ فجاء الجواب بكلمة واحدة أيضا ً: النهر!
لم يكن مستعدا ً لإجراء مراجعة رموز نصف قرن وفكها ليجد معنى ما لكلمة نهر. لكن ذاكرته قفزت إلى مشهد لم يمح ولم يندثر بين ملفات حياته المزدحمة بالمشاهد، والصور. تذكر انه عبر النهر مع فتاة اضطرته أن يفعل ذلك، في زورق خشبي صغير. كان ذلك قبل عشرين سنة. قبل دهر، دار بخلده، لكن لا احد صدق حكايته تلك، وهو ـ نفسه ـ عدها وهما ً. ها هو يصغي إلى كلماتها تتحدث عن زورق يتقدم ضد التيار، مارا ً ببساتين النخيل، ويتوقف الزورق عند ضريح يطل على النهر، لصق الماء. كانت تقول له أنها ـ مع زميلاتها ـ يجئن إلى المزار، ومع كل واحد وردة، وكل فتاة منهن تقوم بقطف جزء منها، فان كانت النهاية أحادية، فإنها لن تحصل على فتى أحلامها. أما أنا ـ أصغي إلى صوتها يأتيه صافيا ً ـ وفي ثلاث مرات، يكون الرقم زوجيا ً.
رن الهاتف. الرقم المجهول ذاته. تركه يرن، فيأتيه الصوت ممتزجا ً برذاذ الماء وبرائحة عطر طالما قاده إلى مكانها، متموجا ً، انما غاب بصره مع خصلات شعر امتدت مع الموج، كان يراها ترتفع حيث ينابيع النهر، هامسا ً: لا توقضيني. ولم يجد بدا من الإصغاء إلى الصوت:
ـ " سألت: من؟ قلت لك النهر. الآن أقول لك: أنا ..من .. معك ..ذهبنا إلى أعالي السماء"
لم يعد يرى نهرا ً، ولا أمواجا ًـ ولا مزارا ً، ولا خصلات شعر سود تتموج مع الماء، لم يعد يرى فضاء ً أو غيوما ً رمادية تتلبد في السماء، لم يعد يرى ... أو يصغي .. أو يتنفس رائحة عطر وردة تمسك بها أصابعها، اثر مرور طائرة أعقبها صوت انفجار ... دوى تاركا ً صداه يملأ الفضاء ..."
ـ " أنا قلت لك لا استطيع أن اذهب معك ... بعيدا ً "
ـ " لِم َ تركتني .. أغادر ...إذا ً ....؟"
إنما كان ـ شاردا ً بصوتها ـ قد ترك لا وعيه يراقب ابتسامة مختزلة، لا صوت لها، وقد ملأت محياها حتى لم يفكر في انه حلم أن تكون أمامه فيما قالت له إنها عثرت على فتاها، تاما ً، وإن لم تكمل نهاية ما اذا كان العدد فرديا ً، أو زوجيا ً. كان للطائرة لون امتزج بالدوي فيما كان الزورق ينحدر مع التيار.
حدث ذلك عندما كانت الغيوم تتلبد، لتظهر فجأة طائرة تخترقها، وأخرى كانت تتبعا تاركة أزيزا ً حادا ًن فيما كان الزورق ينحدر مع الماء وسط النهر. وسط دجلة. ويرى ظلا ً بلوريا ً لفتاة لم تجتز زمن ورتها، بعد أن تركتها تذهب مع الموج، من شدة فزعها، وهي تراقب مرور الطائرات. رآها تملأ الفضاء بصمت فراح يراقب مسافته، إلا انه قال في نفسه، كان الرقم صفرا ً.
كالنائم، والزورق مازال ينحدر مع الماء، قال انه لن يصل إلى البحر أبدا ً. فيراها تثب نحو الساحل، فيهرول ـ هل هرولت؟ ـ للامساك بظل رآه يغيب، فيسأل نفسه: من؟ كي يصغي إلى صوتها يأتيه من البعيد: أنا هي من مازالت تسكن معك النهر، وبصري مازال يراقب خطاك تمشي فوف الماء.
[1991ـ 2011]
"سكتة يا ام حسن سكتة-هاشم العقابي
هاشم العقابي
،
لان خبر تظاهرات المزورين عند باب وزارة العدل شدهني ولا اقول ادهشني أو حيرني،
فسد شهيتي عما عزمت ان اكتبه اليوم.
كنت قد كتبت مرة ان آخر ما افكر به هو ان اسمع بمظاهرات للشرطة.
لكن يبدو ان زمن العجائب قد بدأ فها انا اسحب كلامي بعد أن طلعنا على الدنيا بمظاهرات "للمزورجية"
لنتفوق على مصر حين "تباهت" علينا بمظاهرات "البلطجية".
الاخبار تقول ان عدد الموظفين المزورين بلغ 50 الف موظف وموظفة منهم 4 آلاف في وزارة العدل لوحدها..!!.
ولان زمن الحياء قد ولى،
فلم يجد اعضاء جيش المزورين حرجا من التظاهر"عينك عينك"، وليقول احدهم بكل "صراحة"
بانهم اذا لم يقدر احد حاجتهم "الانسانية" للتزوير فانهم سيضطرون للعمل مع اي جهة كانت، بما في ذلك المسلحين للقيام باعمال تفجير وقتل. يعني يطلعون حيفهم براس اولاد الخايبة. مرة اخرى "تعدوا الذئاب على من لا كلاب له".
لو كان هذا النوع من التظاهرات، وما رافقها من تصريحات على لسان المشاركين فيها، قد حدثت في اي بلد تحترم به الحكومة شعبها، فما الذي سيتوقعه الشعب من حكومته ومن رئيس وزرائها؟ هل سيلوذ رئيس الوزراء بالصمت على طريقة "سكتة يا ام حسن سكتة"؟ ام سيخرج على الناس ليقلب عاليها سافلها لان هناك تظاهرات هددتهم علنا بالقتل؟
انا شخصيا، لا الوم المزورين، لانهم ضحايا الخراب التربوي المتعمد الذي تمارسه السلطة الرسمية وسلطات الشارع المتعددة بالعراق. ولمَ ألومهم وهم يعرفون ان الحكومة نفسها، بالأمس، قد اعدت مسودة "قانون" للعفو عن المزورين؟ وقانون العفو قطعا جاء من اجل ذوي الدرجات الوظيفية "الخاصة" وليس من اجل حراس ليلين لا ندري اي مستشار "غيور" أفتى ان لا يتم تعيينهم الا بشهادة حتى وان كانت مزورة. اذن "بيا عين" سترد الحكومة على هؤلاء "الفقراء" الذين حتما سيردون عليها: "ليش من صوبكم غفور رحيم ومن صوبنا شديد العقاب"؟
رب قارئ يسألني عن سر قصة "السكتة وأم حسن" التي مررت على ذكرها.
انها حكاية عن فلاح ماتت زوجته "أم حسن" تاركة له ثلاثة اطفال صغار ليحتار بتربيتهم وتدبير امور حياتهم.
وبعد ان انتهت ايام العزاء زارته مجموعة من نساء القرية لتفقد احواله واحوال اطفاله بعد رحيل ام حسن.
وما ان شاهدهن حتى اجهش بالبكاء مناديا: "يا ام حسن شلون بجهالج ويا هو اليحضرهم للمدرسة؟".
اجابته احداهن: "انا خوية كل يوم امر الصبح احضرهم وآخذهم ويا جهالي". ثم صاح: "واذا جعنا شلون بينه؟". ردت أخرى: "انا عدكم خويه، انت بس حضر المسواك وانا اطبخلكم حالكم حال عيالي". بعدها جر حسرة طويلة ونحب: " يا ام حسن كليلي شسوي اذا طكني البرد بالليل وانا وحدي بالفراش؟". سكتت النسوة ولم تجبه اي منهن. وهنا لطم ابو حسن على صدره صائحا: "سكتة يا ام حسن سكتة".
وهذه هي حالنا اليوم. فعندما تظاهر العراقيون بسلام مطالبين بالاصلاح كان طول لسان الحكومة ضدهم شبرين. اما حين تظاهر المزورون مهددين برفع السلاح سكتت الحكومة وضمت راسها.
