الرسم الصيني – البحث عن روح
الأشياء
صائب خليل
29 ت1 2017
منذ زمن طويل
يسحرني الرسم الصيني لما فيه من اختزال مدهش ورشاقة أخاذة. وأخيرا قررت ان اجربه
لأرى ما مدى الصعوبة في رسم غصن فيه بضعة أوراق باللون الأسود فقط؟ كانت تجربة
مدهشة ما أزال اخوض بدايتها وأود مشاركتكم ما اكتشفت فيها.
اكتشفت ان الرسم
الصيني، رغم بساطته، لكنه خطير الدقة. فلديك ضربة فرشاة واحدة لترسم ورقة واحدة!
وسحبة فرشاة واحدة لترسم غصناً بكل تعرجاته وتفاصيل سمكه ونحافته. وفي ذات الضربة،
عليك ليس ان تعطي الشكل المناسب لما ترسم، وإنما أيضا أن تعبر عن طبيعته وحركته،
وأن يكون جزءاً منسجما مع الكل الذي رسمته او سترسمه بعد قليل.
هذا التحدي
الكبير يعني بالنسبة للرسام أن فرشاته سوف ترسم حافتي الورقة في نفس الضربة، فعليه
ان ينتبه للجانبين في نفس الوقت. وعليه ان يحسب ضغط الفرشاة على الورقة ليتحكم بسمك
الورقة. ولأجل انجاز ذلك بحافات صحيحة ونقية وأن تكون كثافة الحبر أو الألوان هي
المناسبة التي كان يريدها، فعليه ان يعرف كمية الحبر أو الأصباغ والماء في فرشاته
ويتأكد منها. لأن كمية ماء زائدة سوف تجعل رسم الحافة الحادة صعبا واللون خفيفا.
وإن كان الماء أو الحبر قليلا، فعلى الرسام ان يحسب ان بعض شعرات فرشاته سوف تنفصل
عن جسم الفرشاة لترسم خطوطا قد لا يريدها. كما ان رفع الفرشاة عن الورقة قد لا
ينتج الشكل النهائي الذي يبتغيه.
ماذا عن الأغصان؟
اليست خطوطا بسيطة؟ نعم لكنها ستبدو كخطوط في اللوحة وليس كأغصان! إن أردنا لها ان
تبدو كأغصان فعلينا قبل كل شيء ان نسيطر تماما على سمكها، وهو ما يعني ضغط الفرشاة
على الورق، الغصن يزداد نحافة كلما اقترب من حافته، لكن هذا لا يعني ان تلك
النحافة تأتي بشكل منتظم، بل يستمر الغصن في نفس السمك لمسافة ثم ينحف فجأة حين
يتفرع منه فرع. و "نفس السمك" شيء تقريبي أيضا، فهو ينحف بشكل قليل
ودقيق. واهم شيء ألا يخطئ الرسام في أي ضغطة إضافية تتسبب في "ورم" لا
معنى له في الغصن، ولا يمكن ازالته، ويكتشف المشاهد أن ما امامه ليس غصناً بل خطوط
فرشاة فقط!
ولا تقتصر المهمة
على رسم الأوراق المفردة والاغصان بسحبة فرشاة واحدة، بل يلعب "تصميم"
تشكيلات أوراق البامبو دوراً أساسيا في تشكيل اللوحة. ولو حاولت ان ترسم مجموعة
كبيرة من تلك الأوراق بنفسك، وحتى لو رسمت كل ورقة بشكل صحيح، فإنك ستجد نفسك بعد
بضعة أوراق، في "خبصة" بشعة لا علاقة لها بالفن.
الفنان الصيني
يحترم تصاميم الأوراق ويحبها. ويعطيها أسماءا جميلة ومناسبة، مثل
"السنونو" الذي يتكون من ورقة صغيرة هي "رأس السنونو" وورقتان
طويلتان يمثلان "ذيل السنونو" ثم هناك "جناحا السنونو":
ورقتان تتميزان بظهور غصنيهما وبالتفاتتهما. ومن مثل هذه المجموعات تتكون كتلة
الأوراق التي لا "تنخبص" بل قد يتساءل المرء إن كانت أوراقا أم طيورا؟
ويتساءل إن كانت الشجرة ترقص أم هي واقفة؟ إن الرسام الصيني لا يرسم شيئا لا روح
فيه ابداً. لأنه يعتبر نفسه كما يبدو، وكأنه لم يرسم شيئا عند ذاك.
لكن كيف نصل إلى
"روح الأشياء"؟ إنها ليست قضية سحرية او معجزة لا يصلها إلا الراسخون في
الفن، بل هي مثل معظم ما في الحياة، نصله بالاقتراب منه واعطاءه الوقت اللازم. وأهم
شيء طبعا هو مراقبة "الأشياء" وكيف تتعامل مع محيطها الذي تعيش فيه..
