الثلاثاء، 21 مارس 2017

بؤس الشعراء بعيون الرسامين-*الزبير مهداد

بؤس الشعراء بعيون الرسامين

خاص- ثقافات

*الزبير مهداد

كارل شبتزفيك شاعر ورسام ألماني عصامي، ينتمي إلى التيار الرومنسي، ولد في بافاريا عام1808 .درس الصيدلة وعمل صيدليا عام 1832، وكان يحب الرسم ويزاوله في أوقات فراغه، ثم تفرغ له ابتداء من عام 1833، معتمدا على جهوده الذاتية في تعميق تكوينه الفني، اشتهر بلوحاته الصغيرة والمتوسطة الحجم، كانت لوحاته مستوحاة من حياة الناس العاديين من الطبقة المتوسطة أو البورجوازية الصغرى، وكذلك من المناظر الطبيعية.

 عمل شبتزفيك في إحدى الصحف رساما للكاريكاتير خلال الفترة من 1843 إلى 1853. واصل الرسم إلى سنين متأخرة من عمره، حتى وافته المنية عام 1885. مخلفا أعمالا كثيرة موزعة على متاحف ألمانية وأوروبية، ومن لوحاته الشهيرة لوحة الشاعر الفقير (1839) Der arme Poet  التي تصور شاعرا يعاني الفقر والوحدة، يعيش تعيسا في غرفة خالية من المتاع مظلمة.

  اللوحة كسرت الصورة النمطية الشائعة لدى الناس حول الشاعر، هذا الإنسان المبدع، الرقيق المشاعر، المرهف الإحساس، الواسع الخيال، يتخيله الناس يعيش حياة مخملية باذخة مثل شعره، يرفل في النعيم والظروف المريحة للبورجوازية الصغرى. لا يمكنهم أن يتخيلوا مقدار العوز والفقر الذي يعانيه أكثرهم. فجاءت اللوحة تميط اللثام عن واقع مرير لهذه الفئة من المبدعين، الذين يطربوننا ويسعدون حياتنا بقصائدهم الرائعة وأناشيدهم التي ترددها الأجيال في حبور، في حين أنهم يعانون البؤس، هذه اللوحة يعدها الألمان ثاني أشهر لوحة بعد “الجوكندا”.

الشاعر الفقير شبتزفيك

  وعلى نفس المنوال، أنجز الرسام الكاريكاتوري الفرنسي هونوري دومييH. Daumier لوحة “الشاعر في غرفة السطح” Poète dans la mansarde، سنة 1842، شخص فيها حياة شاعر بئيس في غرفته يعيش ظروفا قاسية، هذه اللوحة التي يطغى عليها السواد، يتوسطها جسم شاحب نحيل كالشبح، بأنف حاد وشعر مهمل ولحية كثة، الشاعر بلباس النوم، جالس على سرير أقيم في زاوية الغرفة، جدرانها السوداء ثبت عليه رفا به بعض المتاع، وقبعة معلقة، بجوار السرير شمعة مضيئة ضوءها باهت لا يكاد يتعداها، وكرسي وضع عليه ملابس قليلة رثة. يتوجه بعينيه صوب السقف بعينين ملتهبتين، تنمان عن شعور باطني بقلق عظيم، وغضب وأنواع العصاب، ويمسك بيده اليمنى ريشة، لعله يخط بها بعض ما تجود به قريحته من أبيات شعرية.

الشاعر في غرفة السطح دومييه

 اللوحة الكاريكاتورية لا تسخر من ظروف الشاعر، لكنها توجه رسالة واضحة المغزى لكل من يغض البصر عن ظروف هذه الشريحة البئيسة من المثقفين.