يالله .. النا الله
الأحد، 1 مايو 2011
النفط والتدخل الغربي-جابر حبيب جابر
النفط والتدخل الغربي
جابر حبيب جابر
الشرق الاوسط، 1/5/2011
عندما احتلت بريطانيا مصر عام 1882، وكان ذلك جزءا من استراتيجيتها الكونية لتأمين ممرها البحري إلى الهند وشرق آسيا، سرى جدل حول سعي بريطانيا إلى الاستحواذ على مصر بشكل كامل، وقد رد رئيس الوزراء البريطاني آنذاك اللورد بالمرسترون على ذلك بالقول: «نحن لا نريد مصر، أو لا نريدها لأنفسنا، مثلما لا يريد أي رجل عاقل له ضيعة في شمال إنجلترا وقصر في جنوبها أن يمتلك النزل والحانات الواقعة على الطريق بينهما. كل ما بوسعه أن يرغب به هو أن تظل تلك الحانات بحالة جيدة متاحة دائما وتمده، كلما أتاها، بوجبة من شرائح اللحم الضأن والجياد المجهزة».
وفي الحقيقة أن هذه المقولة تبدو مهمة اليوم لنفهم بشكل أعمق استراتيجية القوى الكبرى وسياساتها ومفهومها الجيوسياسي في الحفاظ على تفوقها، والأهمية تنبع من انفتاح الوضع العربي على أكثر من تدخل غربي يصل، كما في الحال مع القضية الليبية، إلى حد استخدام القوة العسكرية، في وقت تبدو معه مفاهيمنا المبسطة حول سعي الغرب إلى السيطرة على النفط غير قادرة على مجاراة ما يحصل، أولا: لأنه يبدو، في حالات كثيرة، أن هنالك سعيا نحو الغرب من قبل الكثيرين أكثر من سعي الغرب إلينا، وثانيا: لأن مقولة الهيمنة الغربية على النفط لا تصمد أمام حقيقة أن هذا النفط متاح للقوى الغربية، سواء بقي القذافي أو رحل، بل إن الأخير في وضعه الضعيف الراهن مستعد لأن يقدم للدول الغربية شروطا غير مسبوقة على صعيد السياسة النفطية إن تم تركه في سدة الحكم. الشيء نفسه ينسحب على وضع النظام العراقي قبل سقوطه عام 2003، وفي الحقيقة أن التبسيطيين من الذين روجوا إلى هدف السيطرة المباشرة على النفط يواجهون اليوم مشكلة حقيقية في فهم ما يحصل، خصوصا أن التغيرات الأخيرة وضعت حدا للقاموس القديم القائم على ثنائية الغرب الشرير والشعوب الطامحة إلى الاستقلال؛ فالأوراق اختلطت كثيرا وباتت بعض هذه الشعوب تستنجد بالغرب الشرير وباتت ثنائية الأمس عاجزة عن أن تصمد أمام وقائع اليوم.
مع ذلك لا بد من القول: إنه على الجانب الآخر كان هنالك تبسيطيون من نوع مختلف، مسكونون بعقدة التفوق الغربي ويعتقدون أن الغرب يتدخل في منطقتنا بوحي من مُثل راقية وأهداف نبيلة، وهم بدورهم يواجهون اليوم بإشكالية الازدواجية الغربية تجاه الاحتجاجات والانتفاضات في منطقتنا بين مواقف غربية حازمة أحيانا، ومتخاذلة في أحيان أخرى، ومن الواضح أن الغرب يقيم موقفه من الحركات الشعبية بحسب مصالحه الاستراتيجية فيسكت عن القمع في مكان ما ويندد به في مكان آخر. لا جديد في ذلك، غير أنه يبرهن مرة أخرى على أن واقع السياسة أعقد بكثير من التقويمات المبسطة للأمور، وأن المنطقة بحاجة إلى قاموس جديد أكثر واقعية في فهم ما يحصل والتخلص من خلط التحليل بالشعارات.
مؤخرا، أظهرت تسريبات لوثائق بريطانية أن الحكومة البريطانية عقدت اجتماعات مع ممثلين لشركتي «بريتيش بتروليوم» و«شيل» تم التداول فيها بشأن النفط في العراق قبيل الحرب عام 2003، واستشف البعض من ذلك أنه تأكيد على أن مجمل الحرب كان حول النفط والسيطرة عليه بالمعنى التبسيطي. غير أن مثل هذا التفسير يرد عليه البعض ليس فقط بالحجم الهائل مما أنفقه الأميركيون والبريطانيون، الذي يفوق ما يمكن أن يوفره النفط العراقي للدولتين بافتراض أنهما وضعتا اليد عليه، لكن الأهم من ذلك هو أن وقائع ما بعد 2003 تشير إلى حقائق مهمة يميل البعض إلى تجاهلها، من بينها: أن موضوع الاستثمار النفطي في العراق ظل مؤجلا حتى خمس سنوات بعد الاحتلال، وأن أول العقود النفطية التي تم توقيعها انتظرت حتى عام 2008، ابتداء من إعادة تفعيل اتفاقية مع شركة البترول الوطنية الصينية لاستغلال حقل الأحدب كان نظام صدام قد وقعها، واللافت أن الاتفاقية قد عدلت بحيث تم تقليص الأرباح التي كانت مقررة إلى الشركة في الاتفاق الأصلي. وفي عام 2009 تم توقيع 11 عقدا جديدا، جميعها جاءت بشروط أفضل للدولة العراقية ووفق اتفاقات خدمة لا شراكة في الملكية والعقود شملت شركات صينية وتركية وروسية ويابانية وإيطالية وكورية وماليزية وبريطانية وكندية وأميركية وفرنسية، مما يوضح أنه إذا كانت الحكومتان البريطانية والأميركية قد شنتا الحرب للحصول على النفط لشركاتهما فإنهما قد فشلتا في ذلك بوضوح. وبموجب العقود يحتفظ العراق بـ50% من الأسهم وبالسيطرة على البنية التحتية والمبيعات، وهامش الربح الذي حصلت عليه الشركات يقل عمَّا تحصل عليه في بلدان أخرى.
لأول مرة بتاريخ العراق جرى توقيع العقود بشكل معلن وجرت العطاءات أمام كاميرات التلفزيون ولم تعد سرا من أسرار الأمن القومي، كما أن قانون النفط والغاز الذي ضغط الأميركيون باتجاه توقيعه والاتفاق خلاله على طريقة توزيع العائدات بين المركز والأقاليم لم يمرر حتى الآن بسبب خلافات الكتل البرلمانية وخشية البعض من تمرير منافع معينة للشركات الأجنبية، بمعنى أن السياسة النفطية في العراق بعد الاحتلال أصبحت أكثر شفافية وديمقراطية وتشددا من ناحية الشروط، وهو ما يناقض أيضا الأطروحة المبسطة حول السعي الأنغلو - أميركي للسيطرة على النفط. بالطبع هنالك عدم كفاءة واضحة في إدارة عوائد النفط وإرهاب يستهدف الأنابيب والبنية التحتية، مما أثر طويلا على إمكانات العراق التصديرية، لكنها قضايا لا تتعلق بصلب موضوع المقالة وربما نفرز لها مقالة أخرى.
لكن هل غاب النفط عن ذهن صانعي القرار الغربيين؟ بالقطع لا، بل إنه كان وسيكون دائما حاضرا في تقرير الاستراتيجية الغربية بمنطقتنا، ولكن بطريقة تتجاوز التفسير التبسيطي القائل إنهم هنا ليأخذوا نفطنا. لقد كان بإمكانهم أن يسيطروا على آبار النفط فعلا، بل إن هنالك اتجاها يمينيا متشددا داخل إدارة بوش طالب بذلك، لكنه أمر لم يحدث ولن يحدث؛ لأن الزمن تغير والسياسات الإمبريالية التقليدية باتت غير ممكنة. إن حضور النفط مرتبط برؤية استراتيجية أميركية أساسية تقوم على مبدأين، الأول: أن يستمر تدفق النفط بسلاسة ومن دون انقطاع وبأسعار قابلة للاحتمال من الشرق الأوسط إلى الأسواق الغربية. والثاني: ألا تسيطر أي قوة عالمية أو إقليمية معادية على مصادر النفط أو على جزء كبير منها. هذان المبدآن يحكمان البعد النفطي للسياسة الأميركية إلى حد لا يتطلب معه أن تسيطر أميركا على كل الحقول والأنابيب والتسهيلات والموانئ في المنطقة من أجل أن تصل مقصدها، كما هو الحال مع البريطاني الذي لم يحتج السيطرة على كل الحانات في الطريق ليضمن مرورا سهلا.
