قراءة في مجموعة مشرق الغانم " طير تستحم بالرماد "
الشاعر بوصفه كاهناً ومتنبئاً
احمد الحلي
يبدو أن الشاعر الحديث ما زال بمقدوره أن يضطلع بدوره القديم مجدداً بوصفه كاهناً وساحراً ومتنبئاً في آن معاً ، وهذا ما ينطبق بدرجة أساس مع شاعر المجموعة التي نحن بصددها والمعنونة " طير تستحم بالرماد " للشاعر العراقي المغترب مشرق الغانم والتي أصدرتها له في العام 1997 في طبعة آنيقة دار جفرا للدراسات والنشر في دمشق ، وعلى الرغم من صغر حجم المجموعة ، إذ لا يزيد عدد صفحاتها عن 63 صفحة خالية من الفهرست ، فأنها مليئة بالدلالات الموحية .
يقول الشاعر في مفتتح المجموعة :
من فضة تلمع في الأعالي ، حتى
المصب الأسود لنهرين تخثر فيهما
الدم ، حشدت سربا من الإوز العراقي
وبدأت الطيران عالياً صوب ممالك مندثرة
كنت اسمع النشيد القديم مختلطاً بالريح
تصفر في البراري ، والنجوم هائمة على الرمال
حيث نرى دلالة " نهرين تخثر فيهما الدم " وهو ما سيذكرنا على الفور بالمنحى الذي سبق وسارت عليه قصيدة " رماد المسلة " اللافتة التي فاز بها الشاعر صلاح حسن بجائزة دار الشؤون الثقافية العامة في مفتح التسعينات والتي سرعان ما لاكتها الألسن بعد ذلك بالقيل والقال حتى وصل الأمر ببعض أدعياء الثقافة ممن أتاح لهم النظام السابق أن يتبوءوا مراكز مهمة على خارطة المشهد الثقافي العراقي ، إلى رفع مذكرة حزبية إلى الجهات العليا يطالبون فيها بسحب الجائزة عن الشاعر الرجيم ومحاسبة اللجنة التي قررت منحه الجائزة لأنه لم يفعل شيئاً في قصيدته سوى انه كال السباب لما أسموه بالثوابت الوطنية والقومية وأنه وجه فيها انتقاداته المبطنة إلى الإسلام بحد ذاته بوصفه زحفاً حجازياً صحراوياً طال حضارة ومدنية متقدمة كانت قائمة في العراق آنذاك . واللافت بل والممتع حقاً لدى الشاعر مشرق الغانم هو انه ينتقل في القصيدة الواحدة عبر أجواء متعددة، في القصيدة المعنونة بـ " المُفتتح " نراه يقول ;
كان المشهد خلاباً لشعوب
تستغرق في أحضان مدنها ،
كنت أحسدها ، شعوبٌ
كانت تجيد المتعة !
وواضح إن الشعوب التي عناها الشاعر هنا هي شعوب الدول التي آوت المهاجرين العراقيين بل وكل المهاجرين القادمين من دول لا تحترم فيها إنسانية الإنسان ، نقرأ في ذات القصيدة :
لكن يا أبت ما حكمة هذا الموت ؟
بلاد تقبل قبل الأوان إلى حتفها ،
قبل أن تنشد الفاختة في بئر السماء
قبل أن يصحو النخيل من بلل الظلام !
وسنرى إن عمق الفاجعة سيتوضح ويتجلى أكثر فأكثر
كلما توغلنا في عملية القراءة :
لكننا نحرق في كل فجر قبل الآذان ،
في كل فجر نوقظ الأولاد إلى موت نشتهيه ،
حجر من شجر عتيق لنار لم تنطفئ
مُنذ هبَّ على العراق أول سديم !
سنرى إن الشاعر يغوص في موضوعته الأساس : الحرب ، لاسيما تلك التي دارت رحاها في شمال الوطن ضد أبناء شعبنا الكردي حيث يقول في قصيدة " بدء الطواف " :
كفر الطفل بالرب
حيث رأى الجبل غولاً
والسفح مسلخ " أنفال " !
وبلغة مؤسية مفعمة بالشحنة العاطفية التي تصل حد البكاء :
أنصت إلى العراق :
وأهتف في سري
يا كهف صداي ، ياهداة الطفل
تحت الضجيج ، يا نبيذاً ساح عني
غفلة ، وانكسر !