  أصداء هذه اللوحة نجدها بارزة بشكل واضح في قصيدة الشاعر الفرنسي بودلير الذي كان معاصرا للرسام وصديقا له، وعنوانها “الغرفة المزدوجة” وتعد إحدى أهم قصائد النثر في الأدب الفرنسي قاطبة، تكلم الشاعر عن حياة متخيلة في النعيم، يتوقف فيها الزمن على لحظات السعادة التي يعيشها الشاعر فيها، وأخرى واقعية يفتح عليها عينيه، إنها حقيقة طيفية فبين حلم بالجنة والكابوس لا يوجد حيز لأي شيء (يا للهول! إني أتذكر! إني أتذكر! أجل! هذا الكوخ القذر، وهذه الإقامة للسأم، وبالتأكيد، هو سأمي. هاهو ذا الأثاث السخيف المغبر، والمهشم؛ فالمدخنة بدون لهيب، وبدون جمر، منزوعة، وملطخة بالبصاق: النوافذ التي حط عليها المطر أخاديد على غبارها. والمخطوطات الممحوة، أو غير المتممة، والرزنامة التي سجل عليها قلم الرصاص، التواريخ الحزينة. آهٍ! لقد تذكرت! فقد ظهر الزمن مجدداً؛ الزمن يسود الآن ملكاً؛ وعاد مع العجوز البشع تماماً، موكبُه الشيطاني من الذكريات، ومن  الحسرات، ومن التشنجات، من المخاوف وأنواع القلق، والكوابيس، من الغضب وأنواع العُصاب. أؤكد لكم أن الثواني الآن تتحرك بقوة، وبأبهة، وكل واحدة منها تعلن، وهي تنساب من البندول: “أنا الحياة العنيدة التي لاتحتمل!”) (ترجمة محمد الاحسايني)

الحطيئة، وابن دقيق العيد، ومعروف الرصافي والشاعر القروي، وبودلير وأحمد فؤاد نجم وآخرون غيرهم، عاشوا فقراء بؤساء، لكنهم أبدعوا أكثر وأفضل من أي أحد آخر. فعلى الرغم من بؤسهم وفقرهم فقد بصموا تاريخ الإبداع الإنساني بأسلوبهم المميز، وبمعانقتهم أحلام الناس، ومشاطرتهم آلامهم والكتابة عنها، كان إبداعهم الرفيع مرآة صافية عكست بصدق وأمانة معاناتهم، فخلفوا للأجيال اللاحقة تراثا رائعا غنيا وخالدا.

  ففي اليوم العالمي للشعر، في الوقت الذي نتحلق فيه حول هذا الفن النبيل، ينبغي أن نستحضر معاناة كثير من الشعراء الذين يعيشون البؤس ويكابدون قسوة الحياة وشظف العيش كل يوم، بلا أجرة قارة ولا مكافآت مجزية ولا معاش ولا تأمين صحي، دون أن يلتفت إليهم أحد. تمنعهم عزة النفس أن يمدوا أيديهم لأحد أو يصدحوا بأصواتهم بالشكوى.

الأحد، 19 مارس 2017

ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي-يوسف الصرايرة *


ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي



يوسف الصرايرة *
( ثقافات )



استخدم الكثير من الباحثين مصطلح ما بعد الحديث للدلالة على المتغيرات التي سادت الحضارة الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والانتقال من الصناعة إلى التكنولوجيا الحديثة، التي ظهرت في المجتمعات الغربية ، حيث سادت فيها التكنولوجيا والمعرفة البحثية، والتحول من البحث النظري إلى التطبيق العلمي التكنولوجي، أو ما سمي فيما بعد بحتمية التكنولوجيا ، التي ساعدت في تحويل العالم إلى قرية متقاربة الأطراف ترتبط بمحركات علمية جديدة ، يسهل فيها التواصل والمعرفة تبعاً للمتغيرات السياسية والاقتصادية.
ثمة من يعيد تعريف ما بعد الحداثة إلى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي 1954م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأميركي تشارلز اولسون في خمسينيات القرن الماضي، فضلاً عمن يحيلها إلى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر، ويحدد زمانها بعام 1956م.
ويقول «مالكولم برادبري» إن مصطلح ما بعد الحداثة يقصد به النتاجات الفنية التي جاءت بعد الحرب، وهي خليط من الفن التقليدي ومن فن ” اللافن ” وتعني ما بعد الحداثة في الفن العودة إلى الأصول ضمن قوالب جديدة، لها تيارات فكرية أسست له، على الرغم من أن مصادر هذا تيارات جاءت من القرن الفائت وتنتمي إلى حاجات العصر الحديث ومتطلباته، وإذا بحثنا في هذا الفن لم نجد متاحف أو مراكز لتسويق الفن تحتوي عبارات “ما بعد الحداثة” باستثناء المهندسين المعماريين الذين استخدموا هذا المصطلح للدلالة عن أسلوب إنشائي معين لهم.