الشرق الاوسط، 1/5/2011
الفقراء في وطني -هادي جلو مرعي
الفقراء في وطني
هادي جلو مرعي
وفي كل وطن, هم الفقراء ,وهم المستضعفون في الأرض,الذين يبحثون عن طريق خلاص من ربقة الجوع والحرمان الممض.لايجدون عضدا يرد عنهم عدوان الحاجة ,وبلاءات الزمان,سوى كلمات تقال,وحسرات تكال,وطباع قاسية من عباد منّ الله عليهم بالمال والعمران والمناصب الرفيعة,أو ممن كفاهم الحظ الحسن غائلة ذلك الحرمان الراتب على صدور هولاء الفقراء,يسيرون فلا يهتدون الى موضع الإكتفاء ,وقد سلبهم غيرهم ماكان قدّر لهم ,لكن قوة أهل السطوة والنفوذ تعتاد السلب منهم دون أن تعيد لهم شيئا مما إستلبت.
في وطني العراق ,يعيش الناس الكفاف,وإن كان أهل الغنى كثر,لكنهم كغثاء السيل لاخير فيهم سوى لأنفسهم وولذويهم وصحبتهم ومن ينتفعون منه,وفي ظل عجز الدولة ومؤسساتها المترهلة, لايجد هولاء الكثير من العون في قضاء الحاجات,وهي تفوق الحصر ,وربما كان منها القليل لكنه يغني عن الكثير,فلو توفرت الوظيفة لإنسان منهم لكان في حال آخر يسد به حاجات نفسه وأهله,ومنهم من حين يمرض لايجد علاجا ,وإذا وجده لايجد ثمنه,وإذا وجد ثمنه فمن طريق التوسل والسؤال,وهو المن بعينه والذل كما هو معلوم لكل ذي بصيرة,ومن أين تاتي بمن يقول للسائل حين يجيبه لسؤاله..أكتب حاجتك على التراب وإمض,فلا اريد أن أرى فيك ذل السائل ,وفيّ عز المعطي.
كم من مريض معلول يبحث عن مال لإجراء جراحة في جسده, وهي في الغالب تكلفه مالا يعجز عنه,وحين يلجأ لغيره لايجد جوابا يشفي روحه المعذبة ,وحين يجد فهو قليل لايسد الحاجة,بينما الرحمة صارت شعار الكذابين والدجالين ,وأهل الثروات والمصالح ,في حين تحولت المستشفيات العامة والخاصة الى محلات جزارة تقطّع الأوصال وتعجّل الآجال,ولاسبيل الى الشفاء الى مع العناء,وياله من عناء يخترق الروح ويدمي القلب فهو ذل راتب وعذاب ناصب.
ولقد جربت الحاجة ,فوجدتها عاهر لاترتضي بسوى الفضيحة ,حين تكشف عن عورتها,ولاترتدع ,وتبغي الفساد,وتهلك أشد العباد بأسا ,وأقواهم شكيمة, يمضي الوالد الى عالم الفناء بقتل أو وباء,أو علة دهماء,وتظل الزوجة حيرى, في عالم يحكمه الوحوش ,ومعها صغارها الذين تزداد متطلبات معيشتهم وتعليمهم وتغذيتهم وكسوتهم,يكون الأذى لايطاق والحمل أثقل من أن تنوء به ظهر,ولا من معين,وحين لايجد الرجل عملا فهو كالمرأة العاقر لاخير فيه لأهله,وقد يمضي في طريق ضلالة تهلكه, وتطيح بحياته الى هاوية الإذلال والهوان,وربما جرفته سيول الفاقة الى طريق غير سوي ,يبحث فيها عن بغيته فيرتكب المعاص ويقهر الناس ويسلب حقوق سواه ,ويكون مآله الى التهلكة.
يالها من صورة ,هي ذاتها التي إنتفض بسببها العرب في بلادهم وحطموا عروش حكامهم ,وربما خربوا غير آبهين بسلطة ولا بغد يندمون فيه على فعل,حين وجدوا الوطن مرتعا للفاسدين,وسجنا للمستضعفين ,فصار الدمار عمرانا بنظرهم ,والخراب بنيانا شامخا بحسبانهم,ومنهم من إستعان بعدوه للخلاص من سطوة أخيه وأبن جلدته الذي أهلكه ذلا وجبروتا وتهميشا وتقتيلا وسجنا.ولاحول ولاقوة إلا بالله ناصر المستضعفين,,أمثالي طبعا.
النقد السياقي -الجزء الثالث-مفارقة السياق نحو حراك ثقافي جديد(5)
مفارقة السياق نحو حراك ثقافي جديد(5)
ثمة حراك آني يستوعب هذا التغير في مفهوم العمل الثقافي من التخصص إلى الموسوعية ، ومن العلمية إلى المعرفية ، ومن المتن إلى الهامش ، ولكننا مازلنا ننظر بكثير من الحذر لهؤلاء الوافدين إلى الثقافة من حقول غير مرسمة أو متخصصة ، فثمة تاريخ هائل من الترسيم الثقافي نجح في نقل المفهوم من السطح إلى العمق ، ومن العمومية إلى التخصص ، بحيث يبدو لنا أن مفارقة هذا السياق بمثابة قفزة إلى فراغ مخيف .
لقد تركت النظرية الأدبية ورائها تاريخاً من العلمية يطمئن إليه الناقد ، ويمنحه يقينا باذخاً ، ومع البنيوية التي ادعت قدرتها على تفسير العالم وصلت النظرية الأدبية إلى أوج مركزيتها وانشغالها بذاتها عن مواكبة الحراك الإبداعي الذي يتخلق يومياً في صياغات مجتزأة تحدوها رغبة واحدة .. وهي مفارقة السياق ، في حين ـ وياللمفارقة الساخرة ـ سعت البنيوية إلى إحكام الحلقة العلمية على النص الأدبي وإخضاعة للقوالب النقدية التي تخضع بطبيعة الحال إلى فكر سياقي .
لقد أنشأ السياق العلمية ، وأنشأت العلمية طريقتها في تفسير الأدب ، لقد كان هذا واضحا في ذهن (مورس بكهام) بصدد كلامه عن (مشكلة التفسير) يقول بكهام : (يبدو واضحا لي أن التفسير التاريخي للأدب مبني على غرار العلم ، على معيار التفسير ، وأن الأثنين متلاقيان ثقافياً ، ينبثقان من جانب التفكير السياقي).
أما( بول ريكور) فيرى أن ثمة خطورة تستوجب الثورة على التفسير السياقي ، وعلى العكس من ذلك يدعوا إلى تفاسير متعارضة لا تستند إلى مركز ، أو نظرية ، مشيرأ في مقال له بعنوان (تعارض التفاسير) إلى أن الشكلانية النقدية الجديدة والشكلانية البنيوية دفعتا الدراسات الأدبية الحديثة إلى مأزق مماثل لمأزق الفلسفة ، وهو مايشير إليه (هيدجر) بأنه اللاهوت الغربي من أفلاطون والقديس توما الآكويني حتى هيجل ونيتشة والعلم الحديث إنه المأزق الميتافيزيقي ،حيث ثمة جوهر سابق على الوجود يشكل مركزاً أو معنى يمكن الرجوع إليه ، ولكنه يعتقد أن البنيوية وإن شكلت إنجازاً هامًا للفكر الغربي ، إلا أنها في نفس الوقت تبدو( نهاية للتقليد الأدبي الغربي ،) ، ومن بعدها يكون التفكيك هو الصيغة التي تمثل تاريخاً جديداً يبدأ من نقطة انطلاق أولى نحو قهر الميتافيزيقا ، أو بتعبير آخر ، (تاريخ يضع الأدب في خدمة الوجود بدلاً من أن يضع الوجود في خدمة الأدب) إن هذا المعنى الظاهراتي في عبارة (ريكور) ، يرفض وبشكل واضح هيمنة المعنى العميق على الخطاب الأدبي ، ذلك الذي لايحظى به سوى ناقد من جنس الآلهة ، ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا ، أن تفكيك المركزية البنيوية ، مطلب ظاهراتي ، كما هو مطلب لكل النظريات التي تتابعت بعد البنيوية .