كيف تتصرف الأوراق في العاصفة؟ كيف تتوزع على اغصانها؟ كيف يقف العصفور على الغصن؟
كيف يفتح منقاره؟ كيف “يتعارك” مع غيره؟ الخ
هذه الأشياء ليست
خاصة بالرسم الصيني طبعا، إنما هي عامة. فالرسام يقول في لوحته: انظروا.. اكتشفت
ان الأمواج تترتب بهذا الشكل، وان الغيوم ليست مجرد بقع بيضاء تأخذ أي شكل كان في
السماء. الرسام يجب ان يكون قد رأى الأشياء بأفضل مما يراها الآخرون، وإلا فلن
يستطيع ان يقول لهم شيئا في لوحته. ولكن هذا لا يكفي، فيجب على الرسام أيضا ان
يختار ما ينقله في لوحته وما يهمله من تفاصيل وملاحظات. فهو يقول لمشاهده: أنظر،
من بين كل التفاصيل.. هذا هو الجميل، وهذا الجميل هو فكرة لوحتي. تماما مثلما يفعل
المؤرخ الذي ينتقي من بين كل احداث التاريخ ما يعتبره "الأهم" ويهمل
الباقي، فيقول لقارئه: أنظر.. هذا الحدث مهم بشكل خاص لأنه كذا وكذا، وعليه وعلى
تداعياته، أؤلف كتابي. أما الرسام الذي يرسم كل شيء والمؤرخ الذي ينقل كل شيء فلن
يكون قد أدى واجبه كاملا. قد نعجب بإمكانيات الرسام الذي رسم كل التفاصيل وقدرته
على اختيار اللون ودقة الرسم وطول الصبر، مثلما نعجب بالجهد والوقت والمواظبة
لمؤرخ يغرق كتابه بالتفاصيل والاسماء والتواريخ، لكننا لن نخرج بشيء من كتاب هذا
او لوحة ذاك. لن نعرف ما هو مهم في هذا التاريخ ولا ما هو جميل أو قبيح في ذلك
المنظر الذي رسمه.
إن هذا الاختيار
وهذه التنقية من التفاصيل تسمى "التجريد". ونحن نطلق صفة
"التجريد" على الرسم الذي لا يكاد يستطيع المشاهد فيه ان يربط بينه وبين
أي شيء محدد من الحياة، لكننا في الحقيقة نرسم "تجريدا" كلما أهملنا بعض
التفاصيل. والحقيقة اننا نفعل ذلك سواء أردنا ام لم نرد، فمن المستحيل رسم كل
التفاصيل. لكن الرسام الجيد هو من "يختار" بوعي ما يهمل وما يبقي من
تفاصيل، فيركز الجمال في لوحته أكثر مما هي في المنظر الذي أمامه، مثلما يركز
المؤرخ "المعنى" في روايته للتاريخ، أكثر من الحدث نفسه. ولأجل انجاز
ذلك لابد ان يراقب الرسام موضوعه ويتأمل المؤرخ احداثه بصبر أكبر ومحبة أكبر
ويعطيانهما وقتا وجهدا أكبر مما يفعل الشخص العابر. ويحتاج مشاهد اللوحة وقارئ
التاريخ أيضا بعض الجهد ليصل اليه ما أراد المؤرخ والرسام ايصاله له.
المحاولات
الفاشلة الأولى لرسم غصون الأشجار كما يفعل الصينيون بضربة واحدة، جعلتني أبحث عن
السبب، واكتشف ما هو الفرق بين خط الفرشاة وبين الغصن، وما الذي يجب على الأول ان
يفعله لكي يبدو مثل الثاني ويتمكن من "خداعنا". وبالفعل تمكنت من تسجيل
تقدم سريع، حتى إني احتفظت ببعض تجاربي بشكل لوحات، بعد ان اكملتها بالرتوش
المناسبة (من الصور المرفقة، اللوحات المؤطرة ولوحة شجرة الورد هي تجاربي). وكانت
سعادتي بالتقدم ان أطلقت طموحات لتأمل إمكانية رسم لوحات عراقية بالطريقة الصينية
او بشيء مقارب لها، خاصة وأن النخيل ربما يكون موضوعا مناسبا لمثل هذا النوع من
الرسم، لكن الطريق مازال طويلا جدا طبعاً.
وهكذا كسبت من
هذا التمرين بضعة لوحات إضافة الى سعادة الإنجاز، كلما اكتشفت طريقة لتجاوز مشكلة
ما. وفوق ذلك لاحظت أني في هذه الفترة بدأت أتطلع إلى الأشجار التي امر بها، بنظرة
باحثة مستفهمة عن التفاصيل التي تشرح طبيعة الشجرة وحياتها في محيطها، مع نوع من
الاحترام والحب الإضافيين لـ "كل ما أفقسته حرارة الشمس" (نيتشه) من
احياء، وشعور بأني أقرب اليها قليلا مما كنت، فالمعرفة تزيد القرب. وفي نشوتي
الصغيرة هذه تخيلت الرسام الصيني الذي يقضي عمره متطلعا الى الطبيعة.. كم يجب ان
يكون قد أحبها وامتزج بها وكم يجب ان تعني بالنسبة له أشجار قصب البامبو واغصانها
واوراقها أكثر مما تعني بالنسبة لنا، وكيف "صادقها" وصادق عصافيرها وتآلف
معها كأجزاء متجانسة من الطبيعة، وما احوجنا جميعا الى ذلك!