وحول هذا المصطلح أيضاً يقول الباحث روبرت اتكينس إن الأعمال الفنية في تلك الفترة تتسم بإعادة قراءة الموروث الفني في بداية القرن الفائت، إذ تم استخدام المصطلح مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وخصوصاً مع التحولات التي ظهرت منذ نهاية الستينيات في حركة الفن التشكيلي الغربية؛ فقد تم التخلص من جماليات الموروث المرتبط تماماً بفكرة الشكل، وإحلال واقع جديد للعمل الفني يستمد جمالياته وقيمه الفنية من المجتمع الذي أصبح يتميز بالتغير السريع، وعليه ؛ لم يعد بمقدور العمل الفني أن يلبي الطموح الحضاري الجديد للمجتمع المعيش، فأصبح هناك اتجاهات فنية حديثة قادرة على إيجاد صيغ جمالية جديدة تهدف إلى خلق حلقات للتواصل المجتمعي بكل متغيراته وتطوره، حيث برزت أشكال فنية جديدة وأصبح الفن جمعياً تفاعلياً بدلاً من الإستاطيقىة المسيطرة على جماليات العمل الفني وتفرده.
وأصبح هناك متغيرات في فن ما بعد الحداثة، سواء على مستوى المعايير الجمالية أو الموروث الأكاديمي الذي اعتمد على التفكيك كمكوّن أساسي من مكونات ما بعد الحداثة.
إن الثورة المعرفية في مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات قد ساعدت في نقل الفكر من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، حيث الانتقال من فكرة الإشباع المادي إلى فكرة الإشباع المعنوي، الأمر الذى دفع ببعض الباحثين إلى الزعم بأن مشروع الحداثة قد وصل إلى نهايته، وما علينا إلا الانتقال إلى مرحلة جديدة وفكر جديد وهي مرحلة ما بعد الحداثة.
ولعل الفكرة الأساسية تكمن في أن تيار ما بعد الحداثة انساق إلى أساليب العالم الغربي في الرؤى والمعرفة والمتغيرات التي طرأت عليها في الآونة الأخيرة، نتيجة للتقدم الهائل في وسائل تكنولوجيا المعلومات والتواصل الجماهيري ، مما ترتب عليه حدوث تغيرات في اقتصاديات العالم الغربي التي تعتمد بشكل كامل على الصناعة وانخراط هذه المجتمعات في الحياة الاقتصادية، مما أدى إلى ظهور ثقافة استهلاكية جديدة.
وأصبح فنان ما بعد الحداثة يمر بحالة ابتكار لغة جديدة للتواصل بين الفنان والحدث المجتمعي، وتم تجاوز الفكرة السائدة في السابق المرتبطة بتعريف (الفنان) وهو المنتج فقط، وهي الفكرة القديمة المرتبطة بالعمل الفني والفنان، فأصبح العمل الفني فاعلاً ومنشطاً ثقافياً، بعد أن كان يستجيب إلى حاجات المتلقي البصرية والوجدانية فحسب ، بل تخطاه إلى الفعل والإنتاج . 
ولعل هذا الفن من شأنه أن يضفي شيئاُ من الحيوية والغرائبية، وإن كان بالمعنى الاستفزازي، إذ عملت على بروز أجناس فنية جديدة تعتمد الإثارة لفكرة معينة ، لتجلب نخباً سياسية جديدة تحقق رغبة جامحة في تجذير هذا الفن في المجتمع ، وخصوصاً أنه اعتمد على انخراط البيئة المجتمعية في المشهد الفني، بل تعدى ذلك في مجالات الفن التشكيلي التقليدية من رسم وحفر ونحت وتصوير فوتوغرافي وعمارة إلى إنتاج سمعي بصري وحركي ، من خلال الفنون الحديثة مثل: الدادا وفن التجهيز وفن البيئة “فن الأرض”، وفن الحدث، والفن المفاهيمي، وفنون الميديا، والفن الغرافيتي والفن التفاعلي ، وغير ذلك من الفنون الحديثة.
ولعل الميزة الأبرز لفناني ما بعد الحداثة، على المستوى التشكيلي، تكمن في تفجيرهم الحدود ما بين الأجناس الفنية ، واستخدامهم وسائل تعبيرية وتقنيات حديثة ومتنوعة، وكان لهم الدور الأكبر في تجريد الفن من قيمته المادية ، وتحريره من سطوة دور العرض والمتاحف، على الرغم من أن العديد من هذه الصالات والمتاحف في العالم لم تستطع الإفلات من قبضة النزعة الاستهلاكية في التسويق لها. 