لقد لفت البنيويون ـ أنفسهم ـ الانتباه إلى ما وصلت إليه النظرية من عماء يستوجب إزاحته ، كحالة قصوى من حالات التفكير العلمي المركزي ، ومن ثم يلتفت (رولان بارت) إلى أن النص الأدبي يتأبى على التفكير المركزي (لأن النص ليس سطراً من الكلمات يطلق معنى (لاهوتياً) واحداً (رسالة ـ المؤلف) بل حيزاً متعدد الأبعاد فيه مجموعة منوعة من الكتابة ، ليس منها ما هو أصلي يتآلف ويتحالف ، النص نسيج من المقبوسات المستمدة مما لا يحصى من مراكز الثقافة).
لقد حسم الأمر عند (بارت) بإعلان موت المؤلف (المركز) ، ومنح القارئ فرصة أكبر في إنتاج الدلالة ومن ثم النص ، وبظهور دور القارئ في إنتاج النص بدأ دور الناقد المتخصص كما بدأت النظرية الأدبية نفسها في التداعي ، ولكن ذلك مشروط بدور حقيقي وراسخ في المعرفة الجمالية للقارئ ، ليكون قادراً على الاستجابة إلى علاقة حوارية مع النص تشبه العلمية ، على نحو ما يوضح هانز روبرت جوس في (التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية) ، وهو دور يمكن أن يقوم به المثقف العام بوصفه ذاتاً وقارئا ، غير أن هذا الاحتراز بمشابهة العلمية لن يكون له مكان في اتجاهات النقد النسائي ، بل ثمة إعلان واضح من جانب النسوية عن رفضها للنظرية والعلمية ، باعتبارهما تجسيداً فكرياً للغرور الأكاديمي ، ونزوعاً إلى مركزية ترسخ لخطاب ذكوري سلطوي ، ومع ذلك فالخطاب النسوي يواجه نقداً حاداً ليس فقط في الأوساط التي مازلت تتمسك بالنظرية ، ولكن ـ أيضاً ـ في الأوساط المناهضة لها ، لما يتضمنه الخطاب النسوي من نزوع إلى خلق مركزية نسوية بديلة ، تحكم على المؤلفين والنصوص بمقدار مسايرتها للأيديولوجيا النسوية . ومن ناحية أخرى فالنسوية في موقفها المعادي لأشكال السلطة تعبر عن موقف سياسي أكثر منه نقدي .
فعندما بدأت أولى المحاولات في اتجاه نظرية نسوية ، قوبلت بتحفظ خشية تكريسها لوضع قائم ، غير أن النساء يوضحن تصورهن عن مفهوم (النظرية) ، ويشرن إلى الاختلاف عن المفهوم التقليدي التي قامت عليه البنيوية ـ مثلاً ـ فالمفهوم لا يوغل في العلمية والتخصص على نحو ما هو قائم ، وما تطرحه نظرية (صور النساء) يتميز باقتراح رئيسي هو (الموثوقية) وهو مفهوم مستعار من الوجودية خاصة (هيدجر) ، الذي قصد بها ، أي شخص يمتلك وعياً نقدياً محدداً ذاتياً في مقابل الهوية الذاتية المنتجة جماعياً أو المكررة ، إن مفهوم الموثوقية في (صور النساء) ليس فكرة عائمة أو انطباعية ، بل هي تأكيد على ذات تملك وعياً تأملياً نقدياً شبيها بالعلمية ، فالموثوقية لا تلقي بالا للخطاب النظري العلمي في حد ذاته بل في صياغته الأخلاقية من حيث تضمن العلم على ضمير إنساني ، ومن ثم تكون الأولوية ليس بالقيمة العلمية للنقد بقدر ما هو لتفهمه للموقف النسائي ، وهو مفهوم يواجه نقدا من قبل (كتابات النساء) إذ أن تمسح النقد النسائي بالموثوقية في نظرية (صور النساء) يبدو كاستجداء للمركزية الذكورية ، كما أنه يركز فقط على تحسين صورة النساء في الخطاب النقدي الذي مازال ذكوريا ، في حين تسعى الكاتبات النسويات ، إلى التصدي على أساس سياسي للأيديولوجيا التي تحكم بنى السلطة ، التي هي جوهرية بالنسبة إلى الجماعات التفسيرية التي يسيطر عليها الذكور . ومن ثم يبدأنَ في شن حرباً ضارية على كل أشكال السلطة والهيمنة السياسية والثقافية على السواء ، ويرفضن بشكل مباشر الأدب بوصفه مؤسسة والنقد بوصفه طقوساً على نحو ما تقول (ليسلى فيدلر) بكثير من السخرية المرة ، (نحن جميعاً نعرف أن الأدب هو ما نعلمه في أقسام اللغة الإنجليزية ، وداخل تلك الدائرة التحديدية المغلقة نؤدي الطقوس التي نخرج بها المدعين التافهين من صفوفنا ، وندخل خبراء حقيقين ، حماة للمعايير التي ينبغي أن يحكم بها على كل أغنية وقصة ) .
وتشير إليزابيث إ ميس ، إلى ملاحظات ميشيل فوكو القيمة ، عن جوهر المشكلة الفكرية ، فالمشكلة ليست تغيير وعي الناس أو ما في رؤسهم ، بل تغيير النظام السياسي الاقتصادي المؤسساتي لإنتاج الحقيقة .
وملاحظة فوكو تربط بشكل واضح بين أشكال السلطة وهو ما أشرنا إليه مسبقاً بمبدأ (تعاضد السلطات) ، وترفض أن تظل الثقافة رهنا للنظام المسؤسساتي ، وتؤكد (اليزابيث) على أن ملاحظة (فوكو) مباشرة عن أولئك الذين يعملون خارج المؤسسة النقدية الأدبية ، ثم تضيف (وجلي أن أولئك المستبعدين من شروط القيقة هم أنفسهم الذين يدركون وجوه القصور في الأنموذج ، ويجربون معنى الإلحاح المطلوب لتوجيهه)
لقد أصبح جلياً أن المعرفة تسعى إلى تحرير نفسها من أشكال السلطة كافة ، وترفض الروح القبلية التي تجعل من الآباء المقدسين مرجعاً وحيداً لها ، أولئك القادرين وحدهم على أن يوفروا لها الحماية النبيلة باعتبارهم ملاك الحقيقة المطلقة .
صلة النقد العربي بالتلقي(6)
بدأ النقد العربي صلاته بالتلقي، منذ الإرهاصات الأول التي تشكل عندها النقد. فإذا كان نقد النصوص مرافقاً للشعر، فإن التلقي مرافق للإثنين. فتاريخ النقد وتاريخ الشعر يرافقهما تاريخ للتلقي. وهذه بديهة يشهد بها الأدب ويلهج بها النقاد لكن تكوين إطار معرفي يستند إليه التلقي بصفته ظاهرة لصيقة بالنص حدث بعد أن تطور المفهوم الأدبي والنقدي وظهرت كتب النقد ومصنفات البلاغة وأصبح التبليغ والإبلاغ والتبيين والبيان من قضايا النقد الجوهرية، فكنه الظاهرة الكلامية وهي مادة الأدب (ابلاغيه بلاغية) إذ تشير ظاهرة التلقي إلى استيفاء المعنى الأدبي واستخلاصه من النصوص. وكيفية تلقي النص وأثر النصوص في نفوس متلقيها هو جوهر القضايا النقدية بل هو جوهر الأدب، فللنص مواضعاته وله صفاته وطرقه في التبيين والاستمالة وللمتلقي مواضعاته أيضاً وله طرقه في فهم النص واتخاذ موقف منه ... وله أيضاً استعداد نفسي إن قل أو ضعف قل التأثير أو انعدم .. لكن كلا من الشاعر والمتلقي يضمهما نظام بياني واحد، هو البيان العربي .. وإن هذه المرجعية توجد قطعاً تفاهماً بين الطرفين، يجعل أحدهما في حوار دائم مع الآخر، لا سيما حوار المتلقي الذي يستجيب للنص، ينفعل به ويتأثر. فليس المفهوم الجمالي وحده هو من تضع البنية البيانية العربية نفسها من أجله، بل يقف معه المفهوم القيمي وهو يحث على الفعل وينسجم مع التغيير. ويمكن تلمس المهام الدقيقة لنظام البيان هذا منذ البوادر الأول لنشأته ونفاذه في العقل والوجدان. وحين يمتلك هذا النظام منطق الوجود الكلي الذي يتبلور في الرؤية الحاثة على الفعل، يكون للعاملين الأساسيين (النص والمتلقي) هيمنة أساسية لا شكلية، وإذ وجد مسوغ يسمح باقتران الكاتب والنص على أساس العلاقة الوثيقة بينهما وعلى اعتبارات أخر تمس جوهر الظاهرة الأدبية، فإن نظام البيان بُنيَ على ثلاثة أسس هي الشاعر والنص والمتلقي، تحمل كلها هيكل البناء، ويمثل المتلقي الركيزة الأولى فيها ... فما صفات هذا المتلقي الذي شكل ركيزة البيان؟
ليس نظام البيان العربي نظاماً استطرادياً، يعنى بوضع قواعد ويطالب بتطبيقها فقط .. وإن حالة البيان ليست من الأشياء المتحصلة في الفكر التي يمكن الإمساك بها والتصرف على وفق ما تتيحه من إمكانات، وليست هي أيضاً بالغائبة التي تتسامى في علو مطلق وتترفع عن كل ما يبصر ويجسم .. بل هي نتاج العقل حين ينزع نحو الوحدة والتنظيم وهي نتاج الوجدان، حين يجعل لهذه الوحدة لوناً وذوقاً وجمالاً. وإمكانات العقل لا تحد وإمكانات الوجدان ممتدة ما امتدت النفس البشرية في نوازعها وطموحاتها وأفقها غير المحدود.
