الصفر-
حملناه ثقيلا من الهند فطار بالعالم
صائب خليل
22 نيسان 2017
"إنه كالحمار
الذي يريد ان يصير اسداً او قردة تظن نفسها ملكة!" (فرنسي في القرن الخامس
عشر، يسخر من الصفر).
في أحد الأيام
جاءنا مدرس البرمجة بدرس حول نوع "حديث" من البرمجة قال إن اسمه
"البرمجة الكيانية"، وفيها يتكون البرنامج من "كيانات" تتفاعل
فيما بينها وتتبادل الرسائل لتنجز البرنامج المطلوب! وبالنسبة لطلاب البرمجة
الكلاسيكية، كان هذا الكلام أشبه بالحديث عن "الفن التجريدي"! فغرنا
افواهنا ونظرنا الى بعض والابتسامة تملأ الوجوه: هل هو جاد ام يسخر منا؟
يبدو أنه لم يكن
يسخر.. فقد تحول العالم كله خلال سنوات قليلة، إلى هذا النوع من البرمجة، وكان
طفرة هائلة! وكذلك كان الصفر، وكذلك استقبل بدهشة وسخرية!
رغم أن الحضارة العربية
قدمت الكثير من العلوم للعالم، فيكاد علم البصريات يعتبر علما عربيا بحق وطور العرب
الكثير من العلوم كالتشريح وعلوم اليونان المختلفة تطويراً جذريا، بل ان العرب
ابتكروا أسس "التجربة العلمية" و "الخوارزميات"، رغم كل ذلك،
قد يكون "نقل الصفر" من الهند الى العالم، رغم انه "مجرد
نقل"، أعظم انجازاتهم العلمية تأثيراً في تاريخ البشرية على الإطلاق!
كيف ذلك؟ كيف
يمكن ان يكون الصفر بهذه الأهمية؟ وكيف يمكن ان تفخر امة بمجرد "نقلها"
لعلم من العلوم من جهة الى أخرى، بأكثر من تطويرها علوم أو حتى ابتكارها العلوم
والطرق العلمية؟ إنها أسئلة مشروعة.. تتطلب جلسة مطولة.. لكنها ليست مملة
بالتأكيد.
كتبت "زيغريد
هونكه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب"(1) (2)
تقول: “كل الأمم المتحضرة تستخدم الأرقام التي تعلمها الجميع عن العرب. ولولا تلك
الأرقام لما وجد دليل التلفونات.. بل لما وجدت الطائرات التي تسبق الصوت. لقد
كرمنا هذا الشعب الذي من علينا بذلك الفضل الذي لا يقدر.”
وهذا
"الفضل" يعود الى الفارق الهائل في بساطة الاستعمال بين الأرقام الهندية
التي نقلها العرب الى العالم، وبين الأرقام الرومانية المعقدة التي كان العالم
يستعملها. فقد كانت حتى عمليات الجمع والطرح صعبة وطويلة، أما عمليات الضرب
والقسمة فتتطلب متخصصين نادرين!
ولم يبدأ الهنود
رياضياتهم بنظام الأرقام العشرية والصفر، بل احتاج تطوره الى حوالي ألف عام. ثم
انتقل إلى العرب المسلمين عندما أمر الخليفة المنصور ان يترجم كتاب الفلكي الهندي
كانكا إلى العربية، وتعرف المسلمون من خلاله على نظام الأرقام الهندية وتعلموها،
وانتشرت في الدواوين بسرعة كبيرة، ولكن بجهود غير قليلة. ثم نقل المسلمون تلك
الأرقام في تجارتهم إلى العالم كله.
ما هو الفضل
العربي في كل ذلك النقل؟
الفضل هو أن نظام
الاعداد الذي نراه اليوم منطقيا وبسيطا، كان يختلف من حيث الجوهر عن الأنظمة
السابقة. وكما قالت "هونكه" فإنه يمثل "تحولا كاملا في طرق الحساب
والتفكير وتطلب جهدا لنشرها بين المتعلمين والتجار". هذا الجهد لا يقدر عليه
إلا ذوي العقول المتفتحة القابلة لما هو غريب عنها والقادرة على التحول اليه عندما
ترى منافعه.