وفي المقابل برز تيار مضاد لما بعد الحداثة من خلال التعبير عن سخطهم وحركات الاحتجاج التي قاموا بها في أوروبا، وخصوصاً في مدينة لندن على عمل انستليشن عرض في متحف التيت مودرن، والذي كلف أكثر من مئة وعشرين ألف جنيه استرليني، هذا العمل الذي عرض مدة شهرين وبعدها تم الإلقاء به الحاويات. 


وقد رافق هذا التيار الجديد نخبة من المهتمين به في الغرب، وقد جاءت أفكارهم منسجمة معه على نقيض ما يحدث في بلدان الشرق، إذ اعتبروا أن هذا التيار يشكل حالة من حياتهم، وأصبحت مجردة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، وهي أن الإنسان الغربي أصبح يعيش التجريد بكل تفاصيله ، فكان الفن التجريدي يعبر ويتناغم مع حياتهم المعيشة.

ويعتقد بعض المهتمين بهذا الفن وجود تراجع الفنون التشكيلية في العالم الغربي خلال الفترة الأخيرة من تاريخنا المعاصر، ونجدة ماثلاً أمامنا من خلال ما نشاهده في غالبية المعارض التي ركزت على الفنون البصرية وعلى الصورة التكنولوجية، مما انعكس ذلك على البلدان العربية التي تمثلت في معارض اندرجت تحت عنوان الفن المعاصر ، تم الاقتصار فيها على الصورة والوسائط الحديثة وعلى التنصيبات الفراغية التي استمدت مرجعياتها من التيارات الفنية المعاصرة.

ومن علامات التحول في طريقة ممارسة الفنون التشكيلية في بلادنا تأثر المنهج الأكاديمي في جامعاتنا ومعاهدنا بوسائل التكنولوجيا الحديثة، التي تتسم بالتنوع والغنى. فقد اهتم الدارسون بالأشكال الغريبة وبالتنصيبات الفراغية والصور الفوتوغرافية وفن الفيديو والفن الرقمي وغيرها من أشكال الفنون المعاصرة، التي أدت إلى بروز تحول لافت في طريقة ممارسة الفنون التشكيلية في بلادنا. 