وإذا كان نظام البيان ممتداً في جانبيه العقلي والوجداني فكيف يحد المتقبل أو المتلقي بنظام غير محدد أصلاً؟ وليس هنا موضع إشكالية معينة في الفكر، لأن الإشكالية توجد حين لا يوجد جواب شاف يستجيب لسؤالها .. ولكنها مواضعة فكرية أثبتها نظام البيان العربي وفصلها وأوجد لها حيزاً في كتب النقد والبلاغة .. فالمتلقي هو الكائن المحدود في مواجهة نظام واسع الآفاق مطلق الإمكانات .. وأمام حرية المتلقي في تقويم النص تقف حدود اللغة. التي تجمع النص والمتلقي في حيز واحد محدد الأبعاد .. وطبيعة اللغة محددة لأفانين القول ولولا هذا التحديد ما اجتهد الأدباء في سلسلة طويلة من طرق المجاز والعدول .. كل ذلك خروج على التحديد، وهو مع ذلك موصول بإمكانات اللغة .. لأننا لا نستطيع إلا أن نصف أنواع الخروج هذه باللغوية، إنه خروج على اللغة وعودة إليها في الوقت نفسه، وتنويع لا يلغي الأصل ضرورة .. فالمتلقي إذاًَ هو المطلق من حيث الفكر المحدد من حيث اللغة، وبين الاطلاق والتحديد يتشكل فعل التلقي ويتجلى الحوار المطلوب مع نصوص الأدب. وإذا كان لنظرية التلقي خصوصية في إطار نظام البيان فإنها خصوصية وردت إليها من الاستعمال، فقد أوجد النص القرآني فضاء جديداً من التعامل بين النص والمتلقي .. حقاً لم يخرج النص المعجز على كلام العرب ولكنه ليس امتداداً له، فقد أثبت في الذاكرة السامعة والقارئة نظاماً في استعمال اللغة، وطريقة جديدة في الإصغاء حين يكون القرآن مرتلاً، وفي القراءة حين يكون مقرؤاً .. طريقتان في التلقي ظلتا تلازمان النص المعجز طوال العصور، ولا تجور إحداهما على الأخرى، مهما تعددت وسائل الكتابة وكثر القراء، ومنح النص القرآني متلقيه حرية في اكتشاف دلالاته المتجددة، فوسعت هذه الحرية لذة الاكتشاف لدى المتلقي فالأساليب اللغوية المستخدمة وإن أصبحت معطاة بفعل ثباتها في النص، غير أن التمعن فيها كل حين يضفي عليها جدة وديمومة، لأن معانيها ممتدة إلى غير نفاذ. فالمتقبل في التراث النقدي هو الذي قرأ القرآن وسمع تلاوته وأدرك جزءاً من جمال الصياغة فيه، وهو مَن أدرك معنى حرية القراءة في مواجهة نص أعجز الخليقة عن الاتيان بمثله، فهو ليس مستهلكاً للنص بل عنصر مفكر فيه. لقد أوجد القرآن هذا النوع من التلقي إذ يوقظ الوعي وينبه الفكر إلى جملة من الأساليب الجمالية، التي تضفي على السياق خلابة أخاذة ... فالمطلوب أن (يتمعن) المتلقي في كلمة الله، ليترسخ الإعجاز في نفسه وليكون قبوله القائم على الوعي واعمال الذهن طريق الهداية الصالحة القويمة.
وأول خطاب وجه إلى المتلقي هو خطاب الاعتبار المسمى بالنصبة وهو واحد من الدلالات الخمس التي ذكرها الجاحظ. فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وفي كل صامت وناطق وجامد ونام، مقيم وظاعن، وزائد وناقص، فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معربة من جهة البرهان، ولذلك قال الأول (سل الأرض فقل: مَن شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً لقد أصبحت أشياء الكون واسطة لإيصال رسالة إلى المتلقي ليتمعن في جوهر الأشياء الماثلة أمامَه وحقيقة وجودها وموجدها، فإن باعثها هو الله سبحانه، فأساس خطاب الاعتبار إذن أعمال العقل وتحريك الفكر فالمتلقي كما أريد له أن يكون، رابطاً الأسباب بالنتائج موصلاً الظواهر بأصولها، فالنصبة ((أداة تواصل تحمل رسالة صامتة أو خطاب بالحال .. ومصدر الرسالة وباثها هو الله خالق العالم، ومتلقيها هو الانسان الذي يتأمل الكون من حوله فيستخلص منه وجوه الحكمة الإلهية)): من صور التوجه القرآني نحو المتلقي التي تثري النص وتزيد غناه المعرفي وأثره الجمالي قوله تعالى: (ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ... ) وقوله عزوجل: (كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم .. ) فقد ترك الجواب لأنه من شأن المتلقي، فكأنه قال ((لكان هذا القرآن)) وكأنه قال في الثانية: ((لأقلعتم عن باطلكم أو لتحققتم مصداق ما تحذرونه)).
فالمتلقي السامع للقرآن والقارئ له هو الذي شكل دلالة الجواب، لقد أبقى نص القرآن الكريم الجواب مفتوحاً وإن أوحى به خير ما يكون الإيحاء .. أراد أن يبقي للمتلقي دوراً وافقاً يشكله بنفسه كي يتواصل ويتمعن ويُغذ السير في استجلاء معاني النص .. ونستطيع أن نضع عدداً من الأجوبة في صياغات متعددة وفي إطار المعنى السياقي الذي أساسه التصديق بوعد الله والتحذير من تجاوز حدوده سبحانه.
وقال عزوجل: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها). يلاحظ أن حذف الجواب وضع المتلقي في أقصى حالات الترقب والانتظار وهذا الترقب قائم على موحيات لفظة (الجنة)، أبوابها ورياضُها وثواب العابدين الذين يدخلون جماعات ليتلقوا وعد الله لهم بالخلود ... لقد شحذ النص القرآني خيال المتلقي وأيقظ ذهنه، ليتواصل مع النص ويدرك مغزى الجواب المحذوف ((وإنما يحذف الجواب في مثل هذه الأدوات المقتضية الجواب لقصد المبالغة، لأن السامع يترك مع أقصى تخيله بتقديره أشياء لا يحيط بها الوصف)).
إن تقدير الوصف ترك للسامع والقارئ، ولو شاء المرء أن يرى الجنة من خلال الأوصاف والنعوت التي خص بها القرآن هذا الموئل المقدس لما خرج بتصور واحد معين، بل بتصورات عديدة تحاول كلها الإحاطة بهذا الوعد الإلهي، فالمتلقي في القرآن هو ذلك الذي يعمل الفكر لكي يتحصل المعنى تحصيلاً ويستخدم طاقة الخيال لرؤية ما يوحي به النص. فالتوجه نحو المتلقي إذن وجه من وجوه الإعجاز في القرآن، وهي حقيقة مهمة انتبه غليها أبو سليمان الخطابي (388هـ ) حين قال: (قلت في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا رع السمع خلص إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر منه النفوس وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظها منه، عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق ويغشاها الخوف والفرق تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها) وأورد الخطابي دليلاً على كلامه هو اسلام عمر بن الخطاب (رض)، ومن أسبابه سماعه لأخته وهي تقرأ سورة طه.