إنها ذات الصعوبة
والدهشة التي تسبب لنا بها عرض "البرمجة الكيانية" لأول مرة، بل لعلها
اشد مرات عديدة. دهشة صادمة تتطلب إرادة لتجاوزها من اجل التمكن من رؤية محاسن
الجديد، والمضي في تأمله وتقييمه تقييما موضوعيا. ودليل تلك الصعوبة أن أي من
الشعوب لم يتمكن من عبور ذلك الحاجز قبل أن تأتي حضارة العرب. وكذلك فأن عملية
النقل واجهت صعوبات جمة وقابل الصفر وزملاؤه مقاومة شديدة من الغرب ولم يتمكنوا من
فرض أنفسهم إلا بعد قرون من الصراع.
لقد بين
الخوارزمي نظام الأرقام الجديد في كتيب له، وضرب امثلة لتسهيل استخدامه في التجارة
وتقسيم الميراث بشكل مبسط. ونقل الكتيب الى اسبانيا وترجم في القرن الثاني عشر،
وحمل الى المانيا حيث تحتفظ بعض متاحفها بنسخ مخطوطة منه. ونلاحظ ان الأرقام بقيت
في اللغات الأوروبية تكتب من اليمين إلى اليسار، مثلما كانت في الأصل في الكتب
العربية التي نقلت عنها، رغم ان النصوص الأوروبية تكتب في الاتجاه المعاكس!
وجد الصفر أنصاراً
له في الغرب، كافحوا كفاحاً مريرا لنشره من خلال كتاب الخوارزمي. فأطلق الناس
عليهم اسم: “الخوارزميون". وبين هؤلاء كيف انه يكفي كتابة أربعة ارقام على
كنيسة لتسجيل تاريخها، بدلا من الأرقام الرومانية الطويلة صعبة القراءة. (يمكنك ان
تجرب مختلف الأرقام وكيف تبدو بالنظام الروماني من خلال الرابط في أسفل المقالة) (3)
رغم ذلك، كان
الناس ينظرون بريبة واستغراب إلى هذا الذي لا قيمة له، لكنه قادر على مضاعفة قيمة
الرقم الذي يقف جنبه عشرة مرات! البعض ناصبه العداء والسخرية حتى قرون متأخرة، مثل
ذلك الفرنسي الذي رآه قردة تظن نفسها ملكة، إلا أن غيرهم تغنى به، فكتبت قصيدة
المانية من القرون الوسطى تقول:
الأرقام تسعة
فاحترس
تنطق كلها دون
لبس
ولكن انتبه أيضا
لي
أنا الصفر لا
ينطق بي
دائرة كبيرة
متكاملة
لي قيمة في
المعاملة
إن اضفتني الى
يمين عدد
أصبح عشرة امثاله
وبي تستطيع
الترقيم
فتتضح الأرقام
وتستقيم
لقد حمل العرب
صديقهم الصفر من الهند وأوصلوه إلى إيطاليا واسبانيا، وكان عليه ان يكمل انتشاره
أيضاً عبر جبال الألب وبحر الشمال إلى بقية أوروبا ليشع فيها نور العلم. لقد كان الصفر
حملا ثقيلا في البداية كأي جديد بلا شك، لكنه سرعان ما صار يحمل من حمله، ويرفعه
الى الفخر.
تلك هي قصة رحلة الصفر
معنا، كما قرأناها في كتاب زيغريد هونكه الرائع، والذي يمكنكم تنزيل نسخة pdfللقراءة أو نسخة صوتية منه في الرابط المرفق. ولا ننسى
ونحن نشكر السيدة هونكه، ان نشكر أيضا أولئك الذين تجشموا عناء نشر الأكاذيب عن
تاريخ العرب، فرفعوا فينا الحماس لإعادة قراءته واستكشاف حقائقه الرائعة. 2)