ويشكل الخطاب الثقافي لفن ما بعد الحداثة خطاً مفصلياً، باعتباره فناً تفكيكياً تجاوز ما سبقه من فنون من حيث القوالب التقليدية والأكاديمية، من أجل أن يواكب هذا الفن رؤيا نقدية وتحليلية ، فقد كان أسير نظريات العلوم الإنسانية الأخرى، من حيث الرموز والبنية والتفكيك، وينبغي على الناقد أن يمتلك كل مقومات وأدوات البيئة الفنية والعلمية ليتسنى له أن يواكب ما يحدث من متغيرات في هذا العصر.

كما تغيرت الفكرة السائدة المرتبطة بالعمل الفني، فأضحى العمل الفني فعلاً ناقداً ومنشطاً ثقافياً بذات الوقت، بعد أن كان يمثل الانطباع البصري فحسب ؛ إذ أصبح يستجيب إلى حاجات الإنسان الوجدانية.
ومن أهم المتغيرات التي برزت في هذه المرحلة، التغير الذي طرأ على المعايير الجمالية الكلاسيكية في الفن التشكيلي؛ إذ لم تعد منسجمة مع معايير ثابتة ومحددة، وأصبحت تستقي مبادئها من الفن ذاته. 
ولا بد من إشارة أخيرة إلى أننا نعيش في عالم كقرية صغيرة بفعل ثورة المعلومات التي تنقل إلينا العديد من الإنتاج الفني العالمي ، الذي لا يمكن في أي حال من الأحوال إغفال وجوده في حياة المبدعين. فلقد أصبح الفن لغة عالمية تشترك الشعوب في مفرداته ورموزه ، ولا يمكن عزل الإنسان عن مثل هذه المفاهيم، لذلك بات الفن متأرجحاً بين الرؤية المحلية ومرئيات وسائل الاتصال المتعددة، بالرغم من أننا عندما نرغب في البحث في أصول الفن التشكيلي فإننا لا بد لنا من العودة إلى الجذور التاريخية في الفن ، وهذا ما يجعل في ذات الوقت من الصعوبة إنكار أثر الفنون التقليدية على هذا الفن.

ويرى بعض النقاد أن ما بعد الحداثة إذا دخلت بعض المؤسسات الأكاديمية، فإنها قد تحدث تحدياً كبيراً لها، وقد تزامن ذلك مع دخول أفكار أخرى اختلفت معها في الشكل والمضمون ، من شأنها أن تعمل على إقصاء الدور التاريخي العربي والإسلامي، وهذا يضعنا أمام تحدٍ كبير: ما موقع ما بعد الحداثة في فكرنا العربي الراهن في المستقبل؟

* فنان تشكيلي وباحث من الأردن

الخميس، 9 مارس 2017

العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة زيغمونت باومان (5)-* ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي






العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة زيغمونت باومان (5)
*  ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

   زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الإجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوربية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه – التي تُقرَأ في كل القارات – نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الإجتماع في جامعة ليدز البريطانية – ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .

   الحوار التالي هو القسم الخامس من حوار مع زيغمونت باومان منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazin  وكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c  ( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية إستثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .

                                                            المترجمة


                المحور الثامن : القاتل الماكث في  داخلنا


*  في كتابك المعنون ( الحداثة والهولوكوست ) تدافع عن الأطروحة المثيرة التي تفيد بأن فكرة إبادة الكائنات البشرية على مقياس صناعي واسع هي واحدة من أفكار عصر الحداثة وليست ناجمة – بالتخصيص – عن النزعة القومية الألمانية المتشددة . إذن ، هل ثمة إمكانية لأن نشهد ( أوشفيتز ) جديدة في أيامنا هذه ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب ، تحت أي ظروف يمكن أن يحصل هذا الأمر ؟