إن هذا التوجه نحو المتلقي ميزة خاصة وسمة من سمات النص القرآني الكثيرة، وهو يتجلى في مخاطبة الأنبياء (ع) للأقوام الخارجة عن الإيمان فأسلوب الحوار وطريقة التخاطب التي يستخدمها الأنبياء وما تتضمن من أبعاد نفسية وجمالية، تحمل المتلقي على الإنصات لقوة المحاجة العقلية ووضوح البينة، فيقف متأثراً مفكراً في الكلام نفسه وفي أبعاده القصية التي تظل لصيقة بالذاكرة، قال تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً إن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يكُ كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب).
يكشف النظر في هذه الآية الكريمة نوعاً خاصاً من توجه النص نحو المتلقي، ذلك المتعلق بالإقناع والتأثير، والحوار والدليل البياني واستمالة المتلقي بلطف، على الرغم من الحجة الواضحة، التي يضعها النص أمام المتلقي .. وفي النص القرآني هذا، نوع من التحذير ورد بصورة لطيفة سهلة يقتضيها السياق، إذ لم تبدأ الآية بالتحذير بل بالحث على الرؤية والتفكير والتمعن .. أما السؤال الذي استخدم حرف الاستفهام (الهمزة) فقد ترك دون جواب، لأن الجواب مضمن فيه وعلى المتلقي إخراجه، وقد يقود هذا التساؤل إلى التوبيخ من نية القوم في قتلِ رجل لمجرد قوله ربي الله، وبعد أن أخذ النص من المتلقي انتباهه كله، عضد ذلك بالنصيحة الصادقة وهي إغراء المتلقي للتمعن من جديد في جوهر الآية، أي إنكم إن عدلتم عن القتل فإن النفع أكيد، بينما القتل ليس فيه إلا الضرر. قال ابن الأثير معلقاً على هذه الآية: (ألا ترى أحسن مآخذ هذا الكلام وألطفه، فإنه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو هذا الرجل إما أن يكون كاذباً، فكذبه يعود عليه ولا يتعداه أو يكون صادقاً، فيصيبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم له. وفي هذا الكلام من حسن الأدب والانصاف ما أذكره لك، فأقول إنما قال (يصيبكم بعض الذي يعدكم) وقد علم إنه نبي صادق وإن كل الذي يعدهم به لابد وأن يصيبهم، لا بعضه لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى (ع) أن يسلك معهم طريق الانصاف والملاطفة في القبول، ويأتيهم من جهة المناصحة ليكون أدعى إلى سكونهم إليه).
ولعل ما جرى من ميل القول والحوار بين إبراهيم (ع) وأبيه، حين دعاه إلى الإيمان، يوضح المنزلة التي وضعت للمتلقي في التنزيل الحكيم، فضلاً على نمط الخطاب الذي يأخذ بعين الاعتبار موقع الأبوة والبنوة وإن كان الأب غير مؤمن، فإن الكلمات أفعمت بعاطفة قوية، عاطفة الابن، إبراهيم، وإدراكه مقدار الخطأ الذي انساق غليه أبوه، إنه أولى الناس بالهداية فقد رتب القول على وفق طريقة فائقة الدقة، ووضع المتلقي بسبب هذا النظام الخاص في القول أمام سياق يشد الانتباه ويهز العقل ويذهب عميقاً في الوجدان، وقد سدّت أمام المتلقي بسبب تتابع الكلمات الكريمة كل حجة، فأصبح في مواجهة هذا الانسياب الجميل في اللغة. قال تعالى: (واذكر في الكتب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً. إذ قال لأبيه: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً. يا أبتِ لا تعبد الشيطان. إن الشيطان كان للرحمن عَصياً، يا أبت إني أخاف أن يمسّكَ عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً) وقد أضفى حرف اللين والمد (الياء) المفتوح والمطلق على النص بعداً يأخذ بمجامع القلوب ويتجاوب مع نظام التتابع في الكلام والانتقال من حالة قولية إلى أخرى لها علاقة وثقى بها .. فبين العلم الذي ورد على إبراهيم وبين أتباع أبيه له علاقة وثيقة، يضمها نظام الكلام القرآني أما نهايات الآيات فقد تجاوبت مع المعنى الكلي العام فهي من خلال صورتها اللفظية الموحية، تخاطب أعماق النفس ومكامن الوجود لأن خطاب إبراهيم لأبيه ما كان إلا عبرة ومثلاً.
ويلاحظ مقدار احتواء هذا النص الكريم على اللين والرفق لا سيما تكرار حرف النداء والمنادى، ليصنع معادلاً في ذهن المتلقي بين دعوة الناس إلى الله ومنهم أبوه والخلق الرفيع ولتظل الذاكرة على مدى العصور يقظة تربط بين علم الأنبياء وأخلاقهم، وقال جل شأنه في أهل الجنة: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبلُ وأتوا به متشابهاً). فقد قال المفسرون: (إنما كانت ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا في اللون دون الطعم، لأن الإنسان إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة وفضيلة ثابتة وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه وتحقق مقدار الغبطة به. يضع هذا التفسير للنص القرآني الكريم المتمعن فيه أمام عنصر مهم في مجمل عملية التلقي ألا وهو المفاجأة، فقد أشار النص إلى قيمتها في الإحساس باللذة وإن تحقق ذلك في الطعام عند أهل الجنة ... ولو نقلنا ذلك إلى النص فإن عنصر المفاجأة لا يقل تأثيراً عن الأول، وقد انصرف التفسير كما هو واضح إلى شمولية الظاهرة لوم يقصرها على الحدث الذي وردت فيه. والله أعلم بالطبيعة البشرية. وهو الذي وسع علمِه السموات والأرض، فالاستغراب والغبطة علامات فرح المتقبل وإقباله، فإذا تحقق ذلك في النص، كان مدعاة للتفاعل بينه وبين المتلقي. إذن المزية هي في الجديد الذي لم يؤلف ولم يسبق به عهد .. والمفاجأة تكسر الاعتياد والرتابة وتقود قطعاً إلى الجدة .. ويلاحظ خصوصية التركيب الجمالي في القرآن الكريم التي تعني المتلقي أولاً وآخراً، مثل قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) وهو أبلغ من قوله فاعمل بما تؤمر وإن كان هو الحقيقة كما يقول أبو سليمان الخطابي: (والصدع مستعار وإنما يكون ذلك في الزجاج ونحوه من فلق الأرض، ومعناه المبالغة. أمر به حتى يؤثر في النفوس والقلوب تأثير الصدع في الزجاج ونحوه ... فالمعاني التي لها وقع في النفوس هي المعاني المقصودة في نظام البيان العربي، وأوجد النص القرآني طريقاً مفضياً إليها بوسائل البيان، وبالعوامل المكونة للنص، فلا غرابة إذن أن يسمي حازم القرطاجني المعاني التي ليس لها وقع في نفوس الجمهور بالمعاني الدخيلة (( ... والصنف الآخر وهو الذي سميناه بالدخيل لا يأتلف منه كلام عال في البلاغة أصلاً، إذ من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور)) ونتوقف عند عبارة (حسن الموقع) التي أشار إليها حازم .. فهي تعني فيما تعنيه الإحساس بالجمال، فما كنه المسألة الجمالية في النقد العربي؟؟ إن المتلقي هو الذي يكتب النص من أجله ويتوجه به إليه، وهو الذي تعنيه قيم النص الجمالية، ولكن الجمال في النقد العربي ليس الشعور باللذة فقط، فهذا الشعور جانب واحد لا يتكامل المفهوم الجمالي به وحده. وقد تكونم يزات الخطاب الشكلية كافية لإحداث اللذة، ولم يكن هذا منزع النقد العربي ولا الفكر العربي في فهمهما للقيمة الجمالية. إذ أن جمال النص يشكله عاملان أساسيان حققهما ابن طباطبا في عيار الشعر، وأحسب أن النقد العربي قد تمثل هذين العاملين، وتفحص أثرهما. قال ابن طباطبا في إشارة إلى العامل الأول: (( ... فالعين تألف المرأى الحسن وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب ويتأذى بالمنتن الخبيت، والفهم يلتذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر)). فهنا إدراك لفاعلية الحواس وأثرها في تمثل الإحساس الجمالي، فالحاسة هي التي تستمتع بآثار الجمال .. غير أن هذا العامل يبقى دون اكتمال حتى يتحقق العامل الثاني، ويمكن فرز هذا العامل وتشخيصه من كلام ابن طباطبا نفسه في أثر الجميل وهو أن ((يسل السخائم ويحل العقد ويسخي الشحيح ويشجع الجبان)) وإذ يرتبط كلامه الأول باللذة والمتعة الجمالية الخالصة ينصرف كلامه الآخر إلى الحث على الفعل. قطبان أساسيان يشكلان جوهر القيمة الجمالية عند العرب. وجوهر الخطاب الأدبي (شعراً كان أم نثراً)، إذ تتركز العناية بالمتلقي انطلاقاً من هذين العاملين.