ولعل أبرز شيء يمكن أن تلاحظه العين الفاحصة في هذه المجموعة المعبرة هو لغة الشاعر المتمكن من أدواته وإيقاع جمله المتواتر ، بالإضافة إلى الصور الشعرية الخلابة التي لا يكف عن صوغها وابتكارها والتي سرعان ما ستذكرنا بصور الشاعر الكردي الشهير شيركوبيكس :
جلس الفاطن في ظلمته
أشعل سيجارة على تلة
كي يسدد قناص آخر الليل
إلى رأسه طلقته !
أو مائدتي حديقة وقلبي سرير نهر لا يفيض
فلماذا لا يهب من الشرق سوى عصف الحريق ؟
سيلجأ الشاعر إلى كهفه الطوطمي شاهراً أدواته البدائية بوجه العصر :
عليّ أن لا ألتفت إلى الخلف أو التف ،
وان أضع في جيبي حصاة
تعينني على عطش الطريق !
وسيتدفق موال الحزن وهو يطرق مسامعنا هادراً :
أنصت إلى العراق : بادية تهرس عظام موتى ،
كانت تنبح منذ ألف عام ، من أطلق عليها اسم الجزيرة ؟
تدور الرمال فيها مثل مغزل ،
وكانت تتقن السطو على حرير القوافل ولما أقفرت الطريق
سطا بدوها الأجلاف على فضة ينابيعي !
وسيصور الشاعر لنا هؤلاء الأجلاف القساة المتحدرين من صحاراهم القاحلة وهم يقيمون احتفالهم وكرنفالهم فوق رأس المأتم :
ينتزعون الليلك من جرف فتنته
ويلقون به إلى موقد الوحش ،
وعلى مقربة ، كنت أسمع شواء وربابة تئز
وطفلاً يرمي جلده خارج النار
وثمة قضية أخرى طالما تناولتها أقلام الشعراء والكتاب ، كل بطريقته الخاصة ، إلا وهي قضية تجفيف الأهوار التي ارتكبتها عقيلة النظام البائد فعجلت بنهايته وسقوطه ، كونها ليست موجهة ضد الإنسان والكائنات فحسب ، وإنما ضد الطبيعة الأم المقدسة :
تطلع الكراكي مشتعلة من فوهات القصب
وألف قبرة تصفق صدى المقتولين هباء
على الماء الذبيح ، يسند ظل غيمة
مضت ، فتحار الطير
من سماء مقفلة !
هناك ، كان البدوي جالساً على ناقته
يدخن الغليون ويحصي الجثث ضاحكاً !
الشاعر بوصفه كاهناً ومتنبئاً
احمد الحلي
يبدو أن الشاعر الحديث ما زال بمقدوره أن يضطلع بدوره القديم مجدداً بوصفه كاهناً وساحراً ومتنبئاً في آن معاً ، وهذا ما ينطبق بدرجة أساس مع شاعر المجموعة التي نحن بصددها والمعنونة " طير تستحم بالرماد " للشاعر العراقي المغترب مشرق الغانم والتي أصدرتها له في العام 1997 في طبعة آنيقة دار جفرا للدراسات والنشر في دمشق ، وعلى الرغم من صغر حجم المجموعة ، إذ لا يزيد عدد صفحاتها عن 63 صفحة خالية من الفهرست ، فأنها مليئة بالدلالات الموحية .
يقول الشاعر في مفتتح المجموعة :
من فضة تلمع في الأعالي ، حتى
المصب الأسود لنهرين تخثر فيهما
الدم ، حشدت سربا من الإوز العراقي
وبدأت الطيران عالياً صوب ممالك مندثرة
كنت اسمع النشيد القديم مختلطاً بالريح
تصفر في البراري ، والنجوم هائمة على الرمال
حيث نرى دلالة " نهرين تخثر فيهما الدم " وهو ما سيذكرنا على الفور بالمنحى الذي سبق وسارت عليه قصيدة " رماد المسلة " اللافتة التي فاز بها الشاعر صلاح حسن بجائزة دار الشؤون الثقافية العامة في مفتح التسعينات والتي سرعان ما لاكتها الألسن بعد ذلك بالقيل والقال حتى وصل الأمر ببعض أدعياء الثقافة ممن أتاح لهم النظام السابق أن يتبوءوا مراكز مهمة على خارطة المشهد الثقافي العراقي ، إلى رفع مذكرة حزبية إلى الجهات العليا يطالبون فيها بسحب الجائزة عن الشاعر الرجيم ومحاسبة اللجنة التي قررت منحه الجائزة لأنه لم يفعل شيئاً في قصيدته سوى انه كال السباب لما أسموه بالثوابت الوطنية والقومية وأنه وجه فيها انتقاداته المبطنة إلى الإسلام بحد ذاته بوصفه زحفاً حجازياً صحراوياً طال حضارة ومدنية متقدمة كانت قائمة في العراق آنذاك . واللافت بل والممتع حقاً لدى الشاعر مشرق الغانم هو انه ينتقل في القصيدة الواحدة عبر أجواء متعددة، في القصيدة المعنونة بـ " المُفتتح " نراه يقول ;
كان المشهد خلاباً لشعوب
تستغرق في أحضان مدنها ،
كنت أحسدها ، شعوبٌ
كانت تجيد المتعة !