–  العصر الحديث ليس حقبة إبادات بشرية شاملة ؛ لكنه ببساطة ساهم في تخليق طرق حديثة يمكن بها ممارسة القتل المنهجي لأعداد كبيرة من البشر ، وقد ساهمت إبتكاراتٌ مثل تقنية المصانع والبيروقراطية الصناعية في تحقيق هذا الأمر ، ولكن لاينبغي أن ننسى أيضاً أنّ العالم تغيّر كثيراً وقلب كثيراً من الممارسات ( الوحشية ) السابقة وماعاد الناس يقبلون بالفكرة اللاهوتية التي لطالما سادت في أوربا القروسطية والتي مفادها أن الله الخالق حرّم على مخلوقاته التدخّل في أمور لاتعنيهم حتى لو كانت تلك الأمور ممّا لايحبون . أظنّ لو أن الإبادات الجماعية حصلت في اوربا القروسطية لما لقيت أي شجب أو إدانة ولاعتاد عليها الناس كأمر مسلّم به وفقاً للإعتبارات اللاهوتية .

*  إذن نحن نمتلك القدرة على إعادة تشكيل العالم بالطريقة التي نرغب ؟

–  العصر الحديث كان أيضاً عصر تدمير شامل للأسباب السابقة ذاتها ؛ إذ تطلّب السعي المحموم للتحسينات التقنية الرامية لبلوغ الكمال إبادة اعداد لاتحصى من البشر الذين حُسِبوا غير قادرين على التناغم مع مخطّط الصورة المثالية للأهداف المبتغاة . كان التدمير هو جوهر الحداثة الجديدة ، وجاء الإفناء لكلّ معيقات عدم الإكتمال المزعومة ليكون الحالة المميزة المصاحبة لتحقيق الكمال الحداثيّ ، ويمكن النظر إلى مشاريع النازيين والشيوعيين في هذا الإطار ؛ فقد سعى كلاهما إلى الإجتثاث الشامل والأبدي لكل ماهو عشوائي غير خاضع لضبط أو نظام بغية تكييف كل عناصر الحالة الإنسانية وفقاً لمراميهم .

*  ولكنّ الناس في الحقب السابقة أيضاً ، كما في عصر الغزوات الصليبية ، إرتكبوا القتل باسم الله ؟

–  طموح العصر الحديث كان دوماً جعل العالم خاضعاً لإدارتنا ، وبتنا اليوم تحت أمرة الخوذة العسكرية عوضاً عن أمرة الطبيعة أو الله كما كان الحال في العصور الخوالي . الله خلق العالم – تبعاً للتصورات اللاهوتية – لكنه اليوم غائب أو ميّت ؛ لذا ينبغي أن نمسك نحن بزمام العالم وأنفسنا ونجعل كل شيء جديداً لاعهد له بما سبق . تدمير اليهود الأوربيين كان محض جزء من مشروع أوسع : إعادة تشكيل التراتبية السلالية لشعوب العالم على نحو يجعل الألمان في مركز تلك التراتبية – مشروع شرير هائل الأبعاد متغطرس بقدر ماهو قادر على بعث الدوار في الروح . ثمة عنصر حاسم في هذا المشروع يجعله – لحسن الحظّ – غير قادر على أن يتحوّل حقيقة ماثلة على الأرض – ذلك هو عنصر السلطة المطلقة ؛ إذ أنّ مثل هذا المشروع الجهنّمي لم يكن ليرى النور سوى في بلدان مثل ألمانيا النازية أو روسيا الشيوعية ، أما في بلدان أقل شمولية في أنظمة حكمها ( مثل إيطاليا في عهد موسوليني أو إسبانيا في عهد فرانكو ) فلم يكن تحقيق ذلك المشروع ممكناً لأن عنصر السلطة المطلقة كان مُفتقداً ، وليساعدنا الربّ بأن يُبقي الحال على هذا النحو !!