إن توجه النقد العربي نحو المتلقي، وعنايته بالأدب الذي يشكل المتلقي بعداً من أبعاده ويشارك في صوغ أثره الجمالي يضعنا أمام عدد من المبادئ الأساسية التي تصح مدخلاً لتلمس حقيقة الجهد النقدي في جانبه المتعلق بالتأثير .. نشير هنا إلى أربعة من المبادئ التي لها دلالة على إيضاح القصد النقدي وما ينطوي عليه من فهم واستيعاب وتجل للظاهرة الأدبية في جانبيها الأساسيين الإنتاج والتلقي .. وهذه المبادئ نوجزها كما يلي:
1 ـ الصواب وإحراز المنفعة:
يمكن اعتبار هذا المبدأ أحد مصادر التلقي عند العرب، قال بشر بن المعتمر: ((مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة)). يلخص هذا القول اتجاهاً دقيقاً ومهماً في النظرية النقدية والبلاغية عند العرب، إذ أن القصد الحقيقي من الخطاب الأدبي هو توجيه المتلقي إلى فعل شيء أو تركه. وهذا الهدف الأساسي الذي أثبته الجاحظ يلتقي مع مجمل الهدف الفكري في القرآن الكريم، فإذا كان هدف التنزل هداية البشرية إلى طريق الحق والصواب وهو فعل، فإن القول القرآني مدل عليه، بل هو إياه، وبذلك يمكن القول إن المنازع القولية عند العرب هي منازع فعلية، وقد التقط بشر هذه الحقيقة مستفيداً من الإرث الثقافي واللغوي الذي سبقه ومستشرفاً فيه ما سيأتي، فالفعل هو الهدف النهائي والأخير لكل قول أدبي أما الفن فهو المتضمن في هذا القول إذ يشكل مع الفعل أساس بنيته التكوينية. فكلامه الذي نعده أحد المداخل المهمة لنظرية التلقي، يشير إلى جانبين مهمين أحدهما مؤد إلى الآخر: الأول شروط إنتاج الخطاب الأدبي، إذ ينبغي أن يتحقق فيها الصواب والثاني مآل هذا الخطاب وغاياته.
2 ـ بروز الشيء من غير معدنه:
هذا المبدأ ((بروز الشيء من غير معدنه)) أولاه النقد أهمية متزايدة لا سيما أبو عثمان الجاحظ وعبدالقاهر الجرجاني. وله علاقة وثيقة بمفهم اللذة الأدبية وكيفية إيجادها في النص ومن ثم تأثيرها، لأن مفهوم اللذة متعلق بمفاهيم عدة قريبة هي الجدة، الاستطراف، التعجب، المفاجأة. فهي التي تحدث الاستجابة الجمالية لأن ((الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع)). ويبدو أن هناك نوعاً من التناقض بين المفاجأة التي هي العنصر المهم في تقبل النص والروية وإدمان النظر. يقول عبدالقاهر: ((من المركوز في الطبع إن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف وكانت به أضن وأشغف)). والمفاجأة تساعد على اكتشاف النص وطاقة الإيحاء فيه، وهذا الاكتشاف عماده الروية وإعمال الذهن. فالمفاجأة إذن هي محصلة لمباشرة النص بالنظر والتمعن. والنقد العربي ممثلاً في الجاحظ وعبدالقاهر قد اطمأن إلى أن بروز الشيء من غير معدنه هو الصيغة الفضلى للنص ليحقق التأثير، وهذا الذي ذهب إليه النقد قائم على فهم النفس البشرية في إقبالها على البعيد الغريب المدهش وعدم اكتراثها بالمعاد القريب المتداول ((مبنى الطباع وموضوع الجبلة على إن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر)) إن بروز الشيء من غير معدنه قريب من مفهوم المفاجأة .. لذا فهو يشكل واحداً من مبادئ نظرية القراءة والتلقي عند العرب.
3 ـ دلالة الباقي على الذاهب:
إن الكلام الأدبي موئل احتمالات عدة .. وقد يذهب القراء والسامعون من تقليب أوجه النص مذاهب مختلفة ومتعددة، تتوقف على الدربة ورياضة النصوص الأدبية أو الثقافة الأدبية .. والوصول إلى الوجوه المحتملة للنص، طريقُهُ، دلالة الكلام الباقي .. أي النص، فالذاهب من النص يحصله المتلقي ويكتشفه. يقول ابن رشيق في العمدة مشيراً إلى حذف بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب: ((وإنما كان هذا معدوداً من أنواع البلاغة، لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب وكل معلوم فهو هين لكونه محصوراً)). توجه الاهتمام إذن إلى المجهول الذي هو ليس هيناً، هنا يلتقي ابن رشيق مع الآراء النقدية التي ترى إن فعل المتلقي قائم على الروية وإعمال النظر في استخراج المعنى الأدبي، والمتلقي الذي يستدل على المعنى المخفي بالمعنى الظاهر أو المحذوف بالمعنى الباقي هو متلق ذو صفات خاصة. وهذا ما يريده النقد العربي للمتلقي، كونه عنصراً فاعلاً في توليد المعنى أو اختراعه، وما يوضح هذا المنحى المهم من مناحي النقد، ما قام به عبدالقاهر الجرجاني حين أسند للمتلقي مهمة جليلة في الاستنتاج والعمل العقلي والتخييلي للوصول إلى مغزى الخطاب، ((حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر)). وهذا المبدأ ثابت في ذاكرة النقد وهو ينسجم مع طاقة الإيحاء والتخييل في الأعمال الأدبية.
4 ـ صحة الطبع وإدمان الرياضة:
من القضايا المهمة التي طرحها النقد التعليل، أي لماذا يؤثر هذا النص في المتلقي ولا يؤثر نص آخر مساوٍ له في الجودة وقد اكتملت شروط الصياغة والحسن في كليهما؟ إذا كان النقد العربي يقف من هذه المسألة المهمة موقفاً يناصر الذوق وهي حالة نفسية ذاتية فإن هذا النقد نفسه يذهب إلى ضرورة إيجاد مسوغ للاستحسان والقبول أو الرفض والصد .. وجهان رافقا النقد العربي منذ بواكيره الأولى، ونجد للتعليل مزية على عدم التعليل في الكتابات النقدية المتأخرة إن المتلقي ينبغي أن يفسر سبب جمال الأعمال الأدبية .. إذن أنه لا يتوصل إلى كنه هذا الجمال إلا بتعليله. فالتذوق ليس عملاً فطرياً عفوياً بل هو يتحصل بجهد وإدراك وروية، ولو دققنا في قول القاضي الجرجاني الآتي لتكشف وجها العملية التذوقية ((وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، تستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم وإن قاسيتَ واعتبرتَ ونظرت وفكرت لهذه المزية سبباً ولما خصت به مقتضياً)) لقد وضع الجرجاني يده على حقيقة النفس البشرية وصعوبة التحكم بالذائقة الفردية والجماعية .. غير أن النقد ما كان ليستقر على هذه المنازع النفسية فلابد إذن من التعليل ومعرفة الأسباب، لأن ترك الأعمال الأدبية في عهدة الذائقة الفردية قد يكون مضيعاً للغاية المتوخاة من النص الأدبي، فالمطلوب التفاعل مع جوهر النص ومعرفة عالمه الداخلي لا التأثير السطحي الخارجي وما قد يثيره من انفعالات عابرة .. والمسألة كما يرى الجرجاني متعلقة بعاملين أساسيين: طبيعة النص والمتلقي، فمن النصوص ((المحكم الوثيق والجزل القوي والمصنع المحكم والمنمق الموشح ومنها: المختل المعيب والفاسد المضطرب)) وقد تنصرف النفس عن القسم الأول وهو مشتمل على مواصفات الجودة ويكمن السبب في الحالة النفسية والشعورية والمعرفية أيضاً أي أن خلوص النص إلى عقل المتلقي وضميره لا يتوقف فقط على الجودة بل أيضاً على ما يراه المتلقي من مسوغ لتلك الجودة.