وواضح إن الشعوب التي عناها الشاعر هنا هي شعوب الدول التي آوت المهاجرين العراقيين بل وكل المهاجرين القادمين من دول لا تحترم فيها إنسانية الإنسان ، نقرأ في ذات القصيدة :
لكن يا أبت ما حكمة هذا الموت ؟
بلاد تقبل قبل الأوان إلى حتفها ،
قبل أن تنشد الفاختة في بئر السماء
قبل أن يصحو النخيل من بلل الظلام !
وسنرى إن عمق الفاجعة سيتوضح ويتجلى أكثر فأكثر
كلما توغلنا في عملية القراءة :
لكننا نحرق في كل فجر قبل الآذان ،
في كل فجر نوقظ الأولاد إلى موت نشتهيه ،
حجر من شجر عتيق لنار لم تنطفئ
مُنذ هبَّ على العراق أول سديم !
سنرى إن الشاعر يغوص في موضوعته الأساس : الحرب ، لاسيما تلك التي دارت رحاها في شمال الوطن ضد أبناء شعبنا الكردي حيث يقول في قصيدة " بدء الطواف " :
كفر الطفل بالرب
حيث رأى الجبل غولاً
والسفح مسلخ " أنفال " !
وبلغة مؤسية مفعمة بالشحنة العاطفية التي تصل حد البكاء :
أنصت إلى العراق :
وأهتف في سري
يا كهف صداي ، ياهداة الطفل
تحت الضجيج ، يا نبيذاً ساح عني
غفلة ، وانكسر !
ولعل أبرز شيء يمكن أن تلاحظه العين الفاحصة في هذه المجموعة المعبرة هو لغة الشاعر المتمكن من أدواته وإيقاع جمله المتواتر ، بالإضافة إلى الصور الشعرية الخلابة التي لا يكف عن صوغها وابتكارها والتي سرعان ما ستذكرنا بصور الشاعر الكردي الشهير شيركوبيكس :
جلس الفاطن في ظلمته
أشعل سيجارة على تلة
كي يسدد قناص آخر الليل
إلى رأسه طلقته !
أو مائدتي حديقة وقلبي سرير نهر لا يفيض
فلماذا لا يهب من الشرق سوى عصف الحريق ؟
سيلجأ الشاعر إلى كهفه الطوطمي شاهراً أدواته البدائية بوجه العصر :
عليّ أن لا ألتفت إلى الخلف أو التف ،
وان أضع في جيبي حصاة
تعينني على عطش الطريق !
وسيتدفق موال الحزن وهو يطرق مسامعنا هادراً :
أنصت إلى العراق : بادية تهرس عظام موتى ،
كانت تنبح منذ ألف عام ، من أطلق عليها اسم الجزيرة ؟
تدور الرمال فيها مثل مغزل ،
وكانت تتقن السطو على حرير القوافل ولما أقفرت الطريق
سطا بدوها الأجلاف على فضة ينابيعي !
وسيصور الشاعر لنا هؤلاء الأجلاف القساة المتحدرين من صحاراهم القاحلة وهم يقيمون احتفالهم وكرنفالهم فوق رأس المأتم :
ينتزعون الليلك من جرف فتنته
ويلقون به إلى موقد الوحش ،
وعلى مقربة ، كنت أسمع شواء وربابة تئز
وطفلاً يرمي جلده خارج النار
وثمة قضية أخرى طالما تناولتها أقلام الشعراء والكتاب ، كل بطريقته الخاصة ، إلا وهي قضية تجفيف الأهوار التي ارتكبتها عقيلة النظام البائد فعجلت بنهايته وسقوطه ، كونها ليست موجهة ضد الإنسان والكائنات فحسب ، وإنما ضد الطبيعة الأم المقدسة :
تطلع الكراكي مشتعلة من فوهات القصب
وألف قبرة تصفق صدى المقتولين هباء
على الماء الذبيح ، يسند ظل غيمة
مضت ، فتحار الطير
من سماء مقفلة !
هناك ، كان البدوي جالساً على ناقته
يدخن الغليون ويحصي الجثث ضاحكاً !