*  لكنّ المشروع القومي الإشتراكيّ ( إشارة إلى الحزب الألماني الذي تزعّمه هتلر ، المترجمة ) يُفهَم في العادة على نحو مخالف تماماً لكلّ تمظهرات الحداثة : يُفهِمُ على أنه عودة للبربرية ، وتمرّدٌ على الحداثة وعلى كل القواعد السائدة في المجتمعات الحديثة وليس ثمرة لتلك الحداثة ؟

–  هذا سوء فهم خطير : نبع المشروع القومي الألماني من حقيقة أن كلّ أفعاله ليست سوى الشكل الأعلى والأكثر تمثيلاً لثمرات المبادئ الحداثية بغضّ النظر عن المديات المتطرّفة شديدة القسوة التي بلغها ذلك المشروع ، وقد كان المشروع حاضراً على الدوام لطرح أية شكوك أو سوء ظنّ به جانباً ولم يكن يعيرها أي إهتمام يذكر . فعل الإشتراكيون القوميون الألمان والشيوعيون في أوقات إشتداد طغيانهم ماأراد الآخرون فعله بالضبط ، ولكنّ الفرق هو أن هؤلاء الآخرين لم يمتلكوا العزيمة والقسوة الكافيتين ، ولم نزل نحن نفعل في يومنا هذا مافعله هؤلاء ؛ لكنّ أفعالنا تتمّ بأسلوب أقل إفتضاحاً وأقلّ إثارة لبغضاء ونفور الآخرين .

*  ماالذي تقصده من وراء هذا ؟

–  اقصد التباعد المتفاقم بين الكائنات الإنسانية وبين أتمتة automation التفاعلات الأنسانية – تلك الخصيصة التي بتنا ننزلق في وهدتها أكثر فأكثر بحيث صارت نمطاً قياسياً للمعيش ، وهنا ينبغي ملاحظة أن النتيجة الصارخة لهذا التطور التقني الكاسح هو فصل الأفعال الإنسانية عن النوازع الأخلاقية واعتبار تلك النوازع وسوساتٍ غير مجدية ولاطائل من ورائها .

                          المحور التاسع : السّعادة



*  في كتابك الموسوم ( فنّ الحياة ) تتحدّث عن السعادة – ذلك الموضوع الذي لطالما تناوله الفلاسفة القدماء . يُلاحظُ في العصور الحديثة أن السعادة باتت أمراً يلهث الجميع في مطاردته ؟

–  بدأ الأمر كله مع إعلان الإستقلال الأمريكي عام 1776 الذي أعلن صراحةً ( الحياة ، الحرية ، السعي وراء السعادة ) كحقوق معطاة من الله لايمكن إنكارها أو التفريط بها . من الطبيعي القول أن الكائنات البشرية سعت دوماً لأن تكون سعيدة لا أن تكون تعيسة ، وأن السعي وراء السعادة خصيصة وسمت تلك الكائنات عبر التطور الخلّاق ، ولو كان الأمر بعكس هذا الحال لكنّا لانزال قابعين في الكهوف بدل الجلوس على مقاعد وثيرة في أجواء مريحة ؛ غير أن الفكرة الجديدة في موضوع السعادة والتي جاء بها عصر الحداثة هي أن أيّ فردٍ وكلّ فردٍ منّا له الحقّ الكامل في السعي نحو السعادة بطريقته الخاصة التي يراها ملائمة له وحده فحسب ، وكان التصريح الواضح بالحق الإنساني العام في بلوغ السعادة الفردية مؤشراً لبداية العصر الحديث .

*  ولكن لايبدو أمر إجتناء السعادة في يومنا هذا بأقلّ مشقة من عصر الإمبراطورية الرومانية التي سادت فيها فلسفة كلّ من سينيكا ، لوكريشيوس ، ماركوس أوريليوس ، إيبيكتيتوس . ماالذي تعنيه لك السعادة على المستوى الشخصي ؟