هذا مغزى كلام القاضي الجرجاني في القسم الأول، أما القسم الثاني وهو المختل المعيب والفاسد المضطرب، فإن مهمة المتلقي فيه أكثر صعوبة وهنا يحتاج إلى الرواية والدراية معاً كما يقول: ((والآخر غامض يوصل إلى بعضه بالرواية ويوقف على بعض بالدراية ويحتاج في كثير منه إلى دقة الفطنة وصفاء القريحة ولطف الفكر وبعد الغوص، وملاك ذلك كله وتمامه والجامع له والزمام عليه، صحة الطبع وإدمان الرياضة، فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرا في إيصال صاحبها عن غايته ورضيا له بدون نهايته)).
وضع القاضي الجرجاني شرطين مهمين يقوم عليهما أساس رفض الأعمال الأدبية وهما صحة الطبع وإدمان الرياضة، وإذا كان صحة الطبع عنواناً لتفريعات عديدة تدخل منها الشروط الذاتية والموضوعية للمتلقي فإن إدمان الرياضة، يختص بمجال واحد ومهم جداً، وهو التجربة وكثرة قراءة النصوص الجيدة .. وهو عامل أساسي في تلقي الشعر خاصة، وقد حافظ القدماء على هذا الشرط سواء أكانوا رواة للشعر أم شعراء أم نقاداً .. فلا دخول في مضمار الشعر دون الرياضة .. ، فهو يعلّم سبب رفض النصوص الضعيفة الواهية النسج، وهذان الشرطان يصلحان أساساً لقبول الأعمال الأدبية أيضاً وإن لم يتطرق الجرجاني إلى ذلك، لأنهما شرطان للتمييز، والتمييز يقود إلى التعليل.
عبقرية كارل ماركس كتاب جديد للباحث فلاح امين الرهيمي
السبت، 30 أبريل 2011
ولدٌ تائهٌ في جيبهِ أغنية ...-سلمان داود محمد-اللوحة غالب المسعودي
ولدٌ تائهٌ في جيبهِ أغنية ...
...................................
سلمان داود محمد
حريقٌ
يمدّ’
لسانه’
ساخراً
من
رجالِ
الإطفاء ..
..
..
هكذا الحب
هل تتذكرين روحي ..
حين لملمتْ الزقزقات ريشة ريشة
حتى لا تصاب بالوحشة أقفاصك ...
..
هل تتذكرين روحي ..
عندما قلت’ لإله البحر :
- أنا الغريق الذي عكّر صفو مياهكَ ...
كي لا يتهم زوارقكِ الراحلة خلسة .. بالبهتان ...
...
هل تتذكرين روحي ..
وهي تسابق’ دندنة القلب
في مباراة : ( من يدق’ من أجلكِ أكثر .. )
حتى فازت الروح على نفسها .. بلا جائزة ..
..
هل تتذكرين روحي ..
عندما صحت’ في حفلة تقسيم الإرث :
_ أنا إبن’ اللقالق ،،
النازل مثل طفل زنجي
من مدخنة بيتكِ المنيف كجرح ،،
فقط من أجل التشابه .. لا غير
مع العسل الأسود الذائب في مرارة وقتك ...
...
أشك’ بأنكِ ستذكرين
فهذا الرماد الفذ
هو كل ما تبقى
من إشتعال ذاكرتي
في ظلمة نسيانك ،،،
فكيف إذن :
لا تكون وحوش الأسى ( أمهاتي )
وهذا الموت
أب ...
*** *** ***
ما أن أعدد سنواتي على أصابعكِ
قبلة ..
قبلة ..
حتى تنطق الشفاه بالفراشات ،،
والشمس مرآتك
..
..
هكذا أحبكِ وأشتعل’ ،،
كي
لا
يتهمني
الآخرون
بـ ...
.
.
الظلام ...
*** *** ***
يا ما قلت’ لكِ :
أن الإنتظار على أرصفة الموانئ يؤذيني ..،،
يحشًد’ غوغاء أحزاني عليً ..،،
فأضطر’ الى الإنفلاق
مثل قنبلة مسيًلة للدموع
كي تتفرًق الآلام عندئذِ بنجاح دامع
تاركة رايتها .. وحيدة
رايتها التي على هيئة
سعفة منزوعة من نخلتها ...،
إيييييييييييييييييييييه ...
كم سيتهافت’ على أناقة جثّتها اليابسة
جوع المواقد ..،،
وكم
سيكون
إسمها
كالمعتاد :
...
أنا ....
*** *** ***
كما هي الريح
أطرد’ الوحشة عن مصطبة لشخصين .. فارغة
وأنعي ضجيج المارّة مثل حظر للتجوال
وكما القميص المشنوق بحبل الغسيل
...أتقاطر’ بكل نداي على سطح أيامكِ
وأشتم’ الغيوم .. تلك الواقفة ( !! ) في طابور الوضوء
ثم أكره’ :
الموسيقى
والسدنة
والقانون
والزي الجامعي
ورواد الفضاء ..
ولا أحب’ حياتي ..
..
يحدث’ هذا في الذكرى المئوية لذبولي
وسط حفل من ميليشيات ودفوف
وهم يباركون تشييع قناديلي
في
( درابين )
غيابكِ ...
*** *** ***
قال : أحبكِ ..
قالت : هذا ورد ...
ثم قال : أحبكِ ..
وأيضاً قالتْ : هذا ورد ...
وظل يقول : أحبكِ .. أحبكِ .. أحبكِ ..
أحبكِ .. أحبكِ .. أحبكِ .. أحبكِ .. أحبكِ ..
حتى مات .................
فوضعتْ هي
كل الورد
على
جثتهِ
و
غابتْ ...
*** *** ***
# ربّات البيوت ..
# الباعة المتجولون ..
# وزارة الحب ..
# الصعاليك ..
# صبايا التعليم الجامعي ..
# اللصوص ..
# نزلاء فنادق الدرجة ( بلا ..) ..
# الأغاني ..
# شرطي المرور ..
# ضحايا النشيد الوطني ..
# سائق القطار ..
# إبن لادن ..
# مذيعات الأنواء الجويًة ..
# كلكامش ..
# الفقهاء ..
# المصحح اللغوي لبيانات الرئيس ..
# السكارى ..... وأمي ..
كلهم ..
كلهم صاحوا بوجهي :
)) لا تفعلها يا مجنون ، وإلا ستموت .. (( ..
..
لكنًي .. ويا للـ .. ( مجد (
فعلتها
و ..
.
.
أحببتكِ ...
*** *** ***
إطمئني ..
لن أكون من بعدكِ وحدي
فالمتاهة بيت
والخطى
عائلة ...
*** *** ***
هجرانكِ الراسخ في ذبول الحافلات
يشبه’ مسمار لم تمسسه’ المطارق’ بعد ..،،
ها هو ذا يوقًع’ بسنًهِ اللامع الوحيد
على جسد إنتظاري صكوك الدموع ....
هجرانكِ
الجارح
يحرثني
بإخلاص ...
فألقيت’ التحيًة على بقايا رماد إحتراقاتي معك ،
ثم
إفترشت’
دمي
على
قارعة
الغروب
و
متُ .....
*** *** ***
أحببتكِ ومضيت’
مثل غيمة هاربة من المدرسة
نثرت’ أزرار قميصي على حقولكِ
وخذلت’ ( درس العلوم ) ،،،
فما عادتْ أمطاري في زجاجة
ولا الشارع المؤدي إليكِ
ميدان حرب
أو سوق لبيع الطيور ،،
بل
روحي عليكِ تهطل’
ويدي
..
..
مظلّة ...
*** *** ***
قال المعلم : إرسمْ قلب الإنسان ...
فطبعت’ على راحة يدكِ ’قبلة
وأقفلت’ عليها نعومة أصابعكِ ...
..
..
المعلم الآن في ردهة الإنعاش
وأنا
متهم
بالتزوير ...
.............
.............
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)