–  عندما كان غوته بمثل عمري سئِل مرة عمّا إذا كانت حياته سعيدة ، فأجاب : ” نعم ، كانت لديّ حياة سعيدة إلى أبعد الحدود ؛ ولكن ليس بمقدوري أن أقول كان لديّ محض أسبوع واحد متصل من السعادة ” . هذا جواب أراه غاية في الحكمة ، وأنا أشعر بالضبط بمثل شعور غوته . ثمة أيضاً قصيدة من قصائد غوته العديدة يقول فيها أن ليس هناك مايبعث على الكآبة وانقباض الروح مثل سلسلة  متواصلة من الأيام المشمسة !! . السعادة ليست بديلاً لأشكال الكفاح ومواجهة صعاب الحياة ؛ فالبديل الوحيد لذلك الكفاح هو الضجر المميت : مالم تكن في الحياة مشاكل ينبغي حلّها وتحدّياتٌ ينبغي مواجهتها ( وقد تفوق قدراتنا بعض الأحيان ) فإن الحياة ستكون مملّة بالتأكيد ، والضجر هو أحد أكثر العلل الإنسانية المعيقة إنتشاراً . لكن من جانب آخر ( وأنا هنا أحدّق في عينَي سيغموند فرويد ) فإنّ السعادة ليست حالة ممتدة بل هي برهة أو لحظة فحسب : نشعر بالسعادة حينما نتجاوز المحن والحظّ السيء . يحصل أحياناً أن نخلع أحذيتنا الضيقة التي تضغط على أصابع أقدامنا فنشعر براحة وسعادة غير مسبوقة !! ، أما السعادة الممتدّة فهي أمر مريع شبيه بكابوس .

*  ( كلّنا فنانون في الحياة ) : هذا ماتقوله في كتابك السابق الذكر . ماهو فنّ العيش وفقاً لرؤيتك ؟

–  محاولة تجاوز المستحيل ، فهم ذواتنا باعتبارها نتاجاً لطريقة تشكيلنا الفريدة والمميزة عن غيرها ، السلوك بمثل مايفعل الرسّام أو النحّات ومواجهة المهمات التي نادراً مايمكن إنجازها ، وضع غاياتٍ لنا تتجاوز الإمكانيات المتاحة أمامنا في اللحظة الراهنة ، وضع معايير لنوعية كلّ الأشياء التي نفعلها – أو نستطيع فعلها – بحيث تكون تلك المعايير أبعد مدى من إمكانياتنا الراهنة . ثمة أمر آخر : بات اللايقين هو الموئل الطبيعي لوجودنا الإنساني ، ويمكن في أدنى الأحوال أن تكون القوة الدافعة للسعادة كامنة في محاولة السعي لجعل ذلك الوجود محفوفاُ باليقين البشري الباعث على الراحة .

*  لم تكتفِ بأن تكتب في ميدان التنظير بشأن الإنتقالة البشرية من الحداثة ” الصلبة ” نحو الحداثة ” السائلة ” ؛ بل إختبرت أنت بذاتك تلك الإنتقالة عن قرب . ماالذي كنت تبتغيه عندما كنتَ شاباً يافعاً ؟

–  عندما كنتُ شاباً تأثّرتُ – مثل الكثيرين ممّن عاصروني من الشباب – بفكرة سارتر عن مشروع الحياة project de la vie : إعمل على تخليق مشروعك الخاص في الحياة وواظب على العمل تجاه هذا الهدف المثالي من خلال أقصر المسالك وأكثرها مباشرة نحو هدفك . إتّخذ قرارك بشأن الشخص الذي تريد أن تكونه وحينئذ ستكون أمامك صيغة لصورة الشخص الذي تريد أن تكون عليه ، وأن لكلّ نمط حياة ثمة عدد من القواعد التي ينبغي إتباعها وكذلك عدد من المواصفات التي ينبغي أن نحوزها . بحسب رؤية سارتر فإن الحياة ( منذ البدء وحتى النهاية ) تتقدّم خطوة إثر خطوة في مسار محدّد بالكامل حتى قبل أن نضع الخطوة الأولى في بداية رحلتنا .
____
*المدى